سبق وتعرضنا الى النظرية العلمية القائلة بأن الكون مجرد وهم، ونرى كيف أنه من الممكن أيضا ً أن يكون الوجود مجرد برنامج يخلق أوهام أنه بسيط ومعقد في الوقت نفسه.
نشأت مؤخرا ً نظرية علمية مثيرة تقول إن الكون صورة ثلاثية الأبعاد . من هنا , العالم الذي نختبره بحواسنا ليس سوى وهم محض . من الأدلة التي أدت إلى هذا الموقف الدليل التالي : بما أن قياس الطاقة في أي منطقة متناسب مع مساحة سطح تلك المنطقة بدلا ً من حجم تلك المنطقة، إذن على الأرجح العمليات الفيزيائية تحدث على سطح العالم وما نراه مجرد ظلالها.
لقد عبّر الفيزيائيون عن هذا الاتجاه بقولهم إن كل معلومة في الكون مخزّنة بعيدا ً في تخوم الفضاء. والنتيجة التي توصل إليها كل من الفيزيائي تيهوفت والفيزيائي سسكيند هي أن كل الكون مجرد صورة عن الواقع الحقيقي المختبىء والمجهول بالنسبة إلى حواسنا . هذا قانون جديد في الفيزياء مضمونه أن كل شيء من الممكن وصفه على أنه موجود على سطح العالم بدلا ً من أن يكون موجوداً داخل العالم. يقول هذا القانون إن كل المعلومات المتمثلة في كل المواد والطاقات مخزَّنة على سطح عالمنا وفي تخومه بدلا ً من أن تكون منتشرة في الأمكنة كافة . هذا يناقض تماما ً ما نراه من حولنا.
لذا يعتبر الفيزيائيون أن هذا القانون الجديد قانون غريب , لكن رغم ذلك أصبح جزءاً من الفيزياء النظرية ؛ فلم يعد تصورا ً افتراضيا ً بل أمسى أداة علمية في صياغة الفيزياء المعاصرة . على هذا الأساس، يستنتج بعض العلماء أن عالمنا مجرد وهم ( Brian Greene : The Fabric of The Cosmos . 2004 . Knopf & Leonard Susskind : The Black Hole War . 2008 . Little Brown and Company ).
هذا القانون الفيزيائي الجديد يدعم السوبرحداثة القائلة بأن اللامحدَّد يحكم العالم وظواهره كافة. فبما أنه من غير المحدَّد ما هو الكون كما تقول السوبر حداثة، إذن من الممكن أن يكون الكون وهما ً وصورة . بكلام آخر، بما أنه من غير المحدَّد ما هي الحقائق والأشياء والظواهر، إذن من الطبيعي أنه لا يوجد فرق جذري بين الواقع واللاواقع، ولذا من الممكن علميا ً لعالمنا أن يكون مجرد صورة كالصُوَر المتحركة على شاشة التلفزيون أو الكومبيوتر. وبالإضافة إلى النظرية العلمية السابقة , تشير أيضاً نظريات علمية أخرى إلى أن عالمنا وهم مخادع. فمثلا ً، يؤكد الفيزيائي آلن غوث على أن الكون موجود لأنه عدم. يقول إذا جمعنا طاقات الكون معا ً تكون النتيجة أن طاقة الكون تساوي صفرا ً لأن الطاقة الإيجابية للكون متساوية مع الطاقة السلبية له. من هنا يعتبر الفيزيائي غوث أن الوجود موجود لأنه مجرد عدم. على هذا الأساس، يبدو أن الكون وهم ؛ فإذا كان الكون عدما ً، إذن الكون الذي نراه مجرد وهم. من جهة أخرى، تقول ميكانيكا الكم إن اللامحدّد يحكم عالم ما دون الذرة ؛ فمن غير المحدَّد سرعة الجسيم ومكانه في آن. هذا يعني أن بالنسبة إلى ميكانيكا الكم , من غير المحدَّد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. وتفسير ذلك علميا ً هو أن عالمنا في الحقيقة عالمان : عالم حيث قطة شرودنغر حية وعالم آخر حيث القطة نفسها ميتة.
من هنا، العالم يوهمنا بأنه عالم واحد ولكن في الحقيقة هو عالمان. وبذلك الكون الذي نراه من حولنا ليس سوى وهم مخادع.
فنحن نرى عالما ً واحدا ً، لكن العلم يقول إن عالمنا ينقسم إلى عالميْن متعارضين، لذا العالم الذي نعرفه مجرد وهم.
بالإضافة إلى ذلك، نبصر أشياء وحقائق وظواهر مختلفة من حولنا كالبحار والجبال والصخور والبشر، لكن كل هذا التنوع والاختلاف مُختزَل علميا ً إلى مجرد أوتار وأنغامها.
وبذلك يمارس الكون علينا خداعه.
بالنسبة إلى نظرية الأوتار العلمية، يتكوّن الكون من أوتار وأنغامها، ومع اختلاف ذبذبات الأوتار تختلف طاقات الكون ومواده ما يتضمن أن الكون وكل ما فيه هو مجرد مجموعة أوتار وذبذباتها بدلا ً من أن يكون مكَّونا ً من الحقائق والأشياء والظواهر التي نراها بالفعل . بذلك كل الظواهر التي نبصرها مجرد أوهام. هكذا يمارس الكون لعبة الوهم
( Alan Guth : The Inflationary Universe . 1997 . Jonathan Cape . & Hey and Walters : The New Quantum Universe . 2003 . Cambridge University Press ) .
الكون وهم يمارس الوهم . وسبب ذلك، على الأرجح، هو أنه من غير المحدَّد ما هو الكون تماما ً كما تصر السوبر حداثة اعتماداً على ميكانيكا الكم. فبما أنه من غير المحدَّد ما هو الكون، إذن من الطبيعي أن يوهمنا الكون بأنه كون واحد رغم أنه أكوان مختلفة . ولذا يوهمنا العالم أيضاً بأنه بسيط ومعقد في آن واحد.
فلو أنه بسيط، إذن لا بد أن يكون غير معقد. أما إذا كان معقدا ً، إذن لا بد أنه غير بسيط. لكنه يقدِّم نفسه على أنه بسيط ومعقد في الوقت ذاته، وهذا تناقض لا يصدق. من هنا , العالم وهم يوهمنا بأنه بسيط ومعقد.
مثال ذلك أن الكون بسيط في قوانينه الفيزيائية التي تحكمه كقانون E = MC2 الذي يعني أساساً أن الطاقة تساوي كتلة المادة. لكن الكون معقد حيث تتنوع ظواهره وتختلف رغم صدورها عن قوانين بسيطة.
فلو تغيرت أية قوة طبيعية لتغير الكون كله ما يشير إلى مدى تعقد الكون في انتظامه وبساطته.
من جهة أخرى، مثال على بساطة قوى الطبيعة هو أن الجاذبية ليست سوى انحناء الزمكان (جمع الزمان والمكان) كما يقول أينشتاين. لكن تظهر الجاذبية على أنها معقدة أيضاً وذلك بكونها مسؤولة عن تكوّن كل المجرات والنجوم والكواكب.
هكذا تبدو قوى الطبيعة بسيطة ومعقدة في آن واحد.
بالإضافة إلى ذلك، لو أن الجاذبية كانت أقوى بقليل مما هي عليه لانهار العالم على نفسه وزال . وإذا كان تمدد الكون أكثر مما هو عليه ما كان ليتمكن من بناء الكواكب والنجوم والمجرات.
هكذا الكون معقد إلى أقصى درجات التعقيد. لكن في الوقت ذاته الكون بسيط في كونه محكوما ً بقوانين طبيعية بسيطة ؛ فالعلماء يؤكدون على أن النظرية العلمية الأبسط هي النظرية الأصدق.
لكن من المستحيل أن يكون الكون بسيطا ً ومعقدا ً في آن لتناقض ذلك، لذا الكون آلية تمارس علينا الوهم فيوهمنا بأنه بسيط وبأنه معقد. وتتضح هذه المعادلة في الظواهر كافة .الآن، الأشياء التي تبدو معقدة هي بسيطة، والأشياء التي تبدو بسيطة هي معقدة.
فجماعة من النمل قد تكون معقدة أكثر من جماعة من البشر، وقد تكون عبارة واحدة أعقد وأغنى بكثير من كتاب كامل . هكذا يستحيل التمييز الجذري بين المعقد والبسيط. مثل ذلك أن مبادىء علم الجيولوجيا مبادىء كيميائية بسيطة كتلك التي تفسِّر نشوء الصخور وتشكلها . لكن في الوقت نفسه تطور فهمنا لمبادىء الجيولوجيا البسيطة فأمست متطابقة إلى حد كبير مع المبادىء الكيميائية المعقدة الخاصة بعلم البيولوجيا. هكذا البسيط معقد كما أن المعقد بسيط. ومثل آخر هو: إذا سألنا لماذا نسيتَ مفتاحك اليوم، فالجواب الصادق لا بد أن يكون إما جوابا ً معقدا ً وإما بسيطا ً. لكن الجواب الصحيح بسيط ومعقد معا ً .
فقد نجيب بصدق وبساطة بأنك كنت تفكّر بشيء آخر لذا نسيتَ مفتاحك، كما قد نجيب بجواب صحيح معقد اعتمادا ً على علم النيورونات أي الخلايا العصبية في الدماغ التي دفعتك كي تنسى مفتاحك. على أساس كل هذا يتبادل البسيط والمعقد ماهيتهما ما يجعل من غير الممكن التفريق الجذري بينهما، وهذا يتضمن استحالة تحليلهما. فمثلا ً، من تحليلات مفهوم البسيط التحليل التالي : الشيء البسيط هو الشيء الذي يخلق النظام. لكن هذا التحليل يفشل لأن الأشياء المعقدة أيضا ً تخلق النظام ؛ مثل ذلك أن الساعة آلة معقدة لكنها تخلق نظاما ً دقيقا ً حين تشير بدقة إلى الوقت. ومن تحليلات مفهوم المعقد تحليل الفيزيائي غيل مان ألا وهو التالي : المنطقة بين النظام واللانظام تنتج المعقد وليس النظام أو اللانظام بذاته. لكن هذا التحليل يفشل لأن الأشياء بسيطة ومعقدة في آن ؛ فمثلا ً قطعة النحاس مادة ثابتة بسيطة، لكن إذا نظرنا إلى داخلها سنجدها تتضمن عالما ً معقدا ً من ذرات وجسيمات (Jeffrey Kluger : Simplexity . 2008 . Hyperion ).
كل هذا يرينا أنه من غير المحدَّد ما هو البسيط والمعقد تماماً كما أن الكون نفسه غير محدَّد. بالنسبة إلى السوبر حداثة، من غير المحدَّد ما هي الظواهر والحقائق كافة وبذلك من غير المحدَّد ما هو البسيط والمعقد، ولذا من غير الممكن تحليلهما. وبما أنه من غير المحدَّد ما هو الكون كما تؤكد السوبر حداثة، إذن من المتوقع أن يوهمنا الكون بأنه أشياء عدة ومتعارضة كأن يبدو بسيطا ً ومعقدا ً في آن. ممارسة الكون للوهم تشير بقوة إلى إمكانية أن يكون الكون نفسه مجرد وهم. هكذا يوهمنا الكون بأنه ليس سوى نفسه وبأننا لسنا سوى أنفسنا. الحقيقة كامنة في نقيضها ولذا لا يتوقف البحث عنها ولا ينتهي.
تعليق