القزم الدموي
كانت لدى ستالين أدواته الخاص التي أستعملها في أنشاء إمبراطورية الرعب التي تربع على عرشها , رجال لا يحكمهم أي ضمير أو وازع أخلاقي , كانوا هم المسئولين عن التعذيب والإعدامات والاغتيالات وإدارة المعتقلات , وكانوا يتنافسون فيما بينهم في القسوة والنذالة . أحدهم هو ذلك القزم الذي تكلمنا عنه في بداية المقال , نيكولاي يزوف , رئيس شرطة ستالين السرية , والذي كان يعرف بأسم "القزم الدموي" لكونه الأفظع والأقسى والأكثر تفانيا في تحقيق أغراض سيده ..
فمن يكون يا ترى ؟ .. وكيف وصل رجل بضآلته إلى هذا المنصب الخطير ؟ .
بحسب الوثائق الرسمية السوفيتية فأن نيكولاي ايفانوفيتش يزوف ولد عام 1895 في سانت بطرسبرغ . لكن هناك مصادر تشير إلى أنه ولد في بلدة صغيرة في لتوانيا يغلب على سكانها اليهود . كانت عائلته فقيرة , لم يكمل سوى تعليمه الابتدائي , عمل مساعد خياط , ثم عاملا في مصنع , ثم تطوع في الجيش القيصري الروسي عام 1915 وانضم للبلاشفة (3) عام 1917 قبل نشوب ثورة أكتوبر بستة أشهر .
كان أنسانا وصوليا , داهية ماكر , وصفه عضو سابق في الحزب كالآتي :
" في كل حياتي الطويلة , لم يسبق أن التقيت بشخصية أكثر بغضا من يزوف , كان يذكرني بشكل لا يقاوم بالأولاد الأشرار الذين يلعبون على ناصية شارع رستراييفا , والذين كانت هوايتهم المفضلة هي ربط قطعة من الورق المنقوع بالكيروسين إلى ذيل قطة وإشعال النار فيه , ثم كانوا يقفون يراقبون بفرح كيف يتخبط الحيوان المسكين محاولا بيأس ومن دون جدوى أن يهرب من النار المقتربة من جسده . أنا لا أشك في يزوف كان في طفولته يسلي نفسه على نفس تلك الشاكلة , وهو مستمر في فعل ذلك الآن بطرق مختلفة " .
في الحقيقة كان يزوف مجرما بامتياز , وكان ستالين بحاجة إلى رجل مثله في تلك الحقبة , فرئيس الشرطة السرية آنذاك , جينريك ياغودا , كان بطيئا في تنفيذ أوامر ستالين الدموية ..
ياغودا قتل ربع مليون إنسان .. ياله من رقم تافه ! .. أنا سأحصد الملايين .. هكذا قال يزوف ..
وفي طليعة هؤلاء الملايين كان ياغودا نفسه , إذ قام يزوف بمساعدة بعض عملاءه في الشرطة السرية بدس كمية من الزئبق في مكتب ياغودا , ثم زعم بأن هذا الزئبق كان سيستعمل في مؤامرة من اجل تسميم ستالين , وتحت التعذيب جرى أجبار ياغودا على الاعتراف بأنه يعمل لصالح الألمان , فحوكم واعدم بسرعة بأشراف من يزوف نفسه .
ياغودا لم يكن أنسانا شريفا , كان نذلا , كان يستمتع باغتصاب النساء والفتيات الصغيرات , عثروا في بيته على 14 فيلم يصور اغتصابه لضحاياه , إضافة لآلاف الصور الإباحية التي التقطها بنفسه . لكنه لم يكن يوازي يزوف في القسوة والمكر , كان يزوف فنانا في تعذيب الناس وقطاف الرؤوس بالجملة , بلغ أعداد المعدومين والمعتقلين في عهده رقما قياسيا لن يبزه فيه أي رئيس شرطة آخر في تاريخ الإتحاد السوفيتي . وفي عهده انتشرت وراجت الوشايات والتقارير الكيدية .. أصبح الناس يخافون التحدث في السياسة حتى في منازلهم .. "فالحيطان لها أذان" ..
وفي عهده جرى تنظيف الحزب والجيش من جميع من يشك في ولاءهم لستالين .. بلغ عدد ضحاياه مليون وربع إنسان , نصفهم قضوا رميا بالرصاص , فيما النصف الآخر لقي حتفه في المعتقلات .
لكن يزوف لم يكن سوى أداة , المجرم الحقيقي كان ستالين نفسه .. فالذي يظن بأن يزوف وياغودا وغيرهم من جلاوزة ستالين كانوا يتصرفون من تلقاء أنفسهم هو واهم , الحقيقة هي أن كل ما حدث كان بعلم ستالين , فمثلا بين عامي 1937 – 1938 وقع ستالين 357 مرسوما بإعدام قرابة 40 ألف إنسان . وفي إحدى المرات نظر إلى قائمة طويلة بأسماء المحكومين وقال :
"من سيذكر جميع هؤلاء الحثالات بعد عشرة أو عشرين عاما .. لا أحد .. من يتذكر الآن أسماء البويار الذين تخلص منهم ايفان الرهيب .. لا احد " .
وللأسف كان غالبية من اعدموا أو أرسلوا إلى المعتقلات أبرياء , يزوف نفسه اعترف بذلك في اجتماع للحزب فقال :
"من الأفضل أن يتعذب عشرة أبرياء على أن يفلت جاسوس واحد . عندما تقطع الخشب , ستتطاير بعض الرقائق حتما" .
يا له من منطق ! .. ولن يطول الوقت حتى يتطاير يزوف نفسه مع المتطايرين ..
السقوط
بعد أن انتهى ستالين من تطهيره الأعظم وتخلص من جميع أعداءه ومنافسيه في الحزب والجيش ونشر الرهبة والخوف في عموم الاتحاد السوفيتي , لم تعد هناك حاجة لقسوة يزوف المفرطة , فقرر التخلص منه , وبهذه الطريقة كان سيضرب عصفورين بحجر واحد , فمن جهة سيصبح بإمكانه أن يزعم بأن جميع الجرائم التي اقترفها يزوف كانت من دون علمه وبأن "أب الشعب" ما كان ليفعل مثل هذه الأمور الفظيعة بأبنائه , ومن جهة أخرى كان سيتخلص من الرجل الذي أصبح يعرف أسرارا أكثر من اللازم .. أسرار يجب كتمها إلى الأبد .. وفوق كل هذا فأن ستالين , مثل جميع الطغاة , كان يكره أن يبرز شخص آخر غيره في البلاد , حتى ولو على مستوى القسوة والنذالة .
في أواخر عام 1938 شرع ستالين بتجريد يزوف من قوته , في البداية سلمه منصب جديد , رئيس مفوضية الشعب للنقل المائي , كان ستالين يهدف من ذلك إلى إشغال يزوف بأمور أخرى فترتخي قبضته الحديدية على الشرطة السرية مما يسهل القضاء عليه . ولعب القدر دورا كبيرا في تسريع نهاية يزوف واختيار خليفته , إذ كان يزوف قد أصدر أمرا باعتقال لافرينتي بيريا عضو اللجنة المركزية للحزب عن جورجيا , لكن قبل إلقاء القبض عليه تلقى بيريا تحذيرا من رئيس فرع الشرطة السرية في جورجيا فهرب إلى موسكو حيث قابل ستالين وطلب حمايته مذكرا إياه بمساهمته في تصفية أعداء الحزب في جورجيا , ويبدو بأن الرجل قد نال إعجاب ستالين , وهكذا فأنه بدل أن يرسله إلى الموت عينه كنائب ليزوف , وشرع بيريا حال تعيينه بأبعاد وإقصاء جميع الموالين ليزوف داخل الشرطة السرية .
يزوف نفسه , الخبير بأساليب ستالين , لم يكن غافلا عما يحاك له , كان يعلم جيدا بأن نهايته قد دنت , فأهمل عمله وراح يقضي أغلب أوقاته بمعاقرة الخمر , الأمر الذي أعطى حجة إضافية لتدميره . وزاد الطين بله انتحار زوجته يوفيغينيا في 19 نوفمبر 1939 , ويقال بأنها قتلت على يد يزوف نفسه بعد أن ضاق ذرعا بعشاقها الكثيرين الذين كانوا يترددون عليها . وبعد أسبوع على مقتلها طلب يزوف إعفاءه من رئاسة الشرطة السرية , وهو أجراء شكلي , فعمليا لم تكن له أي سلطة , وتم تعيين بيريا مكانه على الفور .
وفي 13 مارس عام 1939 تم إعفاءه من منصبه في اللجنة المركزية للحزب , ولاحقا من ذلك العام أصبح عاطلا عن العمل بعد إلغاء مفوضية الشعب للنقل المائي بأمر من ستالين .
وفي 10 ابريل عام 1939 تم إلقاء القبض على يزوف أخيرا , واخفي خبر اعتقاله عن اغلب ضباط الشرطة السرية , ستالين أراد أن تتم عملية التخلص بهدوء وسرية تامة .
تحت التعذيب اعترف يزوف سريعا بكل ما أردوا منه أن يوقع عليه .. خيانة .. اختلاس .. تآمر .. مثلية جنسية – هذه التهمة كانت حقيقية - .. باختصار جميع ما يكفل إعلانه "عدوا للشعب ". ومثل سلفه ياغودا , وقف يزوف أمام محكمة الشعب مترنما بمحبة ستالين , صرخ في قاعة المحكمة قائلا بأن أسم ستالين " سيبقى على شفتي حتى أخر لحظة من حياتي " .. لكن هذا التملق كان قد أصبح من دون جدوى .. فالحكم عليه كان قد صدر حتى قبل أن ينطق به قضاة المحكمة .. وهكذا حكموا عليه بالإعدام , وما أن سمع الحكم حتى خارت قواه وكاد يسقط أرضا لولا أن تلقفه الحراس وحملوه إلى زنزانته .
في يوم تنفيذ الحكم كان يزوف مرعوبا وخائر القوى , ربما تذكر كل أولئك الذين أرسلهم إلى ذات المصير ؟ ..
أخذه ضباط الشرطة السرية إلى نفس تلك الحجرة الكريهة التي أشرف هو فيها على إعدام ياغودا قبل عامين . لكنه كان أقل شكيمة وصمودا من ياغودا , راح يصرخ ويتوسل , وطفق يذكر الرجال المحيطين به بأياديه البيضاء عليهم حين كان رئيسهم ..
لكن كل ذلك كان بلا فائدة .. وجاء صوت من أقصى الحجرة .. " انزعوا عنه ثيابه " .. فجردوه من ثيابه .. ثم جاء الصوت ثانية .. " اضربوه " .. فانهالوا عليه بالضرب المبرح حتى تركوه بين الحياة والموت ممددا على الأرض يبصق الدم من فمه ويبكي كالنساء .. ثم اقترب الرجل الواقف في ركن الحجرة المعتم وبانت ملامحه .. انه بيريا .. الرئيس الجديد للشرطة السرية , الذي كان يضمر ليزوف كرها شديدا , أومأ إلى الجلاد المخضرم , فاسيلي بولخين , فاخرج هذا الأخير مسدسه وأجهز على القزم الدموي برصاصة في رأسه .
انتهى عصر يزوف .. مسحوا أسمه ومحو ذكره من جميع السجلات , رفعوا صورته من معظم الصور الفوتوغرافية التي تجمعه بستالين , كأنه لم يكن يوما ذلك الرجل الذي فضله القائد على جميع الرجال ..
أزف عصر بيريا .. الذي قام في بداية عهده , بأمر من ستالين , بإطلاق سراح عشرة آلاف معتقل , كأنه يريد أن يقول بأن ما حدث في زمان يزوف لم يكن بعلم وقبول القيادة السوفيتية . لكن رقة بيريا لن تدوم طويلا , فالحرب على الأبواب , والنازي يستعد لاجتياح روسيا , وقريبا سيرسل بيريا الملايين إلى المعتقلات من جديد بتهمة الخيانة , وستهجر شعوب كاملة من موطنها بتهمة تعاطفها مع الألمان , وسيعدم عشرات الآلاف ويدفنون في مقابر جماعية في الغابات والأماكن النائية .
بيريا سيصبح نسخة جديدة من ياغودا ويزوف , سيدور مع زبانيته في شوارع موسكو , سيشير بيده إلى أي فتاة أو امرأة تعجبه , سيأخذها بالقوة إلى قصره فيغتصبها , وستحصل كل امرأة مغتصبة على وردة بيضاء يقدمها لها حرس بيريا عند مغادرتها لمنزله , أما من تقاوم فسينتهي بها المطاف إلى الجولاك ولن يسمع عنها أحد مجددا .لكن لكل شيء نهاية ..
في 1 مارس 1953 عثر الحراس على ستالين في غرفته وهو ممدد على الأرض فاقدا وعيه وغارقا في بوله , أصيب بسكتة , وفارق الحياة بعد أربعة أيام , ولن يطول الأمر حتى يتبرأ السوفيت من دكتاتورية وأساليب ستالين , حيث أن الحاكم الجديد للاتحاد السوفيتي , نيكيتا خروتشوف , سيشن هجوما لاذعا على سياسات ستالين ودكتاتوريته , وسيعاد الاعتبار لمعظم الضحايا الذين لاقوا حتفهم على يده . وبنهاية عقد الخمسينات سيتم إغلاق معظم معتقلات الجولاك .
لافرينتي بيريا , رئيس شرطة ستالين السرية , سرعان ما سيلاقي نفس مصير سلفيه ياغودا ويزوف , سيحاكمونه بتهمة الخيانة , سيقف في قاعة المحكمة متوسلا الرحمة بلا جدوى , ثم سيعدم بنفس طريقة سلفيه , لكنه سيكون أقل شكيمة وشجاعة في مواجهة الموت , سيصرخ وينوح حتى يضطر جلاديه إلى وضع خرقة من قماش في فمه لإسكاته , ثم سيسكتونه للأبد برصاصة في رأسه .
هكذا هي الدنيا .. كما تدين تدان ..
لكن برغم كل تلك الجرائم هناك من يشيد بستالين , لا بل أن شعبيته مرتفعة في روسيا اليوم , فهو بنظر البعض الرجل الذي حمل روسيا إلى مصاف الدول العظمى , الذي طور الزراعة والصناعة والتعليم , الذي دحر الألمان , الذي صنع القنبلة النووية , الذي وقف بوجه أمريكا والغرب وأحكم قبضته على شرق أوربا ..
بنظر البعض ستالين كان أعظم حكام الاتحاد السوفيتي السابق , أما خروتشوف ومن أتوا بعده فكانوا صنيعة الغرب وهم الذين مهدوا لسقوط الشيوعية .
أنا شخصيا لم أفهم يوما لماذا يحب الناس الطغاة , هناك من يقول بأن القبضة القوية والحازمة لابد منها لإدارة الدول , ولا بأس في موت الكثير من الناس إذا كان ذلك سيساهم في حفظ البلاد وسلامة ووحدة أراضيها ..
لكن أليس هذا هو نفس منطق يزوف ؟ ..
كانت لدى ستالين أدواته الخاص التي أستعملها في أنشاء إمبراطورية الرعب التي تربع على عرشها , رجال لا يحكمهم أي ضمير أو وازع أخلاقي , كانوا هم المسئولين عن التعذيب والإعدامات والاغتيالات وإدارة المعتقلات , وكانوا يتنافسون فيما بينهم في القسوة والنذالة . أحدهم هو ذلك القزم الذي تكلمنا عنه في بداية المقال , نيكولاي يزوف , رئيس شرطة ستالين السرية , والذي كان يعرف بأسم "القزم الدموي" لكونه الأفظع والأقسى والأكثر تفانيا في تحقيق أغراض سيده ..
فمن يكون يا ترى ؟ .. وكيف وصل رجل بضآلته إلى هذا المنصب الخطير ؟ .
كان أنسانا وصوليا , داهية ماكر , وصفه عضو سابق في الحزب كالآتي :
" في كل حياتي الطويلة , لم يسبق أن التقيت بشخصية أكثر بغضا من يزوف , كان يذكرني بشكل لا يقاوم بالأولاد الأشرار الذين يلعبون على ناصية شارع رستراييفا , والذين كانت هوايتهم المفضلة هي ربط قطعة من الورق المنقوع بالكيروسين إلى ذيل قطة وإشعال النار فيه , ثم كانوا يقفون يراقبون بفرح كيف يتخبط الحيوان المسكين محاولا بيأس ومن دون جدوى أن يهرب من النار المقتربة من جسده . أنا لا أشك في يزوف كان في طفولته يسلي نفسه على نفس تلك الشاكلة , وهو مستمر في فعل ذلك الآن بطرق مختلفة " .
في الحقيقة كان يزوف مجرما بامتياز , وكان ستالين بحاجة إلى رجل مثله في تلك الحقبة , فرئيس الشرطة السرية آنذاك , جينريك ياغودا , كان بطيئا في تنفيذ أوامر ستالين الدموية ..
ياغودا قتل ربع مليون إنسان .. ياله من رقم تافه ! .. أنا سأحصد الملايين .. هكذا قال يزوف ..
ياغودا لم يكن أنسانا شريفا , كان نذلا , كان يستمتع باغتصاب النساء والفتيات الصغيرات , عثروا في بيته على 14 فيلم يصور اغتصابه لضحاياه , إضافة لآلاف الصور الإباحية التي التقطها بنفسه . لكنه لم يكن يوازي يزوف في القسوة والمكر , كان يزوف فنانا في تعذيب الناس وقطاف الرؤوس بالجملة , بلغ أعداد المعدومين والمعتقلين في عهده رقما قياسيا لن يبزه فيه أي رئيس شرطة آخر في تاريخ الإتحاد السوفيتي . وفي عهده انتشرت وراجت الوشايات والتقارير الكيدية .. أصبح الناس يخافون التحدث في السياسة حتى في منازلهم .. "فالحيطان لها أذان" ..
وفي عهده جرى تنظيف الحزب والجيش من جميع من يشك في ولاءهم لستالين .. بلغ عدد ضحاياه مليون وربع إنسان , نصفهم قضوا رميا بالرصاص , فيما النصف الآخر لقي حتفه في المعتقلات .
"من سيذكر جميع هؤلاء الحثالات بعد عشرة أو عشرين عاما .. لا أحد .. من يتذكر الآن أسماء البويار الذين تخلص منهم ايفان الرهيب .. لا احد " .
وللأسف كان غالبية من اعدموا أو أرسلوا إلى المعتقلات أبرياء , يزوف نفسه اعترف بذلك في اجتماع للحزب فقال :
"من الأفضل أن يتعذب عشرة أبرياء على أن يفلت جاسوس واحد . عندما تقطع الخشب , ستتطاير بعض الرقائق حتما" .
يا له من منطق ! .. ولن يطول الوقت حتى يتطاير يزوف نفسه مع المتطايرين ..
السقوط
في أواخر عام 1938 شرع ستالين بتجريد يزوف من قوته , في البداية سلمه منصب جديد , رئيس مفوضية الشعب للنقل المائي , كان ستالين يهدف من ذلك إلى إشغال يزوف بأمور أخرى فترتخي قبضته الحديدية على الشرطة السرية مما يسهل القضاء عليه . ولعب القدر دورا كبيرا في تسريع نهاية يزوف واختيار خليفته , إذ كان يزوف قد أصدر أمرا باعتقال لافرينتي بيريا عضو اللجنة المركزية للحزب عن جورجيا , لكن قبل إلقاء القبض عليه تلقى بيريا تحذيرا من رئيس فرع الشرطة السرية في جورجيا فهرب إلى موسكو حيث قابل ستالين وطلب حمايته مذكرا إياه بمساهمته في تصفية أعداء الحزب في جورجيا , ويبدو بأن الرجل قد نال إعجاب ستالين , وهكذا فأنه بدل أن يرسله إلى الموت عينه كنائب ليزوف , وشرع بيريا حال تعيينه بأبعاد وإقصاء جميع الموالين ليزوف داخل الشرطة السرية .
وفي 13 مارس عام 1939 تم إعفاءه من منصبه في اللجنة المركزية للحزب , ولاحقا من ذلك العام أصبح عاطلا عن العمل بعد إلغاء مفوضية الشعب للنقل المائي بأمر من ستالين .
وفي 10 ابريل عام 1939 تم إلقاء القبض على يزوف أخيرا , واخفي خبر اعتقاله عن اغلب ضباط الشرطة السرية , ستالين أراد أن تتم عملية التخلص بهدوء وسرية تامة .
في يوم تنفيذ الحكم كان يزوف مرعوبا وخائر القوى , ربما تذكر كل أولئك الذين أرسلهم إلى ذات المصير ؟ ..
أخذه ضباط الشرطة السرية إلى نفس تلك الحجرة الكريهة التي أشرف هو فيها على إعدام ياغودا قبل عامين . لكنه كان أقل شكيمة وصمودا من ياغودا , راح يصرخ ويتوسل , وطفق يذكر الرجال المحيطين به بأياديه البيضاء عليهم حين كان رئيسهم ..
لكن كل ذلك كان بلا فائدة .. وجاء صوت من أقصى الحجرة .. " انزعوا عنه ثيابه " .. فجردوه من ثيابه .. ثم جاء الصوت ثانية .. " اضربوه " .. فانهالوا عليه بالضرب المبرح حتى تركوه بين الحياة والموت ممددا على الأرض يبصق الدم من فمه ويبكي كالنساء .. ثم اقترب الرجل الواقف في ركن الحجرة المعتم وبانت ملامحه .. انه بيريا .. الرئيس الجديد للشرطة السرية , الذي كان يضمر ليزوف كرها شديدا , أومأ إلى الجلاد المخضرم , فاسيلي بولخين , فاخرج هذا الأخير مسدسه وأجهز على القزم الدموي برصاصة في رأسه .
أزف عصر بيريا .. الذي قام في بداية عهده , بأمر من ستالين , بإطلاق سراح عشرة آلاف معتقل , كأنه يريد أن يقول بأن ما حدث في زمان يزوف لم يكن بعلم وقبول القيادة السوفيتية . لكن رقة بيريا لن تدوم طويلا , فالحرب على الأبواب , والنازي يستعد لاجتياح روسيا , وقريبا سيرسل بيريا الملايين إلى المعتقلات من جديد بتهمة الخيانة , وستهجر شعوب كاملة من موطنها بتهمة تعاطفها مع الألمان , وسيعدم عشرات الآلاف ويدفنون في مقابر جماعية في الغابات والأماكن النائية .
بيريا سيصبح نسخة جديدة من ياغودا ويزوف , سيدور مع زبانيته في شوارع موسكو , سيشير بيده إلى أي فتاة أو امرأة تعجبه , سيأخذها بالقوة إلى قصره فيغتصبها , وستحصل كل امرأة مغتصبة على وردة بيضاء يقدمها لها حرس بيريا عند مغادرتها لمنزله , أما من تقاوم فسينتهي بها المطاف إلى الجولاك ولن يسمع عنها أحد مجددا .لكن لكل شيء نهاية ..
لافرينتي بيريا , رئيس شرطة ستالين السرية , سرعان ما سيلاقي نفس مصير سلفيه ياغودا ويزوف , سيحاكمونه بتهمة الخيانة , سيقف في قاعة المحكمة متوسلا الرحمة بلا جدوى , ثم سيعدم بنفس طريقة سلفيه , لكنه سيكون أقل شكيمة وشجاعة في مواجهة الموت , سيصرخ وينوح حتى يضطر جلاديه إلى وضع خرقة من قماش في فمه لإسكاته , ثم سيسكتونه للأبد برصاصة في رأسه .
هكذا هي الدنيا .. كما تدين تدان ..
لكن برغم كل تلك الجرائم هناك من يشيد بستالين , لا بل أن شعبيته مرتفعة في روسيا اليوم , فهو بنظر البعض الرجل الذي حمل روسيا إلى مصاف الدول العظمى , الذي طور الزراعة والصناعة والتعليم , الذي دحر الألمان , الذي صنع القنبلة النووية , الذي وقف بوجه أمريكا والغرب وأحكم قبضته على شرق أوربا ..
بنظر البعض ستالين كان أعظم حكام الاتحاد السوفيتي السابق , أما خروتشوف ومن أتوا بعده فكانوا صنيعة الغرب وهم الذين مهدوا لسقوط الشيوعية .
أنا شخصيا لم أفهم يوما لماذا يحب الناس الطغاة , هناك من يقول بأن القبضة القوية والحازمة لابد منها لإدارة الدول , ولا بأس في موت الكثير من الناس إذا كان ذلك سيساهم في حفظ البلاد وسلامة ووحدة أراضيها ..
لكن أليس هذا هو نفس منطق يزوف ؟ ..
تعليق