نقطة تحول
التغيير هو سنة من سنن الحياة والطبيعة، فكل شيء يتغير بمرور الزمان، لا يقتصر ذلك على النظم الاجتماعية والسياسية والعمرانية والثقافية .. بل حتى الإنسان .. أنا وأنت .. نكون عرضة للتغيير على مستوى الشخصية والسلوك والتفكير والتصرفات، أحيانا نتغير من نقيض إلى نقيض.
ويرتبط هذا عادة بحدث أو تجربة معينة، نقطة تحول لا تكون الأمور بعدها كما كانت من قبلها، والأمثلة على ذلك كثيرة.. "فلان" كان شاهدا على موت ودفن أعز أصدقاءه فشعر برهبة الموت وتفاهة الحياة وأصبح متدينا لا تفارقه المسبحة وسجادة الصلاة ..
"فلان" المرح الذي دأب على المزاح وكانت ضحكته الرنانة تصل حتى آخر الشارع .. أبتلع لسانه ولم يعد أحد يسمع له حسا بعد الزواج ..
"فلانة" بنت الجيران رسبت في امتحان الثانوية العامة فأصيبت باكتئاب وحالة نفسية وانتهى بها الأمر إلى الجنون .. "فلانة" الجميلة مات حبيبها الشاب .. أنفطر قلبها .. آلت على نفسها أن تعيش على ذكراه حتى آخر يوم في حياتها .. لم تتزوج أبدا وماتت وهي عانس.
هذه جميعها أمثلة حقيقية من واقع الحياة .. وأنا واثق بأن كل واحد منكم يحمل في جعبته الكثير من هذه القصص، بل ربما كان بعضكم هو بحد ذاته نموذج على التغير والتحول والتبدل في التصرف والسلوك والقناعة بناء على تجارب معينة في الحياة.
ومثل هذه التغيرات والتحولات تثير الدهشة أحيانا، وقد توصف بالعجيبة، خصوصا عندما تحدث بصورة سريعة ومفاجئة فتقلب كيان الإنسان وتحوله إلى شخص آخر لا يمت لماضيه بصلة. وهذا هو بالضبط ما سنتحدث عنه في هذا المقال .. التغييرات المفاجئة والمدهشة التي تطرأ على الشخصية والتي تكون مدعاة للتفكير والتأمل في مدى عظمة العقل البشري.
أصبح عبقريا فجأة
قبل عدة سنوات شاهدت فلما أسمه الظاهرة (Phenomenon )، قصة الفلم تدور حول ميكانيكي بسيط يدعى جورج (الممثل جون ترافلوتا) كان يقف في إحدى الليالي وسط ميدان البلدة الخالي متطلعا إلى السماء حينما شاهد نقطة بيضاء تتحرك بين النجوم، وبلمح البصر تحولت تلك النقطة إلى هالة من نور هوت نحوه بسرعة كبيرة فأطاحت به أرضا وأفقدته وعيه. تلك الحادثة شكلت نقطة تحول فارقة في حياة جورج، فهذا الميكانيكي البسيط أستيقظ من إغماءته ليجد نفسح عبقريا في جميع مجالات العلم والحياة، أصبح ذكاءه خارقا، وصار بإمكانه استيعاب كميات كبيرة من المعلومات خلال فترة قصيرة، وأصبح قادرا على صياغة أفكار وابتكارات جديدة، وأمتلك حتى القدرة على تحريك الأشياء عن بعد!. وأتضح لاحقا بأن قدرات جورج الخارقة لم تحدث بسبب معجزة كما كان يظن، وإنما بسبب ورم سرطاني أثر بنحو ما على أداء دماغه وحوله إلى إنسان خارق.
قصة الفلم خيالية طبعا، لكنها أثارت في نفسي أكثر من تساؤل حول إمكانية أن يكتسب الإنسان ذكاء ومواهب خارقة هكذا بصورة مفاجئة مثل جورج في الفلم ؟ .. تصور أن تغدو نابغة في الفيزياء والرياضيات والحاسوب .. أن تتحول بين ليلة وضحاها إلى فنان بارز في الموسيقى والرسم والنحت .. أن تصبح خطيبا مفوها أو شاعرا مرهف الحس .. أن تمتلك القدرة على التحدث بأكثر من لغة .. يا لها من أحلام رائعة داعبت خيال الكثيرين منا حتما .. لكن هل هي ممكنة التحقق فعلا ؟ ..
دعونا نبحث عن الجواب معا في القصص التالية ..
في أحد الأيام من عام 1994 كان الطبيب الجراح طوني سكوريا يقف أمام كشك هاتف عمومي من أجل إجراء مكالمة، وشاءت الصدف أن يتعرض الكشك لصاعقة من السماء في نفس اللحظة التي رفع فيها طوني سماعة الهاتف وقربها إلى أذنه، فانتقلت شحنة الصاعقة الكهربائية من خلال الكشك المعدني إلى الهاتف ثم إلى السماعة وصولا إلى أذن ودماغ طوني الذي سقط أرضا في الحال من هول الصدمة وتوقف قلبه عن الخفقان. وزعم طوني لاحقا بأنه مر بتجربة خروج الروح من الجسد خلال اللحظات القليلة التي توقف فيها قلبه، قال بأنه يتذكر وقوفه إلى جوار الكشك ناظرا بأسى واستغراب إلى جسده المسجى على الأرض والذي كانت تحيط به هالة زرقاء. ولحسن حظ طوني كانت هناك ممرضة تقف بالجوار انتظارا لدورها في استخدام الهاتف، وقد تمكنت عبر إجراء الإسعافات الأولية من إعادة تنشيط قلبه وإبقاءه حيا حتى وصول سيارة الإسعاف.
طوني أستعاد عافيته وغادر المستشفى خلال أيام معدودات، لم يصب سوى بحروق وكدمات بسيطة، كما عانى لفترة من بعض المشاكل في الذاكرة، لكنه عاد إلى طبيعته في النهاية وباشر عمله كالمعتاد.
غير أن فصول القصة الغريبة لا تنتهي هنا .. فبعد مدة قصيرة أخذ طوني يشعر برغبة لا تقاوم للعزف على البيانو .. لم تكن لديه أي خبرة سابقة في العزف على البيانو، ولا جلس في حياته خلف بيانو، ولا كانت له أي اهتمامات موسيقية. لكن فجأة ومن دون سابق إنذار أصبح رأسه يضج بالإيقاعات والألحان .. حتى خلال نومه كان هناك بيانو يعزف بلا توقف داخل رأسه!.
في النهاية أستسلم طوني لمشاعره واشترى بيانو، وكم كانت دهشته عظيمة حين جلس خلف لوحة مفاتيح هذه الآلة الصعبة وبدأ العزف من دون مساعدة أحد، ليتحول خلال أسابيع قليلة فقط إلى عازف بيانو لا يشق له غبار! .. كانت الموسيقى تدفق من دماغه إلى أصابعه كالشلال بصورة عجز هو نفسه عن تفسيرها. وبطبيعة الحال جذبت هذه الموهبة المفاجئة التي حلت عليه الكثير من الاهتمام الإعلامي، وجرى تأليف كتاب عنه. وهو اليوم عازف بيانو مرموق تستضيفه أعرق وأكبر مسارح ودور الأوبرا العالمية.
قصة طوني غريبة فعلا .. لكنها ليست فريدة من نوعها ..
ففي عام 2006 حدثت قصة مماثلة لشاب يدعى ايريك إيماتو، اصطدم رأسه بحافة المسبح أثناء قفزه إلى الماء، أثرت هذه الحادثة على سمعه وذاكرته، لكن تأثيرها الأكبر كان في تحوله إلى عازف بيانو محترف بين ليلة وضحاها! .. وبالضبط مثل سكوريا، فأن ايماتو لم يكن قد جلس خلف بيانو في حياته، لكنه شعر بانجذاب غريب للجلوس وراء هذه الآلة بعد الحادثة بأيام قليلة، ولشدة دهشته راحت أصابعه تتراقص برشاقة وبراعة فوق لوحة المفاتيح كأنه مارس العزف طوال حياته. كانت النوتات الموسيقية تمر أمام عينيه كأنه ينظر إلى لوحة إعلانات متحركة.
"إنها متلازمة العباقرة (Savant syndrome ) " .. يقول الدكتور اندرو ريفي محاولا تفسير موهبة ايماتو المفاجئة، ويتابع موضحا : "الضربة على رأسه غيرت من آلية وكيمياء عمل دماغه .. إنها ليست حالة نادرة فقط، بل فريدة جدا من نوعها".
عجيب حقا ما يمكن لضربة على الرأس أن تفعله! .. ولعلكم تذكرون موضوع بيتر هوركوس المتنبأ وقارئ الافكار
قبل حوالي عقد من الزمان تعرض جايسون بادجيت إلى هجوم مباغت من قبل بعض اللصوص بعد مغادرته لإحدى الحانات في ساعة متأخرة من الليل، المهاجمين كانوا طامعين في الحصول على سترته الجلدية، وقد حصلوا عليها فعلا بعد أن أشبعوه ضربا على رأسه.
جايسون فقد سترته .. لكنه حصل في المقابل على موهبة خارقة في الرياضيات! ..
فحين فتح الرجل عينيه مجددا في المستشفى بدا كل شيء مختلفا عن السابق، جايسون وصف ذلك قائلا : "أينما أدير وجهي كنت أرى معادلات رياضية معقدة .. مثل معادلة فيثاغورس .. كل منحني .. كل دائرة .. كل شجرة .. كان جزءا من هذه المعادلة".
جايسون لم يكتف بوصف ما يراه، بل حول رؤاه العجيبة إلى مخططات رياضية معقدة أسماها الكسوريات. وبحسب جايسون فأن كسورياته هي : "أشكال معقدة عندما تقوم بتكسيرها وتجزئتها إلى قطع صغيرة، فأن القطع جميعها تكون مماثلة أو مشابهة للكل".
وبحسب بعض التقارير الإخبارية فأن جايسون هو الشخص الوحيد في العالم الذي بإمكانه عمل تمثيل مرئي للباي
(Pi )، وهو ثابت يستخدم في الرياضيات والفيزياء بشكل مكثف. ويعرف على أنه النسبة بين محيط الدائرة وقطرها. العجيب أن جايسون لم تكن لديه أية اهتمامات بالرياضيات قبل الحادث، ولا كان متفوقا بهذه المادة في المدرسة والجامعة، ولم تكن له أية ميول فنية. أما اليوم فقد أكسبته مخططاته المعقدة التي يرسمها بيده شهرة واسعة وخضعت لدراسة وتحليل العديد من علماء الهندسة والرياضيات. وبالطبع جذبت هذه العبقرية المفاجئة اهتمام أطباء وعلماء الأعصاب والدماغ أيضا، فأخضعوا جايسون لفحوصات واختبارات مكثفة.
د. بيرت بروغارت عالم الأعصاب وأستاذ الفلسفة يحاول تفسير حالة جايسون قائلا : "الظاهر أن جايسون حصل على عبقريته عن طريق الصدفة المحضة بعد أن تعرض للضرب المبرح على رأسه من قبل اللصوص، فخلال الاختبارات التي أجريناها عليه تمكنا من تشخيص نشاط مكثف في منطقتين محددتين من دماغه، وهما المنطقين المسئولتين عن الحساب والصور الذهنية. والمرجح أن الأضرار الناجمة عن الهجوم أجبرت دماغ جايسون على تعويض نشاطه في بعض المناطق، وبالتالي أتاح له ذلك الوصول إلى مناطق من دماغه لا يمكن لمعظم الناس الوصول إليها".
غريب! .. لكن الأغرب من ذلك هو أن يصبح الإنسان معاقا ذهنيا وعبقريا في نفس الآن!! ..
الونزو كليمونز كان طفلا طبيعيا مثل جميع الأطفال، ه تعرض في صغره إلى إصابة بليغة في رأسه جراء حادث، وقد أثر هذا بشكل كبير عليه، أنخفض معدل ذكائه وأصبح يواجه صعوبات جمة في التكلم والتعلم والتواصل مع الناس، وصار ينظر إليه كمعاق. لكن الونزو أكتسب في المقابل موهبة نادرة وعجيبة، أو كما يقول هو : "لقد أعطاني الله هدية". فهذا الطفل المعاق ذهنيا أصبح مولعا فجأة وبصورة غريبة بصنع تماثيل من الطين للحيوانات، كان بإمكانه صنع تمثال لأي حيوان، حتى لو لم يكن قد رأى هذا الحيوان سابقا، فمجرد لمحة بسيطة وسريعة، أو رؤية صورة فوتوغرافية، كانت تتحول فورا إلى صورة ذهنية ثلاثية الإبعاد في دماغ الونزو سرعان ما تترجمها أصابعه إلى تمثال رائع الجمال في أقل من ساعة من الزمن. لا أحد يعلم كيف يفعل الونزو ذلك، لكن بمرور الزمن اكتسبت تماثيله شهرة وشعبية واسعة وتم بيع بعضها بمبالغ طائلة.
ولا تنتهي عجائب العقل البشري عند موهبة الونزو .. فهناك ما هو أغرب وأكثر عاطفة وإنسانية ..
الانجليزي تومي مكهيو لم تكن له أي علاقة بالفن، لا بل كان أبعد الناس عن الفن والجمال. كان مدمنا سكيرا عرف بشراسته وعدوانيته طالما اشتكت شوارع ليفربول من عربدته وعراكه، قضى ردحا من حياته وراء القضبان بتهم شتى كالسرقة والابتزاز وقطع الطريق والتحرش وحيازة المخدرات .. وأستمر على هذه الحال حتى جاوز الخمسين من عمره ..
ثم أتى يوم قلب كيانه رأسا على عقب ..
حدث ذلك في أحد أيام عام 2001 ، كان جالسا في الحمام يقضي حاجته، ويبدو بأن احدهم دق الباب عليه يستعجله الخروج، فعصر مكهيو بطنه بشدة محاولا دفع ما في أمعاءه بصورة أسرع .. لكنه عصر بقوة كبيرة إلى درجة انفجر معها شريانين في دماغه!! .. فحدث عنده نزيف داخلي وأغمى عليه.
يا لها من نقطة تحول! .. تليق بمجرم شوارع ..
الأطباء تمكنوا من وقف النزيف الداخلي بشق الأنفس، وبعد أسبوع من الغيبوبة فتح مكهيو عينه ليرى نفسه ممدا على سرير داخل غرفة بيضاء والى جواره تجلس امرأة أخبروه لاحقا بأنها زوجته .. لقد فقد ذاكرته! .. وفقد أيضا تلك الصورة الرمادية الكئيبة التي أعتاد عقله رؤية العالم بها .. اختفت تماما وحلت محلها صورة رائعة زاهية. وما أن وقف مكهيو على قدميه مجددا حتى أمسك بالفرشاة وبدء يحول تلك الصورة التي تلمع في مخيلته إلى لوحات جميلة تضج بالألوان. ليس هذا فحسب، بل تحول ذلك المجرم السافل الذي أدمن لسانه السباب والشتائم .. تحول إلى شاعر مرهف الحس يتحدث عن الحب والسلام والأمل، وهو أمر لم يرق طبعا لأصدقائه المدمنين والمجرمين واللصوص فانفضوا عنه وهم يهزون رؤوسهم أسفا على حاله ولم يعودوا يزورونه.
أحد الأطباء المتابعين لحالة تومي يقول : "أيا ما كان السبب الذي كان يحجب أو يمنع نبوغه الفني فأن هذا الشيء قد أنكسر وأتاح الفرصة لتدفق المشاعر والصور الحبيسة، تم فتح الباب أمام الفيضان. وفي الواقع نحن لازلنا بعيدين كل البعد عن فهم أساسيات عمل الدماغ، لكننا نأمل من خلال دراسة حالات نادرة مثل حالة تومي أن نحصل على لمحة عما يحدث هناك".
تومي مكهيو يقضي جل وقته اليوم في الرسم والنحت وكتابة الشعر، حتى انه حول جدران منزله إلى لوحات نابضة بالحياة، وهو سعيد بحياته كما لم يكن من قبل، وعن ذلك يقول : "أنا أحب ما أصبحت عليه .. ما أنا عليه .. سعيد بكوني تومي الآن، وليس تومي الذي يذكره الناس .. ما حدث داخل رأسي هو أمر رائع بكل معنى الكلمة".
دعونا نأمل أن يعصر جميع مجرمي العالم بطونهم بشدة لتنفجر شرايينهم ويتحولوا إلى فنانين وشعراء!! ..
لكن إذا كان تومي مكهيو قد اكتسب موهبة ورؤية جديدة للعالم، فهناك من أكتسب لغة جديدة بعد تعرضه لإغماءة ..
في عام 2010 استيقظت فتاة كرواتية مراهقة في المستشفى بعد غيبوبة دامت 24 ساعة لتثير استغراب ودهشة الجميع، فالفتاة نسيت لغتها بالكامل. لم تعد تستطيع التحدث بالكرواتية .. ولا حتى كلمة واحدة! .. وعوضا عن ذلك بدأت تتحدث الألمانية بطلاقة كبيرة.
والدا الفتاة قالا بأن أبنتهم كانت تأخذ دروسا أولية بالألمانية في المدرسة، لكنها لم تكن متمكنة من اللغة بتاتا، كانت تحفظ بعض الكلمات والجمل فقط، ولا يعلم سوى الله كيف أصبحت تتكلم الألمانية بهذه الطلاقة بعد استيقاظها من الغيبوبة.
الفتاة خضعت لفحوصات مكثفة من قبل العديد من الأطباء، لكن الجميع وقفوا عاجزين عن تفسير حالتها، وعن ذلك يقول خبير الطب النفسي الدكتور ميجو ميلاس: "في الماضي كان سيشار إلى الفتاة باعتبارها معجزة، لكن في أيامنا هذه نفضل الاعتقاد بوجود تفسير منطقي، بالرغم من أننا لم نتوصل بعد إلى هذا التفسير المنطقي".
وبالفعل فأن التاريخ شاهد على العديد من القصص الغريبة لأناس أصبحوا بين ليلة وضحاها يتكلمون لغات أجنبية لم تكن لهم سابق معرفة بها، وهي ظاهرة تصنف على أنها من ظواهر ما وراء الطبيعة، وتعرف بأسم زنوغلاسي
(Xenoglossy ) . وهناك حالات قليلة جدا موثقة عن هذه الظاهرة، كحالة متسابق الدراجات النارية التشيكي ماثيو كوس الذي تعرض لحادث ودخل في إغماءة لمدة ساعة أستيقظ بعدها وهو يتكلم الانجليزية بطلاقة!.
غير أن تفجر الموهبة والعبقرية قد لا يتطلب دوما إغماءة طويلة أو جروحا نازفة .. فأورنالدو سيريل لم يتعرض سوى لضربة عرضية بكرة البيسبول على الجانب الأيسر من رأسه عندما كان يلعب مع أصدقاءه في يوما ما من عام 1979. اورنالدو الذي كان في العاشرة من عمره ترنح وسقط أرضا لكنه سرعان ما قام وأكمل المباراة حتى النهاية. وبعد المباراة عانى لبضعة أيام من صداع خفيف في الجانب الأيسر من رأسه، لكنه لم يراجع الطبيب لاعتقاده بأن الأمر بسيط ولا يستوجب القلق. وحين غادره الصداع أخيرا وجد الصبي الأسمر بأنه أصبح عبقريا فجأة في حساب الأيام .. فمثلا إذا سأل أحدهم اورنالدو عن اليوم المصادف لتاريخ 28 شباط /فبراير 1990 ، فأن اورنالدو سيجيبه على الفور بأنه كان يوم أربعاء، وسيخبره بأن الجو كان غائما في ذلك اليوم في مدينة فيرجينيا، أي المدينة التي يعيش فيها اورنالدو.
المذهل في حالة اورنالدو هو أن قدرته الخارقة تقتصر فقط على الأيام التي تلت تعرضه لضربة الكرة على رأسه عام 1979، يمكنك أن تسأله عن أي يوم بعد هذا التاريخ وسيجيبك بدقة، لكنه موهبته تتبخر تماما إذا سألوه عن الأيام التي تسبق هذا التاريخ.
اورنالدو أخبر العلماء الذين درسوا حالته بأنه لا يستطيع تفسير موهبته، الأمر أشبه بمشاهدة التلفاز، فما أن يطرح احدهم عليه سؤالا عن تاريخ معين حتى يجد أسم اليوم المصادف لذلك التاريخ مجسدا أمام ناظريه.
أصبح مجرما فجأة!
عام 37 للميلاد تولى كاليغولا عرش الإمبراطورية الرومانية، فعمت الأفراح أرجاء الإمبراطورية. الشعب كان سعيدا جدا بإمبراطوره الجديد بعد أن ذاق المر والهوان على يد الإمبراطور السابق طبريوس، الذي أرهق الناس بضرائبه ومظالمه. وسرعان ما أثبت الإمبراطور الشاب جدارته بحب الجماهير، إذ قام بخفض الضرائب، وأجرى إصلاحات ورفع مظالم كثيرة. لكن ذلك لم يدم طويلا، فبعد سبعة أشهر فقط على توليه العرش، أصيب كاليغولا بمرض غامض عجز الأطباء عن علاجه، وكان من الضراوة بحيث يأس الجميع من شفاءه وأيقنوا بهلاكه
. لكن على عكس كل التوقعات، فاجأ كاليغولا الجميع وشفي من مرضه. غير أنه لم يعد ذات الشخص الذي كان عليه قبل المرض، تغيرت شخصيته بالكامل، أصبح ساديا وجشعا وفاسقا وشديد القسوة، راح يقتل الناس ويصادر أموالهم ويغتصب نسائهم بسبب وبلا سبب، وتدنى في فسوقه ورذيلته بحيث لم يترك امرأة في البلاط إلا واغتصبها، لم تسلم من ذلك شقيقاته الثلاث. والأدهى من ذلك أنه أفتتح بيوتا للدعارة داخل قصوره وأجبر نبلاء وأشراف روما على العمل كقوادين فيها على زوجاتهم ونسائهم! .. وكان ريع تلك المواخير يصب في جيب كاليغولا طبعا. ليت الأمر توقف عند هذا الحد، فجنون كاليغولا فاق كل تصور. إذ جعل لنفسه تماثيل ومعابد في طول البلاد وعرضها وأجبر الناس على عبادته. وأخذ جيشه الجرار إلى شواطئ بحر المانش الفاصل بين فرنسا وانجلترا لكي يجمع جنوده الصدف على الساحل ثم عاد بهم إلى روما! .. وأعاد فرض الضرائب الثقيلة والمرهقة على كاهل الشعب حتى صار الناس يترحمون على أيام طبريوس عملا بالمثل القائل : "جرب غيري .. تعرف خيري".
موبقات كاليغولا كثيرة، يطول المقام بذكرها، لكن لحسن حظ روما فأن عهده البغيض لم يدم طويلا، إذ اغتيل على يد حراسه عام 41 ميلادية. ونحن ما أتينا على ذكر قصته إلا كعينة تاريخية على ظاهرة تغير الشخصية نحو الأسوأ بعد التعرض لمرض أو حادث. فالناس لا يصبحون عباقرة دائما بعد تعرضهم للحوادث كما في القصص التي ذكرناها أنفا، وإنما قد يتحولون أيضا إلى أشخاص غريبي الأطوار .. سفاحين ومجرمين يعشقون الدم وتعذيب الآخرين.
في عام 2007 أصدرت محكمة روسية حكما بالسجن المؤبد على أليكساندر بيشوشكين المعروف بأسم سفاح رقعة الشطرنج، والذي كان يستدرج ضحاياه إلى أجزاء منعزلة من حديقة بيتسفسكي بموسكو حيث كان يقدم لهم شراب الفودكا حتى يثملوا ثم يباغتهم بضربة قاتلة بالفأس على مؤخرة رؤوسهم. كان يروق له أحيانا أن يغرز زجاجة فودكا في جماجمهم المهشمة، ثم يتركهم في العراء من دون دفن.
بيشوشكين كان لاعب شطرنج بارع، دأب منذ سن مبكرة على القدوم للحديقة واللعب مع كبار السن والمتقاعدين والعاطلين عن العمل والمشردين المتواجدين هناك، وفي الحقيقة شكل هؤلاء القسم الأكبر من ضحاياه. كان يأمل في قتل 64 شخص على عدد مربعات رقعة الشطرنج، ولهذا سمي بسفاح رقعة الشطرنج، وكان قريبا جدا من تحقيق هدفه لولا إلقاء القبض عليه عام 2006.
بيشوشكين أعترف للشرطة بقتل 60 شخصا. أخبرهم بأن جريمته الأولى كانت عام 1992، أما جريمته الأخيرة فكانت قبل إلقاء القبض عليه بأيام قليلة، وكانت ضحيته الأخيرة هي إحدى زميلاته في العمل. وحين سألوه عن الدافع وراء جرائمه أجاب قائلا : "بالنسبة لي الحياة بدون قتل هي كالحياة بدون طعام بالنسبة لكم. لقد شعرت كأني والد جميع هؤلاء الناس، فأنا الذي فتحت لهم الباب إلى العالم الآخر".
والدة بيشوشكين قالت بأن السبب الحقيقي وراء جرائم أبنها هو تعرضه لحادث في صغره عندما اصطدم مقدم رأسه بأرجوحة فتغيرت شخصيته اللطيفة والهادئة وأصبح عدائيا وسريع الغضب. ويعتقد الخبراء بأن القشرة الأمامية للدماغ، أي المنطقة التي تعرض فيها بيشوشكين للإصابة، تكون مسئولة عن كبح الغضب والميول العدائية.
"سفاح رقعة الشطرنج" لم يكن الوحيد الذي تغيرت حياته للأسوأ بعد تعرضه لضربة على رأسه. فالسفاح الأمريكي ايرل نيلسون كان في العاشرة من عمره حين اصطدمت دراجته الهوائية بعربة ترام فتعرض رأسه لضربة قوية ودخل في غيبوبة استمرت لستة أيام، وحين أستعاد وعيه أخيرا لاحظ الجميع بأنه تغير كليا. أصبحت تصرفاته غريبة، عانى من الصداع وفقدان الذاكرة، حتى أنه دخل المصحة العقلية مرتين. ويبدو بأن الخلل في دماغه قد أثر على ميوله، فأصبح مهووسا بالجنس، وتحول هذا الهوس تدريجيا إلى شذوذ، فصار مولعا بممارسة الجنس مع جثث الموتى (نيكروفيليا)، ودفعه ذلك الشذوذ إلى إزهاق أرواح نسوة عديدات على طول الساحل الغربي للولايات المتحدة وكندا.
كان بارعا في التظاهر، ضحاياه كن في الأغلب صاحبات نزل، كان يدخل إلى منازلهن زاعما أنه يريد تأجير غرفة، وكان يمسك في يده دوما نسخة من الكتاب المقدس لكي يعطي انطباعا طيبا ومسالما عن نفسه، وكانت هذه الحيلة تنجح دوما، فما أن تطمئن الضحية إليه وتعطيه ظهرها حتى يثب إليها كالوحش المفترس، يطبق بيديه على عنقها ولا يتركها إلا وهي جثة هامدة، كان يحرص على التأكد من موتها قبل أن يشرع بممارسة الجنس معها، وما أن يفرغ منها حتى يقوم بسحبها وإخفائها تحت السرير. كان إخفاء الجثث تحت السرير هو بمثابة العلامة الفارقة لجرائم ايرل نيلسون الذي قتل أكثر من 22 امرأة بهذه الطريقة قبل أن يلقى القبض عليه ويعدم شنقا عام 1928.
فريتز هارمن هو مثال آخر لما يمكن لضربة على الرأس أن تفعله. هارمن الذي عرف بأسم سفاح هانوفر كان مصاص دماء بكل معنى الكلمة، كان يصطاد الفتيان المشردين من الشوارع ويأتي بهم إلى شقته ليغتصبهم، وفي لحظة معينة أثناء ممارسة الجنس يقوم بقضم واقتلاع حنجرة ضحيته بأسنانه، ثم يبدأ بشرب الدم مباشرة من الجرح النازف. وبعد موت الضحية يقوم بتقطيع الجثة وإزالة اللحم عن العظم لكي يبيعه لاحقا في السوق على أنه لحم خنزير!.
هارمن لم يكن قاتلا بالفطرة، كان جنديا في شبابه، عرف عنه الطموح والمثابرة. لكن في أحد الأيام أثناء التمرينات، سقط من مكان مرتفع فأصيب رأسه واغشي عليه، واجمع زملاءه على أن شخصيته وسلوكه تغيرا بصورة جذرية بمجرد إفاقته من الغيبوبة، ومنذ ذلك الحين اتخذت حياته منحى آخر قاده في النهاية إلى المقصلة التي قطعت رأسه عام 1925 بتهمة قتل أكثر من سبعين إنسان.
في الواقع هناك أشخاص كثر تغيرت حياتهم نحو العنف والجريمة بعد تعرضهم لإصابة بالرأس، ولولا خشية التطويل والإسهاب لذكرناهم بالتفصيل، لكننا سنكتفي بأخذ بعض العينات :
- السفاح الفرنسي جوزيف فاشير كان متخصصا باغتصاب وقتل راعيات الأغنام والأبقار في البرية .. تعرض في شبابه لإصابات خطيرة في الرأس جراء محاولته الانتحار.
- السفاح الأمريكي آلبرت فيشر .. مغتصب الأطفال وآكل لحوم البشر .. سقط من فوق شجرة في طفولته.
- السفاح الانجليزي جون كريستي .. مغتصب وقاتل نساء .. صدمته سيارة في أحد شوارع لندن وفقد الوعي لعدة ساعات.
- القاتل ريتشارد سبيك .. أقتحم عام 1966 قسما داخليا وأقدم على قتل ثمانية طالبات تمريض .. كان قد تعرض لإصابات متعددة في طفولته، وحين مات في السجن عام 1991 قام الأطباء بتشريح دماغه ليكتشفوا أمرا مذهلا، فالمنطقة المسئولة عن الذاكرة كانت قد تداخلت مع المنطقة المسئولة عن الغضب والمشاعر القوية، كانت الحدود بين المنطقتين قد اختفت تماما.
- غاري هادنك .. مغتصب وقاتل نساء .. كان قد سقط من فوق شجرة في طفولته، وكانت إصابته قوية إلى درجة أثرت على شكل وتناسق رأسه.
- راندي كرافت .. سفاح أغتصب وقتل عشرات الفتيان .. سقط في طفولته من على سلم وفقد وعيه لعدة ساعات.
- بوبي جو لونغ .. مغتصب وقاتل نساء .. تعرض لإصابات كثيرة في رأسه، مرة سقط عن الأرجوحة، ومرة صدمته سيارة. أصبح لديه ولع عجيب بالجنس، أغتصب أكثر من خمسين امرأة وقتل أكثر من عشرة، قال مرة : "عندما أموت سيقومون بفتح رأسي، وسيجدون تماما كما أخبرتهم دائما ... جزء من دماغي لونه أسود وجاف وميت".
- فريد ويست .. مغتصب قام بقتل أكثر من ثلاثة عشر امرأة بمساعدة زوجته روزماري، ثلاثة من ضحاياه كن من بناته .. سقط من فوق دراجة نارية في سن السابعة عشر فأصيب رأسه وأغمي عليه لمدة أسبوع وقالت عائلته بأنه تغير كثيرا بعد إفاقته من الغيبوبة.
- ريتشارد ريماريز .. من عبدة الشيطان، قتل أكثر من 14 شخصا وأغتصب نسوة كثيرات، كان يمثل بجثث ضحاياه بصورة فظيعة .. أصيب رأسه مرتين في طفولته، مرة وقعت عليه خزانة الملابس، ومرة ضربته أرجوحة.
هناك مجرمين آخرين كثر تعرضوا لإصابات بالرأس في مرحلة ما من حياتهم، وأثرت هذه الإصابات بصورة مباشرة على مسيرة حياتهم، فغيرت من آلية عمل دماغهم، وبدلت نظرتهم للناس والمجتمع من حولهم.
فهل يعني هذا بأن دماغ المجرمين يختلف عن أدمغة بقية البشر ؟ .. فلقد تعودنا لسنين طويلة على القول بأن المجتمع هو الذي يصنع المجرم، وبأن البيئة المحيطة وظروف الحياة والتعليم والأسرة هي التي تلعب الدور الأكبر في خلق الميول الإجرامية. فالفقر مثلا يعد من الأسباب الرئيسية للجريمة، والحياة الأسرية المفككة تعد دافعا قويا لانحراف الأطفال والمراهقين.
لكن يجب ملاحظة بأنه ليس كل من نشئوا في أسر مفككة يصبحون قتلة وسفاحين، وليس كل الفقراء يمكن أن يتحولوا إلى لصوص، ولا كل النساء المعدمات ينتهي بهن المطاف إلى الدعارة .. هناك دائما نسبة معينة من الناس لديهما استعداد ذاتي للقيام بهذه الأمور بغض النظر عن الخلفية الأسرية والثقافية والمستوى المادي. أنه أمر يتعلق بالجينات وبتركيبة الدماغ. ولقد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة بأن أدمغة المجرمين تختلف فعلا عن أدمغة سائر الناس. حيث أخذ العلماء عينة من المجرمين في أحد السجون وأجروا مسحا على أدمغتهم بالرنين المغناطيسي، فتبين لهم بأن أصحاب الشخصية السيكوباتية (Psychopath )، الذين يشكلون نسبة الثلث تقريبا من مجموع المجرمين في العينة، كانت المناطق الرمادية في أدمغتهم أقل نشاطا ووضوحا منها في أدمغة الأشخاص العاديين، ويقول العلماء بأن هذه المناطق أو البقع الرمادية في الدماغ هي المسئولة عن التفاعل مع مشاعر الآخرين. وبأن الخلل في هذه المناطق يكون له تأثير كبير على ضمير المجرم، فتراه لا يندم أبدا على أفعاله المشينة تجاه الآخرين ولا يشعر بالذنب لإيذائه أقرب الناس إليه ولا يحاسب نفسه على أخطاءه. فمشاعر وأحاسيس الآخرين لا تعني له شيئا، لأنه لا يستطيع الإحساس بها أصلا، المهم هو نفسه فقط .. إنها الأنانية المطلقة. والخطير في أصحاب هذه الشخصيات المريضة هو أنهم لا يبدون كمرضى، فهم قادرين على التحكم بمشاعرهم، قادرين على التظاهر بالحب والتعاطف والحنان وبارعين في الكذب والاحتيال من دون ذرة ندم، ويمكن لبعضهم أن يرتقوا في المجتمع إلى مصاف الحكام والقادة.
والأمر نفسه ينطبق أيضا على أصحاب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial personality disorder ) والذين يشكلون أيضا نسبة غير قليلة من أعداد المجرمين، فالعلماء يعتقدون بأن الجينات والهرمونات والأعصاب تلعب دور كبير في خلق وصياغة هذه الشخصية الخطيرة.
إذن عقلنا هو المتحكم بكل شيء ؟ ..
نعم هذا صحيح، وعقولنا مختلفة كما تختلف بصمات الأصابع والعيون .. مخطئ من يظن بأن البيئة والثقافة وحدها هي التي تصنع شخصياتنا، نعم لها دور كبير، لكن الدور الأكبر يعود لطبيعة جيناتنا وتركيبة دماغنا، ولهذا نجد الذكاء يختلف من شخص لآخر، هناك عباقرة مثل اينشتاين يمكنهم أن يحلوا عشرات المسائل الرياضية المعقدة خلال دقائق، وهناك أناس يصابون بصداع في الرأس إذا طلبوا منهم ناتج جمع أربعة أرقام!.
وبناءا علية كل شيء قابل للتغيير .. حتى عقولنا .. فالعلماء يعكفون على دراسة الدماغ ويكشفون أسرارا جديدة عنه في كل يوم .. ومن يدري .. ربما يأتي يوم يتمكنون فيه عبر وسائل متطورة من تحويل كل واحد منا إلى نابغة وعبقري ..
التغيير هو سنة من سنن الحياة والطبيعة، فكل شيء يتغير بمرور الزمان، لا يقتصر ذلك على النظم الاجتماعية والسياسية والعمرانية والثقافية .. بل حتى الإنسان .. أنا وأنت .. نكون عرضة للتغيير على مستوى الشخصية والسلوك والتفكير والتصرفات، أحيانا نتغير من نقيض إلى نقيض.
ويرتبط هذا عادة بحدث أو تجربة معينة، نقطة تحول لا تكون الأمور بعدها كما كانت من قبلها، والأمثلة على ذلك كثيرة.. "فلان" كان شاهدا على موت ودفن أعز أصدقاءه فشعر برهبة الموت وتفاهة الحياة وأصبح متدينا لا تفارقه المسبحة وسجادة الصلاة ..
"فلان" المرح الذي دأب على المزاح وكانت ضحكته الرنانة تصل حتى آخر الشارع .. أبتلع لسانه ولم يعد أحد يسمع له حسا بعد الزواج ..
"فلانة" بنت الجيران رسبت في امتحان الثانوية العامة فأصيبت باكتئاب وحالة نفسية وانتهى بها الأمر إلى الجنون .. "فلانة" الجميلة مات حبيبها الشاب .. أنفطر قلبها .. آلت على نفسها أن تعيش على ذكراه حتى آخر يوم في حياتها .. لم تتزوج أبدا وماتت وهي عانس.
هذه جميعها أمثلة حقيقية من واقع الحياة .. وأنا واثق بأن كل واحد منكم يحمل في جعبته الكثير من هذه القصص، بل ربما كان بعضكم هو بحد ذاته نموذج على التغير والتحول والتبدل في التصرف والسلوك والقناعة بناء على تجارب معينة في الحياة.
ومثل هذه التغيرات والتحولات تثير الدهشة أحيانا، وقد توصف بالعجيبة، خصوصا عندما تحدث بصورة سريعة ومفاجئة فتقلب كيان الإنسان وتحوله إلى شخص آخر لا يمت لماضيه بصلة. وهذا هو بالضبط ما سنتحدث عنه في هذا المقال .. التغييرات المفاجئة والمدهشة التي تطرأ على الشخصية والتي تكون مدعاة للتفكير والتأمل في مدى عظمة العقل البشري.
أصبح عبقريا فجأة
قبل عدة سنوات شاهدت فلما أسمه الظاهرة (Phenomenon )، قصة الفلم تدور حول ميكانيكي بسيط يدعى جورج (الممثل جون ترافلوتا) كان يقف في إحدى الليالي وسط ميدان البلدة الخالي متطلعا إلى السماء حينما شاهد نقطة بيضاء تتحرك بين النجوم، وبلمح البصر تحولت تلك النقطة إلى هالة من نور هوت نحوه بسرعة كبيرة فأطاحت به أرضا وأفقدته وعيه. تلك الحادثة شكلت نقطة تحول فارقة في حياة جورج، فهذا الميكانيكي البسيط أستيقظ من إغماءته ليجد نفسح عبقريا في جميع مجالات العلم والحياة، أصبح ذكاءه خارقا، وصار بإمكانه استيعاب كميات كبيرة من المعلومات خلال فترة قصيرة، وأصبح قادرا على صياغة أفكار وابتكارات جديدة، وأمتلك حتى القدرة على تحريك الأشياء عن بعد!. وأتضح لاحقا بأن قدرات جورج الخارقة لم تحدث بسبب معجزة كما كان يظن، وإنما بسبب ورم سرطاني أثر بنحو ما على أداء دماغه وحوله إلى إنسان خارق.
قصة الفلم خيالية طبعا، لكنها أثارت في نفسي أكثر من تساؤل حول إمكانية أن يكتسب الإنسان ذكاء ومواهب خارقة هكذا بصورة مفاجئة مثل جورج في الفلم ؟ .. تصور أن تغدو نابغة في الفيزياء والرياضيات والحاسوب .. أن تتحول بين ليلة وضحاها إلى فنان بارز في الموسيقى والرسم والنحت .. أن تصبح خطيبا مفوها أو شاعرا مرهف الحس .. أن تمتلك القدرة على التحدث بأكثر من لغة .. يا لها من أحلام رائعة داعبت خيال الكثيرين منا حتما .. لكن هل هي ممكنة التحقق فعلا ؟ ..
دعونا نبحث عن الجواب معا في القصص التالية ..
في أحد الأيام من عام 1994 كان الطبيب الجراح طوني سكوريا يقف أمام كشك هاتف عمومي من أجل إجراء مكالمة، وشاءت الصدف أن يتعرض الكشك لصاعقة من السماء في نفس اللحظة التي رفع فيها طوني سماعة الهاتف وقربها إلى أذنه، فانتقلت شحنة الصاعقة الكهربائية من خلال الكشك المعدني إلى الهاتف ثم إلى السماعة وصولا إلى أذن ودماغ طوني الذي سقط أرضا في الحال من هول الصدمة وتوقف قلبه عن الخفقان. وزعم طوني لاحقا بأنه مر بتجربة خروج الروح من الجسد خلال اللحظات القليلة التي توقف فيها قلبه، قال بأنه يتذكر وقوفه إلى جوار الكشك ناظرا بأسى واستغراب إلى جسده المسجى على الأرض والذي كانت تحيط به هالة زرقاء. ولحسن حظ طوني كانت هناك ممرضة تقف بالجوار انتظارا لدورها في استخدام الهاتف، وقد تمكنت عبر إجراء الإسعافات الأولية من إعادة تنشيط قلبه وإبقاءه حيا حتى وصول سيارة الإسعاف.
طوني أستعاد عافيته وغادر المستشفى خلال أيام معدودات، لم يصب سوى بحروق وكدمات بسيطة، كما عانى لفترة من بعض المشاكل في الذاكرة، لكنه عاد إلى طبيعته في النهاية وباشر عمله كالمعتاد.
غير أن فصول القصة الغريبة لا تنتهي هنا .. فبعد مدة قصيرة أخذ طوني يشعر برغبة لا تقاوم للعزف على البيانو .. لم تكن لديه أي خبرة سابقة في العزف على البيانو، ولا جلس في حياته خلف بيانو، ولا كانت له أي اهتمامات موسيقية. لكن فجأة ومن دون سابق إنذار أصبح رأسه يضج بالإيقاعات والألحان .. حتى خلال نومه كان هناك بيانو يعزف بلا توقف داخل رأسه!.
في النهاية أستسلم طوني لمشاعره واشترى بيانو، وكم كانت دهشته عظيمة حين جلس خلف لوحة مفاتيح هذه الآلة الصعبة وبدأ العزف من دون مساعدة أحد، ليتحول خلال أسابيع قليلة فقط إلى عازف بيانو لا يشق له غبار! .. كانت الموسيقى تدفق من دماغه إلى أصابعه كالشلال بصورة عجز هو نفسه عن تفسيرها. وبطبيعة الحال جذبت هذه الموهبة المفاجئة التي حلت عليه الكثير من الاهتمام الإعلامي، وجرى تأليف كتاب عنه. وهو اليوم عازف بيانو مرموق تستضيفه أعرق وأكبر مسارح ودور الأوبرا العالمية.
قصة طوني غريبة فعلا .. لكنها ليست فريدة من نوعها ..
ففي عام 2006 حدثت قصة مماثلة لشاب يدعى ايريك إيماتو، اصطدم رأسه بحافة المسبح أثناء قفزه إلى الماء، أثرت هذه الحادثة على سمعه وذاكرته، لكن تأثيرها الأكبر كان في تحوله إلى عازف بيانو محترف بين ليلة وضحاها! .. وبالضبط مثل سكوريا، فأن ايماتو لم يكن قد جلس خلف بيانو في حياته، لكنه شعر بانجذاب غريب للجلوس وراء هذه الآلة بعد الحادثة بأيام قليلة، ولشدة دهشته راحت أصابعه تتراقص برشاقة وبراعة فوق لوحة المفاتيح كأنه مارس العزف طوال حياته. كانت النوتات الموسيقية تمر أمام عينيه كأنه ينظر إلى لوحة إعلانات متحركة.
"إنها متلازمة العباقرة (Savant syndrome ) " .. يقول الدكتور اندرو ريفي محاولا تفسير موهبة ايماتو المفاجئة، ويتابع موضحا : "الضربة على رأسه غيرت من آلية وكيمياء عمل دماغه .. إنها ليست حالة نادرة فقط، بل فريدة جدا من نوعها".
عجيب حقا ما يمكن لضربة على الرأس أن تفعله! .. ولعلكم تذكرون موضوع بيتر هوركوس المتنبأ وقارئ الافكار
قبل حوالي عقد من الزمان تعرض جايسون بادجيت إلى هجوم مباغت من قبل بعض اللصوص بعد مغادرته لإحدى الحانات في ساعة متأخرة من الليل، المهاجمين كانوا طامعين في الحصول على سترته الجلدية، وقد حصلوا عليها فعلا بعد أن أشبعوه ضربا على رأسه.
جايسون فقد سترته .. لكنه حصل في المقابل على موهبة خارقة في الرياضيات! ..
فحين فتح الرجل عينيه مجددا في المستشفى بدا كل شيء مختلفا عن السابق، جايسون وصف ذلك قائلا : "أينما أدير وجهي كنت أرى معادلات رياضية معقدة .. مثل معادلة فيثاغورس .. كل منحني .. كل دائرة .. كل شجرة .. كان جزءا من هذه المعادلة".
جايسون لم يكتف بوصف ما يراه، بل حول رؤاه العجيبة إلى مخططات رياضية معقدة أسماها الكسوريات. وبحسب جايسون فأن كسورياته هي : "أشكال معقدة عندما تقوم بتكسيرها وتجزئتها إلى قطع صغيرة، فأن القطع جميعها تكون مماثلة أو مشابهة للكل".
وبحسب بعض التقارير الإخبارية فأن جايسون هو الشخص الوحيد في العالم الذي بإمكانه عمل تمثيل مرئي للباي
(Pi )، وهو ثابت يستخدم في الرياضيات والفيزياء بشكل مكثف. ويعرف على أنه النسبة بين محيط الدائرة وقطرها. العجيب أن جايسون لم تكن لديه أية اهتمامات بالرياضيات قبل الحادث، ولا كان متفوقا بهذه المادة في المدرسة والجامعة، ولم تكن له أية ميول فنية. أما اليوم فقد أكسبته مخططاته المعقدة التي يرسمها بيده شهرة واسعة وخضعت لدراسة وتحليل العديد من علماء الهندسة والرياضيات. وبالطبع جذبت هذه العبقرية المفاجئة اهتمام أطباء وعلماء الأعصاب والدماغ أيضا، فأخضعوا جايسون لفحوصات واختبارات مكثفة.
د. بيرت بروغارت عالم الأعصاب وأستاذ الفلسفة يحاول تفسير حالة جايسون قائلا : "الظاهر أن جايسون حصل على عبقريته عن طريق الصدفة المحضة بعد أن تعرض للضرب المبرح على رأسه من قبل اللصوص، فخلال الاختبارات التي أجريناها عليه تمكنا من تشخيص نشاط مكثف في منطقتين محددتين من دماغه، وهما المنطقين المسئولتين عن الحساب والصور الذهنية. والمرجح أن الأضرار الناجمة عن الهجوم أجبرت دماغ جايسون على تعويض نشاطه في بعض المناطق، وبالتالي أتاح له ذلك الوصول إلى مناطق من دماغه لا يمكن لمعظم الناس الوصول إليها".
غريب! .. لكن الأغرب من ذلك هو أن يصبح الإنسان معاقا ذهنيا وعبقريا في نفس الآن!! ..
الونزو كليمونز كان طفلا طبيعيا مثل جميع الأطفال، ه تعرض في صغره إلى إصابة بليغة في رأسه جراء حادث، وقد أثر هذا بشكل كبير عليه، أنخفض معدل ذكائه وأصبح يواجه صعوبات جمة في التكلم والتعلم والتواصل مع الناس، وصار ينظر إليه كمعاق. لكن الونزو أكتسب في المقابل موهبة نادرة وعجيبة، أو كما يقول هو : "لقد أعطاني الله هدية". فهذا الطفل المعاق ذهنيا أصبح مولعا فجأة وبصورة غريبة بصنع تماثيل من الطين للحيوانات، كان بإمكانه صنع تمثال لأي حيوان، حتى لو لم يكن قد رأى هذا الحيوان سابقا، فمجرد لمحة بسيطة وسريعة، أو رؤية صورة فوتوغرافية، كانت تتحول فورا إلى صورة ذهنية ثلاثية الإبعاد في دماغ الونزو سرعان ما تترجمها أصابعه إلى تمثال رائع الجمال في أقل من ساعة من الزمن. لا أحد يعلم كيف يفعل الونزو ذلك، لكن بمرور الزمن اكتسبت تماثيله شهرة وشعبية واسعة وتم بيع بعضها بمبالغ طائلة.
ولا تنتهي عجائب العقل البشري عند موهبة الونزو .. فهناك ما هو أغرب وأكثر عاطفة وإنسانية ..
الانجليزي تومي مكهيو لم تكن له أي علاقة بالفن، لا بل كان أبعد الناس عن الفن والجمال. كان مدمنا سكيرا عرف بشراسته وعدوانيته طالما اشتكت شوارع ليفربول من عربدته وعراكه، قضى ردحا من حياته وراء القضبان بتهم شتى كالسرقة والابتزاز وقطع الطريق والتحرش وحيازة المخدرات .. وأستمر على هذه الحال حتى جاوز الخمسين من عمره ..
ثم أتى يوم قلب كيانه رأسا على عقب ..
حدث ذلك في أحد أيام عام 2001 ، كان جالسا في الحمام يقضي حاجته، ويبدو بأن احدهم دق الباب عليه يستعجله الخروج، فعصر مكهيو بطنه بشدة محاولا دفع ما في أمعاءه بصورة أسرع .. لكنه عصر بقوة كبيرة إلى درجة انفجر معها شريانين في دماغه!! .. فحدث عنده نزيف داخلي وأغمى عليه.
يا لها من نقطة تحول! .. تليق بمجرم شوارع ..
الأطباء تمكنوا من وقف النزيف الداخلي بشق الأنفس، وبعد أسبوع من الغيبوبة فتح مكهيو عينه ليرى نفسه ممدا على سرير داخل غرفة بيضاء والى جواره تجلس امرأة أخبروه لاحقا بأنها زوجته .. لقد فقد ذاكرته! .. وفقد أيضا تلك الصورة الرمادية الكئيبة التي أعتاد عقله رؤية العالم بها .. اختفت تماما وحلت محلها صورة رائعة زاهية. وما أن وقف مكهيو على قدميه مجددا حتى أمسك بالفرشاة وبدء يحول تلك الصورة التي تلمع في مخيلته إلى لوحات جميلة تضج بالألوان. ليس هذا فحسب، بل تحول ذلك المجرم السافل الذي أدمن لسانه السباب والشتائم .. تحول إلى شاعر مرهف الحس يتحدث عن الحب والسلام والأمل، وهو أمر لم يرق طبعا لأصدقائه المدمنين والمجرمين واللصوص فانفضوا عنه وهم يهزون رؤوسهم أسفا على حاله ولم يعودوا يزورونه.
أحد الأطباء المتابعين لحالة تومي يقول : "أيا ما كان السبب الذي كان يحجب أو يمنع نبوغه الفني فأن هذا الشيء قد أنكسر وأتاح الفرصة لتدفق المشاعر والصور الحبيسة، تم فتح الباب أمام الفيضان. وفي الواقع نحن لازلنا بعيدين كل البعد عن فهم أساسيات عمل الدماغ، لكننا نأمل من خلال دراسة حالات نادرة مثل حالة تومي أن نحصل على لمحة عما يحدث هناك".
تومي مكهيو يقضي جل وقته اليوم في الرسم والنحت وكتابة الشعر، حتى انه حول جدران منزله إلى لوحات نابضة بالحياة، وهو سعيد بحياته كما لم يكن من قبل، وعن ذلك يقول : "أنا أحب ما أصبحت عليه .. ما أنا عليه .. سعيد بكوني تومي الآن، وليس تومي الذي يذكره الناس .. ما حدث داخل رأسي هو أمر رائع بكل معنى الكلمة".
دعونا نأمل أن يعصر جميع مجرمي العالم بطونهم بشدة لتنفجر شرايينهم ويتحولوا إلى فنانين وشعراء!! ..
لكن إذا كان تومي مكهيو قد اكتسب موهبة ورؤية جديدة للعالم، فهناك من أكتسب لغة جديدة بعد تعرضه لإغماءة ..
في عام 2010 استيقظت فتاة كرواتية مراهقة في المستشفى بعد غيبوبة دامت 24 ساعة لتثير استغراب ودهشة الجميع، فالفتاة نسيت لغتها بالكامل. لم تعد تستطيع التحدث بالكرواتية .. ولا حتى كلمة واحدة! .. وعوضا عن ذلك بدأت تتحدث الألمانية بطلاقة كبيرة.
والدا الفتاة قالا بأن أبنتهم كانت تأخذ دروسا أولية بالألمانية في المدرسة، لكنها لم تكن متمكنة من اللغة بتاتا، كانت تحفظ بعض الكلمات والجمل فقط، ولا يعلم سوى الله كيف أصبحت تتكلم الألمانية بهذه الطلاقة بعد استيقاظها من الغيبوبة.
الفتاة خضعت لفحوصات مكثفة من قبل العديد من الأطباء، لكن الجميع وقفوا عاجزين عن تفسير حالتها، وعن ذلك يقول خبير الطب النفسي الدكتور ميجو ميلاس: "في الماضي كان سيشار إلى الفتاة باعتبارها معجزة، لكن في أيامنا هذه نفضل الاعتقاد بوجود تفسير منطقي، بالرغم من أننا لم نتوصل بعد إلى هذا التفسير المنطقي".
وبالفعل فأن التاريخ شاهد على العديد من القصص الغريبة لأناس أصبحوا بين ليلة وضحاها يتكلمون لغات أجنبية لم تكن لهم سابق معرفة بها، وهي ظاهرة تصنف على أنها من ظواهر ما وراء الطبيعة، وتعرف بأسم زنوغلاسي
(Xenoglossy ) . وهناك حالات قليلة جدا موثقة عن هذه الظاهرة، كحالة متسابق الدراجات النارية التشيكي ماثيو كوس الذي تعرض لحادث ودخل في إغماءة لمدة ساعة أستيقظ بعدها وهو يتكلم الانجليزية بطلاقة!.
غير أن تفجر الموهبة والعبقرية قد لا يتطلب دوما إغماءة طويلة أو جروحا نازفة .. فأورنالدو سيريل لم يتعرض سوى لضربة عرضية بكرة البيسبول على الجانب الأيسر من رأسه عندما كان يلعب مع أصدقاءه في يوما ما من عام 1979. اورنالدو الذي كان في العاشرة من عمره ترنح وسقط أرضا لكنه سرعان ما قام وأكمل المباراة حتى النهاية. وبعد المباراة عانى لبضعة أيام من صداع خفيف في الجانب الأيسر من رأسه، لكنه لم يراجع الطبيب لاعتقاده بأن الأمر بسيط ولا يستوجب القلق. وحين غادره الصداع أخيرا وجد الصبي الأسمر بأنه أصبح عبقريا فجأة في حساب الأيام .. فمثلا إذا سأل أحدهم اورنالدو عن اليوم المصادف لتاريخ 28 شباط /فبراير 1990 ، فأن اورنالدو سيجيبه على الفور بأنه كان يوم أربعاء، وسيخبره بأن الجو كان غائما في ذلك اليوم في مدينة فيرجينيا، أي المدينة التي يعيش فيها اورنالدو.
المذهل في حالة اورنالدو هو أن قدرته الخارقة تقتصر فقط على الأيام التي تلت تعرضه لضربة الكرة على رأسه عام 1979، يمكنك أن تسأله عن أي يوم بعد هذا التاريخ وسيجيبك بدقة، لكنه موهبته تتبخر تماما إذا سألوه عن الأيام التي تسبق هذا التاريخ.
اورنالدو أخبر العلماء الذين درسوا حالته بأنه لا يستطيع تفسير موهبته، الأمر أشبه بمشاهدة التلفاز، فما أن يطرح احدهم عليه سؤالا عن تاريخ معين حتى يجد أسم اليوم المصادف لذلك التاريخ مجسدا أمام ناظريه.
أصبح مجرما فجأة!
عام 37 للميلاد تولى كاليغولا عرش الإمبراطورية الرومانية، فعمت الأفراح أرجاء الإمبراطورية. الشعب كان سعيدا جدا بإمبراطوره الجديد بعد أن ذاق المر والهوان على يد الإمبراطور السابق طبريوس، الذي أرهق الناس بضرائبه ومظالمه. وسرعان ما أثبت الإمبراطور الشاب جدارته بحب الجماهير، إذ قام بخفض الضرائب، وأجرى إصلاحات ورفع مظالم كثيرة. لكن ذلك لم يدم طويلا، فبعد سبعة أشهر فقط على توليه العرش، أصيب كاليغولا بمرض غامض عجز الأطباء عن علاجه، وكان من الضراوة بحيث يأس الجميع من شفاءه وأيقنوا بهلاكه
. لكن على عكس كل التوقعات، فاجأ كاليغولا الجميع وشفي من مرضه. غير أنه لم يعد ذات الشخص الذي كان عليه قبل المرض، تغيرت شخصيته بالكامل، أصبح ساديا وجشعا وفاسقا وشديد القسوة، راح يقتل الناس ويصادر أموالهم ويغتصب نسائهم بسبب وبلا سبب، وتدنى في فسوقه ورذيلته بحيث لم يترك امرأة في البلاط إلا واغتصبها، لم تسلم من ذلك شقيقاته الثلاث. والأدهى من ذلك أنه أفتتح بيوتا للدعارة داخل قصوره وأجبر نبلاء وأشراف روما على العمل كقوادين فيها على زوجاتهم ونسائهم! .. وكان ريع تلك المواخير يصب في جيب كاليغولا طبعا. ليت الأمر توقف عند هذا الحد، فجنون كاليغولا فاق كل تصور. إذ جعل لنفسه تماثيل ومعابد في طول البلاد وعرضها وأجبر الناس على عبادته. وأخذ جيشه الجرار إلى شواطئ بحر المانش الفاصل بين فرنسا وانجلترا لكي يجمع جنوده الصدف على الساحل ثم عاد بهم إلى روما! .. وأعاد فرض الضرائب الثقيلة والمرهقة على كاهل الشعب حتى صار الناس يترحمون على أيام طبريوس عملا بالمثل القائل : "جرب غيري .. تعرف خيري".
موبقات كاليغولا كثيرة، يطول المقام بذكرها، لكن لحسن حظ روما فأن عهده البغيض لم يدم طويلا، إذ اغتيل على يد حراسه عام 41 ميلادية. ونحن ما أتينا على ذكر قصته إلا كعينة تاريخية على ظاهرة تغير الشخصية نحو الأسوأ بعد التعرض لمرض أو حادث. فالناس لا يصبحون عباقرة دائما بعد تعرضهم للحوادث كما في القصص التي ذكرناها أنفا، وإنما قد يتحولون أيضا إلى أشخاص غريبي الأطوار .. سفاحين ومجرمين يعشقون الدم وتعذيب الآخرين.
في عام 2007 أصدرت محكمة روسية حكما بالسجن المؤبد على أليكساندر بيشوشكين المعروف بأسم سفاح رقعة الشطرنج، والذي كان يستدرج ضحاياه إلى أجزاء منعزلة من حديقة بيتسفسكي بموسكو حيث كان يقدم لهم شراب الفودكا حتى يثملوا ثم يباغتهم بضربة قاتلة بالفأس على مؤخرة رؤوسهم. كان يروق له أحيانا أن يغرز زجاجة فودكا في جماجمهم المهشمة، ثم يتركهم في العراء من دون دفن.
بيشوشكين كان لاعب شطرنج بارع، دأب منذ سن مبكرة على القدوم للحديقة واللعب مع كبار السن والمتقاعدين والعاطلين عن العمل والمشردين المتواجدين هناك، وفي الحقيقة شكل هؤلاء القسم الأكبر من ضحاياه. كان يأمل في قتل 64 شخص على عدد مربعات رقعة الشطرنج، ولهذا سمي بسفاح رقعة الشطرنج، وكان قريبا جدا من تحقيق هدفه لولا إلقاء القبض عليه عام 2006.
بيشوشكين أعترف للشرطة بقتل 60 شخصا. أخبرهم بأن جريمته الأولى كانت عام 1992، أما جريمته الأخيرة فكانت قبل إلقاء القبض عليه بأيام قليلة، وكانت ضحيته الأخيرة هي إحدى زميلاته في العمل. وحين سألوه عن الدافع وراء جرائمه أجاب قائلا : "بالنسبة لي الحياة بدون قتل هي كالحياة بدون طعام بالنسبة لكم. لقد شعرت كأني والد جميع هؤلاء الناس، فأنا الذي فتحت لهم الباب إلى العالم الآخر".
والدة بيشوشكين قالت بأن السبب الحقيقي وراء جرائم أبنها هو تعرضه لحادث في صغره عندما اصطدم مقدم رأسه بأرجوحة فتغيرت شخصيته اللطيفة والهادئة وأصبح عدائيا وسريع الغضب. ويعتقد الخبراء بأن القشرة الأمامية للدماغ، أي المنطقة التي تعرض فيها بيشوشكين للإصابة، تكون مسئولة عن كبح الغضب والميول العدائية.
"سفاح رقعة الشطرنج" لم يكن الوحيد الذي تغيرت حياته للأسوأ بعد تعرضه لضربة على رأسه. فالسفاح الأمريكي ايرل نيلسون كان في العاشرة من عمره حين اصطدمت دراجته الهوائية بعربة ترام فتعرض رأسه لضربة قوية ودخل في غيبوبة استمرت لستة أيام، وحين أستعاد وعيه أخيرا لاحظ الجميع بأنه تغير كليا. أصبحت تصرفاته غريبة، عانى من الصداع وفقدان الذاكرة، حتى أنه دخل المصحة العقلية مرتين. ويبدو بأن الخلل في دماغه قد أثر على ميوله، فأصبح مهووسا بالجنس، وتحول هذا الهوس تدريجيا إلى شذوذ، فصار مولعا بممارسة الجنس مع جثث الموتى (نيكروفيليا)، ودفعه ذلك الشذوذ إلى إزهاق أرواح نسوة عديدات على طول الساحل الغربي للولايات المتحدة وكندا.
كان بارعا في التظاهر، ضحاياه كن في الأغلب صاحبات نزل، كان يدخل إلى منازلهن زاعما أنه يريد تأجير غرفة، وكان يمسك في يده دوما نسخة من الكتاب المقدس لكي يعطي انطباعا طيبا ومسالما عن نفسه، وكانت هذه الحيلة تنجح دوما، فما أن تطمئن الضحية إليه وتعطيه ظهرها حتى يثب إليها كالوحش المفترس، يطبق بيديه على عنقها ولا يتركها إلا وهي جثة هامدة، كان يحرص على التأكد من موتها قبل أن يشرع بممارسة الجنس معها، وما أن يفرغ منها حتى يقوم بسحبها وإخفائها تحت السرير. كان إخفاء الجثث تحت السرير هو بمثابة العلامة الفارقة لجرائم ايرل نيلسون الذي قتل أكثر من 22 امرأة بهذه الطريقة قبل أن يلقى القبض عليه ويعدم شنقا عام 1928.
فريتز هارمن هو مثال آخر لما يمكن لضربة على الرأس أن تفعله. هارمن الذي عرف بأسم سفاح هانوفر كان مصاص دماء بكل معنى الكلمة، كان يصطاد الفتيان المشردين من الشوارع ويأتي بهم إلى شقته ليغتصبهم، وفي لحظة معينة أثناء ممارسة الجنس يقوم بقضم واقتلاع حنجرة ضحيته بأسنانه، ثم يبدأ بشرب الدم مباشرة من الجرح النازف. وبعد موت الضحية يقوم بتقطيع الجثة وإزالة اللحم عن العظم لكي يبيعه لاحقا في السوق على أنه لحم خنزير!.
هارمن لم يكن قاتلا بالفطرة، كان جنديا في شبابه، عرف عنه الطموح والمثابرة. لكن في أحد الأيام أثناء التمرينات، سقط من مكان مرتفع فأصيب رأسه واغشي عليه، واجمع زملاءه على أن شخصيته وسلوكه تغيرا بصورة جذرية بمجرد إفاقته من الغيبوبة، ومنذ ذلك الحين اتخذت حياته منحى آخر قاده في النهاية إلى المقصلة التي قطعت رأسه عام 1925 بتهمة قتل أكثر من سبعين إنسان.
في الواقع هناك أشخاص كثر تغيرت حياتهم نحو العنف والجريمة بعد تعرضهم لإصابة بالرأس، ولولا خشية التطويل والإسهاب لذكرناهم بالتفصيل، لكننا سنكتفي بأخذ بعض العينات :
- السفاح الفرنسي جوزيف فاشير كان متخصصا باغتصاب وقتل راعيات الأغنام والأبقار في البرية .. تعرض في شبابه لإصابات خطيرة في الرأس جراء محاولته الانتحار.
- السفاح الأمريكي آلبرت فيشر .. مغتصب الأطفال وآكل لحوم البشر .. سقط من فوق شجرة في طفولته.
- السفاح الانجليزي جون كريستي .. مغتصب وقاتل نساء .. صدمته سيارة في أحد شوارع لندن وفقد الوعي لعدة ساعات.
- القاتل ريتشارد سبيك .. أقتحم عام 1966 قسما داخليا وأقدم على قتل ثمانية طالبات تمريض .. كان قد تعرض لإصابات متعددة في طفولته، وحين مات في السجن عام 1991 قام الأطباء بتشريح دماغه ليكتشفوا أمرا مذهلا، فالمنطقة المسئولة عن الذاكرة كانت قد تداخلت مع المنطقة المسئولة عن الغضب والمشاعر القوية، كانت الحدود بين المنطقتين قد اختفت تماما.
- غاري هادنك .. مغتصب وقاتل نساء .. كان قد سقط من فوق شجرة في طفولته، وكانت إصابته قوية إلى درجة أثرت على شكل وتناسق رأسه.
- راندي كرافت .. سفاح أغتصب وقتل عشرات الفتيان .. سقط في طفولته من على سلم وفقد وعيه لعدة ساعات.
- بوبي جو لونغ .. مغتصب وقاتل نساء .. تعرض لإصابات كثيرة في رأسه، مرة سقط عن الأرجوحة، ومرة صدمته سيارة. أصبح لديه ولع عجيب بالجنس، أغتصب أكثر من خمسين امرأة وقتل أكثر من عشرة، قال مرة : "عندما أموت سيقومون بفتح رأسي، وسيجدون تماما كما أخبرتهم دائما ... جزء من دماغي لونه أسود وجاف وميت".
- فريد ويست .. مغتصب قام بقتل أكثر من ثلاثة عشر امرأة بمساعدة زوجته روزماري، ثلاثة من ضحاياه كن من بناته .. سقط من فوق دراجة نارية في سن السابعة عشر فأصيب رأسه وأغمي عليه لمدة أسبوع وقالت عائلته بأنه تغير كثيرا بعد إفاقته من الغيبوبة.
- ريتشارد ريماريز .. من عبدة الشيطان، قتل أكثر من 14 شخصا وأغتصب نسوة كثيرات، كان يمثل بجثث ضحاياه بصورة فظيعة .. أصيب رأسه مرتين في طفولته، مرة وقعت عليه خزانة الملابس، ومرة ضربته أرجوحة.
هناك مجرمين آخرين كثر تعرضوا لإصابات بالرأس في مرحلة ما من حياتهم، وأثرت هذه الإصابات بصورة مباشرة على مسيرة حياتهم، فغيرت من آلية عمل دماغهم، وبدلت نظرتهم للناس والمجتمع من حولهم.
فهل يعني هذا بأن دماغ المجرمين يختلف عن أدمغة بقية البشر ؟ .. فلقد تعودنا لسنين طويلة على القول بأن المجتمع هو الذي يصنع المجرم، وبأن البيئة المحيطة وظروف الحياة والتعليم والأسرة هي التي تلعب الدور الأكبر في خلق الميول الإجرامية. فالفقر مثلا يعد من الأسباب الرئيسية للجريمة، والحياة الأسرية المفككة تعد دافعا قويا لانحراف الأطفال والمراهقين.
لكن يجب ملاحظة بأنه ليس كل من نشئوا في أسر مفككة يصبحون قتلة وسفاحين، وليس كل الفقراء يمكن أن يتحولوا إلى لصوص، ولا كل النساء المعدمات ينتهي بهن المطاف إلى الدعارة .. هناك دائما نسبة معينة من الناس لديهما استعداد ذاتي للقيام بهذه الأمور بغض النظر عن الخلفية الأسرية والثقافية والمستوى المادي. أنه أمر يتعلق بالجينات وبتركيبة الدماغ. ولقد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة بأن أدمغة المجرمين تختلف فعلا عن أدمغة سائر الناس. حيث أخذ العلماء عينة من المجرمين في أحد السجون وأجروا مسحا على أدمغتهم بالرنين المغناطيسي، فتبين لهم بأن أصحاب الشخصية السيكوباتية (Psychopath )، الذين يشكلون نسبة الثلث تقريبا من مجموع المجرمين في العينة، كانت المناطق الرمادية في أدمغتهم أقل نشاطا ووضوحا منها في أدمغة الأشخاص العاديين، ويقول العلماء بأن هذه المناطق أو البقع الرمادية في الدماغ هي المسئولة عن التفاعل مع مشاعر الآخرين. وبأن الخلل في هذه المناطق يكون له تأثير كبير على ضمير المجرم، فتراه لا يندم أبدا على أفعاله المشينة تجاه الآخرين ولا يشعر بالذنب لإيذائه أقرب الناس إليه ولا يحاسب نفسه على أخطاءه. فمشاعر وأحاسيس الآخرين لا تعني له شيئا، لأنه لا يستطيع الإحساس بها أصلا، المهم هو نفسه فقط .. إنها الأنانية المطلقة. والخطير في أصحاب هذه الشخصيات المريضة هو أنهم لا يبدون كمرضى، فهم قادرين على التحكم بمشاعرهم، قادرين على التظاهر بالحب والتعاطف والحنان وبارعين في الكذب والاحتيال من دون ذرة ندم، ويمكن لبعضهم أن يرتقوا في المجتمع إلى مصاف الحكام والقادة.
والأمر نفسه ينطبق أيضا على أصحاب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial personality disorder ) والذين يشكلون أيضا نسبة غير قليلة من أعداد المجرمين، فالعلماء يعتقدون بأن الجينات والهرمونات والأعصاب تلعب دور كبير في خلق وصياغة هذه الشخصية الخطيرة.
إذن عقلنا هو المتحكم بكل شيء ؟ ..
نعم هذا صحيح، وعقولنا مختلفة كما تختلف بصمات الأصابع والعيون .. مخطئ من يظن بأن البيئة والثقافة وحدها هي التي تصنع شخصياتنا، نعم لها دور كبير، لكن الدور الأكبر يعود لطبيعة جيناتنا وتركيبة دماغنا، ولهذا نجد الذكاء يختلف من شخص لآخر، هناك عباقرة مثل اينشتاين يمكنهم أن يحلوا عشرات المسائل الرياضية المعقدة خلال دقائق، وهناك أناس يصابون بصداع في الرأس إذا طلبوا منهم ناتج جمع أربعة أرقام!.
وبناءا علية كل شيء قابل للتغيير .. حتى عقولنا .. فالعلماء يعكفون على دراسة الدماغ ويكشفون أسرارا جديدة عنه في كل يوم .. ومن يدري .. ربما يأتي يوم يتمكنون فيه عبر وسائل متطورة من تحويل كل واحد منا إلى نابغة وعبقري ..
تعليق