اختفاء النحل
في صباح يوم ربيعي مشمس، جلس ألبرت اينشتاين مع زوجته في حديقة منزلهما يتناولان فطورهما، كانا يرتشفان قهوتهما الصباحية على مهل بينما راحت عيناهما تطالعان باهتمام عناوين الصحف المتناثرة على الطاولة أمامهما.
فجأة ارتفع في الجو صوت أزيز مألوف وظهرت نحلة صغيرة أخذت تحوم بإصرار حول شعر اينشتاين الكث الأبيض فرفع العالم العبقري رأسه وقال لزوجته وهو يحدق نحو النحلة بإمعان :
"أذا اختفى النحل من على وجه الأرض فلن يبقى أمام الإنسان سوى أربعة أعوام ليعيش!".
لوهلة بدت العبارة غريبة، لكنها في الواقع انطوت على الكثير من الحكمة وبعد النظر، كيف لا وهي صادرة عن شخص وصف دوما بأنه أذكى إنسان عرفته البشرية.
لكن المشكلة الوحيدة في هذه الجملة الرائعة هي أن اينشتاين لم يقلها أبدا !!.
هذه الجملة التي تتناقلها المواقع الالكترونية بكثرة هذه الأيام لم ينطق بها لسان أينشتاين ولا صدرت عنه، فالرجل كان نابغة في الرياضيات والفيزياء .. لكن من غير المرجح أن تكون له أي علاقة بالنحل لا من قريب ولا من بعيد.
على العموم، العبارة المنسوبة زورا وبهتانا لاينشتاين لا تخلو من بعض الحقيقة، فالنحل مهم جدا بالنسبة للإنسان، ليس من اجل العسل والشمع فقط، ولكن لأن هذه الحشرات الدءوبة تساهم في تلقيح عدد كبير من النباتات الضرورية لغذاء البشر وحياتهم، فعلى سبيل المثال، من بين 24000 نبتة تعيش في أمريكا، ثلاثة أرباعها تعتمد على النحل والحشرات والطيور في عملية التلقيح.
والآن تصور ماذا سيحدث على الأرض أذا اختفى النحل .. بالطبع ستنقرض نسبة كبيرة من الفصائل النباتية التي تعتمد في تلقيحها وتكاثرها على هذه الحشرات الطائرة وهو الأمر الذي سيقود بالتالي إلى موت وانقراض الكثير من الحيوانات التي تعتمد على النبات في غذاءها .. وطبعا اختفاء كل هذه النباتات والحيوانات ستكون له عواقب كارثية مدمرة على حياة الإنسان.
لكن هل النحل يختفي حقا ؟
نعم .. انه يختفي وبطريقة عجيبة حيرت العلماء ودوختهم .. فخلال السنوات الخمس المنصرمة تقلص عدد النحل في مناطق شاسعة من العالم بنسبة تتراوح بين 30 – 50 % ولازالت النسبة تزداد. وهذه الظاهرة الغريبة أطلق عليها العلماء اسم فوضى انهيار المستعمرات (Colony Collapse Disorder ) ويطلق عليها اختصارا مصطلح (CCD ).
الغريب في هذه الظاهرة هو أن مستعمرة النحل تختفي فجأة وبدون سابق إنذار تقريبا!، فالنحالين حول العالم يستيقظون صباحا ليجدوا مناحلهم خاوية على عروشها .. اختفى النحل كله من دون أي علامة أو مؤشر يدل على حدوث مرض أو غزو أو اضطراب في الخلية .. ببساطة تركت عاملات النحل الخلية ولم يعدن إليها أبدا.
والمحير حقا هو ترك النحل لبيوضه في الخلية .. ففي الظروف الاعتيادية، لا يهجر النحل خليته ما لم يفقس البيض. وإضافة إلى ذلك تكون مخازن الطعام في الخلية المهجورة مليئة بالعسل وحبوب اللقاح التي يجمعها النحل ليتغذى عليها .. مخازن سالمة ونظيفة لم تتعرض لأي سرقة من قبل غزاة النحل ولا خربتها الحشرات التي تهاجم المناحل كعثة الشمع وخنفساء العسل.
والأغرب من ذلك كله هو بقاء ملكة النحل في الخلية المهجورة .. فأحيانا تموت الملكة ويترك النحل الخلية لهذا السبب، لكن الذي يميز ظاهرة (CCD ) هو بقاء الملكة في الخلية واختفاء العاملات.
الأمر باختصار أشبه بأن تدخل منزلا فتجد الأثاث والأرضية نظيفان تماما والطعام لازال حارا على الموائد والنار تشتعل في المواقد ونشرة الأخبار تذاع على التلفزيون .. لكن لا أثر لأهل المنزل .. اختفوا ولم يعودا أبدا!.
لكن لماذا يختفي النحل ؟
في الحقيقة، وكما أسلفنا أنفا، فالعلماء في حيرة كبيرة حول أسباب انهيار مستعمرات النحل، وقد ظهرت العديد من النظريات التي حاولت تفسير اللغز وعزت بالظاهرة إلى عوامل مختلفة ومتنوعة :
- الأمراض الفيروسية المختلفة التي تصيب النحل
- سوء التغذية نتيجة انحسار المساحات الخضراء
- ظاهرة الاحتباس الحراري وأثرها المعروف على البيئة
- نقص المناعة وبعض أنواع السوس والفطريات
- الآثار الجانبية لبعض العقاقير التي يستخدمها النحالين لعلاج النحل
- وكذلك الموجات والذبذبات الكهرومغناطيسية الصادرة عن مختلف الأجهزة التي يستخدمها الإنسان ومنها الهاتف الخلوي الذي يعتقد بعض العلماء بأن ذبذباته تؤثر على قدرة النحل في تحديد طريق العودة إلى الخلية.
لكن رغم جميع هذه النظريات والفرضيات إلا أن اللغز ما زال قائما ولا يوجد لحد الآن تفسير واضح محدد لظاهرة انهيار مستعمرات النحل.
لكن ما علاقة اختفاء النحل بعلامات الساعة ؟
قد لا يختلف اثنان، حتى العلماء والمختصين، في أن ظاهرة اختفاء النحل غريبة فعلا، وربما سيكون لها نتائج مؤذية في قادم الأعوام، لكن من ناحية أخرى فأنه من المستبعد أن تنقرض جميع فصائل النحل السبعة آلاف خلال الأعوام القليلة القادمة، فالظاهرة وبرغم اتساعها إلا أن حدوثها يتركز في مناحل وخلايا النحل الأوربي المستخدم حول العالم لإنتاج العسل.
غرابة الظاهرة دفعت ببعض الناس إلى اعتبارها علامة من علامات اقتراب الساعة ونهاية البشرية، جنبا إلى جنب مع ظواهر أخرى كالاحتباس الحراري وذوبان الجليد وظهور أنواع جديدة من الأوبئة الفيروسية .. الخ .. فهناك من يعتبر هذه الأمور بمجموعها تدل على دنو النهاية أو على الأقل كمقدمة لكارثة عالمية وشيكة.
على أية حال، لا اعتقد بأن أنسانا ، يستطيع التنبؤ بنهاية العالم، ولا أتوقع أن يؤدي اختفاء النحل إلى دمار البشرية في القريب العاجل كما يزعم البعض ويتمنى.
لكن ربما ستكون للظاهرة آثار كارثية على المدى البعيد ..
ربما من يدري ؟!.