براميل بيلا كش
- "مسكين .." .. قالت السيدة العجوز وهي تؤمي برأسها نحو رجل يمشي بتؤدة على الجانب الآخر من الطريق وهو يحدق إلى الأرض غير آبه بما يدور حوله ، بدا كأنه يفكر بعمق في أمور لا يعلم كنهها سوى الله . كانت السيدة العجوز تتحدث إلى أرملة شابة ، وكلتا السيدتين كانتا متشحتان بالسواد ، وقفتا تتجاذبان أطراف الحديث على ناصية أحد الطرق الرئيسية في بلدة زيكونتا الواقعة على أطراف العاصمة المجرية بودابست في عصر أحد الأيام من عام 1912 .
- " ما خطبه .. يبدو حزينا وشاردا " .. قالت الأرملة الشابة وهي تنظر إلى حيث أومأت العجوز .
- "لقد هجرته زوجته الشابة .. فرت مع احد أولئك الشباب البوهيميين الغريبي الأطوار" .. ردت العجوز بصوت خفيض وهي تقرب فمها من إذن الفتاة .
- "يا لها من حمقاء ! .." .. قالت الأرملة بنبرة مشوبة بشيء من الحسرة ثم أردفت تقول : " كيف تترك زوجا كهذا لتمضي مع أحد أولئك الحمقى .. هي الخاسرة .. أنه زوج تتمناه كل امرأة .. محترم ووسيم وميسور الحال .. لا أظن المقام يطول به حتى يعثر على من تعرف قدره وتوفيه حقه من الحب والاحترام".
السيدتان طاردتا الرجل بالنظرات والهمسات حتى دلف إلى أحد الأزقة الفرعية فغاب عن ناظريهما . ورغم شروده الظاهري فالرجل لم يكن غافلا عن تلك الهمسات الناعمة التي تلاحقه كلما سار في شوارع بلدته الصغيرة . كان يبدو غير مباليا بالظاهر ، لكنه في الباطن وجد متعة كبيرة في كونه محور حديث سيدات البلدة ، فأمعن في تقمص دور الزوج الجريح المغدور ، وراح يخطر في الطرقات لسبب وبلا سبب ، مرتديا بدله أنيقة داكنة ومعتمرا قبعة طويلة رشيقة تطرف تحتها عينان واسعتان براقتان تنمان عن فطنة ودهاء وتتربعان فوق شارب عريض مفتول يعطي انطباعا بجدية ورزانة صاحبه . هيئة الرجل وملامحه إضافة إلى حكاية قلبه الجريح ، كانت بمثابة مزيج سحري لا يقاوم بالنسبة لمعظم السيدات ، خصوصا أولئك الأرامل الشابات اللائي فقدن أزواجهن في الحروب والقلاقل التي كانت مشتعلة في ذلك الزمان .
سكان البلدة عرفوا الرجل بأسم بيلا كش (Béla Kiss ) ، في الأربعين من عمره ، ذو ماض غامض ، نزل البلدة قبل عدة أعوام برفقة زوجة حسناء تصغره بأربعة عشر عاما . كان يعمل في مجال السباكة وبدا ميسور الحال . أشترى منزلا واسعا في أطراف البلدة ، وأحبه الجيران لمرحه وطيبته وعدم تقاعسه عن مساعدة الآخرين . رسام شاب تقرب إليها بحجة رسم بضعة لوحات لها ثم سرعان ما أمتلك قلبها وعقلها . ولم يطل الزمن حتى طرق السيد كش باب جيرانه ذات يوم وعيناه مثقلتان بالدموع ، أخبرهم بأن زوجته هجرته ، كان يحمل بيده قصاصة من الورق وجدها فوق سرير نومه بعد عودته من إحدى سفراته ، كانت رسالة من زوجته تخبره فيها برحيلها مع عشيقها وتعتذر على هجرانها له . مذ ذلك اليوم تبدلت شخصية السيد كش جذريا ، أصبح كئيبا وغامضا ، وقل اختلاطه بالآخرين . وبدأت الإشاعات تطارده ، قالوا بأنه أصبح مولعا بالسحر والتنجيم .
السيد كش أتى بامرأة مسنة لتخدمه وتدبر أموره ، كان أسمها السيدة جاكوبيك ، سلمها مفاتيح جميع الحجرات في منزله ، باستثناء حجرة تقع في الطابق العلوي ، كان محرما عليها دخولها أو حتى طرق بابها . كان يمضي ساعات طويلة لوحده في تلك الحجرة . لكنه لم يكن معتكفا أو زاهدا بملذات الحياة كما خيل للبعض من سكان بلدته ، فمن حين لآخر كانت تزوره بعض السيدات .. نسوة من جميع الأصناف والأشكال والأعمار .. أرامل شابات .. عوانس ثريات .. متزوجات باحثات عن مغامرة .. معظمهن قادمات من العاصمة ، وجميعهن لم يكن يطلن البقاء لأكثر من يومين .
في ذات يوم عاد السيد كش من بودابست مع شاحنة محملة ببراميل معدنية كبيرة وضعها في باحة منزله . الفضول دفع بعض جيرانه لسؤاله عن سر شراءه لكل تلك البراميل ، فأجابهم بأن سيستعملها لتخزين مادة الجازولين ، فالحرب على الأبواب ، وستحدث شحه بالوقود حتما . وكان حدس الرجل في محله ، فالغيوم السوداء المتلبدة في سماء أوربا آنذاك سرعان ما استحالت إلى عاصفة هوجاء أحرقت الأخضر واليابس .. اشتعلت الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، وكانت المجر (هنغاريا) في قلب تلك الحرب المدمرة . ولسوء حظ السيد كش فأنه لم يستفد شيئا من براميله ، إذ سيق إلى الجبهة مثله مثل معظم رجال البلدة ، تاركا منزله بعهدة السيدة جاكوبيك .
ومضت سنة .. سنتان .. لم يعد السيد كش خلالها ولم يصل منه خبر ، فظن الناس بأنه لاقى حتفه خلال المعارك ، ونسي الجميع أمره حتى ذلك صباح من عام 1916 حين أتت فصيلة من الجند إلى البلدة ، كانوا بحاجة ماسة للوقود . بحثوا في كل مكان .. لكن عبثا .. لم تكن هناك قطرة وقود واحدة في البلدة . وقبل أن يرحلوا يائسين حدثهم أحد السكان عرضا عن البراميل الموجودة في منزل السيد كش ، وكيف أنه ملئها بالوقود قبل ذهابه إلى الجبهة . فتوجه الجنود إلى هناك على الفور ، وبالفعل عثروا على سبعة براميل كبيرة في باحة المنزل ، فشرعوا بفتحها رغم اعتراض السيدة جاكوبيك . وما أن نزعوا الغطاء عن أول برميل حتى انتشرت رائحة غريبة نفاذة ، فنظر الجميع بفضول إلى داخل البرميل وسرعان ما علت ملامح الدهشة والصدمة والاشمئزاز وجوههم ، ففي قعر البرميل كانت تقبع جثة عارية لامرأة منقوعة بالكحول . ونفس الأمر تكرر مع البراميل الستة الأخرى ، داخل كل منها كانت تقبع جثة ، وجميع الجثث كانت لنساء .
كانت مفاجأة لا تصدق .. بيلا كش .. ذلك الرجل المهذب الطيب .. أتضح بأنه سفاح لا يشق له غبار! .. وليت الأمر توقف عند هذا الحد ، ففي القبو عثروا على المزيد من البراميل ، وجميعها متخمة بالجثث ، إحداها كانت لزوجة السيد كش التي زعم بأنها هجرته ، وأخرى لعشيقها الشاب ، وكانت جثة هذا الأخير هي الوحيدة التي تعود لرجل من بين أربعة وعشرين جثة عثر عليها في المنزل ، جميع الجثث الأخرى كانت تعود لنساء مجهولات الهوية ، وكان واضحا بأن جميعهن قتلن خنقا ، باستثناء الزوجة والعشيق اللذان قتلا بالسم . ولعل أكثر ما يثير الرعب في تلك الجثث هو خلوها من الدم تماما ، كانت جثث شاحبة جرى امتصاص الدم من عروقها حتى آخر قطرة ، الأمر الذي دفع الكثيرين للاعتقاد بأن السيد كش كان مصاص دماء حقيقي .
اكتشاف الجثث أثار ضجة كبرى في البلدة الصغيرة ، فتم استدعاء الشرطة ، وراح المحققون يستجوبون الجميع ، لكن تركزت شكوكهم حول السيدة جاكوبيك ، ظنوا بأنها شريكة السيد كش في جرائمه ، لكن العجوز أقسمت بأنها لا تعرف شيئا عن أمر الجثث . قالت بأن سيدها كان يعود إلى المنزل برفقة امرأة من حين لآخر ، كان يأتي بهن ليلا ، لكنها لم تكن تسأل أو تحاول معرفة شيء عنهن ، لم يكن ذلك من شأنها ، لكن بدا واضحا لها بأن أغلبهن قادمات من العاصمة ، وكانت ثيابهن وحليهن الثمينة تشي بالثراء ، أغلبهن مكثن في المنزل ليوم أو يومين قبل أن يختفين . لكنها لم تتخيل بأن سيدها يقوم بقتلهن ، كانت تظن بأنهن يرحلن من دون علمها .
وخلال التحقيق تحدثت السيدة جاكوبيك عن الحجرة المحرمة في الطابق العلوي ، قالت بأنها لم تدخلها أبدا ، وبأن سيدها حرص على أن لا يدخلها أحد غيره . كانت الحجرة مقفلة ، فكسر رجال الشرطة بابها ، وهناك في الداخل عثروا على أشياء غريبة .. قوارير زجاجية بأحجام مختلفة تحتوي على جثث قوارض وزواحف منقوعة في سوائل ملونة ، كان واضحا بأن السيد كش أجرى تجارب كثيرة على كيفية حفظ الجثث في السوائل ؛ وهناك أيضا أواني وأكياس مليئة بمساحيق وأعشاب ومواد الكيميائية ذات طبيعة غامضة . وعلى الرفوف والمناضد توزعت العديد من الكتب والمخطوطات التي تتحدث عن السحر والتنجيم وكذلك كراسات عن السموم ، وأخرى عن التشريح ، وعن كيفية قتل البشر . وفي طرف الحجرة القصي كان يوجد مكتب ضخم تناثرت فوقه رسائل وصور نساء وقصاصات جرائد تحتوي على إعلانات زواج . من خلال تلك القصاصات تمكن المحققون من اكتشاف طريقة السيد كش في الإيقاع بضحاياه ، كان أسلوبه بسيطا للغاية ، كان ينشر إعلانات بالجرائد يزعم فيها بأنه رجل أرمل وثري يبحث عن زوجة صالحة ، وكانت تأتيه ردود كثيرة ، معظمها من أرامل وعوانس ، فكان ينتقي منهن الموسرات والوحيدات اللواتي ليس لديهن من يسأل عنهن في حال اختفائهن فجأة . كان يتلاعب بهن حتى يبتز أموالها ، فإذا قضى حاجته منهن قام بقتلهن ووضع جثثهن في براميل الكحول ..
كان عبقريا بحق .. ولولا الحرب لما أكتشف أمره أبدا .
لكن متى شرع بيلا كش بقتل ضحاياه ؟ .. هل كانت زوجته وعشيقها هم أول الضحايا ؟ ..
لا أحد يعلم بالتحديد .. فالرجل ذو ماض غامض ، لكن الشرطة عثرت في مكتبه على رسائل لنساء مؤرخة في عام 1903 ، أي قبل اختفاء زوجته بزمن طويل . وهو الأمر الذي دفع بعض المحققين إلى الاعتقاد بأن عدد ضحايا بيلا كش يفوق بكثير ما عثروا عليه في منزله . لكن لم تكن هناك وسيلة للتأكد من ذلك إلا من خلال بيلا كش نفسه ، مما ادخل الشرطة في سباق محموم للوصول إليه ، فأرسلوا برقية سريعة إلى وحدته العسكرية طالبين منهم إلقاء القبض عليه ، لكنهم تلقوا برقية جوابية تخبرهم بأن بيلا كش أصيب خلال إحدى المعارك وتم نقله إلى مستشفى صربي ، فتوجه المحققون فورا إلى ذلك المستشفى ليفاجئوا بخبر موت بيلا كش متأثرا بجراحه ، لكن الجثة التي رأوها في مشرحة المستشفى لم تكن لبيلا كش ، كان واضحا بأنه وضع جثة جندي آخر في سريره ليوهم الشرطة بموته فيما يتمكن هو من الهروب إلى جهة مجهولة .
تم تعميم أوصاف بيلا كش على الشرطة في جميع أنحاء المجر و أوربا ، لكن أحدا لم يتمكن من القبض عليه .. اختفى إلى الأبد وتحول إلى أسطورة .. البعض قالوا بأنه سجن في رومانيا بتهمة الاحتيال ومات هناك بحمى التيفوئيد ، آخرون قالوا بأن أسر خلال الحرب ومات في المعتقلات الروسية ، وهناك أيضا من زعم بأنه مات مسموما في اسطنبول . وتواترت عبر السنين الكثير من القصص عن رؤيته . في عام 1920 تقدم جندي في الفيلق الفرنسي الأجنبي ببلاغ إلى الشرطة الفرنسية زاعما بأن زميلا له يدعى هوفمان – وهو الاسم الذي أعتاد بيلا كش إطلاقه على نفسه خلال مراسلاته مع النساء – كان يتفاخر ببراعته وخبرته الطويلة في قتل الناس خنقا ، وكانت مواصفات هوفمان هذا تنطبق بشكل كبير على بيلا كش ، لكنه اختفى قبل أن تصل يد الشرطة الفرنسية إليه . وفي عام 1932 زعم أحد المحققين الأمريكيين مشاهدته لرجل يشبه بيلا كش يمشي وسط الحشود في التايمز سكوير بنيويورك ، المحقق حاول الوصول إليه ، لكن الرجل شعر بأن أحدا ما يلاحقه فأندس بين الناس واختفى ، وكانت تلك هي آخر المشاهدات المزعومة لبيلا كش الذي تقول الشائعات بأنه أمضى بقية حياته يعمل بوابا لإحدى العمارات في نيويورك حتى وافته المنية في أربعينات القرن المنصرم .. لكنها مجرد شائعات وحكايات لا سند لها .. أما الحقيقة فلا يعلمها سوى الله .
- " ما خطبه .. يبدو حزينا وشاردا " .. قالت الأرملة الشابة وهي تنظر إلى حيث أومأت العجوز .
- "لقد هجرته زوجته الشابة .. فرت مع احد أولئك الشباب البوهيميين الغريبي الأطوار" .. ردت العجوز بصوت خفيض وهي تقرب فمها من إذن الفتاة .
- "يا لها من حمقاء ! .." .. قالت الأرملة بنبرة مشوبة بشيء من الحسرة ثم أردفت تقول : " كيف تترك زوجا كهذا لتمضي مع أحد أولئك الحمقى .. هي الخاسرة .. أنه زوج تتمناه كل امرأة .. محترم ووسيم وميسور الحال .. لا أظن المقام يطول به حتى يعثر على من تعرف قدره وتوفيه حقه من الحب والاحترام".
السيدتان طاردتا الرجل بالنظرات والهمسات حتى دلف إلى أحد الأزقة الفرعية فغاب عن ناظريهما . ورغم شروده الظاهري فالرجل لم يكن غافلا عن تلك الهمسات الناعمة التي تلاحقه كلما سار في شوارع بلدته الصغيرة . كان يبدو غير مباليا بالظاهر ، لكنه في الباطن وجد متعة كبيرة في كونه محور حديث سيدات البلدة ، فأمعن في تقمص دور الزوج الجريح المغدور ، وراح يخطر في الطرقات لسبب وبلا سبب ، مرتديا بدله أنيقة داكنة ومعتمرا قبعة طويلة رشيقة تطرف تحتها عينان واسعتان براقتان تنمان عن فطنة ودهاء وتتربعان فوق شارب عريض مفتول يعطي انطباعا بجدية ورزانة صاحبه . هيئة الرجل وملامحه إضافة إلى حكاية قلبه الجريح ، كانت بمثابة مزيج سحري لا يقاوم بالنسبة لمعظم السيدات ، خصوصا أولئك الأرامل الشابات اللائي فقدن أزواجهن في الحروب والقلاقل التي كانت مشتعلة في ذلك الزمان .
سكان البلدة عرفوا الرجل بأسم بيلا كش (Béla Kiss ) ، في الأربعين من عمره ، ذو ماض غامض ، نزل البلدة قبل عدة أعوام برفقة زوجة حسناء تصغره بأربعة عشر عاما . كان يعمل في مجال السباكة وبدا ميسور الحال . أشترى منزلا واسعا في أطراف البلدة ، وأحبه الجيران لمرحه وطيبته وعدم تقاعسه عن مساعدة الآخرين . رسام شاب تقرب إليها بحجة رسم بضعة لوحات لها ثم سرعان ما أمتلك قلبها وعقلها . ولم يطل الزمن حتى طرق السيد كش باب جيرانه ذات يوم وعيناه مثقلتان بالدموع ، أخبرهم بأن زوجته هجرته ، كان يحمل بيده قصاصة من الورق وجدها فوق سرير نومه بعد عودته من إحدى سفراته ، كانت رسالة من زوجته تخبره فيها برحيلها مع عشيقها وتعتذر على هجرانها له . مذ ذلك اليوم تبدلت شخصية السيد كش جذريا ، أصبح كئيبا وغامضا ، وقل اختلاطه بالآخرين . وبدأت الإشاعات تطارده ، قالوا بأنه أصبح مولعا بالسحر والتنجيم .
السيد كش أتى بامرأة مسنة لتخدمه وتدبر أموره ، كان أسمها السيدة جاكوبيك ، سلمها مفاتيح جميع الحجرات في منزله ، باستثناء حجرة تقع في الطابق العلوي ، كان محرما عليها دخولها أو حتى طرق بابها . كان يمضي ساعات طويلة لوحده في تلك الحجرة . لكنه لم يكن معتكفا أو زاهدا بملذات الحياة كما خيل للبعض من سكان بلدته ، فمن حين لآخر كانت تزوره بعض السيدات .. نسوة من جميع الأصناف والأشكال والأعمار .. أرامل شابات .. عوانس ثريات .. متزوجات باحثات عن مغامرة .. معظمهن قادمات من العاصمة ، وجميعهن لم يكن يطلن البقاء لأكثر من يومين .
في ذات يوم عاد السيد كش من بودابست مع شاحنة محملة ببراميل معدنية كبيرة وضعها في باحة منزله . الفضول دفع بعض جيرانه لسؤاله عن سر شراءه لكل تلك البراميل ، فأجابهم بأن سيستعملها لتخزين مادة الجازولين ، فالحرب على الأبواب ، وستحدث شحه بالوقود حتما . وكان حدس الرجل في محله ، فالغيوم السوداء المتلبدة في سماء أوربا آنذاك سرعان ما استحالت إلى عاصفة هوجاء أحرقت الأخضر واليابس .. اشتعلت الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، وكانت المجر (هنغاريا) في قلب تلك الحرب المدمرة . ولسوء حظ السيد كش فأنه لم يستفد شيئا من براميله ، إذ سيق إلى الجبهة مثله مثل معظم رجال البلدة ، تاركا منزله بعهدة السيدة جاكوبيك .
ومضت سنة .. سنتان .. لم يعد السيد كش خلالها ولم يصل منه خبر ، فظن الناس بأنه لاقى حتفه خلال المعارك ، ونسي الجميع أمره حتى ذلك صباح من عام 1916 حين أتت فصيلة من الجند إلى البلدة ، كانوا بحاجة ماسة للوقود . بحثوا في كل مكان .. لكن عبثا .. لم تكن هناك قطرة وقود واحدة في البلدة . وقبل أن يرحلوا يائسين حدثهم أحد السكان عرضا عن البراميل الموجودة في منزل السيد كش ، وكيف أنه ملئها بالوقود قبل ذهابه إلى الجبهة . فتوجه الجنود إلى هناك على الفور ، وبالفعل عثروا على سبعة براميل كبيرة في باحة المنزل ، فشرعوا بفتحها رغم اعتراض السيدة جاكوبيك . وما أن نزعوا الغطاء عن أول برميل حتى انتشرت رائحة غريبة نفاذة ، فنظر الجميع بفضول إلى داخل البرميل وسرعان ما علت ملامح الدهشة والصدمة والاشمئزاز وجوههم ، ففي قعر البرميل كانت تقبع جثة عارية لامرأة منقوعة بالكحول . ونفس الأمر تكرر مع البراميل الستة الأخرى ، داخل كل منها كانت تقبع جثة ، وجميع الجثث كانت لنساء .
كانت مفاجأة لا تصدق .. بيلا كش .. ذلك الرجل المهذب الطيب .. أتضح بأنه سفاح لا يشق له غبار! .. وليت الأمر توقف عند هذا الحد ، ففي القبو عثروا على المزيد من البراميل ، وجميعها متخمة بالجثث ، إحداها كانت لزوجة السيد كش التي زعم بأنها هجرته ، وأخرى لعشيقها الشاب ، وكانت جثة هذا الأخير هي الوحيدة التي تعود لرجل من بين أربعة وعشرين جثة عثر عليها في المنزل ، جميع الجثث الأخرى كانت تعود لنساء مجهولات الهوية ، وكان واضحا بأن جميعهن قتلن خنقا ، باستثناء الزوجة والعشيق اللذان قتلا بالسم . ولعل أكثر ما يثير الرعب في تلك الجثث هو خلوها من الدم تماما ، كانت جثث شاحبة جرى امتصاص الدم من عروقها حتى آخر قطرة ، الأمر الذي دفع الكثيرين للاعتقاد بأن السيد كش كان مصاص دماء حقيقي .
اكتشاف الجثث أثار ضجة كبرى في البلدة الصغيرة ، فتم استدعاء الشرطة ، وراح المحققون يستجوبون الجميع ، لكن تركزت شكوكهم حول السيدة جاكوبيك ، ظنوا بأنها شريكة السيد كش في جرائمه ، لكن العجوز أقسمت بأنها لا تعرف شيئا عن أمر الجثث . قالت بأن سيدها كان يعود إلى المنزل برفقة امرأة من حين لآخر ، كان يأتي بهن ليلا ، لكنها لم تكن تسأل أو تحاول معرفة شيء عنهن ، لم يكن ذلك من شأنها ، لكن بدا واضحا لها بأن أغلبهن قادمات من العاصمة ، وكانت ثيابهن وحليهن الثمينة تشي بالثراء ، أغلبهن مكثن في المنزل ليوم أو يومين قبل أن يختفين . لكنها لم تتخيل بأن سيدها يقوم بقتلهن ، كانت تظن بأنهن يرحلن من دون علمها .
وخلال التحقيق تحدثت السيدة جاكوبيك عن الحجرة المحرمة في الطابق العلوي ، قالت بأنها لم تدخلها أبدا ، وبأن سيدها حرص على أن لا يدخلها أحد غيره . كانت الحجرة مقفلة ، فكسر رجال الشرطة بابها ، وهناك في الداخل عثروا على أشياء غريبة .. قوارير زجاجية بأحجام مختلفة تحتوي على جثث قوارض وزواحف منقوعة في سوائل ملونة ، كان واضحا بأن السيد كش أجرى تجارب كثيرة على كيفية حفظ الجثث في السوائل ؛ وهناك أيضا أواني وأكياس مليئة بمساحيق وأعشاب ومواد الكيميائية ذات طبيعة غامضة . وعلى الرفوف والمناضد توزعت العديد من الكتب والمخطوطات التي تتحدث عن السحر والتنجيم وكذلك كراسات عن السموم ، وأخرى عن التشريح ، وعن كيفية قتل البشر . وفي طرف الحجرة القصي كان يوجد مكتب ضخم تناثرت فوقه رسائل وصور نساء وقصاصات جرائد تحتوي على إعلانات زواج . من خلال تلك القصاصات تمكن المحققون من اكتشاف طريقة السيد كش في الإيقاع بضحاياه ، كان أسلوبه بسيطا للغاية ، كان ينشر إعلانات بالجرائد يزعم فيها بأنه رجل أرمل وثري يبحث عن زوجة صالحة ، وكانت تأتيه ردود كثيرة ، معظمها من أرامل وعوانس ، فكان ينتقي منهن الموسرات والوحيدات اللواتي ليس لديهن من يسأل عنهن في حال اختفائهن فجأة . كان يتلاعب بهن حتى يبتز أموالها ، فإذا قضى حاجته منهن قام بقتلهن ووضع جثثهن في براميل الكحول ..
كان عبقريا بحق .. ولولا الحرب لما أكتشف أمره أبدا .
لكن متى شرع بيلا كش بقتل ضحاياه ؟ .. هل كانت زوجته وعشيقها هم أول الضحايا ؟ ..
لا أحد يعلم بالتحديد .. فالرجل ذو ماض غامض ، لكن الشرطة عثرت في مكتبه على رسائل لنساء مؤرخة في عام 1903 ، أي قبل اختفاء زوجته بزمن طويل . وهو الأمر الذي دفع بعض المحققين إلى الاعتقاد بأن عدد ضحايا بيلا كش يفوق بكثير ما عثروا عليه في منزله . لكن لم تكن هناك وسيلة للتأكد من ذلك إلا من خلال بيلا كش نفسه ، مما ادخل الشرطة في سباق محموم للوصول إليه ، فأرسلوا برقية سريعة إلى وحدته العسكرية طالبين منهم إلقاء القبض عليه ، لكنهم تلقوا برقية جوابية تخبرهم بأن بيلا كش أصيب خلال إحدى المعارك وتم نقله إلى مستشفى صربي ، فتوجه المحققون فورا إلى ذلك المستشفى ليفاجئوا بخبر موت بيلا كش متأثرا بجراحه ، لكن الجثة التي رأوها في مشرحة المستشفى لم تكن لبيلا كش ، كان واضحا بأنه وضع جثة جندي آخر في سريره ليوهم الشرطة بموته فيما يتمكن هو من الهروب إلى جهة مجهولة .
الصورة التي عممتها الشرطة المجرية للسيد كش وهو يرتدي ملابس الجيش .. صورة نادرة للسفاح الغامض .. |