المازوخية
الغرض من هذه المقالة هو التعريف بحقائق قادت إلى ظهور مصطلحات قد تمر بنا مرور الكرام أثناء مطالعتنا لكتاب أو خلال مشاهدتنا لبرنامج تلفزيوني، من دون أن نعي معناها ونفهم مغزاها، وقد يمنعنا الخجل من السؤال عنها، خصوصا في مجتمعات محافظة كمجتمعاتنا العربية.
الجنس يلعب دورا هاما في توجيه السلوك البشري، دور محوري ورئيسي كما يزعم مؤسس مدرسة التحليل النفسي الحديث سيغموند فرويد .. لا بل هو يتحكم حتى في الطقس وتساقط الأمطار حسب نظرية طبيب نفسي غريب الأطوار يدعى ويلهلم رايخ – لذلك مهما حاول الإنسان عدم الإذعان لهذه الحقيقة والتعامي عنها متواريا خلف رداء الفضيلة والحشمة، فالغريزة ستطل برأسها كالعفريت لتنغص عليه حياته يوميا، يحاول هو لجمها بينما تناضل هي لجعله يستسلم ويركن لها، فترى هذا البشري المسكين في صراع دائم ، وينافق نفسه والآخرين من دون ضرورة أو حاجة لكل هذا العناء، فما يحاول إنكاره وتجافيه موجود في جسده لا فكاك ولا خلاص منه، لا بل أن كبت الغريزة وخنق الشهوة ربما أدى في النهاية – إضافة إلى عوامل أخرى - إلى أمور قد لا تحمد عقباها من شذوذ واغتصاب وزنا محارم وعنف وعقد نفسية متراكمة .. الخ.
وأرجوا هنا أن لا يضع احد الزملاء كلماتي هذه في غير موضعها السليم وأن لا يحرفها عن مرماها الواضح، فهذه ليست دعوة إلى الإباحية وإنما هي دعوة للاستمتاع بحياة جنسية صحية وطبيعية.
بيد أني أدرك تماما – خاصة وأنا انتمي إلى جيل يغلب عليه المرض النفسي وهو يصارع جاهدا لكي لا يورث عقده وعاهاته للجيل الجديد! – وأن الثقافة الجنسية ضرورة حتمية لتربية النشء الجديد، خصوصا في عهدنا الحاضر حيث المغريات والمحفزات الجنسية تطل برأسها من كل مكان، الأغنية والمسلسل والفلم والإعلان التجاري وصفحة النت .. الخ، لذلك لا بأس من معرفة بعض الأمور عن هذا المجال المؤثر في حياة وفكر الإنسان، ولا ضير من التعرف على بعض المصطلحات والمعاني المرتبطة بالجنس التي قد لا يعلم الكثيرون عنها شيئا، خصوصا تلك التي فيها الكثير من الغرابة والشذوذ، أي التي تدخل ضمن اختصاص موقعنا المهتم بالغرائب والعجائب. بل ربما يكون في التطرق لهذه المواضيع فائدة مضاعفة، فيتعرف من لديه شك وريبة في بعض ميوله الجنسية على حقيقة ما يعاني منه، وقد يتدارك الأمر بالاستشارة النفسية.
المازوخية الجنسية
المازوخية الجنسية - وتدعى أيضا الماسوشية أو المازوكية - (Sexual masochism ) هي ببساطة الشعور بالاستثارة والنشوة الجنسية عند تلقي الألم والعذاب والإذلال من الآخر، وهي مرتبطة بالجنس وتصنف ضمن نطاق الشذوذ الجنسي (Paraphilia )، وهي نقيض السادية، ففي حين ينتشي السادي ويستمتع لإيقاعه الألم على شريكه الجنسي، فأن المازوخي يستثار ويتلذذ بتلقي الألم.
لكن لكي يوصف الشخص بأنه مازوخي فلابد أن يكون الألم حقيقيا، أي مصحوب بفعل وليس مجرد تخيلات ورغبات، مثال على ذلك أن تطلب الزوجة من زوجها بأن يصفعها ويضربها أثناء ممارسة الجنس، ولا تشعر باللذة والنشوة الجنسية إلا عند قيامه بتلك الأمور، والعكس صحيح، أي أن يطلب الزوج من زوجته القيام بتعذيبه وإذلاله لذات الغرض.
المازوخي عادة ما يتلقى الألم من شخص آخر، وهذا الشخص أو الشريك الجنسي يمكن أن يكون إنسانا عاديا وطبيعيا يقوم بتعذيب المازوخي بناء على طلبه، وفي حالات أخرى، يمكن أن يكون الشريك الجنسي ساديا، أي أنه يعشق توجيه الألم للآخرين أثناء الممارسة الجنسية، وفي هذه الحالة فأن الممارسة تسمى سادومازوخيم
(Sadomasochism )، وغالبا ما يكون فيها أتفاق مسبق بين الطرفين – أي السادي والمازوخي - على أدوارهم، أي من يوجه الألم ومن يتلقاه، لذا فعادة ما يرافق هذه الممارسة بعض التحضيرات، حيث يتم استخدام أدوات جنسية معينة، مثل الأغلال والسلاسل والسياط والحبال والألعاب الجنسية وكمامة الفم.. الخ. وقد تتضمن الممارسة نواحي نفسية أيضا، كأن يؤدي السادي دور السيد (Master ) بينما يمثل المازخي دور العبد أو الخادم (Slave ). لكن المازوخية لا تستلزم دوما وجود شريك جنسي، فأحيانا يقوم الشخص المازوخي بتوجيه الألم إلى نفسه عن طريق الجلد أو الجرح بالسكين أو الحرق .. الخ أثناء ممارسة الاستمناء أو الأسترجاز .
ولا تصنف جميع الممارسات الجنسية بين شركاء الفراش على أنها مازوخية أو سادية، فمثلا في الحالة الطبيعية، يكون معظم الرجال ساديون بينما معظم النساء مازوخيات، أي أن المرأة تستسلم وتخضع للرجل أثناء ممارسة الجنس بحكم طبيعة التكوين الجسدي والعاطفي لكلا الطرفين، وهذه الحالة عادية وطبيعية ما دامت تتم في إطار من التفاهم والود والمحبة، فمثلا العض والقرص وجر الشعر برفق ... الخ لا تصنف على أنها سادية أو مازوخية ما لم تتضمن رغبة ملحة ومستمرة في استخدام وتوجيه الألم أو تلقيه من الشريك الجنسي.
المازوخية العامة
المازوخية العامة (Masochistic Personality Disorder ) لا ترتبط بالجنس، لكنها تصنف كإحدى حالات ما يصطلح عليه في علم النفس بالسلوك الهادم للذات
(Self-Defeating Behavior ) وهي أن يقوم الشخص بأمور أو يضع نفسه في مواقف قد يعلم مسبقا بأنها ستعود عليه بالفشل والحرمان والإذلال، ومع ذلك يجد هذا الشخص متعة وراحة خفية في القيام بهذه الأمور، أي أنه يعشق تمثيل دور الضحية والمظلوم والمحروم رغم شكواه وتذمره الظاهري من ذلك، ومن أشكال المازوخية العامة :
- رفض مساعدة الآخرين له والادعاء بعدم فائدة هذه المساعدة.
- في حالة حدوث أمور ايجابية في حياته فأن هذا الأمر يسبب له شعورا بالذنب.
- يستفز الآخرين – بسبب تصرفاته – لكي يرفضوه أو يغضبوا منه، ثم يشعر بأنه مظلوم ومنبوذ.
- يرفض الفرص التي تتاح له لكي يفرح ويمتع نفسه، على الرغم من تحليه بالإمكانات والمؤهلات لاقتناص هذه الفرص.
- الفشل في أنجاز المهام التي فيها فائدته رغم قدرته الكاملة على انجازها بنجاح.
- لا ينجذب ويرفض الأشخاص الذين يعاملوه بشكل جيد.
- يقوم بتضحيات كبيرة ومفرطة من دون أن يطلب منه الشخص المقصود بالتضحية فعل ذلك –لأن التضحية هي حالة من الحرمان يتوق لها رغم ادعاءه بأنه يضحي لأسباب أخرى.
لكن لا تصنف أي من الحالات أعلاه ضمن أطار المازوخية العامة إذا أتت كردة فعل أو استجابة لنوبة حماس مفرطة أو عند التعرض لأذى نفسي أو جسدي أو جنسي أو لحالة كآبة مرضية.
من هو مازوخ ؟
ليوبولد فون زاخر مازوخ (Leopold von Sacher-Masoch ) هو روائي وصحفي نمساوي ولد عام 1836 في مقاطعة غاليشيا (Galicia ) التي كانت جزءا من إمبراطورية النمسا والمجر آنذاك – اليوم مقسمة بين بولندا وأوكرانيا - وهي مقاطعة يقال بأن نساءها تمتعن بموهبة نادرة في تطويع وترويض أزواجهن!. موهبة تركت أثرا لا يمحى في ذاكرة مازوخ الذي ترعرع في كنف أسرة ميسورة ذات أصول نبيلة أسبانية وأوكرانية.
مازوخ درس القانون والتاريخ وتعلق بالأدب، كتب العديد من الروايات والقصص، قد تكون أشهرها وأوسعها انتشارا هي قصة "فينوس في معطف الفرو" التي ترجمت للعديد من اللغات، والتي تروي حكاية رجل يدعى سيفرين يقيم علاقة غرامية مع أرملة تدعى ويندا، وحين تتوطد العلاقة بين الاثنين يفاجئها بطلب غريب، إذ يتوسل إليها أن تعامله كعبد، ويشجعها على أن تحتقره وتعامله بطريقة مهينة.
في البداية تأخذ ويندا الأمر على محمل المزاح، لكن تدريجيا تجد في الأمر متعة وفائدة فتتقمص دورها بجدية أكبر وتندمج معه شيئا فشيئا، وفي نفس الوقت، يزداد ازدرائها واحتقارها لسيفرين، الذي يذوب في لذة حسية وشهوانية عارمة مع كل ضربة واهانة يتلقاها. وفي النهاية تنتهي العلاقة بين الاثنين في مدينة البندقية الايطالية حيث تستبدله ويندا بعشيق آخر
قصة "فينوس في معطف الفرو" مستمدة من وقائع حقيقية أبطالها هم كاتب القصة نفسه، أي مازوخ، وعشيقته البارونة فاني بستور، لذلك لم يجد الطبيب النفسي ريشارد فون كرافت – إيبنغ (Dr. Richard von Krafft-Ebing ) حرجا من استعارة أسم مازوخ لوصف ما بات يعرف لاحقا بأسم المازوخية، وذلك في كتاب له أصدره عام 1886 حول الشذوذ الجنسي، إذ أن ما كتبه مازوخ كان بحق الأثر الأدبي الأكثر دقة وتفصيلا في وصف هذا النوع من الشذوذ.
أن ميول مازوخ الجنسية تعود في جذورها وصيرورتها إلى طفولته، وقد تكون البصمة الأوضح التي طبعت تلك الطفولة، هي ذكرى إحدى قريباته أو عماته، الكونتيسة زنوبيا (Xenobia (Countess ، التي احتلت حيزا كبيرا من خيالاته، إذ خلبت لبه بجمالها الأخاذ وسحرته بشخصيتها القوية، فتعلق قلبه بتلك الحسناء اللعوب وهو لم يزل طفلا في العاشرة من عمره، وقد عشق على نحو خاص رؤيتها وهي تخطر في معاطف الفرو الثمينة التي كانت تملئ خزانة ثيابها، وقد ترعرع هذا العشق ونما في قلبه عاما بعد آخر، فصار في رجولته يشعر بجاذبية لا تقاوم نحو النساء الجميلات اللواتي يرتدين معاطف الفرو، كما ازدحمت جدران منزله بلوحات لنساء في معاطف الفرو، وكان يتوسل إلى عشيقته طالبا منها أن ترتدي معطفا من الفرو أثناء تعذيبها له. لا بل أصبح معطف الفرو مقياسا لجمال المرأة عند مازوخ، فإذا أعجبته إحداهن قال عنها : "أود رؤيتها في معطف الفرو"، أما من لم تعجبه فسرعان ما يشيح وجهه عنها قائلا : "لا أتخيل رؤيتها في معطف الفرو!".
لكن لندع رجولة مازوخ جانبا الآن، ولنعد إلى ذلك الصبي ذو العشرة أعوام الذي كان يطير فرحا حين تطلب منه قريبته الكونتيسة الحسناء أداء بعض الخدمات الصغيرة، كمساعدتها في ارتداء ملابسها، حيث كان يشعر بنشوة عارمة حين يمسك بساقها ليساعدها على وضع الخف في قدمها الصغيرة، وفي إحدى المرات لم يتمالك الصبي نفسه فضم تلك الساق العاجية البيضاء إلى صدره وطبع عليها قبلة حارة، فابتسمت الكونتيسة بدهاء وأدركت ما يدور في نفسه وركلته بقدمها برفق .. ويالها من ركلة عجيبة .. إذ كان لها وقع السحر على الصبي، كأنما آلاف الأجنحة الخفية رفعته إلى عنان السماء وغمرته بشلالات من السعادة والنشوة التي لم يعرف لها مثيلا قط.
لكن الحادثة الأبرز، والتي ربما غيرت حياة مازوخ إلى الأبد، وقعت في مناسبة أخرى، ففي أحد الأيام، وبينما كان الصبي يلعب مع شقيقاته لعبة الاختفاء "الغميضة"، قادته قدماه دونما قصد إلى غرفة نوم الكونتيسة ليختبأ خلف ستارة تغيير الملابس المنتصبة في إحدى زواياها. ومن غرائب الصدف أن الكونتيسة عادت إلى المنزل ذلك اليوم برفقة احد عشاقها حيث قادته مباشرة إلى غرفة نومها، أغلقت الباب دونهما ثم سرعان ما ارتمى الاثنان على إحدى الأرائك وراحا يتبادلان العناق والقبل من دون أن يشعرا بعين الصبي التي كانت تختلس النظر إليهما من خلف الستارة. وفي الحقيقة ما كان لصبي في عمر مازوخ أن يرى منظرا كهذا، لكن ليت الأمر انتهى عند هذا المنظر، فما حدث بعد ذلك كان أدهى وأمر .. إذ لم تمر سوى دقائق معدودة حتى علت ضجة وأرتفع صراخ وأنفتح باب الغرفة بعنف ليظهر من وراءه زوج الكونتيسة تعلو وجهه العابس غمامة من غضب ويصاحبه اثنين من أصدقاءه. كان موقفا حرجا بحق، أصبح جو الغرفة مشحونا بالخوف وترقبت الأبصار ما سيفعله الزوج الغاضب بعد أن امسك بزوجته وهي متلبسة بالجرم المشهود، لكن لشدة دهشة الجميع، نهضت الكونتيسة من بين أحضان عشيقها ثم كورت قبضتها وهوت بها على وجه زوجها بقوة قبل أن ينبس ببنت شفة! .. كان منظرا لا يصدق، فالزوج الغاضب تمدد على الأرض والدم يتدفق من فمه بغزارة. أما الكونتيسة فقد بدا وكأنها دخلت في نوبة من الجنون، إذ استلت سوطا من على الجدار وراحت تطارد جميع من في الغرفة بلسعاته المؤلمة، الزوج وأصدقاءه والعشيق!! ..
الجميع هربوا لا يلوون على الشيء، ولسوء حظ مازوخ، فقد نالت إحدى ضربات السوط من ستارة تغيير الملابس فأوقعتها أرضا وأماطت اللثام عن مخبئه، وما أن وقعت عليه عينا الكونتيسة الغاضبة حتى انهالت عليه صفعا وركلا من دون أي رحمة، والعجيب في الأمر هو أنه وبرغم قوة الضربات وشدة الألم، فقد شعر الصبي بلذة غريبة وخفية تجتاح جسده مع كل ضربة!.
وفي هذه الأثناء، وبينما مازوخ يتلقى العقاب القاسي، عاد زوج الكونتيسة إلى الغرفة، لكنه لم يكن غاضبا ومتنمرا كما في المرة السابقة، بل بدا خانعا وذليلا كالعبد، تكوم عند قدمي الكونتيسة متوسلا أن تسامحه وتغفر له خطيئته! فنظرت إليه الكونتيسة باحتقار وراحت تركله بقدمها المرة تلو الأخرى، فوجد الصبي في انشغالها بزوجها فرصة ذهبية للهرب فأطلق ساقاه للريح وفر من الغرفة.
لكن الصبي لم يبتعد كثيرا، فبعد لحظات على هروبه أحس بهاجس غريب يدفعه للعودة إلى الغرفة ليرى ما يحدث بين الكونتيسة وزوجها، لكن هذه المرة اصطدمت عودته بباب الغرفة الموصد، إلا إن الصبي سمع صرخات وآهات الزوج الذليل وأزيز سوط الكونتيسة يمزق سكون المكان ويتردد بعنف عبد الباب .. ويالها من آهات وما أجملها من صرخات! .. إذ بدت كالموسيقى عذوبة في أذن الصبي .. وكم حسد زوج الكونتيسة حينها! .. فقد تمنى لو كان هو مكانه يتلقى عنه تلك السياط المؤلمة والمثيرة والشهوانية في آن واحد!!.
أمنيات الصبي مازوخ وخيالاته الشاذة كبرت معه وألقت بظلالها لاحقا على علاقته بعشيقاته وزوجاته اللائي خضعن لرغباته الغريبة، أحيانا بدافع المزاح، وتارة من باب التجربة، ودفعة على استحياء ومضض. لكن هذا لم يمنع في أن بعضهن استمتعن بالتجربة حقا، كالبارونة فاني بستور التي وقعت عقدا مع مازوخ عام 1869 وافقت بموجبه على أن يصبح مازوخ عبدا لها لمدة ستة أشهر، لها أن تعذبه وتهينه وتستغله كيفما تشاء خلال هذه المدة، لكن بشرط أن ترتدي – قدر الإمكان - معطفا من الفرو كلما أرادت جلده وتعذيبه!. وبالفعل سافر الاثنان معا إلى ايطاليا حيث لا يعرفهما احد هناك، سافرا في نفس القطار، لكن البارونة استقلت عربات الدرجة الأولى، فيما تلذذ مازوخ بتعذيب نفسه وإذلالها عن طريق الجلوس في عربات الدرجة الثالثة. وقد وصف مازوخ علاقته ووقائع سفرته مع فاني بستور في قصته الشهيرة "فينوس في معطف الفرو" والذي أتينا على ذكرها سابقا.
في عام 1873، تزوج مازوخ للمرة الأولى من شابة تدعى لورا فون روملن، والتي أصبحت أيضا من شخصيات قصصه، فالزوجة الجميلة سرعان ما اكتشفت غرابة وشذوذ تصرفات زوجها، ففي احد الليالي أصر مازوخ على أن تقوم بجلده بالسوط، لكنها لم تستطع فعل ذلك فطلبوا من الخادمة أن تؤدي تلك المهمة الغريبة، والتي كانت للمفارقة أخر مهمة لها في منزل مازوخ، إذ رأت الزوجة بأن بقاءها صار مستحيلا بعد أن جلدت رب المنزل فتم فصلها في صباح اليوم التالي.
لورا خضعت لرغبات زوجها شيئا فشيئا، لكن على مضض، بدأت تجلده بسوط طويل ينتهي بشفرات حادة، وصارت تعذبه وتهينه خلال العلاقة الجنسية، غالبا وهي ترتدي معطفا من الفرو، لم تفهم المسكينة أبدا مكمن المتعة والإثارة التي كانت تجتاح زوجها مع كل ضربة واهانة يتلقاها، حاول هو شرح الموضوع لها، اخبرها بأنه يحتاج لتفريغ رغباته الشاذة لكي لا تستولي على تفكيره، ولكي يجد متسعا من الوقت للتفكير والكتابة والتأليف. لكن المشكلة هي أن تلك الرغبات المجنونة لم تقتصر على الجلد والتعذيب، إذ استولت عليه رغبة غريبة في جعل زوجته تخونه! توسل إليها أن تتخذ عشيقا، أراد أن يحصل على المزيد من التعذيب! هذه المرة تعذيبا نفسيا، ربما لكي يستعيد ذكريات الصبا والكونتيسة اللعوب. والطريف هو أن مازوخ وضع بنفسه إعلانا في الجريدة للبحث عن رجل يقيم علاقة مع زوجته!، وحين عثر على هذا الرجل أخيرا رتب له موعدا معها في احد فنادق المدينة؛ لورا ذهبت إلى هناك نزولا عند تضرعات وتوسلات مازوخ، لكنها عندما اجتمعت بالرجل في غرفة الفندق، أخبرته بسلوك زوجها وشرحت له المسألة بالكامل، فرفض هذا الأخير أن يلمسها وأعادها إلى منزلها.
لكن فشل التجربة لم يفت في عضد مازوخ، فقد أستمر في محاولاته حتى حصل أخيرا على عشيق لزوجته، والغريب بأنه كان يودعها حين تغادر المنزل لمقابلة عشيقها قائلا لها : "كم أحسده!"، أي أنه يحسد العشيق على معاشرته لزوجته. وبالطبع، وكنهاية حتمية، أخذت لورا تحتقر زوجها وتزدريه وتحول حبها له إلى كراهية طاغية، وللمفارقة فقد وقعت لورا أخيرا في حب أحد العشاق الذين هيئهم لها زوجها، فهجرت مازوخ وذهبت لتعيش مع عشيقها في باريس، ثم انتهى الأمر بين الزوجين بالطلاق في عام 1883 بعد زواج دام لعشرة أعوام وأثمر عن طفلة واحدة.
لاحقا في حياته تزوج مازوخ من امرأة أخرى، سكرتيرته هيلدا، وعاش معها لما تبقى من حياته، هيلدا تعايشت .. أو بالأحرى وجدت طريقة ما للتعايش مع رغبات زوجها الغريبة، وقد تكلل زواجهما بولادة طفلين.
هناك بعض المصادر زعمت بأن قوى مازوخ العقلية تراجعت في سنوات حياته الأخيرة وأنه قضى نحبه في مستشفى للأمراض العقلية عام 1893.
على العموم، وبرغم الاستهجان الطبيعي لتصرفات مازوخ، فيجب أن نذكر في الختام بأن الرجل، وكما وصفته زوجاته والنساء اللائي كن على علاقة به، كان حبيبا وزوجا متفهما وعطوفا، لا يشرب ولا يدخن ويحب أطفاله. كان رجلا طيبا وطبيعيا عند تواجده خارج غرفة النوم، وحتى هناك فأن مازوخ لم يؤذي يوما أي امرأة، لكنه كان يستمتع بتلقي الألم منهن. إضافة إلى ذلك فأن مازوخ كان مثقفا وكاتبا كبيرا ومناضلا شارك في بعض الثورات والحروب التي عصفت بعصره، وفوق هذا كله كان مناديا بحقوق الإنسان ومناضلا من اجل عدم التمييز ضد الأقليات؛ وهذا الكلام أذكره في نهاية سيرة وترجمة هذا الرجل لغرض هام، وذلك لأني أريدك أن تدرك أيها القارئ الكريم بأن المريض النفسي هو كالمريض الجسدي، هذا معتل في جسده وذاك معتل في روحه، وهذه العلة لا تستدعي الاحتقار والاستهزاء وإنما تستوجب التشخيص والعلاج، فليس بالضرورة أن يكون المريض النفسي شخصا سيئا، فمازوخ مثلا كان أنسانا جيدا لمعظم حياته، لكنه كان يعاني من مشاكل، ومن منا لا يعاني ؟! أليست الحياة كلها رحلة من المعاناة ؟ في الحقيقة، كان الرجل مريضا نفسيا في زمن لم يكن الناس يعلمون فيه شيئا عن حقيقة المرض النفسي .. فما بالك بالتشخيص والعلاج.
ما هي أسباب المازوخية ؟
كما في أغلب حالات الشذوذ الجنسي، ليس هناك نظرية متكاملة أو رأي متفق عليه حول أسباب المازوخية، فالشخص المازوخي ربما كانت لديه مشاكل واضطرابات في الشخصية تعود في جذورها إلى طفولته، كما رأينا في سيرة مازوخ.
وهناك من يعتقد بأن المازوخية تنشأ بسبب قمع الأفكار والتخيلات الغريبة والشاذة، فبسبب محاولة الشخص المستمرة لكبت هذه الأفكار تتولد لديه رغبة ملحة لوضعها حيز التطبيق، وفي حال شعر هذا الشخص بالإثارة والنشوة عند التطبيق، فأنه سيرتبط بتلك الرغبة ويستمر في ممارستها.
رأي آخر يزعم بأن الممارسات السادية والمازوخية هي نوع من الهروب يمارسه البعض لتقمص شخصيات تختلف جذريا عن شخصياتهم الحقيقية.
علاج المازوخية
العلاج السلوكي (Behavior therapy ) يستخدم عادة لعلاج حالات الشذوذ الجنسي، كالمازوخية، وهذا قد يتضمن التنظيم والسيطرة على نمط الاستثارة، وكذلك تنمية وتعزيز المهارات الاجتماعية لدى المريض.
وفي بعض الحالات الحرجة، التي قد تؤدي إلى إلحاق أذى كبير بالنفس أو تشكل خطرا حقيقيا على الحياة، كما في حالة الولع بالاختناق (Hypoxyphilia ) ، فأن العقاقير والمهدئات الطبية يتم استخدامها للسيطرة على التخيلات المحفزة للممارسة لدى المريض.
المازوخية تحتاج لعلاج طويل وصعب مثلها مثل بقية أنواع الشذوذ الجنسي، لكن بسبب غرابة الحالة اجتماعيا فأن أغلب المصابين يخجلون من البوح بميولهم الجنسية ولهذا فهم يعرضون عن اللجوء للطبيب النفسي للحصول على الاستشارة والمساعدة اللازمة.
بصورة عامة فأن المازوخي على عكس السادي، يتلقى الألم ولا يوجهه للآخرين، لكن الخطورة تكمن في إمكانية تسببه بأذى جسيم لنفسه، فعلى سبيل المثال، تسجل عدة حالات وفاة سنويا في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الممارسات المازوخية الخطيرة.
تعليق