بن جمان...
الطفل المستبصر
الطفل المستبصر
كان المنشط يوجه أسئلة لشخصيات مختارة، لم تتمكن إحدى تلك الشخصيات من الإجابة عن سؤال بدا لها صعبا و فجأة سمعة دولوراس، ابنها بنجمان يتمتم قائلا: " 3845 ". السؤال كان: " أجد الجدر المربع ل 14 مليونا و 784 آلف و 25 "... ثم جاءت إجابة المنشط مطابقة تماما لما أجاب به بنجمان أي 3845 طيلة أربع سنوات، عاشت السيدة - دولوراس.م - ( من مدرير ) معاناة حقيقية، على الرغم من أنها عند ولادتها ل - بنجمان -، كانت جد سعيدة، فالطفل تميز منذ أيامه الأولى بصحة البنية الجسدية و الشهية الكبيرة.. إلى غاية بلوغه السنتين من العمر. كل شيء كان عاديا.. بدأ الطفل يتمتم، ثم يمشي إلى غاية تحرر لسانه بشكل طليق، حتى أنه كان يتكلم إلى حد جلب انتباه طبيب الأطفال الذي كان يتردد عليه و الذي لم يتأخر عن القول لأمه بأن الطفل سبق لسنه. المصيبة تقولو السيدة - دولوراس - بدأت عند العودة من العطلة.. ففي ذلك الصيف منذ عدة سنوات خلت، كانت العائلة قد قضت أيام راحة رائعة بمنطقة - بيرانس -، لكن بينما كان الجميع عائدا إلى مدريد، فضل الزوج زيارة بعض الأقارب القاطنين قرب منطقة " ساراغوس " ( في طريق العودة )، حيث مددت الزيارة إلى ثلاثة أيام، غير أنه، عند حلول ساعة الرحيل بعد تعبئة المتاع في السيارة، بحث الزوج عن - بنجمان - فلم يعثرا عليه.. لقد اختفى. الأم كأي أم لم تتردد عن بث الهلع في وسط الأقارب و من جاورهم من أصدقاء و في الحين خرج الكل في رحلة عن - بنجمان - الذي بعد عدة ساعات تم العثور عليه واضعا قدميه داخل ماء واد كان يشق المكان... السيدة - دولوراس - بفعل فرحتها بلقاء ابنها تقدمت منه و ضمته إلى صدرها، قبلته، حدثته دون أن تنظر إليه طيلة عدة ثوان قبل أن تنتبه إلى حالته غير الطبيعية، فنظره كان فارغا كما أنه لم يكن يتكلم رغم أنه ثرثار بطبيعته. لكن بما أنها و زوجها كانا متأخرين، فقد سارع الاثنان إلى توديع الأقارب و قادا ابنهما إلى السيارة و غادرا المكان. منذ خروج العربة من هناك إلى حد الوصول إلى مدريد، لم يتكلم الطفل - بنجمان - و لم ينم و لم يأكل و لم يحول بصره للحظة واحدة تجاه المناظر الطبيعية المحيطة بالطريق. والدا الطفل لم يرتاحا لوضعية ابنهما و مع ذلك فهما لم يهولا الوضع و حاولا إقناع نفسيهما بأن التعب هو مرد ذلك السلوك الغريب ل - بنجمان - الذي ما أن دخل البيت حتى سارع والده بوضعه على السرير.. لقد نام إلى غاية صباح اليوم الموالي، حيث و جدته أمه على نفس الحال.. غائبا، صامتا و شفتيه شبه مفتوحتين، لكن و بما أنه أكل كثيرا في ذلك اليوم. لم تكترث له السيدة دولوراس كثيرا حتى اليوم الثاني. طبيب العائلة بعد فحصه للطفل و التأمل فيه جيدا، خلص إلى أن سبب التغيير الذي طرأ على سلوك - بنجمان - هو التعب لا أكثر و لا أقل، ثم قدم لوالديه وصفة ببعض الأدوية و طلب منهما زيارته ثانية في نهاية. السبت الذي عقب تلك الزيارة، لم تتأخر فيه حالة الطفل، مما أقلق كثيرا أمه التي حملته معها ثانية إلى طبيب العائلة الذي بعد فحصه مرة أخرى، نصحها بعرضه على طبيب مختص بمدريد. السيدة - دولوراس - ما أن خرجت بابنها من عند الطبيب، حتى التحقت بزوجها في العمل و طلبت منه أخذ السيارة على الفور و مرافقتها إلى الطبيب المختص الذي وجهها إليه الطبيب الأول... دقائق معدودة و كانت بالمستشفى، حيث انتظرت ثلاث ساعات قبل استقبالها من قبل ذلك البروفيسور المتخصص الذي فحص الطفل في البداية أمام والدته، ثم وحده بعد أن ترجاها بالانتظار في غرفة ثانية... نصف ساعة مرت قبل أن تسمح الممرضة للسيدة دولوراس بالدخول ثانية إلى الحجرة الأولى، حيث و أمام - بنجمان - سألها الطبيب مطولا عن حياة العائلة و عطلتها الأخيرة و العطل السابقة و السلوك المعتاد للطفل و بعد ربع ساعة من الحديث المتبادل، سألت دولوراس الطبيب عن نوع الداء الذي أصاب ابنها، فأجابها بأنه يحتمل تعرضه إلى صدمة نفسية و اعتبارا لصمته و انطوائه المؤقت، اقترح الطبيب وضع - بنجمان - لمدة 15 يوما تحت الرقابة الطبية داخل المصلحة المختصة للمستشفى و بما أن أم الولد لم تنتظر كثيرا لتنفجر باكية، فقد اقترب منها الطبيب محاولا تشجيعها و رفع معنوياتها و في تلك اللحظات بالذات، بنجمان الذي لم ينطق بكلمة واحدة منذ عشرة أيام في ذلك الوقت، تكلم فجأة قائلا: ro gue- ro partir el medico es un marican yo soy simple mente autisto. دولوراس - من شدة الفرح بنطق ولدها رغم الشتم الذي وجهه إلى الطبيب و استعماله لكلمة autisto التي لم تفهم معناها و رغم هذا احتضنت طفلها و راحت تغطي وجهه بالقبلات، لكنه عاد إلى وضعه السابق. " فكري جيدا في اقتراحي و حدثي عنه زوجك قبل أن تتخذي بشأنه أي قرار... على كل حال سأهتف إلى طبيب عائلتك " قال لها الطبيب و بعد عدة نقاشات حادة مع زوجها، توصل الطرفان إلى قرار الاحتفاظ ببنجمان في البيت رغم وضعه الذي بقي ثابتا و أدى إلى عدم مغادرة أمه له و لو لدقيقة واحدة... ساعات طويلة كانت السيدة دولوراس تحدثه خلالها و كأنه لا زال عاديا و أحيانا في الوقت الذي لا تنتظر منه كلاما، يتحدث هو بالأسبانية أو بالفرنسية ( الفرنسية التي لم يكن يعرفها على الإطلاق ) رغم أن والديه أقاما بفرنسا لمدة خمس سنوات، لكن قبل ولادة بنجمان. و ذات يوم، بمناسبة حلول عيد ميلاده الثالث، أخذته - دولوراس - معها إلى مساحة تجارية كبرى، حيث بعد شرائها لعدة مستلزمات يتطلبها الحفل و بينما وقفت أمام الصندوق تحسب مجموع الدفع قال لها بكل وضوح: المجموع 8754 بيزيتا ( وحدة نقدية رئيسية بأسبانيا ) فنظرت إليه بحيرة، لكن دقائق من بعد، حضرت أمينة الصندوق و قامت بحسابها و طالبت بنفس الثمن الذي كشف عنه بنجمان. و في مرة أخرى، في صالون البيت، بينما كان والده يتابع لعبة شعبية في التلفزيون، حيث كان المنشط يوجه أسئلة لشخصيات مختارة، لم تتمكن إحدى تلك الشخصيات من الإجابة عن سؤال بدا لها صعبا و فجأة سمعة دولوراس، ابنها بنجمان يتمتم قائلا: " 3845 ". السؤال كان: " أجد الجدر المربع ل 14 مليونا و 784 آلف و 25 "... ثم جاءت إجابة المنشط مطابقة تماما لما أجاب به بنجمان أي 3845. و ذات ليلة استيقظت السيدة دولوراس مفزعة من نومها و بنجمان كان يتكلم بأعلى صوته و هو نائم يحلم، فأخذت آلة تسجيل صوتي و شغلتها بعد أن تقدمت منه و لاحظت أثناء سماعها له أن ما كان يقرأه شبيها بالشعر و بالفعل، بعد إعادة سماعها للشريط المسجل رفقة زوجها، تبين أن ما كان يقوله بصوته الصغير الصافي، شعرا منطوقا بالأسبانية الفصحى.. فمن أين كان يخرج كل ذلك و هو الذي لم يتعد سن الأربع سنوات في ذلك الوقت؟ طيلة الشهور التي تلت تلك الفترة، ظل بنجمان على حاله، لكنه من حين لآخر كان يستبصر بشكل يثير الدهشة، مثل ما حدث في أحد الأيام، حيث وقع والده مريضا إلى حد إدخاله المستشفى و تعذر على الأطباء معرفة الداء الذي أصابه و ما يلزمه من علاج. في المساء، أثناء العشاء، قال بنجمان: " إن أبي تضررت له إحدى الفقرات و هو يعاني من وجع في عرق النسا.. انه في حاجة إلى شخص يجبره ". السيد - جوان - والد الطفل، بقي لعدة أسابيع بالمستشفى دون فائدة، الشيء الذي قاد السيدة دولوراس إلى التحدث إلى طبيب زوجها عن استبصار ابنها بنجمان الذي كان رفقتها و عن كون هذا الأخير قال بأن أباه في حاجة إلى جابر، لكن الطبيب لم يأخذ الأمور مأخذ الجد و مع ذلك فقد أجابها بكل استخفاف: " لما لا؟ أ تعرفين شخص يجبر " " لا " ردت عليه دولوراس فنطف بنجمان: " يجب الاتصال بالسيد فرننداز المقيم بفيولتا ". الطبيب اندهش لحديث بنجمان الذي سمعه يتكلم لأول مرة، فسارع إلى أخذ دليل أرقام الهاتف و راح يفتش فيه إلى أن عثر على معلومات تتعلق بشخص يدعى فرننداز كان يقيم بالفعل في منطقة - فيولتا - ( بضواحي مدريد ) فهتف إلى رقمه. فأجاب الرجل الذي اتضح بأنه كان متخصص في الجبر و حدد للسيد جوان و زوجته موعدا لليوم الموالي، لكن الطبيب ألح على مرافقة مريضه و أمر بتسخير سيارة إسعاف لنقله. يومان بعد زيارة السيد جوان لفرننداز، استطاع أن يقف على رجليه و كأنه لم يكن مريضا و تقول السيدة دولوراس أن بامكانها ذكر عشرات الحالات الغريبة التي عاشتها مع ابنها، لكن الأغرب منها كلها، هي عودة بنجمان إلى الحياة الطبيعية. فمباشرة بعد بلوغه سن السادسة، نهض ذات صباح و طلب من أمه أن تقدم له فطوره... مذهلة، أمه اقترحت عليه تناول الفطور معها بعد خروج أبيه فأجابها: " لا. أبي سيرافقني إلى المدرسة للتحدث إلى المديرة فأنا أريد أن أدرس " و منذ تلك اللحظة عاد بنجمان إلى الحديث الطبيعي كأي طفل كأي طفل في سنه دون أن يستبصر مرة أخرى أو يغيب بوعيه مثلما حدث له من قبل. إن حالة بنجمان ليست مختلفة كثيرا عما ذكره الدكتور - كيروياماغوشي - المتتبع لحالات عدة أطفال متوحدين autistes في اليابان، حيث أن الطفل - موتوري .ي - كان في سن السادسة يتكلم الصينية و السنسكرية ( لغة غابرة ) أثناء حلمه و البنت - ميتسكوكو.س - تكتب كل الأفكار التي تجول في ذهن طبيبها. |
تعليق