روبـن هـود...
روبن هود .. قاطع الطريق .. نصير الفقراء .. |
لقد كان للقرن الثالث عشر ميلادي ميزة خاصة في انجلترا..حيث شهدت فيه سلسلة من الاضطرابات والثورات..كان أشدها حربا أهلية عرفت بحرب البارونات ..أُبعد إثرها رماة السهام المتمردون عن ديارهم فلجئوا إلى الغابات..وسُنّت القوانين المجحفة والقاسية..وصودرت الأراضي والممتلكات..وازدادت ضرائب الملك على الفقراء..فتحولت إنجلترا إلى أرضية خصبة ومسرح للمجرمين اليائسين، الخارجين على القانون..الذين تحولوا في نظر الشعب - الذي أفقره الملك - إلى أبطال، نسجت حولهم القصص والروايات .. أشهرها تحكي عن روبن هود الأسطوري ورفاقه الرجال السعداء ..الذين اختبئوا في غابة شيروود وقاتلوا عمدة نوتنغهام.
قصص فلكلورية خالدة وروايات كلاسيكية.. تطورت وتغيرت عبر الزمن .. لكن مغامرة هذا البطل لا تزال تحرك مخيلة الناس حتى أيامنا هذه..
لسنوات عديدة..اعتقد الكثيرون أنّ روبن هود مجرد قصة خيالية و فلكلور شعبي .. لكن ثمة دلائل ظهرت أخيرا تثبت أن روبن هود الرامي الماهر .. الخارج على القانون .. السيئ السمعة ... "شخصية حقيقية".
سنزيح اللثام عن هذه الأسطورة .. وسنكشف هوية هذا البطل .. و من غابة شيروود ستكون البداية.
شيروود ... موطن الأسطورة
هي غابة ساحرة، مشهورة ومعروفة عالميا .. إذ يزورها أكثر من نصف مليون شخص سنويا.. تقدر مساحتها بـ 423.2 هكتارا .. افتتحت فيها حديقة عامة سنة 1969م من طرف مجلس مقاطعة نوتينغهامشاير Nottinghamshair .. وفي سنة 2002 تم إعلان الغابة كمحمية طبيعية من طرف "إنجلش ناتير" English nature ... لكن ليس هذا ما يهمنا في الغابة .. ما يهمنا أكثر هو كونها ارتبطت تاريخيا بأسطورة روبن هود وأصبحت مكانا لا يقل شهرة عنه.
ولا بد أن نشير إلى أن الغابات في القرون الوسطى اعتبرت المكان المثالي للصوص والخارجين على القانون .. حيث كانوا يسرحون ويمرحون.
لجأ روبن هود إلى غابة شيروود، بعدما تم تجريده من أرضه وممتلكاته من قبل الملك جون .. هناك عاش مع عصابته المؤلفة من الرفاق السعداء.. يدافع عن الفقراء والمظلومين ويسرق من الأغنياء لصالحهم .. لقد كان زمن فقر واضطهاد .. فدخل روبن هود إلى قلوب الناس.
أقدم الإشارات إلى روبن هود
ظهرت أسطورة روبن هود للمرة الأولى في القرن 13م، قليل من الناس كانوا يجيدون القراءة والكتابة، فانتشرت القصص وشاعت من خلال قصائد شعرية وأغان روائية.. لكن هناك أغنيتين روائيتين تتحدثان عن أولى مغامرات روبن هود وتحملان دلائل تشير إلى هويته.
الأولى عنوانها "روبن هود والراهب Robin des Bois et le moine ".. نُظمت في القرن 14م، في كنيسة القديسة مريم L'église Sainte-Marie وسط مدينة نوتنغهام.
تخبرنا هذه القصيدة أنّ روبن هود جاء إلى نوتنغهام وحده، وصلّى في الكنيسة المذكورة. فتعرّف إليه أحد الرهبان. لأنّ روبن ورفاقه كانوا قد سلبوه في الغابة. خرج الراهب من الكنيسة واتجه نحو منزل العمدة وأخبره بمكان روبن . فحضر العمدة ورجاله وألقوا القبض عليه. ورموه في زنزانة داخل السجن.. لكن لحسن حظه عرف جون الصغير مكانه فأتى وأنقذه.. فعاد واختبئ داخل الغابة.
مع أنّ الأبيات التي تتحدث عن روبن هود وهو يصلي في كنيسة القديسة مريم، تضعه في فترة زمنية محدّدة ومعروفة، إلاّ أنّها تطرح شكوكا حول مصداقيتها.. والسبب في ذلك أنّ هذه الكنيسة بُنيت مباشرة بعد كتابة القصيدة.. فكيف يكون قد صلّى فيها وهي لم تبن بعد؟؟.
تعود أساسات كنيسة القديسة مريم إلى القرن 12م، وهي تُؤكد أنّ ثمّة كنيسة قديمة كانت قائمة هنا قبل كتابة القصيدة .. ربما يكون روبن قد صلّى فيها.
غير بعيد عن الكنيسة، وعلى بعد عشرين مترا...يقع المتحف العدلي Musée Justice ، القسم الأسفل من هذا المبنى لم يكن فيما مضى سوى السجن المركزي لمقاطعة نوتنغهام. هو عبارة عن متاهة مؤلفة من كهوف تحت الأرض، والتي تُعد المكان الأكثر إثارة للرعب والخوف في انجلترا. لقد اكتشف حارس المتحف غاري هولمز مكانا لافتا، يُعتقد أن يكون هو القبو الذي رُمي فيه روبن حسب ما جاء في القصيدة.
ما اكتشفه الحارس هو زنزانة خاصة لموقوفين من أمثال روبن هود ، اسمها oubliette أي المكان المنسي.وهي حفرة عميقة تقع تحت مستوى زنزانة المساجين العاديين، يتم إنزال المحكومين في الحفرة، ثمّ يُتركوا ليموتوا من الجوع .. إنها عميقة ومظلمة لن ينجوا أحد بداخلها.
في قصيدة "روبن هود والراهب" يروى أنّ روبن رُمي في واحدة من هذه الحفر، ويُروى أيضا أنّ رجاله لما أرادوا إنقاذه عمدوا إلى إلقاء حبل داخل الحفرة ليتمكن من تسلقه. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإخراجه من الزنزانة المنسية.
القصيدة الثانية عنوانها "مغامرة روبن هود الصغيرة La Petite Geste de Robin des Bois "، يعتقد معظم الناس أنّ روبن من نوتنغهام، ولكن حسب هذه القصيدة فإنّ يوركشاير Yorkshire(4 ) هي مسقط رأسه ومكان وفاته أيضا.
جاء فيها أنّ روبن هود تعرض إلى إصابة بليغة. فنقله جون الصغير إلى دير للراهبات يدعى دير "كوركليس Kirklees "، آملا أن تعالجه رئيسة الدير.. لكنها لسبب يُجهل قد خانته، فعالجت جزءا بسيطا من جراحه، وتركت جراحا أخرى تنزف حتّى الموت. وتروي القصيدة أيضا أنّ روبن هود قد رمى من إحدى نوافذ الدير سهمه الأخير، وطلب من جون الصغير أن يدفنه حيث يسقط السهم.
إنّ دير كوركليس مكان حقيقي في يوركشاير، و توجد في أرض الدير مقبرة غامضة. كتبت عليها كتابة انجليزية قديمة تروي أنّ روبن هود مدفون في المكان.
قصة أخرى ظهرت في أواخر القرن 16م تشير إلى وجود روبن هود.. لكنه هذه المرة رجل نبيل ومحارب شجاع في الجيش الإنجليزي.
تبدأ القصة بعودة الملك ريتشارد قلب الأسدRichard cœur de lion (5 ) من الحملة الصليبية الثالثة Troisième Croisade(6 ) التي قادها في فلسطين. وفي طريق العودة يتعرض الجيش الإنجليزي لهجوم فرنسي فيُقتل الملك ريتشارد قلب الأسد، ويقرر أتباعه - ومنهم روبن هود - العودة إلى انجلترا هروبا.. وفي الطريق يجدون روبرت لوكسلي - الذي كُلف بإعادة التاج إلى إنجلترا - قتيلا إثر كمين نُصب له من قبل أحد الإنجليز المتعاونين مع فرنسا.. ولذلك يقررون إعادة التاج بأنفسهم وتسليمه للملك الجديد وهو جون شقيق ريتشارد.. بعد ذلك يتضح مدى ضعف الملك جون ووضاعته ومحاولة "جود فري" الاستيلاء على السلطة والسيطرة على زمام الحكم وتأثيره على الملك جون لجمع المزيد من الضرائب ومصادرة أملاك البارونات .. وهو ما حدث بالفعل.
يعمل الخائن "جود فري" بالتنسيق مع الفرنسيين لغزو إنجلترا .. إلا أن نواياه تُفتضح ويُكتشف أمره، فيتعاون روبن هود مع النبلاء لرد الغزو الفرنسي وقتل الخائن.. إلاّ أنّ الملك جون - الذي تعهد بمنح الحرية لمواطنيه و تسهيل ظروف معيشتهم - لم يعترف بصنيعهم، وتنكر لوعوده، ممّ دفع روبن هود وآخرين إلى التمرد واتخاذ السلب والنهب أسلوبا جديدا لحياتهم.. فيعلنهم الملك جون "خارجين على القانون".
الوثائق التاريخية لها رأي آخر
تعود هذه الوثائق إلى سنة 1309م.. وهي تأتي على ذكر روبن أو روبرت من ويكفيلد مرتين، وتذكر أنّه اعتدى على زوجة "هنري آرثر" - عمدة المقاطعة - فدفع غرامة قيمتها 12 قطعة نقدية. فقد عُرف عن الرجل أنّه لص منذ سنة 1309م.
في وثيقة أخرى يذكر إسم روبرت هود عشرين مرة .. ويذكر أنّه ارتكب جرائم خفيفة كالسرقة وإثارة الشغب وذلك حتى سنة 1322م .. ويرجح بشدّة أن يكون روبرت من ويكفيلد هو روبن هود لكن بفارقين.. الأول: يتعلق برامي السهام الأسطوري. والثاني: عدم وجود سجلات تتحدث عن روبرت من ويكفيلد خارج على القانون .. أمّا روبن هود الأسطوري فلطالما اتسم بهذه الصفة.
دُونت هذه السجلات في ويستمنستر في لندن .. لكن روبن عاش في يوركشاير الواقعة على بعد 250 كلم..يبدو أنّه كان ذا سمعة سيئة جدا، بحيث ذاعت شهرته في أرجاء انجلترا في غضون سنة واحدة.. في زمن كان الخبر ينتقل فيه شفهيا من شخص إلى آخر.
غير أنّ أحدث دليل على ذلك هو مخطوطة وجدت في كتاب تاريخ، وقد ذكر فيها أنّ روبن هود كان مجرما، وقد عاث فسادا هو ورفاقه في شيروود.. وفي مناطق أخرى من انجلترا، حيث تُخرق القوانين على نحو دائم.. وتحصل عمليات سطو وسرقة مستمرة، ويُذكر أنّ روبن قام بتلك الممارسات في فترة ممتدة من 1294م إلى 1299م.
إنّ هذه الوثائق وغيرها ليست كالقصائد التي تقتصر على الروايات والقصص الشعبية التي لا تكلف نفسها عناء إثبات ما إن كانت حقيقة تاريخية أم خرافة... هذه الوثائق تتحدث عن رجل عاش في ذلك الزمن، وعمّ فعله في الزمن الذي عاش فيه.
روبن في الأعمال السينمائية
فيلم "روبن هود 2010م"، من إخراج البريطاني "ريدلي سكوت".. بلغت ميزانيته 155 مليون دولار .. وقد شارك فيه نخبة من النجوم وهم :
الممثل النيوزيلندي "راسل كرو" بدور روبن هود.. كايت بلانشيت بدور ماريان.. ماكس فون سايدو (والتر لوسكلي وهو والد روبرت).. مارك سترونج ( الخائن غود فروي).. إيلين اتكينز ( الملكة إليانور والدة ريتشارد وجون).. داني هيوستن ( الملك ريتشارد قلب الأسد).. أوسكار إسحاق (الملك جون ).. ماثيو ماكفادين ( عمدة نوتنغهام).. كيفين دوراند ( جون الصغير).
\
شخصيات مشابهة
الثقافة العربية أيضا لم تخل من شخصيات مماثلة حيث ظهر عروة بن الورد بن زيد العبسي كنصير للفقراء، عروة هذا كان شاعرا من غطفان وفارسا من فرسانها وصعلوكا من صعاليكها. كان يسرق ليطعم الفقراء، وقد لقب بـ "عروة الصعاليك" لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم. فهو لا يغزو للنهب والسلب كباقي شعراء الصعاليك أمثال "الشنفرى وتأبط شرا" وإنما يغزو ليُعين الفقراء والمستضعفين. والطريف أن غاراته كانت تستهدف فقط من عرفوا بالبخل .. و بلغ عروة من الكرم والسخاء أنه كان لا يؤثر نفسه بشيء على من يرعاهم من صعاليكه ، فلهم مثل نصيبه سواءً شاركوا في الغارات أو لم يشاركوا، وهو بذلك يضرب مثلا رفيعاً في الرحمة والإيثار.
إنّ أسطورة روبن هود تعدّ بحق من أروع الأساطير الشعبية على مر العقود .. وقد حاولنا في هذا المقال الإلمام ببعض جوانبها.. وإن كانت في الواقع تحتاج إلى كتب لتغطيتها. وسواء أكانت قصة روبن هود حقيقية أو خيالية، فإنّها تتحدث عن المواجهة الأبدية بين الخير والشر.
تعليق