ثانيا - الوثيقة والتأويل:
اعتمد شوكت باموك على عدد هائل من الدراسات والأبحاث المتعلقة بالموضوع، إذ تشتمل قائمة البيبليوغرافيا المثبتة في آخر الكتاب على ما يناهز 500 مادة من بينها 130 لباحثين أتراك، لكنه في المقابل لم يعتمد على ما يكفي من وثائق بما يوازي حجم المشروع والأهداف الطموحة التي رسمها له في بداية الكتاب. وهذه ربما هي أهم ملاحظة ستوجه لهذا العمل من طرف مؤرخي الإمبراطورية العثمانية قبل مؤرخي الاقتصاد. صحيح أن الدراسات التي اعتمد عليها باموك استندت في أغلبها إلى الوثائق العثمانية، وصحيح كذلك أن المعلومات الكمية الواردة في هذه الدراسات قابلة للاستعمال من طرف باحثين آخرين. لكن المشكل يطرح عند مستوى التأويل.
يدرك المشتغلون بالوثائق العثمانية جيدا أهمية التمييز بين المعلومات الواردة في هذه الوثائق والتأويلات الممكنة لتلك المعلومات، كما يدركون بأن حدود التأويل ترتبط بكيفية وثيقة بالسؤال المطروح أثناء البحث نظرا لطبيعة الوثائق العثمانية نفسها. لذلك، يكون من الصعب تجاوز الحدود الكمية للمعلومات الواردة في الدراسات التي اعتمد عليها المؤلف، والاعتقاد بإمكانية القيام بتأويلات لا تخص التاريخ النقدي فحسب، بل تتعداه لتطال مجموع التاريخ الاقتصادي وتاريخ المؤسسات والنظم العثمانية كذلك، في غياب الاطلاع المباشر على تلك الوثائق. واعتماد شوكت باموك على "الدراسات الجزئية"، التي طالما انتقدها في الكتاب، قلص من زاوية نظرته لتاريخ النقود العثمانية.
لذلك، أعتقد بأن النقص الأساسي في هذا العمل يتمثل بالدرجة الأولى في عدم اعتماده على ما يكفي من وثائق مباشرة، وبأن القراءات التي قدمها المؤلف لمجموعة من القضايا يجب التعامل معها بنوع من الاحتراز. إن إدراج النقود العثمانية ضمن حركية النقود العالمية لا يقوم على أساس إقامة سلسلة متواصلة للنقود ولمقاييسها ودرجة نقاوتها، فهذا من صلب عمل علماء المسكوكات، بل يقوم على أساس معالجة القضايا المحيطة بتداول النقود: المؤسسات السياسية والإدارية والاقتصادية، السياسات الاقتصادية والمالية، العلاقات بين المركز والأطراف وبين الحواضر والبوادي، إلى غير ذلك مما لا يتصل بكيفية مباشرة بالنقود. إن دراسة ما يوفره الأرشيف العثماني، وفق المنظور الشامل الذي أُدرج فيه هذا العمل، هي وحدها الكفيلة بتأكيد أو تفنيد ما قدمه شوكت باموك من تأويلات.
تعليق