التاريخ المالي للدولة العثمانية، ترجمة عبد اللطيف الحارس، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2005.
عندما ينتهي القارئ غير الملم بالتاريخ العثماني وبطبيعة هذا التاريخ، وما تخلفت عنه من شواهد من قراءة آخر صفحة من صفحات الترجمة العربية لهذه الدراسة، قد يخرج ببعض الملاحظات مفادها أن الدولة العثمانية كانت بالفعل دولة إسلامية يحكمها نفس المنطق الذي حكم غيرها من الدول الإسلامية، لكنها تختلف عنها في كونها إمبراطورية عالمية أثرت في مجريات التاريخ العالمي بقدر ما تأثرت بها، ولم تكن لتستمر طوال ستة قرون لولا توافرها على جملة من الخصوصيات وعلى ما يكفي من مقومات تجديد ذاتها وقدرة على مسايرة ما كان يعرفه العالم المتوسطي من تقلبات رغم الأزمات، الحادة أحيانا، التي كان عليها مواجهتها. وقد يَخلًص هذا القارئ كذلك إلى أن كثيرا من الأحكام التي صدرت في حق التاريخ العثماني -أكانت من طرف كبار الباحثين من أمثال فرناند بروديل- هي في حاجة مستمرة إلى إعادة نظر وتدقيق؛ وربما أضاف الباحث العربي المهتم بالتاريخ الاقتصادي لكل ذلك. هل من سبيل إلى إنجاز أبحاث بنفس الدقة والعمق والشمولية حول المجالات العربية خلال ذات الفترة؟
اعتبارا لتعدد القضايا التي تعالجها هذه الدراسة ولكثافة المعلومات الواردة بها فقد رجحنا التوسع في تقديم مضامين فصولها الأربعة عشر قبل تقدیم بعض الملاحظات حول الدراسة نفسها وحول ترجمتها إلی اللغة العربية.
يتناول كتاب التاريخ المالي للدولة العثمانية تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية بين سنتي 1300 و1918، وهو من بين آخر ما صدر حول التاريخ النقدي والمالي للدولة العثمانية خلال السنوات الأخيرة. صدر هذا الكتاب في الأصل باللغة الإنجليزية سنة 2000 تحت عنوان A Monetary History of the Ottoman Empire ضمن سلسلة "دراسات كامبريدج عن الحضارة الإسلامية" Cambridge Studies in Islamic Civilization، وكانت ترجمته إلى اللغة التركية قد صدرت سنة قبل ذلك تحت عنوانOsmanlı İmparatorluğu’nda Paranın Tarihi، أي تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية سنة 1999، وأعيد طبعها سنتي 2000 و2003، ثم صدرت ترجمته إلى اللغة العربية سنة 2005 عن دار المدار الإسلامي ببيروت بقلم المؤرخ اللبناني عبد اللطيف الحارس.
يتكون الكتاب من مدخل وأربعة عشر فصلا، منها فصل خاص بالمقدمة، وفصل خاص بالخاتمة، كما يحتوي على خريطة واحدة وثمانية رسوم بيانية وستة عشر جدولا وثلاثة ملاحق وسبع وعشرين لوحة للنقود المعدنية والأوراق المالية العثمانية والأجنبية، إضافة إلى ثبت بالوثائق والمصادر والدراسات المعتمدة في الدراسة (ص. 463-489)، وفهرس للأعلام والمصطلحات والأماكن.
يعتبر شوكت باموك، مؤلف هذا الكتاب، من بين الباحثين الأتراك الذين أولوا اهتماما خاصا لدراسة النقود عبر التاريخ العثماني. فبعد إصداره لمجموع من الدراسات حول التاريخ الاقتصادي 1، صدر له أول عمل متكامل حول النقود العثمانية سنة 1995 تحت عنوان النقود في الإمبراطورية العثمانية، 1300-1914 كملحق للكتاب الجماعي حول التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للإمبراطورية العثمانية الذي أشرف عليه خليل إنالجيك وآخرون 2. وواصل شوكت باموك منذئذ نشر الدراسات والأبحاث ذات العلاقة بتاريخ النقود في الدولة العثمانية 3.
لا يشكل مؤلف شوكت باموك محاولة فقط لتقديم خلاصة للدراسات والمعارف المتوافرة حول تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية من بدايتها إلى الحرب العالمية الأولى، لكنه يسعى بالإضافة إلى ذلك إلى تقديم رؤيا جديدة للنظام النقدي العثماني من خلال وضع هذا النظام في أفق جغرافي وزمني ومؤسساتي طموح جدا. وهذا ما أكد عليه المؤلف في المدخل (ص 5-15) الذي خصصه لتسطير الإطار العام للكتاب وبسط أهم القضايا المنهجية والأحكام التي طالت التاريخ العثماني، والتي سيعود لمناقشتها على امتداد صفحات الكتاب. يحدد باموك الإشكالية المركزية في دراسته لتاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية باعتبارها جزءا من إشكالية "النقود والإمبراطورية وموقعهما في الاقتصاد العالمي في مطلع عصر الرأسمالية"، لكون "التفاعل القوي بين التجارة العالمية، وتدفق المعادن الثمينة والنقود يجعل تبني رؤية عالمية أمرا أساسيا لفهم كل من العصور الوسطى وبواكير المرحلة الحديثة. وهذه هي تحديدا المسألة بالنسبة للتاريخ المالي لإمبراطورية مترامية الأطراف تقع على مفترق طرق التجارة العالمية، وتتأثر دائما بتغير أوضاع التجارة، وموازين المدفوعات، وتدفق النقود. وهكذا، فإن التاريخ النقدي يقدم لنا فرصة لتجاوز المقاربات الجزئية التي قام بها العديد من المؤرخين، وكذلك للتركيز على العلاقات بين تاريخ شرقي البحر الأبيض المتوسط... وتاريخ كل من أوربا وجنوبي أسيا خلال ستة قرون". وبالفعل، سعى المؤلف، كما أكد على ذلك في أكثر من مناسبة، لتناول التاريخ النقدي للإمبراطورية العثمانية في إطار "لوحة كبيرة" تضم المجالات العثمانية بكل تنوعاتها واختلافاتها وفي علاقاتها بالأنظمة النقدية والمالية الأوروبية والأسيوية. وبعد تأكيده على أهمية اعتماد المدة الطويلةفي معالج مختلف القضايا التي يطرحها الموضوع، وقف باموك عند بعض أحكام المؤرخين الاقتصاديين التي طالت التاريخ النقدي للدولة العثمانية بخصوص تقلبات الأسعار وطبيعة السياسة الاقتصادية للدولة العثمانية وتخفيض النقد والتضخم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وطبيعة تدخل الدولة في الحفاظ على التوازنات النقدية والمالية، كما قدم بعض الاستنتاجات التي سيخلص إليها من خلال فصول الكتاب، وهي تتعلق بتجديد قراءة التاريخ المالي للدولة العثمانية وبطبيعة انخراطها في النظام النقدي العالمي على امتداد ستة قرون، وتجديد النظرة لمؤسسات الدولة العثمانية نفسها، ليؤكد في آخر هذا المدخل بأن مناقشة كل هذه القضايا لم تكن ممكنة لولا تمكنه لأول مرة من تنظيم سلسلة زمنية متكاملة لمقاييس النقود العثمانية سواء منها تلك التي كانت تضرب في مركز الإمبراطورية أو في الولايات، وهي معلومات استقاها من مختلف المصادر والوثائق والدراسات، فضلا عن الإضافات القيمة لعلم المسكوكات في هذا الإطار. من أجل مناقشة مختلف هذه الجوانب رتب المؤلف الفصول المشكلة للكتاب بكيفية كرونولوجية، لكن من خلال تجميع القضايا الكبرى على شكل مواضيع مستقلة، مع العودة كلما استوجب الأمر ذلك لمناقشة ما تناوله في الفصول السابقة.
يتناول الفصل الأول (ص 21-54)، الذي يشكل مقدمة الكتاب، "التجارة والمال والدول في حوض البحر الأبيض المتوسط"، ويعرض لمجمل هذه الجوانب قبيل قيام الدولة العثمانية والحاجة المتزايدة للنقود في العالم القديم كشرط من شروط تحقيق التواصل التجاري بين مجتمعاته، ثم يعرض لملامح السياسات الاقتصادية العثمانية ومحاولات الإدارة العثمانية المركزية إقامة نظام نقدي تحتل هي صدارته، والأولويات الاقتصادية للدولة العثمانية المتمثلة في تموين اقتصاد الحواضر بما في ذلك الجيش والقصر وموظفي الدولة، والعائدات المالية للدولة عبر جباية الضرائب وتحقيق الازدهار الاقتصادي، وأخيرا، الحفاظ على النظام القائم من خلال الحفاظ على التوازنات الاجتماعية. وينتهي هذا الفصل بتقديم المؤلف لتصوره الخاص لفترات التاريخ النقدي للإمبراطورية العثمانية.
عندما ينتهي القارئ غير الملم بالتاريخ العثماني وبطبيعة هذا التاريخ، وما تخلفت عنه من شواهد من قراءة آخر صفحة من صفحات الترجمة العربية لهذه الدراسة، قد يخرج ببعض الملاحظات مفادها أن الدولة العثمانية كانت بالفعل دولة إسلامية يحكمها نفس المنطق الذي حكم غيرها من الدول الإسلامية، لكنها تختلف عنها في كونها إمبراطورية عالمية أثرت في مجريات التاريخ العالمي بقدر ما تأثرت بها، ولم تكن لتستمر طوال ستة قرون لولا توافرها على جملة من الخصوصيات وعلى ما يكفي من مقومات تجديد ذاتها وقدرة على مسايرة ما كان يعرفه العالم المتوسطي من تقلبات رغم الأزمات، الحادة أحيانا، التي كان عليها مواجهتها. وقد يَخلًص هذا القارئ كذلك إلى أن كثيرا من الأحكام التي صدرت في حق التاريخ العثماني -أكانت من طرف كبار الباحثين من أمثال فرناند بروديل- هي في حاجة مستمرة إلى إعادة نظر وتدقيق؛ وربما أضاف الباحث العربي المهتم بالتاريخ الاقتصادي لكل ذلك. هل من سبيل إلى إنجاز أبحاث بنفس الدقة والعمق والشمولية حول المجالات العربية خلال ذات الفترة؟
اعتبارا لتعدد القضايا التي تعالجها هذه الدراسة ولكثافة المعلومات الواردة بها فقد رجحنا التوسع في تقديم مضامين فصولها الأربعة عشر قبل تقدیم بعض الملاحظات حول الدراسة نفسها وحول ترجمتها إلی اللغة العربية.
يتناول كتاب التاريخ المالي للدولة العثمانية تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية بين سنتي 1300 و1918، وهو من بين آخر ما صدر حول التاريخ النقدي والمالي للدولة العثمانية خلال السنوات الأخيرة. صدر هذا الكتاب في الأصل باللغة الإنجليزية سنة 2000 تحت عنوان A Monetary History of the Ottoman Empire ضمن سلسلة "دراسات كامبريدج عن الحضارة الإسلامية" Cambridge Studies in Islamic Civilization، وكانت ترجمته إلى اللغة التركية قد صدرت سنة قبل ذلك تحت عنوانOsmanlı İmparatorluğu’nda Paranın Tarihi، أي تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية سنة 1999، وأعيد طبعها سنتي 2000 و2003، ثم صدرت ترجمته إلى اللغة العربية سنة 2005 عن دار المدار الإسلامي ببيروت بقلم المؤرخ اللبناني عبد اللطيف الحارس.
يتكون الكتاب من مدخل وأربعة عشر فصلا، منها فصل خاص بالمقدمة، وفصل خاص بالخاتمة، كما يحتوي على خريطة واحدة وثمانية رسوم بيانية وستة عشر جدولا وثلاثة ملاحق وسبع وعشرين لوحة للنقود المعدنية والأوراق المالية العثمانية والأجنبية، إضافة إلى ثبت بالوثائق والمصادر والدراسات المعتمدة في الدراسة (ص. 463-489)، وفهرس للأعلام والمصطلحات والأماكن.
يعتبر شوكت باموك، مؤلف هذا الكتاب، من بين الباحثين الأتراك الذين أولوا اهتماما خاصا لدراسة النقود عبر التاريخ العثماني. فبعد إصداره لمجموع من الدراسات حول التاريخ الاقتصادي 1، صدر له أول عمل متكامل حول النقود العثمانية سنة 1995 تحت عنوان النقود في الإمبراطورية العثمانية، 1300-1914 كملحق للكتاب الجماعي حول التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للإمبراطورية العثمانية الذي أشرف عليه خليل إنالجيك وآخرون 2. وواصل شوكت باموك منذئذ نشر الدراسات والأبحاث ذات العلاقة بتاريخ النقود في الدولة العثمانية 3.
لا يشكل مؤلف شوكت باموك محاولة فقط لتقديم خلاصة للدراسات والمعارف المتوافرة حول تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية من بدايتها إلى الحرب العالمية الأولى، لكنه يسعى بالإضافة إلى ذلك إلى تقديم رؤيا جديدة للنظام النقدي العثماني من خلال وضع هذا النظام في أفق جغرافي وزمني ومؤسساتي طموح جدا. وهذا ما أكد عليه المؤلف في المدخل (ص 5-15) الذي خصصه لتسطير الإطار العام للكتاب وبسط أهم القضايا المنهجية والأحكام التي طالت التاريخ العثماني، والتي سيعود لمناقشتها على امتداد صفحات الكتاب. يحدد باموك الإشكالية المركزية في دراسته لتاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية باعتبارها جزءا من إشكالية "النقود والإمبراطورية وموقعهما في الاقتصاد العالمي في مطلع عصر الرأسمالية"، لكون "التفاعل القوي بين التجارة العالمية، وتدفق المعادن الثمينة والنقود يجعل تبني رؤية عالمية أمرا أساسيا لفهم كل من العصور الوسطى وبواكير المرحلة الحديثة. وهذه هي تحديدا المسألة بالنسبة للتاريخ المالي لإمبراطورية مترامية الأطراف تقع على مفترق طرق التجارة العالمية، وتتأثر دائما بتغير أوضاع التجارة، وموازين المدفوعات، وتدفق النقود. وهكذا، فإن التاريخ النقدي يقدم لنا فرصة لتجاوز المقاربات الجزئية التي قام بها العديد من المؤرخين، وكذلك للتركيز على العلاقات بين تاريخ شرقي البحر الأبيض المتوسط... وتاريخ كل من أوربا وجنوبي أسيا خلال ستة قرون". وبالفعل، سعى المؤلف، كما أكد على ذلك في أكثر من مناسبة، لتناول التاريخ النقدي للإمبراطورية العثمانية في إطار "لوحة كبيرة" تضم المجالات العثمانية بكل تنوعاتها واختلافاتها وفي علاقاتها بالأنظمة النقدية والمالية الأوروبية والأسيوية. وبعد تأكيده على أهمية اعتماد المدة الطويلةفي معالج مختلف القضايا التي يطرحها الموضوع، وقف باموك عند بعض أحكام المؤرخين الاقتصاديين التي طالت التاريخ النقدي للدولة العثمانية بخصوص تقلبات الأسعار وطبيعة السياسة الاقتصادية للدولة العثمانية وتخفيض النقد والتضخم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وطبيعة تدخل الدولة في الحفاظ على التوازنات النقدية والمالية، كما قدم بعض الاستنتاجات التي سيخلص إليها من خلال فصول الكتاب، وهي تتعلق بتجديد قراءة التاريخ المالي للدولة العثمانية وبطبيعة انخراطها في النظام النقدي العالمي على امتداد ستة قرون، وتجديد النظرة لمؤسسات الدولة العثمانية نفسها، ليؤكد في آخر هذا المدخل بأن مناقشة كل هذه القضايا لم تكن ممكنة لولا تمكنه لأول مرة من تنظيم سلسلة زمنية متكاملة لمقاييس النقود العثمانية سواء منها تلك التي كانت تضرب في مركز الإمبراطورية أو في الولايات، وهي معلومات استقاها من مختلف المصادر والوثائق والدراسات، فضلا عن الإضافات القيمة لعلم المسكوكات في هذا الإطار. من أجل مناقشة مختلف هذه الجوانب رتب المؤلف الفصول المشكلة للكتاب بكيفية كرونولوجية، لكن من خلال تجميع القضايا الكبرى على شكل مواضيع مستقلة، مع العودة كلما استوجب الأمر ذلك لمناقشة ما تناوله في الفصول السابقة.
يتناول الفصل الأول (ص 21-54)، الذي يشكل مقدمة الكتاب، "التجارة والمال والدول في حوض البحر الأبيض المتوسط"، ويعرض لمجمل هذه الجوانب قبيل قيام الدولة العثمانية والحاجة المتزايدة للنقود في العالم القديم كشرط من شروط تحقيق التواصل التجاري بين مجتمعاته، ثم يعرض لملامح السياسات الاقتصادية العثمانية ومحاولات الإدارة العثمانية المركزية إقامة نظام نقدي تحتل هي صدارته، والأولويات الاقتصادية للدولة العثمانية المتمثلة في تموين اقتصاد الحواضر بما في ذلك الجيش والقصر وموظفي الدولة، والعائدات المالية للدولة عبر جباية الضرائب وتحقيق الازدهار الاقتصادي، وأخيرا، الحفاظ على النظام القائم من خلال الحفاظ على التوازنات الاجتماعية. وينتهي هذا الفصل بتقديم المؤلف لتصوره الخاص لفترات التاريخ النقدي للإمبراطورية العثمانية.
تعليق