في غفلة من الزمان غابت الامبراطورية العثمانية من على المسرح العالمي لتخلف وراءها مخزونا وثائقيا في غاية الاهمية.
الجزيرة الوثائقي تعتبر نفسها معنية بكل عمل توثيقي يخص العالم العربي والإسلامي لتخرجه لمشاهديها إخراجا فنيا مميزا. وقد اختارت الأرشيف العثماني لتعرضه وتعتبر ذلك جزءا من وظائفها الثقافية.
حمل الفيلم عنوان لافتا : "ذاكرة قارات ثلاث - الأرشيف العثماني".
ومعلوم أن الإمبراطورية العثمانية كانت مهتمة جدا بالتوثيق وأرشفة تراثها السياسي والثقافي والديني وغيره. مما يجعل من إنتاج فيلم وثائقي حول هذا الأرشيف مسألة غاية في الأهمية. فقد امتد حكم العثمانيين بين أوروبا وآسيا وأفريقيا. وبالتالي كانت فاعلا رئيسا في أحداث العالم طيلة قرون. ومازالت تبعات الأثر العثماني إلى اليوم. وهذا الاتساع الجيوسياسي للإمبراطورية العثمانية يجعلها مخزنا كبيرا لأسرار التاريخ.
في بداية هذا الفيلم نتابع لقطات مصورة لتلك الأيام التي كانت فيها الامبراطورية حديث العام والخاص، لنفتح معا صفحة موضوع الارشيف العثماني الذي هو في الواقع أرشيف دول وسكان من مختلف الطوائف والشرائح والجنسيات، وكذلك إدارة الأعمال واسرار الجيوش والخطط السياسية والمناورات.... الاطلاع على هذا الأرشيف حجر أساس في فهم الحاضر واستشراف المستقبل بالاستناد على ما حدث في الامس، فالأرشيف هو العمود الفقري لكتابة التاريخ..
يستعين الفيلم ببعض المختصين وأيضا ببعض طلبة العلم الذين يعدّون لشهادات عليا تستند في متنها على أبحاث من هذا الأرشيف، منها طالب أجنبي جاء لإسطنبول من أجل البحث في تاريخ القرصنة الذي ساد في تلك الأيام وخاصة المصير الذي لاقاه أولئك الأفراد الذين وقعوا في الأسر، وكيف كان التعامل معهم وما الذي كان يجري في كواليس المفاوضات حول الفدية واطلاق السراح... الأرشيف العثماني كما نفهم من الفيلم يخضع لثلاث مراحل من الحفظ، وعملية تسجيل الأحداث لم تتوقف حتى في الحروب، فمثلا كان من الثابت أن يسجل عقد ملكية للبلد الذي يتم فتحه، يتضمن الموجودات والمحاصيل وعدد السكان والحيوانات وكل ما في البلد من أجل الحفاظ عليه ومعرفة الموارد والامكانيات... أهمية الأرشيف العثماني أنه ذاكرة لثلاث قارات وحوالي 40 دولة، ومن هنا جاءت تسميته بكنز الدولة، حيث نفهم سير تلك الدول وعلاقاتها وتفاعلها مع الاحداث والحضارات التي احتكت بها. إنه خارطة طريق تأخذ من الماضي وتدل على المستقبل... هذا الأرشيف يخلو من أحداث قيام الدولة العثمانية في مراحلها المبكرة التي سبقت الاستيلاء على القسطنطينية، لأسباب عديدة منها غزو تيمورلنك وإحراق مدينتي بورصة وأدرنه اللتان كانتا بمثابة العاصمة للدولة.
تنقل هذا الارشيف الضخم من مكان لآخر حسب العهود والمراحل، فمن جامعة اسطنبول إلى سجن "كوله" ثم إلى مخازن تم انشاؤها في قصر طوبقاي في منطقة السلطان أحمد ثم الى منطقة الباب العالي حيث دخل على نقل الوثائق منذئذ الطرق العصرية. وقد واجه الأرشيف مشاكل عديدة من أجل الحفاظ عليه، خاصة مع انشاء الجمهورية التركية الحديثة التي عانت بداية من فهم نوع العلاقة مع الامبراطورية المنتهية، وفي أحد المرات تم بيع الأرشيف لبلغاريا لولا تدخل الصحافة لإفشال هذه الصفقة الغريبة، ثم تم التعاقد مع خبير مجري شهير من اجل العمل على هذا الارشيف بطريقة علمية حديثة للحفاظ عليه. يسلط الفيلم ايضا الاضواء على حاضر الارشيف، وكيف يتم التعامل معه، وكذلك الآلاف من طلبة الدراسات العليا والبحاثة الذين يأتون من مختلف أنحاء العالم للتزود من هذا الكنز بالمعلومات.
هذا الفيلم هو جولة مشوقة في التاريخ من أهم أبوابه، باب الوثيقة ورحلتها بين الأماكن، حيث نقترب أكثر من اي وقت مضى من الأحداث التي وقعت كما سجلت في وقت حدوثها.