آراء الفقهاء في مسألة رؤية الجن وتشكلهم
ويحسن بنا في هذا المقام أن نبين آراء الفقهاء في مسألة رؤية الجن وتشكلهم.
1- رأي الجمهور: أن الجن يرون إذا تشكلوا في غير صورهم الأصلية، في بعض الأوقات، ولبعض الناس.
2- الفريق الثاني: يرى أن رؤية الجن مختصة بالأنبياء – عليهم السلام – فقط. وممن قال بذلك: الشافعي وابن حزم والنحاس والقشيري وبعض المحدثين.
3- الفريق الثالث: ينكر رؤية البشر للجن، سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء، وهو قول لبعض المحدثين.
4- الفريق الرابع: يتوسع في دائرة الرؤية، فيثبت رؤية الجن بصورهم الأصلية للأنبياء, ولمن اختصه الله بذلك من غير الأنبياء من البشر, وهو قول الألوسي, وابن العربي، على تفصيل سيأتي فيما بعد.
وإليك تفصيل هذه الآراء مع أدلتها:
1- رأي الجمهور من الفقهاء:
الذين قالوا بأن الجن يرون إذا تشكلوا في غير صورهم الأصلية، في بعض الأوقات ولبعض الناس.
قال محمد رشيد رضا: (والجمهور على أن الجن تتشكل) ، وقال في موطن آخر: (واختلفت فرق المسلمين في تشكله في الصور. فالجمهور يثبتونه) وقال المجلسي: (لا خلاف بين المسلمين في أن الجن والشياطين أجسام لطيفة، يرون في بعض الأحيان، ولا يرون في بعضها.. وقد جعل الله لهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة وصور متنوعة، كما هو الأظهر من الأخبار والآثار) .
ويقول محمد رشيد رضا مبيناً إمكانية رؤية الجن: (فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة البشر أو غيرهم، أمكن للبشر أن يروه، ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته الأصلية بحسب العادة، وسنة الله في خلق عالمه وعالمها) .
ويقول الإمام القرطبي: (وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة، فمنها حديث أبي هريرة الذي وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان – وذكر قصة طويلة – وفيها: أن الشيطان كان يأتيه على صورة رجل فقير، يحثو من الطعام، حتى رفع أمره إلى الرسول وأخبره أن الذي يأتيه إنما هو شيطان) .
وقد رأى ابن مسعود الجن على غير صورهم الأصلية، حين ذهب عليه الصلاة والسلام لتكليم الجن.
فقد روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أتلو القرآن على الجن، فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون، عند شعب أبي دب، فخط علي خطاً فقال: لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون، فانحدر عليه أمثال الحجل، يحدرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت: فأوحى إليّ بيده أن أجلس، فتلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إليّ قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد، فزودتهم العظم والبعر، فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر)) .
وقد جاء من طرق هذا الحديث: ((ثم انطلق – أي ابن مسعود – حتى قام عليَّ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطاً وغمغمة، حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال: أنمت؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس، حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول: اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئاً؟ قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض، فقال: أولئك جن نصيبين، سألوني المتاع، والمتاع الزاد..)) الحديث .
وفي إحدى الروايات عن ابن مسعود جاء فيها: (... فلما أصبحت قلت: لأعلمن علماً حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذهبت، فرأيت موضع مبرك ستين بعيراً)، وذلك حين ذهب الرسول ليكلم نفراً من الجن. و في هذا دلالة على أن الجن الذين كلمهم عليه الصلاة والسلام لهم أجسام، بحيث يمكن مشاهدتهم، فقد تركوا أثرا يدل على تشكلهم، وهي آثار مقاعدهم عندما كانوا مجتمعين حول الرسول عليه الصلاة والسلام.
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟ فأسكت القوم فلم يتكلم منهم أحد, قال ذلك ثلاثاً فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى خنست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز, فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستثفري ثيابهم من بين أرجلهم, فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق, فلما دنونا منهم خط لي رسول الله بإبهام رجله في الأرض خطاً فقال لي اقعد في وسطه فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة, ومضى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينهم فتلا قرآناً رفيعاً حتى طلع الفجر ثم أقبل حين مر بي فقال لي: الحق، فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد فقال لي: التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد فقلت: يا رسول الله أرى سواداً كثيراً, فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الأرض, فنظم عظماً بروثة ثم رمى به إليهم, ثم قال: رشد أولئك من وفد قوم هم وفد نصيبين, سألوني الزاد فجعلت لهم كل عظم وروثة, قال الزبير: فلا يحل لأحد أن يستنجي بعظم ولا روثة أبداً)) .
وعندما قدم ابن مسعود الكوفة، رأى شيوخاً شمطاً من الزط فراعوه، قال: (من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء نفر من الأعاجم، قال: ما رأيت للذين قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء) .
فهذه الروايات تدعم قول القائلين بإمكانية رؤية الجن، فقد ظهروا لابن مسعود وغيره مرة في صورة النسور، ومرة في صورة الحجل، ومرة في صورة رجال سود، عليهم ثياب بيض. ورآهم ابن مسعود يجتمعون حول الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرعهم بعصاه، ثم يتلو عليهم القرآن، ويطلبون منه الزاد فيزودهم العظم لهم، والروث لدوابهم.
وقد تكررت وفادات الجن على الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر الألوسي أنه كان للجن ست وفادات. وهذه الوفادات تدل على رؤية الجن من قبل ابن مسعود وغيره عند تكليم الرسول صلى الله عليه وسلم للجن ودعوتهم إلى الله.
أما حديث ابن عباس الذي يقول فيه: (ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم. انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. وأرسلت عليهم الشهب. فرجعت الشياطين إلى قومهم. فقالوا: مالكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء. وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة -وهو بنخل، عامدين إلى سوق عكاظ. وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر- فلما سمعوا القرآن استمعوا له. وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا! إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به. ولن نشرك بربنا أحداً. فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ) .
هذا الحديث الذي يبين فيه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الجن، يقول فيه ابن العربي: (وابن مسعود الذي يثبت رؤية الرسول للجن - في الحديث المتقدم – أعرف من ابن عباس لأنه شاهده، وابن عباس سمعه، وليس الخبر كالمعاينة) ، ويقول السبكي: (ويقدم قول ابن مسعود لأنه إثبات وقول ابن عباس نفي، والإثبات مقدم على النفي، لاسيما وقصة الجن كانت بمكة، وكان ابن عباس إذ ذاك طفلاً، أولم يولد بالكلية، فهو إنما يرويها عن غيره، وابن مسعود يرويها مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأولى أن يجعل كلام ابن عباس غير معارض لكلام ابن مسعود، وأن يكونا مرتين: إحداهما التي ذكرها ابن عباس، وهي التي أشار إليها القرآن في سورة الأحقاف و في سورة الجن، إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قصدهم, ولا شعر بهم, ولا رآهم, ولا قرأ عليهم قصداً، بل سمعوا قراءته وآمنوا به كما نطق بذلك الكتاب العزيز، وثبوتها من حيث الجملة قطعي) ، وهذه المرة كانت بنخلة، والثانية التي تثبت رؤية الرسول للجن وهي بمكة .
وأما قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [ الأعراف: 27]. حكاية عن إبليس وقبيله من الشياطين، فقد قال الإمام الشوكانيوقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشياطين غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك، وغاية ما فيها أنه – أي إبليس – يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً، فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً) .
ثم إن المقصود من الآية عدم رؤيتنا لهم على صورتهم الأصلية التي خلقهم الله عليها، وليس معناها انتفاء رؤيتنا لهم في حالة تشكلهم بمختلف الصور، التي ثبت تشكلهم بها، لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك. قال الحافظ ابن حجر: (إن الشيطان قد يتصور ببعض الصور، فتمكن رؤيته، وأن قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها،.. وأنهم يظهرون للإنس بالشرط المذكور) ، يقصد إذا تشكلوا بغير صورهم.
وكذلك يحمل قول الإمام الشافعي كما حملت هذه الآية على امتناع رؤيتهم بصورهم الأصلية. فقد روى البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع: (سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، إلا أن يكون نبياً) .
يقول الباقلاني: (لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها ويخلق لهم أعراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة) . ويقول في موضع آخر: (إنما رآهم من رآهم لأنهم أجساد مؤلفة وجثث) .
على أن القاضي أبي يعلى الحنبلي يعتبر أن قدرة الجن على التشكل بالصور المختلفة، ليست من خصائصهم التي أودعها الله فيهم، وإنما قدرتهم على التشكل إنما هي بتعليم الله للجن كلمات وضرباً من ضروب الأفعال، إذا قالها وفعلها، نقله الله من صورته إلى صورة الحيوان الذي تشكل به. يقول بهذا الصدد: (ولا قدرة للملائكة والشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور، وإنما يجوز أن يعلمه الله تعالى كلمات وضرباً من ضروب الأفعال، إذا فعله وتكلم به، نقله الله تعالى من صورة إلى صورة, فيقال إنه قادر على التصور والتمثيل، على معنى أنه قادر على قول إذا قاله أو فعله نقله الله تعالى من صورته إلى صورة أخرى بجري العادة، فأما أن يصور نفسه فذلك محال، لأن انتقالها من صورة إلى صورة، إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء، فإذا انتقضت بطلت الحياة، واستحال وقوع الفعل من الجملة، فكيف تنقل نفسها؟. والذي روي أن إبليس تصور في صورة سراقة بن مالك، وأن جبريل تمثل في صورة دحية الكلبي، وقوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [ مريم: 17] محمول على ما ذكرنا، وهو أنه أقدره على قول قاله، نقله الله تعالى عن صورته إلى صورة أخرى) .
وقول أبي يعلى دعوى تفتقر إلى دليل، ولا دليل عليها، بل خاصية التشكل للجن من الخصائص التي أودعها الله فيهم، وجعل لهم القدرة على ذلك فلا يكونون بذلك خارجين عن قدرة الله، بل تصرفوا في حدود ما منحهم الله إياه من القدرة على التشكل.
2- الفريق الثاني:
الذين يرون بأن رؤية الجن إنما هي مختصة بالأنبياء، كما ورد في تسخير الجن للنبي سليمان عليه السلام، وذلك قوله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ ص: 36 - 39] فالجن كانوا مرئيين وظاهرين لسليمان عليه السلام بمعجزة. وكما نعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة، وأمر تجري حوادثه خلافاً للأمور التي تجرى تبعاً للسنن الكونية .
وكما حدث للرسول محمد عليه الصلاة والسلام من رؤيته للجن في مواضع كثيرة، ... ومجيء الشيطان إليه بشعلة من نار ليحرق بها وجهه، فقال له: ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، ولولا دعوة أخيه سليمان عليه لأخذه وربطه في سارية من سواري المسجد، حتى يلعب به ولدان أهل المدينة. وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام للجن. ...
فالبشر لا يرون الجن عند هذا الفريق إلا أن يكون ذلك نبياً، فقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يرى أن رؤيتهم من الخوارق الخاصة بالأنبياء ...
وقول الإمام الشافعي المتقدم محمول على رؤيتهم بصورتهم الأصلية كما مر معنا.
وبمثل قول الشافعي قال النحاس. ففي تفسير قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [ الأعراف: 27]. قال القرطبي: (قال النحاس: مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي، ليكون ذلك دلالة على نبوته، لأن الله جل وعز خلقهم خلقاً لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم، وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) .
وقال القرطبي: (قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم) .
ومن قال بالمنع ابن حزم الظاهري، فقد قال: (وهم يروننا ولا نراهم، قال الله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ[ الأعراف: 27].. وإذ أخبرنا الله عز وجل أنا لا نراهم، فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب، إلا أن يكون نبياً من الأنبياء عليهم السلام، فذلك معجزة لهم، كما نص النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته..)) ). ثم يقول: (ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه) .
وقول ابن حزم إنما هو محمول على رؤيتهم بصورهم الأصلية، كما حمل قول الإمام الشافعي من قبل.
وروي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رؤية الجن ليست حقيقة، وإنما هي من باب التخييل.
فعن أسيد بن عمرو قال: (ذكرنا عند عمر الغيلان فقال: إنه لا يستطيع شيء أن يتحول عن خلق الله الذي خلقه، ولكن فيهم سحرة كسحرتكم، فإذا أحسستم من ذلك شيئاً فأذِّنوا) .
وعلى قول عمر فإن ظهور الجن بالصور المختلفة ليس حقيقة، وإنما هو من باب التخييل، كتخييل السحرة على الرائين. ولكن الأدلة الصحيحة تثبت رؤيتهم حقيقة وليس تخييلاً، كما حصل مع أبي هريرة في الحديث المتقدم الذي أخرجه البخاري، عندما جاءه الشيطان على صورة رجل فقير ذي عيال، وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت رؤيتهم حقيقة.
3- الفريق الثالث:
الذي ينكر حتى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن، فقد قال عبد الله النوري في جوابه على سؤال وجه إليه عن رؤية الرسول عليه السلام للجن: (لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بعينيه، وإنما أوحي إليه أن نفراً من الجن استمع إليه، قال تعالى:قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [ الجن: 1]).
وهو لا يثبت الرؤية إلا للنبي سليمان عليه السلام، كما ورد في الآيات التي تبين تسخير الجن له.
وعلى هذا فهو يخالف كل الآراء التي تجمع على رؤية النبي عليه السلام للجن، وأما بالنسبة للآية التي ذكرها، فقد كانت إخباراً من الله لنبيه بأن نفراً من الجن استمعوا إليه، وهي تشعر بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرهم في هذه المرة، ولكن وفادات الجن على الرسول عليه السلام قد تكررت عدة مرات، رآهم فيها، ...
وأما أن هذه خصوصية للنبي سليمان عليه السلام ومعجزة دالة على رسالته ـ كما قال صاحب الدعوى عبد الله النوري ـ فهي دعوى لا تمنع من تسخيرهم ورؤيتهم بعده. يقول البهي الخولي: (وإذا كان ذلك التسخير خصوصية لا تنبغي لأحد بعد سليمان فإن سر تلك الخصوصية لم ينقطع بعده) واختصاص سليمان عليه السلام بذلك إنما هو على جهة تسخيرهم في الأعمال, وبناء القصور, والقلاع وغير ذلك، وهذا لم يقل به أحد من الناس، وأنه ممكن للبشر بعده، أما أن يختص سليمان برؤيتهم دون غيره فهذا ما ترده الشواهد الدالة على إمكانية رؤية الأنبياء وغيرهم للجن. بل إن تسخيرهم لنبينا عليه الصلاة والسلام كان ممكناً عندما قال: ((فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم)) الحديث، لكن الذي منعه هو تذكره لدعوة أخيه سليمان عليه السلام: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص: 35]. وإلا فالتسخير كان ممكناً لمحمد عليه السلام، فكيف لا تكون الرؤية للجن جائزة في حقه صلى الله عليه وسلام ؟.
وبمثل هذا القول قالت القدرية بانتفاء رؤيتهم مطلقاً للأنبياء وغيرهم، يقول الباقلاني: (ومن يقر بوجودهم من القدرية يزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع منها...، ومن العلماء من قال: أنهم لا يرون، لأنهم لا ألوان لهم) .
4- الفريق الرابع:
الذي يتوسع في دائرة الرؤية، فيثبت رؤية الجن بخلقتهم الأصلية للأنبياء، ولمن اختصه الله بذلك من غير الأنبياء. قال ابن العربي: (وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة) . ويقول الألوسي: (وقد ترى - أي الجن - بصور غير صورها الأصلية، بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام، وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، ومن شاء الله تعالى من خواص عباده عز وجل) .
وأما رؤية الجن في صورتهم الأصلية لغير الأنبياء فقد روى البيهقي في الدلائل عن الحسن: أن عمار بن ياسر قال: (قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس، فسئل عن قتال الجن فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر أستقي منها، فرأيت الشيطان في صورته، فصارعني فصرعته، ثم جعلت أدمي أنفه بفهر كان معي أو حجر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إن عمار لقي الشيطان عند البئر فقاتله)), فلما رجعت سألني فأخبرته الأمر، فكان أبي هريرة رضي الله عنه يقول: إن عمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ومما تقدم لنا من الأقوال في مسألة رؤية الجن يتبين لنا أن الحق مع الفريق الذي قال بوقوع رؤيتهم للأنبياء مطلقاً ولغيرهم عند تمثلهم، وهو ما عليه الأكثرية من العلماء، وهو القول الذي تدعمه النصوص الثابتة من السنة النبوية، وهو الذي تشهد له التجربة مع كثير من الناس.
الدرر السنية - ثانيا: مدى إمكانية رؤيتهم
ويحسن بنا في هذا المقام أن نبين آراء الفقهاء في مسألة رؤية الجن وتشكلهم.
1- رأي الجمهور: أن الجن يرون إذا تشكلوا في غير صورهم الأصلية، في بعض الأوقات، ولبعض الناس.
2- الفريق الثاني: يرى أن رؤية الجن مختصة بالأنبياء – عليهم السلام – فقط. وممن قال بذلك: الشافعي وابن حزم والنحاس والقشيري وبعض المحدثين.
3- الفريق الثالث: ينكر رؤية البشر للجن، سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء، وهو قول لبعض المحدثين.
4- الفريق الرابع: يتوسع في دائرة الرؤية، فيثبت رؤية الجن بصورهم الأصلية للأنبياء, ولمن اختصه الله بذلك من غير الأنبياء من البشر, وهو قول الألوسي, وابن العربي، على تفصيل سيأتي فيما بعد.
وإليك تفصيل هذه الآراء مع أدلتها:
1- رأي الجمهور من الفقهاء:
الذين قالوا بأن الجن يرون إذا تشكلوا في غير صورهم الأصلية، في بعض الأوقات ولبعض الناس.
قال محمد رشيد رضا: (والجمهور على أن الجن تتشكل) ، وقال في موطن آخر: (واختلفت فرق المسلمين في تشكله في الصور. فالجمهور يثبتونه) وقال المجلسي: (لا خلاف بين المسلمين في أن الجن والشياطين أجسام لطيفة، يرون في بعض الأحيان، ولا يرون في بعضها.. وقد جعل الله لهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة وصور متنوعة، كما هو الأظهر من الأخبار والآثار) .
ويقول محمد رشيد رضا مبيناً إمكانية رؤية الجن: (فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة البشر أو غيرهم، أمكن للبشر أن يروه، ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته الأصلية بحسب العادة، وسنة الله في خلق عالمه وعالمها) .
ويقول الإمام القرطبي: (وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة، فمنها حديث أبي هريرة الذي وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان – وذكر قصة طويلة – وفيها: أن الشيطان كان يأتيه على صورة رجل فقير، يحثو من الطعام، حتى رفع أمره إلى الرسول وأخبره أن الذي يأتيه إنما هو شيطان) .
وقد رأى ابن مسعود الجن على غير صورهم الأصلية، حين ذهب عليه الصلاة والسلام لتكليم الجن.
فقد روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أتلو القرآن على الجن، فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون، عند شعب أبي دب، فخط علي خطاً فقال: لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون، فانحدر عليه أمثال الحجل، يحدرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت: فأوحى إليّ بيده أن أجلس، فتلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إليّ قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد، فزودتهم العظم والبعر، فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر)) .
وقد جاء من طرق هذا الحديث: ((ثم انطلق – أي ابن مسعود – حتى قام عليَّ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطاً وغمغمة، حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال: أنمت؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس، حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول: اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئاً؟ قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض، فقال: أولئك جن نصيبين، سألوني المتاع، والمتاع الزاد..)) الحديث .
وفي إحدى الروايات عن ابن مسعود جاء فيها: (... فلما أصبحت قلت: لأعلمن علماً حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذهبت، فرأيت موضع مبرك ستين بعيراً)، وذلك حين ذهب الرسول ليكلم نفراً من الجن. و في هذا دلالة على أن الجن الذين كلمهم عليه الصلاة والسلام لهم أجسام، بحيث يمكن مشاهدتهم، فقد تركوا أثرا يدل على تشكلهم، وهي آثار مقاعدهم عندما كانوا مجتمعين حول الرسول عليه الصلاة والسلام.
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟ فأسكت القوم فلم يتكلم منهم أحد, قال ذلك ثلاثاً فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى خنست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز, فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستثفري ثيابهم من بين أرجلهم, فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق, فلما دنونا منهم خط لي رسول الله بإبهام رجله في الأرض خطاً فقال لي اقعد في وسطه فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة, ومضى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينهم فتلا قرآناً رفيعاً حتى طلع الفجر ثم أقبل حين مر بي فقال لي: الحق، فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد فقال لي: التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد فقلت: يا رسول الله أرى سواداً كثيراً, فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الأرض, فنظم عظماً بروثة ثم رمى به إليهم, ثم قال: رشد أولئك من وفد قوم هم وفد نصيبين, سألوني الزاد فجعلت لهم كل عظم وروثة, قال الزبير: فلا يحل لأحد أن يستنجي بعظم ولا روثة أبداً)) .
وعندما قدم ابن مسعود الكوفة، رأى شيوخاً شمطاً من الزط فراعوه، قال: (من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء نفر من الأعاجم، قال: ما رأيت للذين قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء) .
فهذه الروايات تدعم قول القائلين بإمكانية رؤية الجن، فقد ظهروا لابن مسعود وغيره مرة في صورة النسور، ومرة في صورة الحجل، ومرة في صورة رجال سود، عليهم ثياب بيض. ورآهم ابن مسعود يجتمعون حول الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرعهم بعصاه، ثم يتلو عليهم القرآن، ويطلبون منه الزاد فيزودهم العظم لهم، والروث لدوابهم.
وقد تكررت وفادات الجن على الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر الألوسي أنه كان للجن ست وفادات. وهذه الوفادات تدل على رؤية الجن من قبل ابن مسعود وغيره عند تكليم الرسول صلى الله عليه وسلم للجن ودعوتهم إلى الله.
أما حديث ابن عباس الذي يقول فيه: (ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم. انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. وأرسلت عليهم الشهب. فرجعت الشياطين إلى قومهم. فقالوا: مالكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء. وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة -وهو بنخل، عامدين إلى سوق عكاظ. وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر- فلما سمعوا القرآن استمعوا له. وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا! إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به. ولن نشرك بربنا أحداً. فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ) .
هذا الحديث الذي يبين فيه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الجن، يقول فيه ابن العربي: (وابن مسعود الذي يثبت رؤية الرسول للجن - في الحديث المتقدم – أعرف من ابن عباس لأنه شاهده، وابن عباس سمعه، وليس الخبر كالمعاينة) ، ويقول السبكي: (ويقدم قول ابن مسعود لأنه إثبات وقول ابن عباس نفي، والإثبات مقدم على النفي، لاسيما وقصة الجن كانت بمكة، وكان ابن عباس إذ ذاك طفلاً، أولم يولد بالكلية، فهو إنما يرويها عن غيره، وابن مسعود يرويها مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأولى أن يجعل كلام ابن عباس غير معارض لكلام ابن مسعود، وأن يكونا مرتين: إحداهما التي ذكرها ابن عباس، وهي التي أشار إليها القرآن في سورة الأحقاف و في سورة الجن، إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قصدهم, ولا شعر بهم, ولا رآهم, ولا قرأ عليهم قصداً، بل سمعوا قراءته وآمنوا به كما نطق بذلك الكتاب العزيز، وثبوتها من حيث الجملة قطعي) ، وهذه المرة كانت بنخلة، والثانية التي تثبت رؤية الرسول للجن وهي بمكة .
وأما قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [ الأعراف: 27]. حكاية عن إبليس وقبيله من الشياطين، فقد قال الإمام الشوكانيوقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشياطين غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك، وغاية ما فيها أنه – أي إبليس – يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً، فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً) .
ثم إن المقصود من الآية عدم رؤيتنا لهم على صورتهم الأصلية التي خلقهم الله عليها، وليس معناها انتفاء رؤيتنا لهم في حالة تشكلهم بمختلف الصور، التي ثبت تشكلهم بها، لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك. قال الحافظ ابن حجر: (إن الشيطان قد يتصور ببعض الصور، فتمكن رؤيته، وأن قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها،.. وأنهم يظهرون للإنس بالشرط المذكور) ، يقصد إذا تشكلوا بغير صورهم.
وكذلك يحمل قول الإمام الشافعي كما حملت هذه الآية على امتناع رؤيتهم بصورهم الأصلية. فقد روى البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع: (سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، إلا أن يكون نبياً) .
يقول الباقلاني: (لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها ويخلق لهم أعراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة) . ويقول في موضع آخر: (إنما رآهم من رآهم لأنهم أجساد مؤلفة وجثث) .
على أن القاضي أبي يعلى الحنبلي يعتبر أن قدرة الجن على التشكل بالصور المختلفة، ليست من خصائصهم التي أودعها الله فيهم، وإنما قدرتهم على التشكل إنما هي بتعليم الله للجن كلمات وضرباً من ضروب الأفعال، إذا قالها وفعلها، نقله الله من صورته إلى صورة الحيوان الذي تشكل به. يقول بهذا الصدد: (ولا قدرة للملائكة والشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور، وإنما يجوز أن يعلمه الله تعالى كلمات وضرباً من ضروب الأفعال، إذا فعله وتكلم به، نقله الله تعالى من صورة إلى صورة, فيقال إنه قادر على التصور والتمثيل، على معنى أنه قادر على قول إذا قاله أو فعله نقله الله تعالى من صورته إلى صورة أخرى بجري العادة، فأما أن يصور نفسه فذلك محال، لأن انتقالها من صورة إلى صورة، إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء، فإذا انتقضت بطلت الحياة، واستحال وقوع الفعل من الجملة، فكيف تنقل نفسها؟. والذي روي أن إبليس تصور في صورة سراقة بن مالك، وأن جبريل تمثل في صورة دحية الكلبي، وقوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [ مريم: 17] محمول على ما ذكرنا، وهو أنه أقدره على قول قاله، نقله الله تعالى عن صورته إلى صورة أخرى) .
وقول أبي يعلى دعوى تفتقر إلى دليل، ولا دليل عليها، بل خاصية التشكل للجن من الخصائص التي أودعها الله فيهم، وجعل لهم القدرة على ذلك فلا يكونون بذلك خارجين عن قدرة الله، بل تصرفوا في حدود ما منحهم الله إياه من القدرة على التشكل.
2- الفريق الثاني:
الذين يرون بأن رؤية الجن إنما هي مختصة بالأنبياء، كما ورد في تسخير الجن للنبي سليمان عليه السلام، وذلك قوله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ ص: 36 - 39] فالجن كانوا مرئيين وظاهرين لسليمان عليه السلام بمعجزة. وكما نعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة، وأمر تجري حوادثه خلافاً للأمور التي تجرى تبعاً للسنن الكونية .
وكما حدث للرسول محمد عليه الصلاة والسلام من رؤيته للجن في مواضع كثيرة، ... ومجيء الشيطان إليه بشعلة من نار ليحرق بها وجهه، فقال له: ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، ولولا دعوة أخيه سليمان عليه لأخذه وربطه في سارية من سواري المسجد، حتى يلعب به ولدان أهل المدينة. وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام للجن. ...
فالبشر لا يرون الجن عند هذا الفريق إلا أن يكون ذلك نبياً، فقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يرى أن رؤيتهم من الخوارق الخاصة بالأنبياء ...
وقول الإمام الشافعي المتقدم محمول على رؤيتهم بصورتهم الأصلية كما مر معنا.
وبمثل قول الشافعي قال النحاس. ففي تفسير قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [ الأعراف: 27]. قال القرطبي: (قال النحاس: مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي، ليكون ذلك دلالة على نبوته، لأن الله جل وعز خلقهم خلقاً لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم، وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) .
وقال القرطبي: (قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم) .
ومن قال بالمنع ابن حزم الظاهري، فقد قال: (وهم يروننا ولا نراهم، قال الله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ[ الأعراف: 27].. وإذ أخبرنا الله عز وجل أنا لا نراهم، فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب، إلا أن يكون نبياً من الأنبياء عليهم السلام، فذلك معجزة لهم، كما نص النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته..)) ). ثم يقول: (ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه) .
وقول ابن حزم إنما هو محمول على رؤيتهم بصورهم الأصلية، كما حمل قول الإمام الشافعي من قبل.
وروي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رؤية الجن ليست حقيقة، وإنما هي من باب التخييل.
فعن أسيد بن عمرو قال: (ذكرنا عند عمر الغيلان فقال: إنه لا يستطيع شيء أن يتحول عن خلق الله الذي خلقه، ولكن فيهم سحرة كسحرتكم، فإذا أحسستم من ذلك شيئاً فأذِّنوا) .
وعلى قول عمر فإن ظهور الجن بالصور المختلفة ليس حقيقة، وإنما هو من باب التخييل، كتخييل السحرة على الرائين. ولكن الأدلة الصحيحة تثبت رؤيتهم حقيقة وليس تخييلاً، كما حصل مع أبي هريرة في الحديث المتقدم الذي أخرجه البخاري، عندما جاءه الشيطان على صورة رجل فقير ذي عيال، وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت رؤيتهم حقيقة.
3- الفريق الثالث:
الذي ينكر حتى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن، فقد قال عبد الله النوري في جوابه على سؤال وجه إليه عن رؤية الرسول عليه السلام للجن: (لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بعينيه، وإنما أوحي إليه أن نفراً من الجن استمع إليه، قال تعالى:قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [ الجن: 1]).
وهو لا يثبت الرؤية إلا للنبي سليمان عليه السلام، كما ورد في الآيات التي تبين تسخير الجن له.
وعلى هذا فهو يخالف كل الآراء التي تجمع على رؤية النبي عليه السلام للجن، وأما بالنسبة للآية التي ذكرها، فقد كانت إخباراً من الله لنبيه بأن نفراً من الجن استمعوا إليه، وهي تشعر بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرهم في هذه المرة، ولكن وفادات الجن على الرسول عليه السلام قد تكررت عدة مرات، رآهم فيها، ...
وأما أن هذه خصوصية للنبي سليمان عليه السلام ومعجزة دالة على رسالته ـ كما قال صاحب الدعوى عبد الله النوري ـ فهي دعوى لا تمنع من تسخيرهم ورؤيتهم بعده. يقول البهي الخولي: (وإذا كان ذلك التسخير خصوصية لا تنبغي لأحد بعد سليمان فإن سر تلك الخصوصية لم ينقطع بعده) واختصاص سليمان عليه السلام بذلك إنما هو على جهة تسخيرهم في الأعمال, وبناء القصور, والقلاع وغير ذلك، وهذا لم يقل به أحد من الناس، وأنه ممكن للبشر بعده، أما أن يختص سليمان برؤيتهم دون غيره فهذا ما ترده الشواهد الدالة على إمكانية رؤية الأنبياء وغيرهم للجن. بل إن تسخيرهم لنبينا عليه الصلاة والسلام كان ممكناً عندما قال: ((فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم)) الحديث، لكن الذي منعه هو تذكره لدعوة أخيه سليمان عليه السلام: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص: 35]. وإلا فالتسخير كان ممكناً لمحمد عليه السلام، فكيف لا تكون الرؤية للجن جائزة في حقه صلى الله عليه وسلام ؟.
وبمثل هذا القول قالت القدرية بانتفاء رؤيتهم مطلقاً للأنبياء وغيرهم، يقول الباقلاني: (ومن يقر بوجودهم من القدرية يزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع منها...، ومن العلماء من قال: أنهم لا يرون، لأنهم لا ألوان لهم) .
4- الفريق الرابع:
الذي يتوسع في دائرة الرؤية، فيثبت رؤية الجن بخلقتهم الأصلية للأنبياء، ولمن اختصه الله بذلك من غير الأنبياء. قال ابن العربي: (وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة) . ويقول الألوسي: (وقد ترى - أي الجن - بصور غير صورها الأصلية، بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام، وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، ومن شاء الله تعالى من خواص عباده عز وجل) .
وأما رؤية الجن في صورتهم الأصلية لغير الأنبياء فقد روى البيهقي في الدلائل عن الحسن: أن عمار بن ياسر قال: (قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس، فسئل عن قتال الجن فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر أستقي منها، فرأيت الشيطان في صورته، فصارعني فصرعته، ثم جعلت أدمي أنفه بفهر كان معي أو حجر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إن عمار لقي الشيطان عند البئر فقاتله)), فلما رجعت سألني فأخبرته الأمر، فكان أبي هريرة رضي الله عنه يقول: إن عمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ومما تقدم لنا من الأقوال في مسألة رؤية الجن يتبين لنا أن الحق مع الفريق الذي قال بوقوع رؤيتهم للأنبياء مطلقاً ولغيرهم عند تمثلهم، وهو ما عليه الأكثرية من العلماء، وهو القول الذي تدعمه النصوص الثابتة من السنة النبوية، وهو الذي تشهد له التجربة مع كثير من الناس.
الدرر السنية - ثانيا: مدى إمكانية رؤيتهم
تعليق