الأساطير العربية
الأساطير العربية حكايات نقلها العرب جيلاً بعد جيل بوساطة الرواية تدور حول موضوعات شتى منها الآلهة والأحداث الخارقة، وتختلف عن الخرافات والملاحم التي تسجل أفعال العرب الإنسانية أو التي ابتكرت لأغراض التعليم والتسلية. وقد ورد مصطلح أساطير في القرآن الكريم، مرتبطًا بالتصورات الدينية والاعتقادية، الطقوسية والمعرفية، الروحية والفكرية وذلك في تسعة مواضع في ثماني سور مكية وواحدة مدنية بصيغة الجمع "أساطير الأولين" حيث تحرج المفسرون من تعريفها كمعتقد ديني، واكتفوا بنعتها "بالأباطيل والأكاذيب من زخرف القول".
وليس محض مصادفة أن يكون معظم الحديث عن "أساطير الأولين" في السور المكية؛ أي في سياق بث الدعوة الإسلامية في سنواتها الأولى، من أجل نشر المعتقد (الإسلامي) الجديد على أنقاض المعتقدات الأسطورية (الوثنية) التي كانت ذائعة في الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام.
أسباب اندثار الأسطورة.
الأساطير بالمعنى الاصطلاحي الذي أكده القرآن الكريم تؤكد أن العرب، شأنهم شأن سائر الشعوب، قد مروا بالمرحلة الأسطورية، وأن لهم تراثًا أسطوريًا يعكس رؤيتهم وموقفهم من الكون والعالم والوجود منذ جاهليتهم الأولى، على عكس ما أنكر المنكرون من المستشرقين وهو إنكار ينطوي على اتهام للعقل العربي وللمخيلة العربية بالعجز والقصور.
غير أن هذه الأساطير ـ على كثرتها ـ ما لبثت بعد انتصار الدين الجديد ـ أن أخذت في التبدد والتلاشي باعتبارها تراثًا وثنيًا.
ولم يكن ذلك في صدر الإسلام إبان عهد النبوة والخلافة الراشدة فحسب، بل استمر ذلك في العصور اللاحقة، حيث وقف فقهاء المسلمين من هذه الأساطير (الجاهلية) موقفًا حاسمًا بلغ حد القطيعة المعرفية بين موروث العصور الجاهلية من ناحية، وتراث الإسلام من ناحية أخرى. ثم شايعهم في ذلك الرواة والعلماء المسلمون ـ إبان عصر التدوين ـ فقد أصابهم جميعًا حرج ديني بالغ في رواية هذه الأساطير، بل تدوينها. وكان طبيعيًا في ضوء هذه القطيعة، واتساع المسافة الزمنية ـ بين العصر الجاهلي وازدهار عصر التدوين ـ أن تندثر معظم الأساطير العربية بعد أن فقدت وظائفها الدينية والمعرفية، وأن تندثر معها تفاصيلها الطقوسية الدقيقة وأخيلتها من الذاكرة التاريخية، علي نحو ما حدث عندما كتب محمد بن إسحاق (ت 152هـ، 769م)
السيرة النبوية، وكان قد ضمنها بعضًا من أخبار الجاهلية الأولى التي لم تكن إلا مادة أسطورية. جاء من بعده ابن هشام (ت 213هـ، 828م) فعمد إلى إسقاط هذه المادة الأسطورية على نحو شبه كامل ـ برغم ضخامتها ـ حتى نسبت إليه السيرة دون ابن إسحاق.
وعلى الرغم من أن هذه القطيعة الدينية والثقافية والتدوينية قد فعلت فعلها الهائل في اندثار الأساطير العربية، بعد أن فقدت وظائفها، وانفرط عقدها، فإن مادتها التي علقت بالذاكرة الجمعية أو العقلية الأسطورية للعامة، لم تتبدد، وإنما تحللت أو تحولت إلى "عناصر" أسطورية استطاعت أن تتسرب ـ في كثير منها ـ إلى الثقافة العربية الإسلامية، بشقيها الشفاهي والكتابي، وأن تتبدى تجلياتها على شكل ممارسات أو عادات سحرية، أو على شكل عادات وطقوس لا معقولة، أو على شكل سلوك وثني موروث، أو على شكل معتقد شعبي لا إسلامي، أو غير ذلك مما هو سائد في العادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية العربية ذات الجذور الأسطورية التي لاتزال فاعلة في الذات العربية العامة ـ ربما إلى اليوم ـ التي استطاعت أيضًا أن تعرف طريقها إلى التسجيل والتدوين في المصادر العربية القديمة، بشكل مباشر أو غير مباشر، على نحو ما جاء في المصادر الدينية ومصادر التفسير وقصص الأنبياء، وكذلك كتب الملل والنحل وما كتب عن الأصنام، وكتب الأدب ومعاجم اللغة، ومصادر الشعر الجاهلي وكتب الأمثال، وكتب المغازي والفتوح ومعاجم البلدان، وكتب الأخبار والأنساب والتراجم والسير التاريخية والشعبية، وكتب الحيوان، وعجائب المخلوقات وغرائب الموجودات وغيرها.
نماذج من الأساطير العربية.
على الرغم من أن المادة الأسطورية جاءت ـ في معظمها ـ مقتطعة من سياقها السوسيو ـ ديني أو الثقافي، إلا أنها تؤكد أن العرب قد عرفوا الأساطير بكل أنواعها : الأساطير الكونية (أساطير الخلق والتكوين) والأساطير الطقوسية (الدينية) والأساطير التعليمية، والأساطير الرمزية، والأساطير الحضارية، وأساطير البطل المؤلَّه ونظائره من الكائنات الخارقة في العصور الجاهلية السحيقة والمتأخرة.
ويستطيع الباحث في هذه المادة الأسطورية أن يفرق بين أمرين بشأن تدوينها في كتب التراث؛ فبعضها حفل بتدوين أساطير عربية متكاملة أو شبه متكاملة، وإن وردت مجملة أو شديدة الإيجاز، ومنتزعة من سياقها الطقسي أو الشعائري، وبعضها اكتفى بتدوين بعض أجزاء منها فيما يعرف باسم "العناصر" الأسطورية
وهذه العناصر هي التي أطلق عليها الجاحظ (ت 255هـ، 868م) مصطلح أوابد العرب ومنها ـ على سبيل المثال ـ إيمان العرب في جاهليتهم بالهامة والصدى، وإلقاء سن الثغر إلى الشمس، وجزّ ناصية الفارس الأسير (حيث الشعر مكمن القوة)، ومنها الإيمان بالسحر والكهانة والعيافة، والتطير وزجر الطير، وشق الرداء، وخدر الرِّجل واختلاج العين ... إلخ
. ومنها معتقدات العرب المعروفة باسم نيران العرب بكل أنواعها ورموزها الاعتقادية والسحرية والعلاماتية (السيميائية) التي أفاض أيضًا في ذكرها النويري (ت 732هـ، 1331هـ). ومنها الإيمان بالرئيّ والعمار والهاتف، وكذلك الغيلان والسعالي، وقدرتها على التحول والتشكل في أية صورة تشاء، ولاسيما السعالي من سحرة الجن التي تتشكل على هيئة فتاة حسناء أو أم تنادي وليدها وتتراءى للمسافر في القفار أو للساري في الخلوات، فيتبعها، فتفترسه، وقد تتزوج به، وغير ذلك من "عناصر" ذات طابع أو أصل أسطوري، مما نهى عنه الإسلام صراحة "لا هامة ولا صفر ولا غول ...إلخ" وما أكثر ما وصلنا من هذه العناصر الأسطورية في كتب الأمثال والأخبار والحيوان وعجائب المخلوقات.
أما المادة الأسطورية التي وصلتنا فهي، على شدة إيجازها، شبه كاملة أو كاملة فهي كثيرة؛ فثمة أساطير كونية تتعلق بالخلق والتكوين، وقد عرفت طريقها إلى التدوين في كتب الأخبار والتواريخ الموسوعية، وبعض الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة. وثمة أساطير تتعلق بالمعتقدات الدينية، فقد كان للعرب آلهتهم في الجاهلية الأولى والثانية، وعرفوا ـ مثل سائر شعوب المنطقة ـ عبادة الآلهة الشمسية والقمرية،
وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن﴾ فصلت: 37. وما أكثر آلهة العرب في الجاهلية، وما أكثر أصنامهم وأوثانهم وأنصابهم الرامزة إلى هذه الآلهة، في مراحل عقائدية متلاحقة ومتداخلة، مثال ذلك الآلهة الشمسية اللات (إلهة الخصب والحب والجمال) ومثلها العزّى، أو الآلهة القمرية مناة باعتبارها إلهة الموت أو المنية التي ورد ذكرها في سورة النجم (53 : 20). وكان لهذه الآلهة جميعها طقوسها وشعائرها، كما يروي ابن الكلبي (ت 146هـ، 763م) ومنها أن قريشًا حينما كانت تطوف بالكعبة قبيل الإسلام، تنشد (وهذا هو المنطوق القولي للأسطورة) وتقول: واللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. وكانت العرب تزعم أن هذه الآلهة هي المدبرة للعالم بخيره وشره. كما عبدوا الكواكب والنجوم السيارة، ومن أشهرها "الزهرة" آلهة الجمال والحب والإغراء في الميثولوجيا العربية، وهذه الآلهة هي التي كانوا يعتقدون أنها أوقعت أعظم ملكيْن ـ علمًا ودينًا ـ في شراك إغرائها، وهما هاروت وماروت
وتروي الأسطورة أنها طلبت منهما أن يعلماها الكلام الذي يصعدان به إلى السماء، فعلّماها، وعرجت إلى السماء، وهناك نسيت ما تنزل به إلى الأرض، فبقيت هناك، وأصبحت ذلك الكوكب الجميل، كوكب الحب والحسن والغناء والسرور عند العرب.
ومثلها أسطورة إساف ونائلة وما يرتبط بعبادتهما من التلابي (وهي الأدعية الدينية المصاحبة لطقوس الحج في الجاهلية). وثمة بقايا أسطورية أخرى تشير إلى أن العرب أيضًا ـ في جاهليتهم الأولى ـ قد عرفوا تقديس الحيوان (ومن ثم تحريم ذبحه) فضلاً عن عبادته إبان المرحلة الطوطمية، وكذلك تقديس بعض الشجر مثل شجرة الخلصة، وشجرة ذات أنواط كما عرف العرب أيضًا عبادة الجن والملائكة، كما قدسوا بعض الظواهر الطبيعية كالمطر والاستسقاء بالأنواء، وقوس قزح، وكان "قزح" هو إله الرعد والبرق والمطر عند العرب، ثم في مرحلة متأخرة صار إله الحرب، كما كان "هبل" إله الخصب والرزق. كذلك قدس العرب النار (نار المزدلفة) كما كانت لهم تصوراتهم الميثولوجية عن الملائكة ومآثرهم، والشياطين وفعالهم منها أسطورة شياطين الشعراء ـ مثلاً ـ في وادي عبقر، وهي أسطورة تعليلية شارحة في تفسير الإلهام الشعري، ولها نظائرها في أساطير الشعوب.
وللعرب كثير من الأساطير التعليلية التي تتعلق بعالم النجوم (أسطورة الثريا والدبران) أو بعالم الطبيعة، وعالم النبات، وعالم الحيوان الذي كان الجاحظ أول من أفاض في ذكر أساطيره، وكذلك في الأساطير التي تتعلق بعالم الجن والسعالي والغيلان، والعلاقة بينها وبين عالم الإنسان من عشق وزواج كان من نتاجه المشترك ـ مثلاً ـ بلقيس ملكة سبأ، أو ما وقع بينهما من معارك وحروب ضارية. وما يرتبط بذلك كله من أعمال السحر والكهانة والعرافة والقيافة وتسخير الجن.
وثمة أساطير تاريخية تتعلق بذكر قصص العرب البائدة الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم والشعر الجاهلي. وقد وقفت عندها المصادر التاريخية المبكرة وكتب الأخبار والتفاسير، مثل إرم ذات العماد، وثمود وعاد، وطسم وجديس وجرهم والعماليق وغيرهم وما يتعلق بتاريخهم من حروب، أو بمعتقداتهم من آلهة، مثل الإله الشمسي "سمو إيل" بمعنى الإله صاحب السمو في مدينة جو باليمامة (السموءل قبل أن تختلط الأسطورة بالمرويات التاريخية والشعبية الإسلامية المتأخرة). فضلاً عن بعض الأساطير التي تتعلق بظهور المدن وإنشاء السدود مثل؛ سد مأرب، وبناء بعض القصور والحصون والمعابد وبيوت الآلهة مثل؛ قصر غمدان أو الخورنق والسدير ومثل حصن الأبلق وحصن مارد في منطقة الجوف في عصر العماليق.
كما عرف العرب أيضًا الأساطير الحضارية، فضلاً عن أساطير بعض المخلوقات أو الكائنات الخارقة، وبعضها موغل في القدم، مثل أسطورة عوج بن عنق أو عناق، وأسطورة زرقاء اليمامة، الكاهنة التي كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام. وبعضها حديث نسبيا، مثل أسطورة الكاهن شق؛ وقد سمي بذلك لأنه ولد بشق واحد، وبيد ورجل وعين واحدة وأسطورة الكاهن سطيح الذي كان يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة. وتروى عن كليهما قصص عجيبة وأحاديث غريبة ذات طابع أسطوري بحت.
الملامح العالمية للأسطورة العربية. الملامح العامة للأساطير العربية (من حيث هي قصة، تحكمها مبادئ السرد القصصي) هي الملامح ذاتها في الميثولوجيا العالمية. فهي تتضمن حدثًا خارقًا لفاعل خارق (إله أو شبه إله أو كائن فوق طبيعي) وهي بهذا الحدث المقدس تختلف اختلافًا جذريًا عن سائر أنماط التعبير القصصي الشعبي والملحمي والدرامي. وقد يكون هذا الحدث الأسطوري الخارق بسيطًا يتكون من عنصر قصصي واحد (وحدة حكائية)، وقد يكون مركبًا من عدد من الوحدات الحكائية. ويقع هذا الحدث الميثولوجي دائمًا في الزمن الأسطوري القديم، زمن البدايات المقدسة، وفي الحيِّز الأسطوري، حيث الأمكنة الأسطورية لا تملك واقعًا جغرافيًا محددًا أو يتسم بأية خاصية جغرافية حقيقية.
إن مثل هذا التراث الميثولوجي للعرب، الذي يبدو في نظر البعض تراثًا خرافيًا أو لا معقولاً، هو تراث جدير بالدرس والتحليل باعتباره من أهم أعمدة التراث العربي
وليس محض مصادفة أن يكون معظم الحديث عن "أساطير الأولين" في السور المكية؛ أي في سياق بث الدعوة الإسلامية في سنواتها الأولى، من أجل نشر المعتقد (الإسلامي) الجديد على أنقاض المعتقدات الأسطورية (الوثنية) التي كانت ذائعة في الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام.
أسباب اندثار الأسطورة.
الأساطير بالمعنى الاصطلاحي الذي أكده القرآن الكريم تؤكد أن العرب، شأنهم شأن سائر الشعوب، قد مروا بالمرحلة الأسطورية، وأن لهم تراثًا أسطوريًا يعكس رؤيتهم وموقفهم من الكون والعالم والوجود منذ جاهليتهم الأولى، على عكس ما أنكر المنكرون من المستشرقين وهو إنكار ينطوي على اتهام للعقل العربي وللمخيلة العربية بالعجز والقصور.
غير أن هذه الأساطير ـ على كثرتها ـ ما لبثت بعد انتصار الدين الجديد ـ أن أخذت في التبدد والتلاشي باعتبارها تراثًا وثنيًا.
ولم يكن ذلك في صدر الإسلام إبان عهد النبوة والخلافة الراشدة فحسب، بل استمر ذلك في العصور اللاحقة، حيث وقف فقهاء المسلمين من هذه الأساطير (الجاهلية) موقفًا حاسمًا بلغ حد القطيعة المعرفية بين موروث العصور الجاهلية من ناحية، وتراث الإسلام من ناحية أخرى. ثم شايعهم في ذلك الرواة والعلماء المسلمون ـ إبان عصر التدوين ـ فقد أصابهم جميعًا حرج ديني بالغ في رواية هذه الأساطير، بل تدوينها. وكان طبيعيًا في ضوء هذه القطيعة، واتساع المسافة الزمنية ـ بين العصر الجاهلي وازدهار عصر التدوين ـ أن تندثر معظم الأساطير العربية بعد أن فقدت وظائفها الدينية والمعرفية، وأن تندثر معها تفاصيلها الطقوسية الدقيقة وأخيلتها من الذاكرة التاريخية، علي نحو ما حدث عندما كتب محمد بن إسحاق (ت 152هـ، 769م)
السيرة النبوية، وكان قد ضمنها بعضًا من أخبار الجاهلية الأولى التي لم تكن إلا مادة أسطورية. جاء من بعده ابن هشام (ت 213هـ، 828م) فعمد إلى إسقاط هذه المادة الأسطورية على نحو شبه كامل ـ برغم ضخامتها ـ حتى نسبت إليه السيرة دون ابن إسحاق.
وعلى الرغم من أن هذه القطيعة الدينية والثقافية والتدوينية قد فعلت فعلها الهائل في اندثار الأساطير العربية، بعد أن فقدت وظائفها، وانفرط عقدها، فإن مادتها التي علقت بالذاكرة الجمعية أو العقلية الأسطورية للعامة، لم تتبدد، وإنما تحللت أو تحولت إلى "عناصر" أسطورية استطاعت أن تتسرب ـ في كثير منها ـ إلى الثقافة العربية الإسلامية، بشقيها الشفاهي والكتابي، وأن تتبدى تجلياتها على شكل ممارسات أو عادات سحرية، أو على شكل عادات وطقوس لا معقولة، أو على شكل سلوك وثني موروث، أو على شكل معتقد شعبي لا إسلامي، أو غير ذلك مما هو سائد في العادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية العربية ذات الجذور الأسطورية التي لاتزال فاعلة في الذات العربية العامة ـ ربما إلى اليوم ـ التي استطاعت أيضًا أن تعرف طريقها إلى التسجيل والتدوين في المصادر العربية القديمة، بشكل مباشر أو غير مباشر، على نحو ما جاء في المصادر الدينية ومصادر التفسير وقصص الأنبياء، وكذلك كتب الملل والنحل وما كتب عن الأصنام، وكتب الأدب ومعاجم اللغة، ومصادر الشعر الجاهلي وكتب الأمثال، وكتب المغازي والفتوح ومعاجم البلدان، وكتب الأخبار والأنساب والتراجم والسير التاريخية والشعبية، وكتب الحيوان، وعجائب المخلوقات وغرائب الموجودات وغيرها.
نماذج من الأساطير العربية.
على الرغم من أن المادة الأسطورية جاءت ـ في معظمها ـ مقتطعة من سياقها السوسيو ـ ديني أو الثقافي، إلا أنها تؤكد أن العرب قد عرفوا الأساطير بكل أنواعها : الأساطير الكونية (أساطير الخلق والتكوين) والأساطير الطقوسية (الدينية) والأساطير التعليمية، والأساطير الرمزية، والأساطير الحضارية، وأساطير البطل المؤلَّه ونظائره من الكائنات الخارقة في العصور الجاهلية السحيقة والمتأخرة.
ويستطيع الباحث في هذه المادة الأسطورية أن يفرق بين أمرين بشأن تدوينها في كتب التراث؛ فبعضها حفل بتدوين أساطير عربية متكاملة أو شبه متكاملة، وإن وردت مجملة أو شديدة الإيجاز، ومنتزعة من سياقها الطقسي أو الشعائري، وبعضها اكتفى بتدوين بعض أجزاء منها فيما يعرف باسم "العناصر" الأسطورية
وهذه العناصر هي التي أطلق عليها الجاحظ (ت 255هـ، 868م) مصطلح أوابد العرب ومنها ـ على سبيل المثال ـ إيمان العرب في جاهليتهم بالهامة والصدى، وإلقاء سن الثغر إلى الشمس، وجزّ ناصية الفارس الأسير (حيث الشعر مكمن القوة)، ومنها الإيمان بالسحر والكهانة والعيافة، والتطير وزجر الطير، وشق الرداء، وخدر الرِّجل واختلاج العين ... إلخ
. ومنها معتقدات العرب المعروفة باسم نيران العرب بكل أنواعها ورموزها الاعتقادية والسحرية والعلاماتية (السيميائية) التي أفاض أيضًا في ذكرها النويري (ت 732هـ، 1331هـ). ومنها الإيمان بالرئيّ والعمار والهاتف، وكذلك الغيلان والسعالي، وقدرتها على التحول والتشكل في أية صورة تشاء، ولاسيما السعالي من سحرة الجن التي تتشكل على هيئة فتاة حسناء أو أم تنادي وليدها وتتراءى للمسافر في القفار أو للساري في الخلوات، فيتبعها، فتفترسه، وقد تتزوج به، وغير ذلك من "عناصر" ذات طابع أو أصل أسطوري، مما نهى عنه الإسلام صراحة "لا هامة ولا صفر ولا غول ...إلخ" وما أكثر ما وصلنا من هذه العناصر الأسطورية في كتب الأمثال والأخبار والحيوان وعجائب المخلوقات.
أما المادة الأسطورية التي وصلتنا فهي، على شدة إيجازها، شبه كاملة أو كاملة فهي كثيرة؛ فثمة أساطير كونية تتعلق بالخلق والتكوين، وقد عرفت طريقها إلى التدوين في كتب الأخبار والتواريخ الموسوعية، وبعض الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة. وثمة أساطير تتعلق بالمعتقدات الدينية، فقد كان للعرب آلهتهم في الجاهلية الأولى والثانية، وعرفوا ـ مثل سائر شعوب المنطقة ـ عبادة الآلهة الشمسية والقمرية،
وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن﴾ فصلت: 37. وما أكثر آلهة العرب في الجاهلية، وما أكثر أصنامهم وأوثانهم وأنصابهم الرامزة إلى هذه الآلهة، في مراحل عقائدية متلاحقة ومتداخلة، مثال ذلك الآلهة الشمسية اللات (إلهة الخصب والحب والجمال) ومثلها العزّى، أو الآلهة القمرية مناة باعتبارها إلهة الموت أو المنية التي ورد ذكرها في سورة النجم (53 : 20). وكان لهذه الآلهة جميعها طقوسها وشعائرها، كما يروي ابن الكلبي (ت 146هـ، 763م) ومنها أن قريشًا حينما كانت تطوف بالكعبة قبيل الإسلام، تنشد (وهذا هو المنطوق القولي للأسطورة) وتقول: واللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. وكانت العرب تزعم أن هذه الآلهة هي المدبرة للعالم بخيره وشره. كما عبدوا الكواكب والنجوم السيارة، ومن أشهرها "الزهرة" آلهة الجمال والحب والإغراء في الميثولوجيا العربية، وهذه الآلهة هي التي كانوا يعتقدون أنها أوقعت أعظم ملكيْن ـ علمًا ودينًا ـ في شراك إغرائها، وهما هاروت وماروت
وتروي الأسطورة أنها طلبت منهما أن يعلماها الكلام الذي يصعدان به إلى السماء، فعلّماها، وعرجت إلى السماء، وهناك نسيت ما تنزل به إلى الأرض، فبقيت هناك، وأصبحت ذلك الكوكب الجميل، كوكب الحب والحسن والغناء والسرور عند العرب.
ومثلها أسطورة إساف ونائلة وما يرتبط بعبادتهما من التلابي (وهي الأدعية الدينية المصاحبة لطقوس الحج في الجاهلية). وثمة بقايا أسطورية أخرى تشير إلى أن العرب أيضًا ـ في جاهليتهم الأولى ـ قد عرفوا تقديس الحيوان (ومن ثم تحريم ذبحه) فضلاً عن عبادته إبان المرحلة الطوطمية، وكذلك تقديس بعض الشجر مثل شجرة الخلصة، وشجرة ذات أنواط كما عرف العرب أيضًا عبادة الجن والملائكة، كما قدسوا بعض الظواهر الطبيعية كالمطر والاستسقاء بالأنواء، وقوس قزح، وكان "قزح" هو إله الرعد والبرق والمطر عند العرب، ثم في مرحلة متأخرة صار إله الحرب، كما كان "هبل" إله الخصب والرزق. كذلك قدس العرب النار (نار المزدلفة) كما كانت لهم تصوراتهم الميثولوجية عن الملائكة ومآثرهم، والشياطين وفعالهم منها أسطورة شياطين الشعراء ـ مثلاً ـ في وادي عبقر، وهي أسطورة تعليلية شارحة في تفسير الإلهام الشعري، ولها نظائرها في أساطير الشعوب.
وللعرب كثير من الأساطير التعليلية التي تتعلق بعالم النجوم (أسطورة الثريا والدبران) أو بعالم الطبيعة، وعالم النبات، وعالم الحيوان الذي كان الجاحظ أول من أفاض في ذكر أساطيره، وكذلك في الأساطير التي تتعلق بعالم الجن والسعالي والغيلان، والعلاقة بينها وبين عالم الإنسان من عشق وزواج كان من نتاجه المشترك ـ مثلاً ـ بلقيس ملكة سبأ، أو ما وقع بينهما من معارك وحروب ضارية. وما يرتبط بذلك كله من أعمال السحر والكهانة والعرافة والقيافة وتسخير الجن.
وثمة أساطير تاريخية تتعلق بذكر قصص العرب البائدة الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم والشعر الجاهلي. وقد وقفت عندها المصادر التاريخية المبكرة وكتب الأخبار والتفاسير، مثل إرم ذات العماد، وثمود وعاد، وطسم وجديس وجرهم والعماليق وغيرهم وما يتعلق بتاريخهم من حروب، أو بمعتقداتهم من آلهة، مثل الإله الشمسي "سمو إيل" بمعنى الإله صاحب السمو في مدينة جو باليمامة (السموءل قبل أن تختلط الأسطورة بالمرويات التاريخية والشعبية الإسلامية المتأخرة). فضلاً عن بعض الأساطير التي تتعلق بظهور المدن وإنشاء السدود مثل؛ سد مأرب، وبناء بعض القصور والحصون والمعابد وبيوت الآلهة مثل؛ قصر غمدان أو الخورنق والسدير ومثل حصن الأبلق وحصن مارد في منطقة الجوف في عصر العماليق.
كما عرف العرب أيضًا الأساطير الحضارية، فضلاً عن أساطير بعض المخلوقات أو الكائنات الخارقة، وبعضها موغل في القدم، مثل أسطورة عوج بن عنق أو عناق، وأسطورة زرقاء اليمامة، الكاهنة التي كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام. وبعضها حديث نسبيا، مثل أسطورة الكاهن شق؛ وقد سمي بذلك لأنه ولد بشق واحد، وبيد ورجل وعين واحدة وأسطورة الكاهن سطيح الذي كان يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة. وتروى عن كليهما قصص عجيبة وأحاديث غريبة ذات طابع أسطوري بحت.
الملامح العالمية للأسطورة العربية. الملامح العامة للأساطير العربية (من حيث هي قصة، تحكمها مبادئ السرد القصصي) هي الملامح ذاتها في الميثولوجيا العالمية. فهي تتضمن حدثًا خارقًا لفاعل خارق (إله أو شبه إله أو كائن فوق طبيعي) وهي بهذا الحدث المقدس تختلف اختلافًا جذريًا عن سائر أنماط التعبير القصصي الشعبي والملحمي والدرامي. وقد يكون هذا الحدث الأسطوري الخارق بسيطًا يتكون من عنصر قصصي واحد (وحدة حكائية)، وقد يكون مركبًا من عدد من الوحدات الحكائية. ويقع هذا الحدث الميثولوجي دائمًا في الزمن الأسطوري القديم، زمن البدايات المقدسة، وفي الحيِّز الأسطوري، حيث الأمكنة الأسطورية لا تملك واقعًا جغرافيًا محددًا أو يتسم بأية خاصية جغرافية حقيقية.
إن مثل هذا التراث الميثولوجي للعرب، الذي يبدو في نظر البعض تراثًا خرافيًا أو لا معقولاً، هو تراث جدير بالدرس والتحليل باعتباره من أهم أعمدة التراث العربي
تعليق