الأميش ..
طائفة توقف عندها الزمن منذ قرون
كثيراً ما نسمع شخصاً يُوصف بأنه متخلّف و بعيد عن التطور لأنه مثلاً لا يملك هاتفاً نقالاً أو لأنه لا يجيد استعمال الكمبيوتر أو لأنه لا يزال يملك تلفزيوناً بالأبيض و الأسود، لأنّه يعيش متخلفاً عنّا ببضعة سنين، أو حتّى بضعة عقود في أبعد الأحوال...و لكن ماذا لو قلت لك أنه يوجد في الولايات المتحدة أناس متخلّفون عنّا بـ300 سنة!! نعم، هناك أفراد طائفة يعيشون بكامل إرادتهم تماماً كما كان يعيش أجدادهم الأوائل الذي قدموا لأمريكا في القرن السابع عشر! منذ 1660 قد توقّفت عجلة الزمن عند هذه الطائفة و لم يتغيّر أي شيء مهما كان بسيطاً في طريقة حياة هؤلاء الناس
يعيشون بأسلوب حياة القرن السابع عشر و لا يستخدمون اي من وسائل الرفاهية الحديثة
يطيل الرجال لحاهم و يحلقون شاربهم و تلبس نسائهم ملابس محتشمة و يبتعدون عن كل مظاهر الحياة الحديثة .. لا كهرباء .. لا سيارات .. لا تلفزيونات
هل ترغب عزيزي القارئ في أن يعود بك الزمن إلى الوراء لتعيش الحياة اليومية لأرياف أوربا في القرن السابع عشر ؟ ماذا لو قُلت لك أن ذلك ممكن ! لا داعي لأن تحوز على آلة الزمن العجيبة لفعل ذلك، بل يكفي أن تزور إحدى مستوطنات طائفة الأميش Amishفي أمريكا الشمالية لتشعر و كأن الزمن قد عاد بك قروناً إلى الماضي، لتحس بعبق التاريخ و بساطة الحياة في ذلك الزمان...ما إن تطأ قدماك إحدى مستوطنات الأميش، ستشعر و كأنّك في عالم غير عالمنا و في زمان غير زماننا، منذ الوهلة الأولى التي تراهم فيها سيبدون لك كأنّهم أتوا من مشهد عائد إلى القرون الوسطى !! طائفة أتت لأمريكا سنة 1660 و لم تتغير في شيء منذ ذلك الحين !! لم يتغيّر لا لباسهم و لا أكلهم و لا طريقة عيشهم و لا عاداتهم و لا طريقة حياتهم...ينبذون التكنولوجيا و الكهرباء و التلفزيون و السيارات و كل ما له علاقة بالعالم المعاصر و يفضلون الانعزال في عالم الخاص البسيط و الهادئ...تراهم محافظين بشدّة على تقاليدهم و طريقة عيشهم البسيطة رغم كل المغريات و رغم إقامتهم في الولايات المتحدة معقل التقدم و التحضر و المدنية.
يجاهد الأميش للعيش على الأسلوب القديم وعلى الرغم من أنهم يتقبلون بعض الأفكار الحديثة -مثل استخدام الأدوية الحديثة- , إلا إن أسلوب حياتهم لم يتغير كثيراً منذ300 عاماً. فهم لا يستعملون الكهرباء, لذلك فبيوتهم لا تحتوى على إنارة كهربائية, ولا أجهزة تليفزيون ولا أجهزة المطبخ مثل الثلاجات و لا التلفون. يحرّمون ركوب السيارة لذلك تراهم يمتطون العربات التي تجرّها الأحصنة و يتكلّمون إحدى اللهجات الألمانية التي تحدث بها أجدادهم الأوائل و الذين عاشوا في ألمانيا و سويسرا. وقد أطلق عليهم أميش نسبةً إلى زعيمهم و مؤسس الطائفة "آمان جاكوب". تعرّضت طائفة الأميش للاضطهاد الشديد في أوربا و أُعدم الكثيرون منهم لذلك لجئوا إلى العالم الجديد نحو عام 1660 و أقاموا في ولاية بنسلفانيا حيث يقيمون هناك إلى يومنا هذا.
تأسست طائفة الأميش على يد "آمان جاكوب" و هي واحدة من عشرات الجماعات المسيحية المنشقّة التي ظهرت في أوربا القرون الوسطى مع انتشار حركة الإصلاح الديني، رأى "آمان جاكوب" أن طريق الخلاص و الفلاح في الدنيا و الآخرة هو التمسّك الحرفي بتعاليم الإنجيل و الرجوع إلى أصول المسيحية الأولى عبر نبذ السلطة الكنسية و عدم الاعتراف بالبابا، الالتزام بتعاليم الإنجيل في كلّ مناحي الحياة حتّى في أبسط الأمور و استشارة ما يسمى بـ"مجلس الأعيان" في كل صغيرة و كبيرة و هذا المجلس يشبه مجالس الإفتاء عند المسلمين حيث يقرر ما إذا كان ذلك الأمر مخالفاً للإنجيل أم لا و هو يعد السلطة العليا في هذا المجتمع حيث يعدّون من أكثر المجتمعات تديّنا في أمريكا و لا تقلّ نسبة حضور مواعظ الكنيسة بينهم عن 90%
يمتثل أفراد الأميش لقانون غير مكتوب (متوارث شفوياً) يدعى "الأوردنانغ Ordnung " و هو يحدد بشكل صارم كيفية حياة أفراد الأميش حتّى في أدق التفاصيل من طريقة الملبس مروراً بطول الشعر و كيفية قصّه وصولاً إلى كيفية حراثة الأرض، و هم ملتزمون به بشدّة و لا يحيدون عنه قيد أنملة.
يؤمنون بأن ملابسهم تكرّس حياة الزهد و البساطة التي اختاروها لأنفسهم فترتدي النساء منهم الثياب المحتشمة والطويلة والمرايل ويقمن بقص الشعر ويربطنه خلف الرأس لأنّه من المحرّم عندهم أن تكشف المرأة عن شعرها، أما الرجال والصبيان فيرتدون البدلات الداكنة اللون والمعاطف والقبعات السوداء أو قبعات القش العريضة. و بعد الزواج يطلقون اللحى و يحلقون الشارب (بشكل مشابه للمسلمين السلفيين)...من المحرّم عندهم ارتداء الأحزمة، او القفازات، ربطات العنق، التي شيرت...
العائلة عندهم مقدسة و يربون اطفالهم على البساطة و القناعة
يعارض الأميش أي تكنولوجيا يعتقدون أنها قد تؤثّر على طبيعة مجتمعهم المتماسك، فتراهم ينبذون أشياء نعتبرها نحن من الضروريات كالكهرباء و التلفزيون، السيارة، الهاتف...و ذلك لأنهم يرون أنه من شانها أن تنشر الرذيلة و الخبث في مجتمعهم و تخلق شيئاً من الطبقية و عدم المساواة (الأميش جميعهم متساوون في كل شيء، جميع ممتلكاتهم مشتركة أي ملكية جماعية و لا يوجد شخص أفقر من الآخرين)، حتّى في حراثة أراضيهم يعتمدون على المحاريث التقليدية التي تجرّها الخيل فلا يستخدم الزراع الاميش الآلات الحديثة, ومع ذلك فإن مزارعهم ناجحة لأنهم يعملون بجد ويعتنون جيدا بأراضيهم وحيواناتهم .مزارعهم دائماً ما تكون صغيرة حيث يرون إنه من الخطأ امتلاكهم لأكثر من اللازم من الأرض أو النقود التي يحتاجونها للعيش حتّى أنهم لا يعرفون البيع و الشراء بينهم فإذا أراد أحدهم شيئاً يكفي أن يذهب إلى المخزن و يأخذ على قدر حاجته فهم لا يعترفون بالملكية الفردية، فهم معروفون بالزهد و التقشّف و الابتعاد عن المادة...اكتشف بعض المزارعين الأميش وجود بترول فى مزارعهم منذ عدة سنوات مضت. هل هناك الكثير من البترول تحت المزارع, أو مجرد القليل؟. لم يرد المزارعون الأميش المعرفة. فى الحال, باعوا أراضيهم وانتقلوا بعيداً دون إطلاع أي احد على أمر البترول، لم يرغبوا في أن يكونوا من الأثرياء.
لا يعترفون بالتأمين الاجتماعي، عوضاً عن ذلك فهم يساعدون بعضهم البعض فى الأوقات الحالكة. إذا مرض أحدهم فإن أقاربه و جيرانه سيحلبون أبقاره وسيزرعون حقوله ويحصدون محصوله فهم يعتبرون كل شيء قضاء وقدر، مثلاً إذا احترقت حظيرة أحدهم فسيهبّ الجميع في الحال (تصوروا الجميع) للمشاركة في بناء حظيرة جديدة !
بخصوص الدراسة، فهم لا يعترفون بالتعليم الحكومي و عوضاً عن ذلك يدرّسون أبنائهم في شبه مدارس مكوّنة من غرفة أو غرفتين (يُطبّق الفصل بين الجنسين) حيث يتعلّمون على أيدي مدرّسين أميش طبعاً، مبادئ اللغة الانجليزية (لا يتحدثون الانجليزية و إنما لهجة ألمانية) و مبادئ الحساب و الجغرافيا و تاريخ الأميش فقط (لا يهتّمون بالعالم الخارجي و لا بتاريخه) بالإضافة إلى تدريس العقيدة المسيحية و بعض الحصص التربوية التي تزرع قيمهم و مبادئهم في قلوب الأطفال...في عام 1972 أصدرت الحكومة الأمريكية قراراً بإعفائهم من التعليم الإلزامي.
عندما يبلغ الأميش 18 سنة، يذهب لمدّة ثلاث سنوات لاستكشاف العالم الخارجي و عليه خلال هذه المدة أن يقرر ما إذا كان يريد البقاء في مجتمع الأميش أم يفضّل الحياة العصرية، و المدهش أن أربعة من كل خمسة شبّان يفضّلون العودة إلى مجتمع الأميش و تمضية حياتهم هناك !!
يُعرف الأميش بأنهم مسالمون جداً حيث لا يؤذون أحداً و لا يردّون الاعتداء إذا ما اعتدى أحد عليهم، كما يتميّز مجتمعهم بأنه لا وجود للعنف و للجرائم فيه حيث أنه طوال تاريخهم لم يرتكب أحدهم جريمة قتل، رجالهم لا يخدمون في الجيش و لا يشاركون في الحروب.
تُعتبر العائلة أهمّ شيء في مجتمع الأميش، حيث أن نسبة الطلاق شبه معدومة عندهم فالمرأة تعيش من أجل زوجها و أطفالها و الزوج و الأبناء يكدّون في المزرعة، كلّ و له دوره التقليدي الذي لا يحيد عنه، فالرجال في المزارع و النساء تقمن بالطبخ و الغسيل و الخياطة و الاعتناء بالمنزل...تمتاز عائلات الأميش بعدد أفرادها الكبير، فحوالي ربع العائلات لديها أكثر من عشرة أطفال ! و هذا ما أدّى لتكاثرهم المستمرّ، حيث كان لا يتجاوز عددهم الخمسة آلاف سنة 1900 في حين يبلغ الآن حوالي 300 ألف شخص.يبدأ الصبيان في البحث عن زوجة عند بلوغهم السادسة عشر و لكن يجب على الأميش أن يتزوّجوا من طائفتهم فقط و يُحرّم عليهم الزواج ممن ليس منهم. وهذا سبب مشكلة خاصة. وللخمسمائة فرد الذين أتوا إلى العالم الجديد فى القرن السابع عشر ما يقرب من أربعون اسما.
الـ 200,000 الذين يعيشون فى الولايات المتحدة الآن هم سلف هؤلاء الناس ولديهم نفس الـ 40 اسماً. فى إحدى مدارس بنسلفانيا 95 فى المائة من الطلاب ومدرسيهم لديهم نفس اللقب "ستولزفوس".
تقليد الاميش باختيار أسمائهم من الإنجيل أضاف إلى مشاكلهم . حيث إنه فى إحدى مجتمعات الاميش الصغيرة هنالك 11 فرد يدعون"دانيال ميلر"! و لتجنّب الخلط يضيفون أسماء مستعارة للذين لديهم نفس الأسماء. وبعض هذه الأسماء المستعارةً لها تفسير واضح,على سبيل المثال ,"تشيكين دان_ دان دجاج " يبيع دجاج, "كرلى دان_ دان مجعد " لديه شعر مجعد.
لازالوا يستخدمون العربات للتنقل و المحراث لتهيئة حقولهم للزراعة
ما الذي حافظ على تماسكهم و تشبّثهم بأسلوب الحياة هذا كل هذه المدّة و رغم كل المغريات ؟؟
تضافرت العديد من العوامل التي ساعدتهم على ذلك، من بينها مجتمعهم المغلق و عزوفهم عن الحياة المعاصرة بمحاسنها و مساوئها، الشعور بالانتماء و بالتكافل و الحبّ الأخوي الذي يمنحه هذا المجتمع فهم غالباً ما ينادون بعضهم "الأخ" أو "الأخت"، إضافة إلى المساواة التامّة الموجودة هناك حيث لا يوجد غني و فقير إنما جميع الناس سواسية في المأكل و المشرب و الملبس و المسكن. و لا وجود للأنانية و الجشع و الطمع لأن كل شيء ملكية جماعية مشتركة فالكلّ يتصرّف كعائلة واحدة كبيرة....بالإضافة إلى الالتزام الصارم بشريعتهم الشفوية "الأوردنانغ" يشجّعهم في ذلك عادة التبديع و الهجر "Shunning " و هو المقاطعة التامّة التي تُطبّق على العاصي فيُحرّم الحديث معه أو مجالسته أو دخول بيته أو التعامل معه، و هذا يعدّ عقاباً قاسياً جداً هناك لأن الحياة عندهم تعتمد على الجماعة بالتالي فلا أحد يجرؤ على مخالفة العادات و التقاليد.
إضافة إلى تسامح الحكومة معهم، فهم معفون من دفع الضرائب (كما أنهم لا يقبلون أي مساعدة من الحكومة أو من أي جهة كانت)، لا يُجندون في الخدمة العسكرية و لا يُجبر أولادهم على دخول المدارس الحكومية، كما تحرص الحكومة على إبعاد المتطفلين و الصعاليك و المجرمين عن مجتمع الأميش عبر فرض طوق حراسة أمنية على كامل المستوطنة مع العلم أن رجال الشرطة في أمريكا ممنوعون من دخول مستوطنات الأميش إلا في الحالات الاستثنائية.
كما تلاحظون فالأميش يشتركون مع المسلمين (المتشددين خصوصاً) في العديد من الأمور منها :
- -اللحية إجبارية عند الرجال بعد الزواج مباشرة مع حلق الشارب
- الفصل بين الجنسين
- إجبارية تغطية المرأة لشهر رأسها و ارتدائها ملابس محتشمة
- -المجموعات يترأسها مجلس من الشيوخ الكبار ( ما يشبه أهل الحل والعقد)
- تحريم الغناء و الموسيقى
- تحريم شرب الخمر و الزنا.
هذا هو مجتمع الأميش في أمريكا، و يوجد الكثير من أمثاله في الدول الأخرى مثل جماعة الشيخ حميد في السعودية و هي جماعة دينية متشددة تفككت في الثمانينات كانت تحرّم الكهرباء و السيارة و الهاتف و كل ما له علاقة بالحضارة الغربية، و هنا في الجزائر عندنا قبائل الطوارق التي تجوب الصحراء طولاً و عرضاً و التي لم يتغيّر أسلوب عيشها منذ آلاف السنن.
إن كنّا ستنعلّم شيئاً من طائفة الأميش، فهو أن السعادة لا تشترى بالمال و لا تحصل عبر اللهث وراء الماديات و نسيان الجانب الروحي و التآخي و التكافل و الاحترام المتبادل، فكم من غنيّ لا يغمض له جفن من كثرة الهموم و كم من فقير ينام سعيداً مطمئن البال.
تعليق