أسطورة زمار هاملين
عازف المزمار السحري
للطفولة طعم خاص، كل شيء فيها يكون جديدا وجميلا وجديرا بالاستكشاف، الوجوه والشوارع والروائح والأكلات .. كل شيء .. أنا شخصيا أتذكر أيام الطفولة بشيء من الحنين المشوب بالحزن .. أتذكر كم كنا أبرياء وطاهرين .. أتذكر بنت الجيران، صديقتي الجميلة، التي كنت العب معها في كل حين، ثم كبرنا فجأة وصار ممنوعا أن أراها وأحادثها .. أتذكر كم كانت الليالي ساحرة. وكم كانت السماء صافية. وكم كانت رائحة جدتي زكية حين تضمني في ليالي الشتاء الباردة لتروي لي حكاياتها الأسطورية عن الشاطر حسن وقمر الزمان وعلي بابا .. تلك الحكايات الجميلة التي قد نحسبها مجرد خرافات بالية أكل الدهر عليها وشرب. لكننا لو فتشنا في شخوصها جيدا، وبحثنا في تفاصيلها بعناية، لعثرنا حتما على شيء من الواقعية المتوارية وراء حجب الخيال المسدلة. تماما كما هو الحال مع حكايتنا هذه التي سنحملك فيها عزيزي القارئ إلى مدينة هاملن الألمانية لنفتش معا عن أطفالها الصغار الذين لف الغموض مصيرهم لقرون من الزمان.
حكاية عازف المزمار
سكان هاملن سخروا في بادئ الأمر من إدعاءات الرجل، لكن سرعان ما عقدت الدهشة ألسنتهم حين شاهدوا الجرذان الكريهة وهي تغادر جحورها بالجملة على وقع الألحان السحرية لتمضي جميعها خلف عازف المزمار الذي قادها نحو ضفة نهر كبير خارج المدينة وجعلها تقفز إلى مياهه لتغرق عن بكرة أبيها.
وتماما كما حدث مع الجرذان، فقد قاد عازف المزمار الأطفال إلى خارج المدينة، لكنه لم يلقي بهم في النهر بالطبع، وإنما آخذهم معه إلى داخل جبل كبير يقع عند أطراف مدينة هاملن واختفى هناك مع الأطفال إلى الأبد. وقد كان ذلك بالتأكيد هو أشد وأقسى عقاب يمكن أن يناله سكان هاملن جراء بخلهم ونكثهم للوعود والعهود. ويقال بأن الأطفال مازالوا يعيشون حتى يومنا هذا داخل الجبل، يلعبون ويمرحون مع عازف المزمار في مروج وحدائق سحرية تحتوي على كل ما يشتهيه الأطفال ويتوقون أليه.
حقيقة أم خرافة؟
"في 26 يونيو / حزيران عام 1284 ميلادية .. في يوم عيد القديسين جون وبول .. مائة وثلاثون طفلا من أطفال هاملن خدعوا واقتيدوا إلى خارج المدينة على يد عازف مزمار يرتدي ملابس ملونة، وبعد أن عبروا التلال في كوبنبيرغ اختفوا إلى الأبد".
وهناك أيضا شارع في المدينة يعرف بأسم (Bungelosen*strasse ) يقال بأنه كان آخر مكان شوهد فيه الأطفال قبل اختفائهم، ولهذا السبب يمتنع الأهالي عن عزف الموسيقى داخل هذا الشارع، وهو تقليد أستمر منذ القرون الوسطى وحتى يومنا هذا، فجميع الأعراس والجوقات الموسيقية تتوقف تماما عن العزف والغناء عند مرورها في هذا الشارع كدلالة احترام لذكرى الأطفال المفقودين.
المخطوطات الألمانية القديمة تطرقت هي الأخرى إلى اختفاء الأطفال. أقدم تلك المخطوطات هي سجلات الكنيسة في هاملن والتي يعود تاريخها إلى عام 1351، وتعتبر هذه السجلات في غاية الأهمية لأنها تمثل شهادة حية على حقيقة ما جرى. وهناك أيضا مخطوطة ليونبيرغ التي تعود إلى عام 1370 ميلادية، والتي يؤكد كاتبها على أن أطفال هاملن خطفوا على يد عازف مزمار يرتدي ملابس ملونة، وأن الحادثة وقعت بالفعل عام 1284.
ما الذي حدث فعلا في هاملن؟
ص |
نظرية المجاعة الكبرى
المجاعة الكبرى حصدت أرواح ملايين البشر خلال عامين، أغلبهم ماتوا جوعا بالطبع، لكن هناك أيضا نسبة غير قليلة ممن فقدوا حياتهم بسبب تفشي الجريمة والعنف والتي ارتفعت إلى مستويات قياسية خلال تلك الحقبة السوداء، فالناس ما عادوا يكترثون كثيرا للنواهي الدينية وللقيم الأخلاقية لشدة ما عانوه وكابدوه وهول وفظاعة ما شاهدوه خلال السنين التي جثمت فيها المجاعة على قلوبهم، ولهذا أصبحت جرائم السلب والنهب والقتل أمورا عادية تحدث في وضح النهار، وانتشرت قصص كثيرة عن تفشي أكل لحوم البشر، وأخذ الكثير من الناس ينبذون أطفالهم بعد أن عجزوا عن أطعامهم وما عادوا يتحملون رؤيتهم وهو يئنون من الجوع، فكانت الأم تأخذ صغارها إلى السوق وتتركهم هناك لكي يموتوا بعيدا عن ناظريها، أو يأخذهم الأب إلى الغابة ويطلب منهم الانتظار تحت شجرة ثم يفر منهم ويهجرهم هناك ليموتوا جوعا أو تلتهمهم الدببة والذئاب. ويرى بعض الباحثين بأن نبذ الأطفال من قبل والديهم الذي تفشى بكثرة أبان المجاعة، إضافة طبعا إلى الجرائم التي اقترفت بحق الأطفال، كاختطافهم من اجل قتلهم وأكلهم، كل هذا يرتبط بصورة وثيقة مع ما جرى لأطفال هاملن، فألمانيا لم تكن بعيدة عن أهوال المجاعة الكبرى، بل كانت في صميمها، وليس من المستبعد أن يكون أطفال هاملن قد جرى اختطافهم من قبل آكلي لحوم البشر، أو ربما نبذهم أهلهم في الغابات القريبة من المدينة بعد أن عجزوا عن أطعامهم، وبمرور السنين ضاعت وانطمست ذكرى تلك الأحداث المأساوية ولم يتبق منها في النهاية سوى حكاية خرافية ترويها الجدات لأحفادها في ليالي الشتاء الباردة.
نظرية الطاعون الأسود
الطاعون وصل إلى أوربا قادما من الصين بعد سفرة طويلة أستل خلالها ملايين الأرواح في الهند وإيران وتركيا. وقد كانت منطقة شبه جزيرة القرم هي المحطة الأولى للطاعون على التراب الأوربي، حيث حل ضيفا ثقيلا هناك في عام 1346 ثم ما لبث أن سافر بحرا إلى جنوب ايطاليا وفرنسا واسبانيا وبحلول عام 1350 كان الطاعون قد تفشى في معظم أجزاء القارة الأوربية، لكن رحلته لم تنتهي هناك، فقد سافر مجددا بعد أن ارتوى وشبع من الدم الأوربي، هذه المرة حملته السفن التجارية إلى مصر وشمال إفريقيا والشام والحجاز والعراق.
مما لا شك فيه أن الطاعون الأسود كان من أعظم البلايا التي حلت بالبشرية، فهذا المرض القاتل حصد خلال سنوات قليلة ما يقارب من ثلثي أرواح سكان جنوب أوربا، ونصف سكان وسط أوربا، وربع سكان انجلترا وألمانيا، و40 بالمائة من سكان مصر والشام والعراق والسعودية واليمن. وقتل بالإجمال ما مجموعه 100 – 200 مليون من تعداد سكان العالم الذي كان يقدر آنذاك بحوالي 450 مليون نسمة. أي أنك لو كنت حيا في ذلك الزمان عزيزي القارئ لكانت نسبة نجاتك من الموت لا تزيد كثيرا عن الخمسين في المائة، وحتى لو افترضنا جدلا بأنك كنت ستنجو فلا أظنك كنت ستفرح كثيرا لنجاتك لأن كنت ستشاهد الموت وهو يسحق أجساد ويستل أرواح أعز الناس إليك، كنت سترى أهل بيتك وجيرانك وأبناء مدينتك ممددون في الشوارع جثث هامدة لا يجدون من يدفنهم، رائحة وعفونة الجثث المنتفخة كانت ستزكم أنفك، ومنظر الموت بأبشع صوره كانت ستلاحقك أينما يممت وجهك، فرعب الطاعون لا يكمن في عدد ضحاياه فقط، بل في صفته وأعراضه أيضا.
أول تلك الأعراض كانت تتمثل في ظهور أورام كبيرة بحجم البيضة على الفخذ وتحت الإبط، لا تكون مؤلمة في البداية، لكنها سرعان ما تتكاثر وتنتشر في سائر أجساد الجسد ثم تتحول تدريجيا إلى بثور سوداء كريهة ومؤلمة تنزف دما، ويكون انتشارها مصحوبا بحمى عالية وآلام شديدة في سائر مفاصل الجسد وقد يتقيأ المريض دما. وربما يكون الشيء الوحيد الجيد بشأن الطاعون هو أن عذاب المريض لا يطول كثيرا، فالموت غالبا ما يدركه بعد يومين إلى سبعة أيام من ظهور الأعراض.
نظرية حملة الأطفال الصليبية
وقد تضاعف تعلق الناس بهذا القديس الصغير بعد الأخبار والإشاعات الكثيرة التي انتشرت في كل مكان حول معجزاته في شفاء المرضى وكذلك نبوءاته التي زعم نيكولاس خلالها بأن وجه الماء سينفلق عند قديمه ما أن يقف على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبأنه وأتباعه سيجتازون البحر مشيا على الأقدام نحو القدس تماما كما حدث مع موسى وبنو إسرائيل حين لاحقهم فرعون وجنده.
طبعا ليس جميع الناس أمنوا بما يقوله نيكولاس، ولا جميع الكنائس صدقت نبوءاته ومزاعمه، لكن الغالبية الساذجة من أهل ذلك الزمان صدقوه وأمنوا به، لا بل وأرسلوا معه فلذات أكبادهم ليرافقوه في رحلته نحو الديار المقدسة حتى جاوز عدد من تبعه السبعة آلاف طفل، خرج معظمهم للمشاركة في الحملة من دون تهيأ ولا استعداد، كانت العاطفة البريئة هي زادهم الوحيد، لم يملكوا غيرها زادا من مال أو طعام، فراحوا يدقون الأبواب على طول الطريق يتوسلون اللقمة من الكنائس والأديرة ومنازل الناس وناموا أغلب لياليهم في العراء على جوع وبرد، وقد خسر الكثير منهم حياته خلال رحلة الذهاب الصعبة والشاقة التي اجتازوا خلالها قمم الألب الشاهقة وصولا إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.
لكن ليس كل ما يطلبه المرء يدركه، فذلك الماراثون الطويل من الكد والجهد والتضحية أنتهي إلى خيبة أمل كبيرة حين وصل نيكولاس وجيشه الصغير إلى ساحل البحر في جنوه الايطالية. وقفوا هناك وانتظروا لساعات وأيام وأسابيع طويلة بانتظار المعجزة .. لكن شيئا لم يحدث .. لا البحر أنفلق ولا وقع أي أمر خارق للعادة على ذلك الساحل المنحوس. وراح اليأس يتسلل بهدوء إلى القلوب الصغيرة الواجفة، وبدأ ذلك البنيان الشاهق من الأوهام التي أسس نيكولاس عليها شعبيته الطاغية يتصدع شيئا فشيئا، فأرتفع الهمس واللمز على ألسنة أولئك الأتباع المخلصين المنتظرين بصبر على ذلك الساحل المقفر .. "هل كان نيكولاس كاذبا منذ البداية؟" .. تساءل بعضهم بحزن وراحوا يتهيئون للعودة إلى أوطانهم، في حين رفض آخرون أي تشكيك بنزاهة نيكولاس، وفي لحظة من الحماسة الغبية صعد هؤلاء إلى ظهر بضعة سفن تجارية قادوها مباشرة صوب القدس، لكنهم لم يبتعدوا عن الساحل الايطالي كثيرا، فسرعان ما وقعوا أسرى بيد القراصنة وبيعوا كرقيق في أسواق النخاسة في تونس.
والجدير بالذكر أن فرنسا شهدت هي الأخرى حملة أطفال شبيهة بتلك التي حدثت في ألمانيا عام 1212، فبينما كان نيكولاس يجمع الأتباع ويشحذ الهمم في ألمانيا، كان هناك فتى آخر في شمال فرنسا يسير على نفس الدرب، هذا الفتى كان راعيا للأغنام في الثانية عشر من عمره أسمه ستيفان. وتماما مثل نيكولاس، فأن ستيفان زعم بأن السيد المسيح تجلى له وأمره باستعادة القدس سلميا. وقد حشد ستيفان قرابة الثلاثون ألف شخص لحملته معظمهم من الأطفال. وهذه المرة أيضا تكررت نفس المأساة، فالحملة الفرنسية انتهت إلى ذات المصير الذي انتهت أليه الحملة الألمانية.
وبالعودة إلى حكايتنا، يرى العديد من الباحثين بأن حكاية عازف المزمار تتحدث في واقع الأمر عن أطفال هاملن الذين رافقوا نيكولاس في حملته الصليبية المأساوية، وأن شخصية عازف المزمار تشير وترمز إلى الفتى نيكولاس الذي غرر بالأطفال وأخذهم معه نحو المجهول. لكن إشكالية هذه النظرية تتمثل في التوقيت، فحملة الأطفال الصليبية حدثت عام 1212، في حين أن أحداث حكاية عازف المزمار تعود لسنة 1284. كما إن العديد من الباحثين يلقون بظلال كثيفة من الشك حول مصداقية المصادر التي تحدثت عن حملة الأطفال الصليبية، فهم يعتقدون بأن اسم الحملة هو مجرد مصطلح مجازي، وبأن أكثر من رافقوا تلك الحملة لم يكونوا في الحقيقة أطفالا وإنما رجال ونساء بالغين رافقوا أطفالهم على طول الدرب، فلا يعقل أن يدع الناس أطفالهم يذهبون بمفردهم في هكذا رحلة خطرة وقاسية من دون دليل ومعين.
نظرية الهجرة
أوربا القرن الثاني عشر كانت مكتظة بالسكان، وهناك من يعزو ظهور المجاعة والطاعون في القرن الثالث عشر إلى ذلك الاكتظاظ السكاني الذي لن تعرف أوربا له مثيلا مجددا حتى القرن التاسع عشر الميلادي. ومن المعروف بأن المناطق المكتظة بالسكان تعاني من معدلات عالية من البطالة والفقر، وغالبا ما يهاجر شبابها للبحث عن فرص جديدة في مدن ودول أخرى، وهذا هو بالضبط ما حدث في هاملن القرن الثاني عشر، حيث هاجر عدد كبير من شبابها نحو الشرق إلى بولندا وترانسلفانيا وأنشئوا مستعمرات جديدة عاشوا فيها مع عائلاتهم ولم يعودوا ثانية إلى موطنهم. ويرى البعض بأن رحيل هؤلاء الشباب هو بالضبط ما تشير أليه حكاية عازف المزمار، وأن عبارة (Children of Hamelin ) لا تعني حرفيا أطفال هاملن وإنما هي تسمية تطلق على جميع أبناء المدينة، فالناس في كل مكان درجوا على توصيف الأفراد المنتمين إلى قبائل ومدن ومناطق معينة بكلمة أبناء، فيقال مثلا بنو تميم، ويقال أيضا أبناء الصعيد وأبناء تونس العاصمة وأبناء سوريا .. الخ .. والمقصود بكلمة أبناء هنا ليس أطفال تلك المناطق بالتأكيد، بل هو وصف عام يطلق على جميع الذكور المنتمين إلى تلك المناطق بغض النظر عن أعمارهم.
اوهناك رأي آخر يذهب إلى أن أطفال هاملن المقصودين في الحكاية هم مجموعة من الأطفال اليتامى وغير الشرعيين والمشردين الذين تم بيعهم كرقيق للتجار القادمين من مناطق البلقان، وهذه العملية، أي بيع الأطفال غير المرغوب فيهم لم تكن أمرا غير مألوفا في أوربا تلك الأيام، بل كانت تجارة رابحة بسبب الطلب الكبير في أسواق الشرق على شراء هؤلاء الأطفال الشقر ذوي العيون الملونة، ولم يكونوا جميعهم من أسرى الحروب أو المأخوذين قسرا من أهاليهم ( كما في نظام الدوشيرمه العثماني الذي طبق لاحقا على العائلات المسيحية في البلقان) ، بل أن نسبة غير قليلة منهم كان يجري بيعهم من قبل عائلاتهم الفقيرة من أجل المال أو طمعا في أن يتمتع أبنائهم بالسلطة والجاه تحت رعاية السلطان، وكان هؤلاء الصغار يؤخذون في أعمار مبكرة لتتم تربيتهم وتنشئتهم وفق التقاليد الصارمة للمؤسسة العسكرية والصوفية، وحظي هؤلاء لاحقا بامتيازات ومناصب لم يحظى بها أبناء البلد الأصليين، فشكلوا صفوة الجيوش المملوكية والعثمانية، وأصبحوا عماد الطبقة النبيلة، وتوج العديد منهم كسلاطين وباشوات حكموا الشرق بيد من حديد لعدة قرون. ولعل من الجدير بالذكر هنا أن عدم ثقة السلطات الحاكمة بأبناء جلدتها واستعانتها بالأجانب هو تقليد ضارب في القدم سواء في الشرق أو الغرب، وأقدم مثال على ذلك في منطقتنا العربية هي استعانة الخلفاء العباسيين بالفرس والأتراك دونا عن العرب في الحكومة والجيش، وصولا إلى مرحلة أصبح فيها الغلمان الأتراك هم الحكام الفعليين لدولة الخلافة، وجرى خلع وقتل العديد من الخلفاء على يد هؤلاء. . أما السبب وراء ركون الحكام في السابق إلى الأجانب دونا عن أبناء جلدتهم فيكمن في كون الأجنبي لا يشكل خطرا على السلطة الحاكمة كما هو الحال مع المواطن وأبن البلد، فالأجنبي يستميت دفاعا عن الدولة لأنها مصدر قوته وعزوته، هي عائلته وقبيلته التي يركن إليها في الشدائد ولا يكون له وجود من دونها، والأجنبي ليست له أحقاد ومشاكل سابقة مع الدولة، ولا يطمع في الاستيلاء على العرش والسلطان، وهو أكثر إطاعة للأوامر وأقل ميلا للجدل. تماما كما هو الحال في أيامنا هذه مع العمالة الأجنبية، فالكثيرين يفضلون العمال الأجانب على أبناء البلد لأن العامل الأجنبي يكون أكثر طاعة وقناعة وأكثر نشاطا وإنتاجا، ويمكن فصله بسهولة وأكل حقه بيسر، فهو غريب لا يملك من يدفع عنه الأذى ويسانده. |
ونظرية العامل الإجرامي تزعم بأن عازف المزمار كان قاتلا متسلسلا مصاب بالغلمانية أستغل عمله كعازف ومهرج فقام باستدراج بعض أطفال هاملن إلى الغابة المجاورة حيث اغتصبهم وقتلهم.
نظرية الصراع الديني
ولهذا يرى بعض الباحثين بأن حكاية عازف المزمار هي في حقيقة الأمر تتحدث عن بعض صفحات ذلك الصراع الدامي، وأن ما جرى فعلا في هاملن هو عملية اختطاف جماعية لأطفال المدينة المسيحيين حيث اقتيدوا إلى الغابات المجاورة وتم التضحية بهم للآلهة من قبل الوثنين، أو تم ألقائهم في نهر فيسر.
أين الحقيقة؟
برغم جميع النظريات فأن الغموض سيبقى يلف مصير أطفال هاملن وحقيقة ما جرى لهم في تلك الحقبة المظلمة من التاريخ، وهكذا هو التاريخ .. مليء بالغموض والألغاز والأسرار التي قد تطال حتى الأحداث التاريخية التي نحسبها من المسلمات والبديهيات، وهنا بالضبط تكمن جمالية التاريخ البشري وروعته، فهو متعدد الجوانب يدفعك دوما للتفكير والتساؤل والبحث، كالمتاهة التي فيها ألف باب، كلما فتحت بابا وجدت خلفه ألف باب أخرى. ونحن في هذه المقالة لم نكن ننوي سوى طرق باب واحد، فإذا بذلك الباب يقودنا إلى أبواب أخرى.