الظواهر الخارقة وعالَم الغيب.
إن تمتُّع البعض القليل، ممّن لم يتخذ من السير على الطريق إلى الله طريقته المثلى في هذه الحياة، بالمقدرة على الإتيان بظواهرٍ خارقة معيّنة هي حقيقة واقعة شأنها في ذلك شأن الظواهر الخارقة التي تلاحق السائر على هذا الطريق. إلا أن ما يميز النوع الأول من الظواهر الخارقة لا يمكن استبيانه إلا بمقارنتها بتلك الظواهر المميّزة للسائر على الطريق إلى الله. فالثابت لدى دارسي الباراسايكولوجيا من باحثين تتبّعوا الفعاليات الخارقة عند الأشخاص الذين بوسعهم القيام بها وتابعوها انثروبولوجياً وايثولوجياً في أماكن ظهورها في المجتمعات والتجمّعات البشرية أن هذه الظواهر هي ليست عامة مميّزة لكل أفراد النوع الإنساني؛ حيث ثبت من البحوث المختبرية والدراسات الميدانية (الحقلية) أن قلّة قليلة من أفراد الجنس البشري بمقدورهم استعراض فعاليات خارقة غير نمطية وأن هذه القلّة لا تستطيع أن تنقل مقدرتها غير النمطية هذه إلى باقي البشر عن طريق تقنية التعليم والتعلّم أو عن أي طريق آخر.
فالذي بمستطاعه الإتيان بخارقةٍ ما هو فرد موهوب بهذه المقدرة وهو لا يختلف عن باقي مَن هم غيره من الموهوبين العباقرة في مجالات الموسيقى والرسم والرياضيات والشعر وغير ذلك في كونه ينتمي إلى تلك القلّة القليلة من النوابغ والفلتات الطبيعية Lusus Naturae الذين ظهروا على مر العصور فحُفظت أسماؤهم وخُلّدت بينما تلاشت ذكرى الملايين من أسماء الغالبية العظمى من أفراد الجنس البشري ممّن لم يتميّزوا بشيء غير فرط الإنتماء للجماعة لعدم تفرّدهم بما يجعل من واحدهم من تلك الثلّة القليلة من العباقرة! وهذه الفعاليات الخارقة التي تستطيع قلّة من أفراد النوع الإنساني القيام بها تتميّز بكونها لا تظهر، في كثير من الأحيان، وقتما يشاء صاحب القابلية الخارقة. فالمُلاحظ عن كثير من هذه الظواهر انها غير تكرارية أي لا يتكرّر حدوثها بتكرار محاولة إحداثها؛ فهي تحدث حيناً ولا تحدث في أحيان أخرى غير قليلة. وهي لذلك عصية على شروط المذهب التجريبي من حيث عدم قابليّتها على أن تخضع للاختبار العلمي عند الطلب وقتما يشاء الباحث. وهذه السمة (اللاتكرارية) تجعل من هذه الظواهر الخارقة تختلف بصورة جذرية عن الظواهر العلمية التي يدرسها العلم والتي نشأ في ربوعها. إذاً فالثابت عن الظواهر الخارقة التي نشأت الباراسايكولوجيا وشبّت على دراستها والخوض في متاهاتها هو:
1- انها ظواهر غير نمطية حيث لا يستعرضها كل البشر ولا يستطيع القيام بها غير قلّة قليلة منهم.
2- انها تخضع خضوعاً يكاد يكون تاماً لشرط اللاتكرارية فلا يتكرّر حدوثها بتكرار المحاولات الرامية إلى إحداثها.
غير أن هذه الظواهر الخارقة، التي انكب البحث الباراسايكولوجي في الغرب على دراستها بصورة شبه أكاديمية منذ أواخر القرن الماضي، لا تمثّل كل ما هنالك من خوارق يمكن ملاحظتها. وهذا أمر أثبتته الظواهر الخارقة التي تتميّز بها بيئتنا العربية المؤمنة. إن هذه الظواهر التي فات على الباراسايكولوجيا الغربية الإلتفات إليها، لفرط تشاغلها بما شبّت عليه من ظواهر، تتميّز بأنها:
1- ليست حكراً على أحد بمواصفات معيّنة حيث يستطيع كل أفراد النوع الإنساني القيام بها باستيفائهم لشروط ظهورها المرتبط حتماً بالسير على الطريق إلى الله.
2- لا تخضع لشرط اللاتكرارية المميّز للظواهر الخارقة النمطية حيث تحدث هذه الظواهر وقتما يشاء الباحث الذي يروم دراستها داخل المختبر وهي لذلك تمتاز بانضباطها التام بشروط المذهب التجريبي - الإختباري Emperical Experimentism.
3- لا تقتصر على تلك الظواهر الخارقة التي تم تثبيتها من قِبل دارسي الخوارق في الغرب على انها تمثّل معظم، إن لم يكن كل، ما هنالك من ظواهر خارقة. فهي تمتاز بتنوّع مذهل يصل حد الإعجاز في التعدّد.
4- تتفوّق على مثيلاتها من الظواهر الخارقة التي درستها الباراسايكولوجيا المعاصرة بكونها الأعلى طاقة والأكثر خارقية حيث تتميّز هذه الظواهر بتشعُّب طاقي فريد وتنوّع مذهل يطالان كل مجالات تجلّيها وظهورها.
5- تحتوي كل الظواهر الخارقة التي نشأت في ظلّها الباراسايكولوجيا المعاصرة التي تعجز بدورها عن أن تحتويها كلّها جميعاً. فظواهر الباراسايكولوجيا الغربية يمكن ملاحظتها كلّها في البيئة العربية المؤمنة بينما لا نلاحظ في الغرب إلا نزراً يسيراً من الظواهر الخارقة لا يُقارن، كمّاً ونوعاً، مع الخوارق العربية المؤمنة.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة الآن هو: إذا كانت الظواهر الخارقة المميّزة للبيئة العربية المؤمنة هي بهذه المواصفات الفريدة كلّها وإذا كانت هذه الظواهر تضطر العقل إلى وجوب إقراره بالمضي قدُماً في الإيمان بالله الواحد الأحد المتجلّي ظهوراً والظاهر بكل جلاء فيها فلا يكون بالتالي من مفر أمامه غير التسليم مرغماً بوجوده تعالى فماذا نقول بشأن تلك الظواهر الخارقة التي بوسع غير السائرين على الطريق إلى الله القيام بها؟ ما الذي تضطرنا إليه هذه الظواهرُ وقد ثبت لدينا أن مَن يضطرها إلى الظهور شخصٌ ليس من السائرين على الطريق إلى الله؟ إن هذه الظواهر الخارقة لم تظهر بسبب من السير على هذا الطريق والتعرّض بالتالي لطاقته العظمى التي ليست مثلها طاقة أخرى في الكون، فكيف تحدث إذاً هكذا خوارق؟ وما الذي يدل عليه حدوثُها؟ للشروع في الإجابة على هذا السؤال المتسلسل الحلقات لابد من توضيح الحقيقة التالية: إن الثابت لدى علماء الفيزياء المعاصرة أن أيا من النظريات الفيزيائية السائدة ليس بوسعها تقديم ما يساعد على تفهّم، ناهيك عن تفسير، ما يحدث في الظواهر الخارقة التي انشغلت بدراستها الباراسايكولوجيا الحالية! وهذا يتأتى من حقيقة كون المنظومة التفسيرية للفيزياء الغربية تستند إلى أربع أنواع من القوى الفيزيائية كشفت النقاب عن وجودها الظواهرُ التي درستها الفيزياء الحديثة والتجارب التي قامت بها؛ إلا أن هذه القوى الأربع تعجز عن إلقاء، ولو بصيص ضوءٍ قليل، على ما يحدث في الظاهرة الباراسايكولوجية.
إن الحل الذي بمقدور البيئة العربية المؤمنة تقديمه لتفهُّم ما يحدث في الظاهرة الباراسايكولوجية قد تناولته بالدرس والبحث الباراسايكولوجيا الجديدة فخلصت إلى أن المسؤول عن الظواهر الخارقة التي نشأت في ربوعها وشبّت على البحث فيها ودراستها باراسايكولوجيا الغرب كائنات وكينونات فائقة المجهرية Super- Microscopic وهذا الكلام هو ليس كهواء في شبك أو كقبض ريح بكف؛ حيث استند مشروع الباراسايكولوجيا العربية المؤمنة إلى الرصيد العريق من التراث العربي المؤمن وقامت بالمواءمة والمزاوجة ما بين الحل الذي قدّمه هذا التراث وبين المذهبين التجريبي الجذري والإختباري المتطرّف Radical Empericism & Extreme Experimentism اللذين قادا منهج البحث المختبري للمشروع. إذاً فالظواهر الخارقة المدروسة من قِبل الباراسايكولوجيا الغربية هي ظواهر تحدث بسبب من هذه الكيانات فائقة المجهرية وهذا ما يستدعي بالضرورة استرجاع مفهوم عالَم الغيب الذي ورد بصورة مكثّفة في التراث العريق للبيئة العربية المؤمنة. إن عالَم الغيب يضم تشكيلات لا حصر لها من الكيانات المُشخصَنة وغير المُشخصَنةpersonified and Impersonified Entities وهذه الكيانات (الكائنات والكينونات) مسؤولة، على قدر تعلّق الأمر بالطاقة، عن ظهور ما يحدث في الظواهر الخارقة التي درستها الباراسايكولوجيا المعاصرة. وهذا يفسِّر بكل وضوح الفروقات الأساسية التي تميّز ما بين ظواهر الباراسايكولوجيا العربية المؤمنة والباراسايكولوجيا الغربية الملحدة؛ حيث أن ظواهر الأولى تتميّز بكونها لا تظهر إلا بسبب من التعرّض للطاقة الإلهية من بعد الشروع في السير في الطريق إلى الله بينما تحدث ظواهر الثانية بسبب من تدخُّل الكيانات الموصوفة فيما سبق وهذه، بالتعريف، لا وجه لمقارنة طاقتها بالطاقة العظمى في هذا الكون: طاقة الله الذي ليس كمثله شيء.
إن ظواهر الباراسايكولوجيا الغربية تستدعي من العقل المتدبّر لها أن يعمد إلى التأمل في الحل الذي تقدّمه البيئة العربية المؤمنة بباراسايكولوجيّتها الجديدة ليجد فيه ما لابد واجده بخصوص السبب في هذا الذي يحدث في تلك الظواهر.
إن هذا العقل مُرغم على التسليم بحتمية وجود عالَم الغيب بكائناته المُشخصَنة غير المرئية وكينوناته غير المُشخصَنة غير المرئية. وهو إذا ما سلّم مرغماً بعالَم الغيب كان لزاماً عليه التسليم من باب أولى بتصديق مَن جاء له بخبر عالم الغيب فيصبح مُلزماً بالتالي أن يصدّق بوجود سيد لهذا العالم الغيبي متسلّط عليه تسلّطه على هذا العالم اللاغيبي.
إن الظواهر الخارقة التي تدرسها الباراسايكولوجيا العربية المؤمنة هي ظواهر إلهية Theistic Phenomena طالما كانت هذه الظواهر لا تحدث إلا بالتعرُّض للطاقة الإلهية من بعد الشروع بالسير بإخلاصٍ وتفانٍ على الطريق إلى الله؛ حيث يتعرَّض السائر على هذا الطريق لفيضٍ من الإكرام الخاص يفضُل التكريم العام الذي تفضّل به الله على بني آدم كلّهم مما يجعل من هذه الظواهر الملاحِقة له بمقدورها أن تُرغم العقل السليم على تدبّرها والتأمّل فيها ليصل من ثم، مُرغماً، إلى نتيجة واحدة مفادها أن وراء هذه الظواهر إلهاً هو بحق مَن عرّف له عن نفسه من قبلُ فقال على لسان رسوله الكريم صلّى الله تعالى عليه وسلّم: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبُدني وأقِم الصلاةَ لِذِكري إنَّ الساعةَ آتية أكادُ اُخفيها لتُجزى كلُّ نفسٍ بما تسعى}.
والظواهر الخارقة التي تدرسها باراسايكولوجيا الغرب هي ظواهر غيبية Occult Phenomena لامحالة طالما كانت الطاقة المسؤولة عن ظهورها هي طاقة لا تنتمي، وفق تصنيف فيزياء الغرب المعاصرة، لهذا العالم الفيزيائي المحكوم بقوانين القوى الفيزيائية الأربع. وهي، بعدُ، طاقة تنتمي لعالم الغيب الذي عرّفنا الله به في القرآن العظيم. وهذه الظواهر الخارقة تستدعي من المتأمّل فيها بعقل سليم أن يخلص منها إلى نتيجة واحدة مخلصها أن وراءها غيباً من ورائه الله تعالى. فالغيب هذا يقود لا محالة إلى الله وهذا يجعل من هذه الظواهر الخارقة، الغيبية ضرورةً، والتي درستها باراسايكولوجيا الغرب ظواهراً تدعو للإيمان بالله بالنتيجة! وهنا تكمن المفارقة المضحكة فخوارق الغرب هي خوارق تظهر على مَن لم يلتزم بالسير بإيمان على الطريق إلى الله وهي مع هذا
(أي مع كونها خوارق اللاإيمان) فإنها تقود إليه!
يتبع