الدولة الحمدانية
الدولة الحمدانية هي دولة عربية قامت في الموصل وحلب، واستقلت عن الدولة العباسية في عصور ضعفها. وينتسب الحمدانيون إلى "حمدان بن حمدون" من قبيلة تغلب العربية الأصل التي قامت بضواحي مدينة الموصل.
بدايةً ثار الحمدانيون على الدولة العباسية، ولكن عفت عنهم عندما انتصر الحسين بن حمدان على هارون الشاري الخارجي وأسره وجاء به إلى المعتضد. وقد كان الحمدانيون يمثلون القوة التي تلجأ إليها الخلافة إذا ضاقت بها الأحوال في بغداد؛
فقد لجأ إليهم الخليفة المتقي فارًّا من قوات البريدي التي زحفت على العراق، وعجز أمير الأمراء ابن رائق عن الصمود لها، فناصر الحمدانيون الخلافة، وقتلوا ابن رائق وطردوا البريديين، وأعادوا الخليفة إلى عاصمته؛ مما جعل الخليفة المتقي يلقِّب الحسن بن حمدان ناصرَ الدولة، ولقَّب أخاه عليًّا سيف الدولة، وذلك في شهر شعبان سنة 330هـ، وتولى إمرة الأمراء في بغداد ناصر الدولة أمير الموصل.
لم يستقر الحمدانيون كثيرًا ببغداد لاضطراب أمورها بسبب الحروب الأهلية، وحنق الخليفة على ناصر الدولة لزيادة الضرائب مما دفع الخليفة إلى انتهاز فرصة خروج ناصر الدولة إلى الموصل، فاستنجد بتوزون القائد التركي، ومهَّد له السبيل لدخول بغداد سنة 331هـ. ولم يستطع زعماء الحمدانيين من العرب البقاء في بغداد أكثر من سنة، واضطروا إلى العودة إلى الموصل. ومع ذلك ظلت علاقة الحمدانيين حسنة بالخلافة على الرغم من محاولة البويهيين إزالتهم عن إمارتهم.
وفي حلب امتاز عهد سيف الدولة بكثرة حروبه مع البيزنطيين، وكان جهاد الحمدانيين ضد الروم من أبرز الأعمال التي خلدت ذكرى هذه الدولة. وكان ممن خلدوا ذكر الحمدانيين: أبو الطيب المتنبي، وأبو فراس الحمداني.
وعندما أراد سيف الدولة أن يوسّع ملكه بالشام ليتمكّن من تقوية جبهته أمام الروم، امتد بنفوذه إلى دمشق، الأمر الذي أدى إلى حرب مع الإخشيد، انتصر فيها الإخشيد، وتوصلا أخيرًا إلى صلح يدفع بموجبه الإخشيد جزية سنوية للحمدانيين مقابل احتفاظه بدمشق. ولعل الإخشيد كان يرمي من وراء إبرام الصلح على هذه الصورة، أن يُبقي الدولة الحمدانية حصنًا منيعًا يكفيه مئونة محاربة البيزنطيين. وعندما مات الإخشيد نقض سيف الدولة الصلح، فتصدى له كافور وهزمه، وتم الصلح على بنود الصلح الأول ما عدا دفع الجزية السنوية.
بدأت الدولة الحمدانية في التفكك بعد سيف الدولة، ووقعت في صراعات داخلية أسرية أدت إلى أن يستعين بعضهم على بعض بالروم والعبيديين (الفاطميين). ثم سقطت أخيرًا تحت الضغط العبيديّ المتعاظم في مصر، والنفوذ البويهيّ من جهة العراق، فورثها العبيديون في النهاية.
الدولة الحمدانية.. النسب والنشأة
الدولة الحمدانية هي دولة عربية استقلَّت عن الدولة العباسية في عصور ضعفها، وكان لها جولات من الصراع مع العُبيديين، ومع الروم أيضًا، وقد برز منها حكَّام كسيف الدولة الحمداني صاحب الوقائع المشهورة مع الروم.
ينتسب الحمدانيون إلى حمدان بن حمدون من قبيلة تغلب العربية الأصل التي قامت بضواحي مدينة الموصل
، وبنو تغلب ينتمون إلى آل ربيعة، وكانوا نصارى قبل الإسلام، غير أنَّا نجدهم في أواخر القرن الثالث للهجرة مسلمين، وقد كانت الحالة المادية سيئة، واضطُرَّ قسم كبير من بني تغلب إلى الهجرة، فهاجروا إلى البحرين، وبقي جزء منهم في الجزيرة وبلاد العراق، هذا القسم هو الذي قاد لواء اليقظة الفكرية والسياسية في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، والذي ترأس هذه اليقظة هم بنو حمدان من تغلب.
كان حمدان بن حمدون عاملاً على الموصل للمعتضد بالله العباسي، ثم استقل الحمدانيون عن الدولة العباسية بقيادة ناصر الدولة الحسن في سوريا، وبقي ولاة الحمدانيين في الموصل موالين للخليفة في بغداد، وكان أشهر قادتهم سيف الدولة الحمداني، الذي ضم حلب وحمص إلى سلطانه عام 945م، وأمضى معظم فترة حكمه في غزوات ضد البيزنطيين الصليبيين في الشمال. وقد ازدهرت حلب وشمال الشام في عهد سيف الدولة؛ ففي بلاطه كتب المتنبي أشهر قصائده، وكذلك أبو فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة، الذي أسره الروم خلال إحدى المعارك. وقد اشتدت الحرب مع البيزنطيين في عهد سعد الدولة
(967- 971م)، وبدأت النزاعات مع الفاطميين في الجنوب في عام 1002م، وبدأ الحمدانيون يفقدون سيطرتهم على السلطة التي انتقلت فيما بعدُ إلى الفاطميين
.
شجرة الحكام
الدولة الحمدانية في الموصل:
1- ناصر الدولة أبو محمد الحسن ................... (317هـ/ 929م).
2- عدة الدولة أبو تغلب الغضنفر ....... (358- 369هـ/ 968- 979م).
3- أبو طاهر إبراهيم ..................................... (371هـ/ 981م).
4- أبو عبد الله الحسين .................................. (380هـ/ 991م).
الدولة الحمدانية في حلب:
1- سيف الدولة أبو المحاسن علي ................... (333هـ/ 944م).
2- سعد الدولة أبو المعالي شريف .................. (356هـ/ 967م).
3- سعيد الدولة أبو الفضائل سعد ................... (381هـ/ 991م).
4- أبو الحسن علي .................................... (392هـ/ 1001م).
5- أبو المعالي شريف ................................ (394هـ/ 1003م).
قام حمدون بدور مهم في الحوادث السياسية منذ سنة 260هـ/873م؛ فقد تحالف مع هارون الشاري الخارجي في سنة 272هـ، واستولى على قلعة ماردين بعد ذلك بقليل؛ لذا حاربه الخليفة المعتضد في سنة 281هـ، فهرب حمدان تاركًا ابنه الحسين عليها، واستولى الخليفة على ماردين، وطارد حمدان وظفر به بعد قليل، فسجنه في بغداد، واستمر في سجنه حتى هزم ابنه الحسين هارون الخارجي حليف أبيه؛ فعفا الخليفة عن حمدون، ووزع الأعمال عليه وعلى أولاده.
الحمدانيون في الموصل
قلَّد الخليفة المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان الموصل وما يليها في سنة 292هـ، وولَّى أخاه إبراهيم ديار ربيعة في سنة 307هـ، فظلَّ بها إلى أن خلفه عليها أخوه داود سنة 309هـ. كما ولَّى أخاه سعيدًا نهاوند في سنة 312هـ، وقلَّد غيرهم من بني حمدان بعض مناصب الدولة، وأناب عبد الله بن حمدان ابنه ناصر الدولة الحسن عنه في الموصل 308هـ، واستطاع أن يحتفظ بنفوذه فيها إلى أن مات في سنة 358هـ، إلا فترة قصيرة لا تزيد على سنتين
(317- 319هـ). كما استطاع أن يمد نفوذه على جميع أرجاء ديار بكر وديار ربيعة، ولقَّبه الخليفة المتقي في شهر شعبان سنة 330هـ ناصرَ الدولة، ولقَّب أخاه سيف الدولة
.
ناصر الدولة الحمداني (317-358هـ)
سطع نجم ناصر الدولة بن حمدان في أفق الدولة العباسية، ولكنَّه زاد في فرض الضرائب؛ مما أثار حنق الخليفة وسخط الناس عليه.
وقد اشتعلت الحرب الأهلية بين الحمدانيين والبريديين من ناحية، وبين هؤلاء والبويهيين من ناحية أخرى، وانتهز الخليفة فرصة خروج ناصر الدولة إلى الموصل، فاستنجد بتوزون
ومهَّد له السبيل لدخول بغداد سنة 331هـ، ولم يستطع زعماء الحمدانيين من العرب البقاء في بغداد أكثر من سنة، واضطروا إلى العودة إلى الموصل.
سرعان ما قام العداء بين توزون والخليفة العباسي الذي لجأ إلى ناصر الدولة بن حمدان، وقامت الحرب بين الفريقين في عُكْبرا (تبعد عن بغداد عشرة فراسخ)، وانهزم ابن حمدان والخليفة، وكان الخليفة المتقي يستعين على توزون بناصر الدولة بن حمدان تارةً، وببني بويه تارة أخرى، ولكن ذلك لم يغنِه شيئًا، فقد حبسه توزون وولَّى المستكفي الخلافة (صفر سنة 333هـ)، ثم مات توزون في (المحرم سنة 334هـ).
ولقد تعرَّض ناصر الدولة الحمداني في آخر حياته إلى عِدَّة حوادث أثَّرت في حالته النفسية؛ منها توغُّل البويهيين في البلاد، وموت أخيه سيف الدولة الذي كان شديد المحبة له سنة 356هـ، كل ذلك حزَّ في نفسه، حتى تغيرت أحواله، وساءت أخلاقه، وضعُف عقله، ولم يبقَ له حرمة عند أولاده الذين اختلفوا على أنفسهم؛ فقبض عليه ابنه أبو تغلب بمدينة الموصل وحبسه، وظل في حبسه إلى أن تُوُفِّي في شهر ربيع الأول سنة 358هـ
.
أبو تغلب بن ناصر الدولة (358-369هـ)
بعد وفاة ناصر الدولة قام نزاع بين أولاده وانقسموا إلى فريقين: فريق يناصر حمدان بن ناصر الدولة، وفريق آخر يناصر أخاه أبا تغلب، وأصبح الحمدانيون جماعتين: جماعة بزعامة حمدان وإبراهيم يساعدهم بُخْتِيَار، وجماعة بزعامة أبي تغلب وأخيه الحسين.
استطاع أبو تغلب الانتصار على حمدان، واستولى على حرَّان، ولكنه عجز عن الوقوف في وجه الروم الذين أغاروا على الرُّها، ووصلوا إلى نصيبين وديار بكر.
واستطاع الحمدانيون استعادة الموصل وما يليها في سنة 379هـ على يد أبي طاهر إبراهيم بن ناصر الدولة، وأخيه عبد الله الحسين، ولكنهم لم يبقوا فيها أكثر من سنة؛ لأن الأكراد طمعوا في إزالة دولتهم، وانتصر أبو علي بن مروان الكردي على أبي عبد الله الحسين أخي أبي تغلب بن ناصر الدولة الحمداني، وبعث به إلى مصر بشفاعة الخليفة العبيديّ العزيز بالله، كما قتل أبو الزواد محمدُ بن المسيب أمير بني عقيل أبا طاهر بن ناصر الدولة الحمداني، واستولى على مدينتي نصيبين وبلد 379هـ، وضم إليهما الموصل في السنة التالية، ولكنه طُرِدَ منها على أيدي بني بويه، ثم استردها أخوه المقلد بن المسيب العقيلي الذي أقرَّه بهاء الدولة البويهي على هذه البلاد وما يليها في سنة 386هـ/ 994م.
الحمدانيون في حلب
سيف الدولة الحمداني (333-356هـ)
وُلِد الأمير سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون التغلبي في (303هـ/ 915م) في مدينة مَيَّافارِقين -أشهر مدن ديار بكر- على إثر تولِّي أبيه إمارة الموصل.
وقد عُنِيَ أبوه بتعليمه وتنشئته على الفروسية منذ نعومة أظافره، وأظهر سيف الدولة استعدادًا كبيرًا ومهارة فائقة في القنص والرمي وركوب الخيل منذ صغره؛ فلم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى صار فارسًا لا يُشَقُّ له غبار، وخاض العديد من المعارك الطاحنة ضد أعداء الدولة والمتمردين عليها؛ سواء في الداخل أو في الخارج.
واستطاع الأمير الشاب أن يحقِّق انتصارًا عظيمًا على البريديين الذين اقتحموا بغداد عام (330هـ/ 942م)، ودفعوا الخليفة العباسي المتقي لله إلى الخروج منها، واللجوء إلى الموصل للاستنجاد بالحمدانيين، فلما حقَّق الأمير الشاب علي بن أبي الهيجاء النصر على البريديين بعد أن تعقبهم إلى المدائن، أنعم عليه الخليفة بلقب (سيف الدولة)، وأمر أن تُضرَب باسمه الدنانير والدراهم.
حروبه مع البيزنطيين
امتاز عهد سيف الدولة بكثرة حروبه مع البيزنطيين حتى قيل: إنه غزا بلادهم المجاورة لبلاده أربعين غزوة، انتصر في بعضها وحلَّت به الهزيمة في بعض آخر. وكان كثير من البلاد الإسلامية مسرحًا للحروب التي دارت بين الحمدانيين والروم في ذلك العصر؛ فقد أغار سيف الدولة على زبطرة وعرقة وملطية ونواحيها، فقتل وأحرق وسبى، وانثنى قافلاً إلى درب موزار، فوجد عليه قسطنطين بن فردس الدمستق فأوقع به، وقتل صناديد رجاله، ثم عبر إلى الفرات وأوغل في بلاد الروم والتقى بجيش فردس بمرعش وهزمه، وقتل رءوس البطارقة، وأسر قسطنطين بن الدمستق الذي أصابته ضربه في وجهه، وأكثر الشعراء في هذه الموقعة،
فقال أبو فراس الحمداني:
وآب بقسطنطين وهـو مُكبَّـلٌ *** تحـفُّ بطـاريـق بـه وزَرَازِر
وولَّى على الرسم الدمستق هاربًا *** وفي وجهه عُذرٌ من السيف عاذِر،
ثم سار سيف الدولة لبناء الحدث -وهي قلعة عظيمة الشأن- فاشتد ذلك على ملك الروم الذي أرسل جيشًا جرَّارًا يضم عظماء مملكته وعلى رأسهم فردس الدمستق، وأحاطوا بعسكر سيف الدولة الذي حمل على العدو، واخترق الصفوف طلبًا للدمستق فولى هاربًا، وأسر صهره وحفيده، وقتل خلقًا كثيرًا من الروم، وأكثر الشعراء في هذه الموقعة، فقال أبو الطيب المتنبي:
بناها فأعلى والقَنَا تقـرعُ القنـا *** وموج المنايا حـولها متلاطـم
وكان بها مثل الجنون فأصبحـت *** ومن جثث القتـلى عليها تمائم
وقد وصف الثعالبي سيف الدولة وما بلغته الدولة الحمدانية في عهده في هذه العبارة؛ قال: "وكان بنو حمدان ملوكًا وأمراء، أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم، وكانت وقائعه في عصاة العرب تكُفُّ يأسها وتنزع لباسها، ويفل أنيابها وتذل صعابها، وتكفي الرعية سوء آدابها، وغزواته تدرك من طاغية الروم النار، وتحسم شرهم المثار، وتحسن في الإسلام الآثار، وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرجال، وموسم الأدباء وحلبة الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع قَطُّ بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء، ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها، وكان أديبًا شاعرًا محبًّا لجيد الشعر، شديد الاهتزاز لما يمدح به...
وكان كلٌّ من أبي محمد بن عبد الله بن محمد القاضي الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي، قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت، كقول أبي الطيب المتنبي:
خليليَّ إني لا أرى غير شاعر *** فلي منهم الدعوى ومني القصـائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة *** ولكن سيف الدولة اليوم واحـد
الصراع مع الإخشيديين
وقد أثارت انتصارات سيف الدولة على الروم البيزنطيين حفيظة الإخشيديين الذين وجدوا عليه تلك البطولات والأمجاد، وخشوا من تعاظم نفوذه وقوة شوكته؛ فتحرَّكوا لقتاله.
بلغ الخبر سيف الدولة، فسار إلى حلب فملكها سنة 333هـ، وهرب إلى مصر يانس الخصي، وكان واليَها من قِبَل الإخشيد، فأرسل الإخشيد جيشًا لمحاربة سيف الدولة بقيادة كافور ومعه يانس؛ فتقابلا مع الحمدانيين عند الرَّسْتن -الواقعة على نهر العاصي الذي يمر بالقرب من حماة- فحلَّت الهزيمة بالمصريين، وأُسِرَ منهم أربعة آلاف، عدا القتلى والغرقى.
ثم تقدم سيف الدولة يريد دمشق، فسار إليه الإخشيد الذي حلَّت به الهزيمة في قنسرين، ولكنه انتهز فرصة انشغال الحمدانيين بجمع الغنائم واقتسامها، فأطلق عشرة آلاف من صناديد جنده، بددوا شمل العدو، ودخل حلب حاضرة الحمدانيين، واستردّ دمشق إلا أنه -على الرغم من انتصاره- تصالح مع الحمدانيين على أن يترك حلب وما يليها من بلاد الشام شمالاً، كما تعهَّد بأن يدفع لهم جزية سنوية مقابل احتفاظه بدمشق.
كان الإخشيد في حالة قوة وانتصار، ولكنه كان يرمي من وراء إبرام الصلح على هذه الصورة، أن يُبقِي الدولة الحمدانية حصنًا منيعًا يكفيه مئونة محاربة البيزنطيين، الذين لا يفتُرُون عن مهاجمة الولايات الإسلامية المتاخمة لبلادهم، والذين أغاروا سنة 331هـ على أرزن وميافارقين ونصيبين، فقتلوا وسَبَوا كثيرًا من المسلمين، ثم دخلوا في السنة التالية 332هـ رأس العين في ثمانين ألفًا؛ فقتلوا وسبوا خلقًا عظيمًا من المسلمين.
ولكن هذا الصلح لم يَدُمْ طويلاً؛ فقد تُوُفِّي الإخشيد في سنة 334هـ، وتولَّى كافور الوصاية على ابنه أبي الحسن علي.
انتهز سيف الدولة الفرصة؛ فنقض العهد واستولى على دمشق، ثم سار إلى الرملة لغزو مصر، فحاربه كافور بصحبة الحسن بن عبيد الله بن طغج وانتصر عليه في اللَّجُّون (تبعد عن طبرية بنحو عشرين ميلاً، وعن الرملة بنحو أربعين ميلاً) في بلاد الأردن، ثم انتصر عليه انتصارًا حاسمًا بالقرب من مرج عذرا بجوار دمشق، ودخل الجيش مدينة حلب، وعقدت بين الطرفين معاهدة الصلح بنفس الشروط التي عُقِدت بها أواخر أيام الإخشيد، ما عدا الجزية التي توقف دفعها
إنجازات الدولة الحمدانية
العمارة
بالرغم من الطابع العسكري والحربي لدولة الحمدانيين بصفة عامة، وإمارة سيف الدولة على نحو خاص؛ فإن ذلك لم يصرف الأمير سيف الدولة عن الاهتمام بالجوانب الحضارية والعمرانية.
فقد شيَّد سيف الدولة قصره الشهير بـ(قصر الحلبة) على سفح جبل الجوشن، والذي تميز بروعة بنائه وفخامته وجمال نقوشه وزخارفه، وكان آية من آيات الفن المعماري البديع، كما شيَّد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية.
الحياة الاقتصادية
وشهدت الحياة الاقتصادية ازدهارًا ملحوظًا في العديد من المجالات؛ فمن ناحية الزراعة كَثُرَت المزروعات، وتنوَّعت المحاصيل من الحبوب والفاكهة والثمار والأزهار، فظهر البُرُّ والشعير والذرة والأرز والبسلة وغيرها، كما ظهرت أنواع عديدة من الفاكهة كالتين والعنب والرمان والبرقوق والمشمش والخوخ والتوت والتفاح والجوز والبندق والحِمضيات، ومن الرياحين والأزهار كالورد والآس والنرجس والبنفسج والياسمين، كما جادت زراعة الأقطان والزيتون والنخيل، وقامت صناعات عديدة على تلك المزروعات مثل زيت الزيتون، والزبيب. كما ظهرت صناعات أخرى كالحديد والرخام والصابون والكبريت والزجاج والسيوف والميناء.
وقد نشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمَّة في حلب والموصل والرَّقَّة وحرَّان وغيرها.
الحياة الفكرية
شهدت الحياة الفكرية والثقافية نهضة كبيرة ونشاطًا ملحوظًا في ظلِّ الحمدانيين؛ فظهر الكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء.
وقد أرسى سيف الدولة الحمداني دعائم دولته في حلب؛ فاستقطب بلاطه مشاهير العلماء والأدباء والشعراء أمثال المتنبي وأبي الفتح عثمان النحوي، وقد أجزل سيف الدولة العطاء للشعراء بسبب محبته للشعراء وإجادته نظمه، وبادله الشعراء شعرًا حسنًا، وفنًّا جيدًا.
كما اشتُهِر جماعة من أهل بيته في نظم الشعر كابن عمِّه أبي فراس الحمداني، وهو حينما وقع في أسر الروم في إحدى غزواته، كتب أحسن شعره طالبًا من سيف الدولة بحلب أن يفديه؛ لأنه نشأ في رعايته، ومن شعره في الأَسْر:
ولا تقعـدن عنِّي وقـد سيـم فديتي *** فلست عـن الفعل الكريم بمُقْعَـدِ
فكم لك عنـدي من أيـادٍ وأنعـمٍ *** رفعت بها قدري وأكثرتَ حُسَّدي
هذا وقد اجتمع في بلاط سيف الدولة أشهر اللغويين والنحويين في زمانه مثل أبي علي الفارسي، وابن خالويه، وابن جني، فضلاً عن الفيلسوف الكبير الفارابي الذي كتب في الطب والمنطق والسياسة والرياضة والكيمياء والموسيقى. أمَّا الطبيب عيسى بن الرقي، فقد قال عنه ابن أبي أصيبعة في كتابه (طبقات الأطباء): "إن سيف الدولة كان يعطي عطاء لكل عمل، وكان عيسى الرَّقِّي يأخذ أربعة أرزاق: رزقًا بسبب الطب، ورزقًا بسبب ترجمة الكتب من السرياني إلى العربي، ورزقين بسبب علمين آخرين".
ولم يلبث سيف الدولة أن عاجله المرض، ثم تُوفِّي في شهر صفر 356هـ/ 967م.
سعد الدولة وعلاقته بالروم والفاطميين
أمَّا سعد الدولة فبعد أن استولى على الحكم، كان له قائد اسمه فرغويه، أخذ له البيعة في حلب، وقد استقرَّ فرغويه في حلب ولمع فيها، وأراد أن يكون صاحب الأمر، وما كاد يستطيع أن يقف في وجه سعد الدولة بمفرده؛ فأرسل إلى الروم وطلب عونهم، وصالحهم على جزية سنوية يؤدِّيها لهم؛ لذا لمَّا هجم سعد الدولة على حلب لاستخلاصها من بين يديه؛ أتاه الروم، ودفعوه عن حلب، ثم أعاد سعد الدولة الكَرَّة واستولى على حلب، فسار إليه الروم، ولكنه وجد أنه لا قِبَل له بهم، فصالحهم على الجزية نفسها التي كان يؤديها فرغويه.
في هذه الأثناء الفاطميون (العُبَيْدِيُّون) في مصر، وامتدت يدهم إلى سوريا، فوقعت الواقعة بينهم وبين الحمدانيين، ووجد الروم مصلحتهم إلى جانب الحمدانيين؛ ذلك أنه كان أسهل عليهم أن تقوم دويلات صغيرة متفرقة كالدولة الحمدانية من أن تأتي دولة كبرى كدولة العبيديين فتقف إلى جوارهم، ثم يضطرون إلى محاربتهم. وهكذا ساعد الروم الحمدانيين في حلب ضد العبيديين، وعقدوا معهم صلحًا، حتى إذا سار العبيديون إلى حلب، استنجد الحمدانيون بالروم، فسار إليهم باسيل الثاني بجيش قدره سبعة عشر ألف رجل، فأجلى العبيديين عن حلب، ولم يدخلها، وكان بإمكانه أن يستولي عليها، وكان ذلك بحسابٍ مقدَّر، فلو أنَّه قضى على دولة الحمدانيين، لواجه الفاطميين وجهًا لوجه، والروم كانوا مشغولين بحروب واضطرابات في بلادهم .
سعيد الدولة ونهاية الدولة الحمدانية
وأتى بعد سعد الدولة ابنه سعيد الدولة، وكان إلى جانبه قائد اسمه لؤلؤ، وهو والد زوجته، مدَّ لؤلؤ يده إلى الحُكم وسجن سعيد الدولة، فدانت له حلب، ثم تقدَّم نحو العبيديين فطلب حمايتهم، وبذلك انتهى حكم الحمدانيين في سوريا، ودخل العبيديون حلب.
حكم الحمدانيون حلب والموصل كدولة عربية اعتمدت على قوة ساعدها، وبنت أمرها على الحرب والجهاد، وسارت سيرتها كالدول الأخرى البويهية والعبيدية، فاعتمدت على نوع من الدعوة، واعتمدت بصفة خاصة على تشجيع العلم والثقافة وعلى العناية بالعمران، وقد أخطأت في آخر عهدها؛ فتحالفت مع الروم لتنقذ نفسها من الهلاك، لكن وَحْدة مصر والشام كانت أقوى من أن توقفها المنافع المحلية، فدالت دولتها.