أساطير الخلق الأفريقية
من الصعب جداً أن تلتقي بتلميذ أفريقي غير مطلع على أساطير الخلق التوراتية، ولكن كم منهم يا ترى قد اطلع على أساطير الخلق الخاصة بشعوبهم؟
علماً بأن قصص تلك الأساطير هي على نفس الدرجة من الثراء والتنوع والإبداع، وهي إذا ما اعتُبرت أدباً خالصاً فإنها تشكل مادة مدهشة للقراءة مثلها مثل قصص التوراة .
إن بعض الأفكار في أساطير الخلق هذه ستكون جديدة ومفاجئة للقارئ الذى تربّى على التقاليد الإسلامية والمسيحية: ففي أسطورة الكونو-Kono يكون الموت هو القوة الأصل في العالم ويسبق وجود الرب، وعند المالوزي- Malozi يبدو الرب فاقداً للقوة التي تمكنه من السيطرة على الإنسان. أما عند الإيجو-Ijaw فإن الإنسان قد قرر بنفسه مصيره الخاص قبل مجيئه إلى العالم. أما الوابانكوا– Wapangwa فإنهم يمتلكون رؤية خيالية غريبة تقول بأن الأرض قد خُلقت من براز النمل، في حين يعتبر اليوروبا– Yoruba الرب مسؤولاً ومذنباً عن التشويهات التي تلحق بالإنسان. كما أنهم يفسرون وجود أكثر من آلهة متعددة بوصفها أجزاءً مكونة للوجود الإلهي المفرد.
وجود هذه الأفكار تثير الانتباه لأنها تُلقي الضوء على علاقة الإنسان بالرب وعلى محاولاته للتوصل إلى نوع من التفاهم مع القوى الخارقة للطبيعة التي لا يمكن تجنبها. وبالرغم مما سبق فإن الأساطير الأفريقية تلك تتضمن الكثير من الأفكار المألوفة والمشابهة لتلك التي وردت في التراث الشرقي حيث يؤمن اليوروبا- Yoruba بأن الماء خُلق قبل اليابسة، ويؤمن الفانك- Fang بأن هناك خليقة أصلية قد لُعنت ودُمرت ليس بالماء ولكن بالنار. كما أنهم يؤمنون بوجودٍ منحدر من النعمة الإلهية، وهو– أي ذلك الوجود– يقوم كخصم للرب. إن عدداً هائلاً من الأساطير الأفريقية تتبنى وتنشئ الفكرة القائلة بأن الإنسان كان في الأصل يعيش في انسجام هو أقرب إلى الرب (مثل قصة البيني– Bini حول السماء المنبسطة قريباً من الأرض)، وبسبب من خطأ الإنسان نفسه فإن تلك العلاقة الحميمة آلت إلى الخراب.
أما المالوزي- Malozi فلديهم قصة تذكرنا بقصة برج بابل– حيث يحاول رجل أن يصل إلى الرب بواسطة بناء برج عال في السماء. أما دافع الفاكهة المحرمة فيظهر بين الايف– Efe. وكثير من الشعوب تصف الرب وهو يخلق الإنسان من طين. وتتضمن أسطورة الاوباتالا–Obatala لليوروبا بوضوح فكرة الخلاص من خلال المعاناة ، كما ويمتلك الوايانكوا من تانجنيكا مفهوماً عالي التعقيد والتجريد بأن الكلمة كانت هي القوة الأولية الباعثة على الخلق.
وفي بعض الحالات يبدو التشابه بين تلك الأساطير والميثولوجيا التوراتية مثيراً للدهشة إلى الحد الذي قد يدفع المرء إلى التشكيك بوجود تأثير للإرساليات والبعثات التبشيرية. بيد أن جامعي هذه القصص تمكنوا من نفي مثل هذا الاحتمال. وبالتأكيد فإن الاتصال الثقافي مع الشرق الأدنى كان موجوداً في الأزمان القديمة وكان يمكن للقصص والأساطير حينذاك أن تُنقل بسهولة . ولكن الأهم من التأثيرات أو الاستعارات، كما نعتقد، هو الحقيقة القائلة بأن أفكاراً متشابهة تخطر في أذهان البشر في أماكن مختلفة وأزمان مختلفة، وبمعزل كل منهم عن الآخر. فقصة الفيضان أو الطوفان مثلاً موجودة عند الأسكيمو، ليبدو التأثير الشرقي المباشر على تلك المنطقة وكأنه مسألة لا تقبل الجدل . ثم أن ازتيك المكسيك بنوا إهرامات بالرغم من أنهم لا يمكن أن يكونوا على اتصال بمصر.
على أية حال، ومن وجهة نظر أدبية، فإن أصل فكرة معينة تبدو مسألة ذات أهمية قليلة، قياساً بمسألة صياغة تلك الفكرة وروايتها بشكل معين وإعطائها الموقف أو الرأي الشخصي وأسلوب قصها، فهذا هو الشى المهم. إن رواة القصص الأفارقة وصانعي الأساطير قد أظهروا براعتهم وقدراتهم على الإبداع في قصص، لا تُعد ولا تُحصى، فسروا بها أصل الموت. أما الموتيف الأكثر شيوعاً، فهو الذي يُرسل فيه الرجل رسولاً إلى الرب والذي يوافق على مطلبهم بالحصول على حياة أبدية. ولكن خطأً ما يحدث في الرسالة ويخسر الجنس البشري العطية التي كانت قاب قوسين أو أدنى. وهناك لهذا الموتيف ما يزيد على سبعمئة نص معروفة في أنحاء مختلفة من إفريقيا. في بعضها يحرّف الرسول الرسالة ويصبح على هذا الأساس مسؤولاً عن موت الإنسان. وفي الأخرى يكون الرسول بطيئاً فيرسل الإنسان رسولاً ثانياً في أثره، ليغضب الرب من عجالة الإنسان وقلة صبره فيسحب منه هبته في الخلود. وفي قصص أخرى يكون الرسول خبيثاً ماكراً ويعطي الرب، عن عمد، رسالة مغلوطة. وفي بعضها يتدخل عدو للإنسان ليخرب الموضوع في اللحظة الأخيرة. وهناك نص بالذات، من تلك النصوص، رفيع المستوى يترك السؤال مفتوحاً وينتهي بالعبارة الآتية: "ومنذ ذلك الحين آمن البشر بأنهم لن يولدوا مرة أخرى".
واضحٌ أن هناك عدداً كبيراً من تلك النصوص يفسر أصل الموت، حيث تأتي على ذكر ذلك الموتيف التوراتي حول الفاكهة المحرمة. كما أن هناك نصوصاً تنحى باللائمة على عصيان الرجل أو على غيرة المرأة. وفي إحدى تلك القصص يتاح لرجل ما الاختيار، ولكنه في النهاية يتخذ قراراً أحمق. وفي قصة جميلة جداً، يجلب أحدُ الرجال الموت إلى نفسه مقابل حصوله على نعمة إنجاب الأطفال.
مجموعة صغيرة جداً فقط من تلك القصص مقدمه هنا والأساطير الخاصة بأصل الحياة والموت . إنها قصص جيدة وآمل أنها سوف تحظى بنفس الإعجاب من الصغار والكبار على حد سواء. وقراءة الميثولوجيا الإفريقية سيساعد، في الوقت نفسه، على وضع الميثولوجيا المسيحية في مكانها الصحيح، لأنها غالباً ما تُدرّس في المدارس النيجيرية على أساس أنها حقائق وليست أساطير أو محاولات لتفسير علاقة الإنسان بربه، وقصص متضمنة حقائق مهمة. في درس للتاريخ في مدرسة نيجيرية معروفة سأل طالب حائر مرةً أستاذَه: من جاء أولاً، إنسان الياندرتال أم آدم وحواء؟ وأهمل المعلم السؤال ببساطة واعتبره سؤالاً فظاً لأنه هو نفسه لم يكن يفهم بأن ليس من الضرورة أن تتطابق الحقيقة مع الواقعة.
فصول من كتاب
إعداد وتحرير : يوللي بييــر
ترجمة : ميسلون هادي
من الصعب جداً أن تلتقي بتلميذ أفريقي غير مطلع على أساطير الخلق التوراتية، ولكن كم منهم يا ترى قد اطلع على أساطير الخلق الخاصة بشعوبهم؟
علماً بأن قصص تلك الأساطير هي على نفس الدرجة من الثراء والتنوع والإبداع، وهي إذا ما اعتُبرت أدباً خالصاً فإنها تشكل مادة مدهشة للقراءة مثلها مثل قصص التوراة .
إن بعض الأفكار في أساطير الخلق هذه ستكون جديدة ومفاجئة للقارئ الذى تربّى على التقاليد الإسلامية والمسيحية: ففي أسطورة الكونو-Kono يكون الموت هو القوة الأصل في العالم ويسبق وجود الرب، وعند المالوزي- Malozi يبدو الرب فاقداً للقوة التي تمكنه من السيطرة على الإنسان. أما عند الإيجو-Ijaw فإن الإنسان قد قرر بنفسه مصيره الخاص قبل مجيئه إلى العالم. أما الوابانكوا– Wapangwa فإنهم يمتلكون رؤية خيالية غريبة تقول بأن الأرض قد خُلقت من براز النمل، في حين يعتبر اليوروبا– Yoruba الرب مسؤولاً ومذنباً عن التشويهات التي تلحق بالإنسان. كما أنهم يفسرون وجود أكثر من آلهة متعددة بوصفها أجزاءً مكونة للوجود الإلهي المفرد.
وجود هذه الأفكار تثير الانتباه لأنها تُلقي الضوء على علاقة الإنسان بالرب وعلى محاولاته للتوصل إلى نوع من التفاهم مع القوى الخارقة للطبيعة التي لا يمكن تجنبها. وبالرغم مما سبق فإن الأساطير الأفريقية تلك تتضمن الكثير من الأفكار المألوفة والمشابهة لتلك التي وردت في التراث الشرقي حيث يؤمن اليوروبا- Yoruba بأن الماء خُلق قبل اليابسة، ويؤمن الفانك- Fang بأن هناك خليقة أصلية قد لُعنت ودُمرت ليس بالماء ولكن بالنار. كما أنهم يؤمنون بوجودٍ منحدر من النعمة الإلهية، وهو– أي ذلك الوجود– يقوم كخصم للرب. إن عدداً هائلاً من الأساطير الأفريقية تتبنى وتنشئ الفكرة القائلة بأن الإنسان كان في الأصل يعيش في انسجام هو أقرب إلى الرب (مثل قصة البيني– Bini حول السماء المنبسطة قريباً من الأرض)، وبسبب من خطأ الإنسان نفسه فإن تلك العلاقة الحميمة آلت إلى الخراب.
أما المالوزي- Malozi فلديهم قصة تذكرنا بقصة برج بابل– حيث يحاول رجل أن يصل إلى الرب بواسطة بناء برج عال في السماء. أما دافع الفاكهة المحرمة فيظهر بين الايف– Efe. وكثير من الشعوب تصف الرب وهو يخلق الإنسان من طين. وتتضمن أسطورة الاوباتالا–Obatala لليوروبا بوضوح فكرة الخلاص من خلال المعاناة ، كما ويمتلك الوايانكوا من تانجنيكا مفهوماً عالي التعقيد والتجريد بأن الكلمة كانت هي القوة الأولية الباعثة على الخلق.
وفي بعض الحالات يبدو التشابه بين تلك الأساطير والميثولوجيا التوراتية مثيراً للدهشة إلى الحد الذي قد يدفع المرء إلى التشكيك بوجود تأثير للإرساليات والبعثات التبشيرية. بيد أن جامعي هذه القصص تمكنوا من نفي مثل هذا الاحتمال. وبالتأكيد فإن الاتصال الثقافي مع الشرق الأدنى كان موجوداً في الأزمان القديمة وكان يمكن للقصص والأساطير حينذاك أن تُنقل بسهولة . ولكن الأهم من التأثيرات أو الاستعارات، كما نعتقد، هو الحقيقة القائلة بأن أفكاراً متشابهة تخطر في أذهان البشر في أماكن مختلفة وأزمان مختلفة، وبمعزل كل منهم عن الآخر. فقصة الفيضان أو الطوفان مثلاً موجودة عند الأسكيمو، ليبدو التأثير الشرقي المباشر على تلك المنطقة وكأنه مسألة لا تقبل الجدل . ثم أن ازتيك المكسيك بنوا إهرامات بالرغم من أنهم لا يمكن أن يكونوا على اتصال بمصر.
على أية حال، ومن وجهة نظر أدبية، فإن أصل فكرة معينة تبدو مسألة ذات أهمية قليلة، قياساً بمسألة صياغة تلك الفكرة وروايتها بشكل معين وإعطائها الموقف أو الرأي الشخصي وأسلوب قصها، فهذا هو الشى المهم. إن رواة القصص الأفارقة وصانعي الأساطير قد أظهروا براعتهم وقدراتهم على الإبداع في قصص، لا تُعد ولا تُحصى، فسروا بها أصل الموت. أما الموتيف الأكثر شيوعاً، فهو الذي يُرسل فيه الرجل رسولاً إلى الرب والذي يوافق على مطلبهم بالحصول على حياة أبدية. ولكن خطأً ما يحدث في الرسالة ويخسر الجنس البشري العطية التي كانت قاب قوسين أو أدنى. وهناك لهذا الموتيف ما يزيد على سبعمئة نص معروفة في أنحاء مختلفة من إفريقيا. في بعضها يحرّف الرسول الرسالة ويصبح على هذا الأساس مسؤولاً عن موت الإنسان. وفي الأخرى يكون الرسول بطيئاً فيرسل الإنسان رسولاً ثانياً في أثره، ليغضب الرب من عجالة الإنسان وقلة صبره فيسحب منه هبته في الخلود. وفي قصص أخرى يكون الرسول خبيثاً ماكراً ويعطي الرب، عن عمد، رسالة مغلوطة. وفي بعضها يتدخل عدو للإنسان ليخرب الموضوع في اللحظة الأخيرة. وهناك نص بالذات، من تلك النصوص، رفيع المستوى يترك السؤال مفتوحاً وينتهي بالعبارة الآتية: "ومنذ ذلك الحين آمن البشر بأنهم لن يولدوا مرة أخرى".
واضحٌ أن هناك عدداً كبيراً من تلك النصوص يفسر أصل الموت، حيث تأتي على ذكر ذلك الموتيف التوراتي حول الفاكهة المحرمة. كما أن هناك نصوصاً تنحى باللائمة على عصيان الرجل أو على غيرة المرأة. وفي إحدى تلك القصص يتاح لرجل ما الاختيار، ولكنه في النهاية يتخذ قراراً أحمق. وفي قصة جميلة جداً، يجلب أحدُ الرجال الموت إلى نفسه مقابل حصوله على نعمة إنجاب الأطفال.
مجموعة صغيرة جداً فقط من تلك القصص مقدمه هنا والأساطير الخاصة بأصل الحياة والموت . إنها قصص جيدة وآمل أنها سوف تحظى بنفس الإعجاب من الصغار والكبار على حد سواء. وقراءة الميثولوجيا الإفريقية سيساعد، في الوقت نفسه، على وضع الميثولوجيا المسيحية في مكانها الصحيح، لأنها غالباً ما تُدرّس في المدارس النيجيرية على أساس أنها حقائق وليست أساطير أو محاولات لتفسير علاقة الإنسان بربه، وقصص متضمنة حقائق مهمة. في درس للتاريخ في مدرسة نيجيرية معروفة سأل طالب حائر مرةً أستاذَه: من جاء أولاً، إنسان الياندرتال أم آدم وحواء؟ وأهمل المعلم السؤال ببساطة واعتبره سؤالاً فظاً لأنه هو نفسه لم يكن يفهم بأن ليس من الضرورة أن تتطابق الحقيقة مع الواقعة.
فصول من كتاب
إعداد وتحرير : يوللي بييــر
ترجمة : ميسلون هادي
تعليق