قضيّة نهب الآثار وتهريبها: نـُطالب بكشف المستور..!
كشفت بعض وسائل الإعلام في المدة الأخيرة تفاصيل كثيرة تتعلّق بالشبكة الدولية لنهب الآثار من تونس وتهريبها والاتجار بها. وكانت "وكالة تونس إفريقيا للأنباء"، أشارت، في البداية وعلى غير عادتها، في برقية مقتضبة، إلى اكتشاف هذه الشبكة. ولكنّها لم تقدّم فكرة واضحة عن حجمها وحجم أنشطتها الإجرامية. وجاء بعد ذلك مقال الصحفي منجي الخضراوي بجريدة "الشروق" اليومية الصادرة بتاريخ 15 ديسمبر ليرفع اللثام عم هذه القضيّة ويقدّم كمّا هائلا من المعلومات المستقاة حسب الظاهر من التحقيقات التي أجرتها الدّوائر القضائية. ومنذ ذلك التاريخ تتالت كتابة المقالات حول نفس الموضوع. فقد خصّصت له أسبوعية "حقائق" (باللغة العربية) حيزا هاما من عددها الـ103 الصادر بتاريخ 21 ديسمبر 2009. كما خصّصت له صحيفة "الطريق الجديد" المعارضة ملفّا في عددها الـ160 الصادر بتاريخ 26 ديسمبر 2009.
1- قضيّة من الحجم الكبير
إنّ من يطّلع على ما ورد في هذه المقالات والتحقيقات يبقى مذهولا أمام حجم القضيّة وخطورتها. فالأمر لا يتعلّق بقضيّة تهمّ شخصا أو شخصين معزولين، بل بقضيّة تورّط فيها العشرات (30 إلى حدّ الآن) من الأشخاص الذين ينتمون إلى حوالي عشر جنسيات (تونسية، انجليزية، فرنسية، إيطالية، يونانية،...). كما أن هذه الشبكة لم تبدأ نشاطها هذه المدّة فقط أو قبل عام أو عامين أو حتى خمسة أعوام، بل إنها بدأت نشاطها منذ ثمانينات القرن الماضي أي منذ ما يزيد عن العشرين سنة. وليس أعضاؤها بـ"الهواة" أو "المبتدئين"، بل هم من المحترفين في مجال نهب الآثار وتهريبها وللبعض منهم شهرة عالمية على غرار "رأس العصابة"، الإنجليزي، "وليام فيورس" الذي له يد في نهب أثار العراق بعد سقوطه تحت الاحتلال الأمريكي في عام 2003. كما أن العديد من هؤلاء ليسوا مجهولين لدى الدوائر الأمنية والقضائية التونسية بل هم من "العائدين" أي من أصحاب السوابق.
وإلى ذلك فإنّ نشاط هذه الشبكة لا يشمل جهة أو منطقة محددة من البلاد بل كامل التراب الوطني الذي يحتوي على ما يقلّ عن 30 ألف (30.000) موقع أثري حسب أهل الاختصاص [1]. فالجماعة يجوبون البلاد من تونس إلى سبيطلة، ومن القصرين إلى العروسة (ولاية سليانة) ومن القيروان إلى بئر علي بن خليفة (ولاية صفاقس)، ومن الحمامات إلى الجم، ومن شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، دون قلق بل إنهم وجدوا أحيانا من يتعامل معهم من الوكالة الوطنية للتراث (أحد الأعوان الذي يعمل قابضا).
أمّا عن الآثار التي نهبتها الشبكة أو بالأحرى العصابة فحدّث ولا حرج. إنّ الأمر لا يتصوّره العقل فكأننا بالجماعة يرتعون في "ملك السيد الوالد" ويجمّعون القطع الأثرية كما تجمع "البطاطا" ويضعونها بمنازلهم أو بمخازن مخصصة لذلك في انتظار تحويلها إلى الخارج (كيف؟ بتواطؤ مع من؟) لتباع بأسعار باهظة أو لتعرض في لندن وميونيخ وغيرها، وقد وجد المهرّبون طريقة لتبييض الأموال التي تجنى من بيع "غنيمتهم" وذلك بإدخالها في تجارة زيت الزيتون. وتعود الآثار المنهوبة، التي لا يجني منها أحيانا باعتها في تونس سوى حفنة من الدنانير لا تساوي شيئا أمام قيمتها التاريخية وأمام الأسعار التي تباع بها في الخارج، إلى كافة المراحل التاريخية لبلادنا، من عهد الرومان، إلى المسيحية المبكّرة إلى الإسلام، إلى الدولة الحسينية، إلخ.
لقد قدّم الصحفي منجي الخضراوي جردا لما تمّ العثور علبيه هذه المرّة فقط لدى بعض أفراد الشبكة ووقع تسجيله في محاضر الحجز، ونحن نكتفي بنقل هذا الجرد كما هو حتى يقف القارئ عند هول المصيبة "وقد تمكّن المحققون الذين كانوا مصحوبين بقاضي التحقيق بالمكتب الثاني بالمحكمة الابتدائية بتونس من حجز المئات من القطع الأثرية من منزل متّهم واحد أصيل القيروان [2]. كما احتجزوا المئات من القطع الأخرى من مخطوطات وقناديل وتماثيل من مختلف الأشكال والأحجام وخزف روماني وقناديل بونية وأخرى بيزنطية وحجر لرأس حصان وقطع نقدية رومانية وبيزنطية وإسلامية وأواني فخارية وأعمدة رخامية لفترات وحقب تاريخية مختلفة وقبور رومانية ومزهريات وحليّ وخواتم وميدالية لرأس قيصر وقناديل من الفخار الأحمر وتحف من البلّور الخام ومن الفضّة والذهب وحجارة اسطوانية ومقابض برنزية وأساور برنزية تنتهي في أطرافها على شكل أسد ومقبض في شكل خنزير وحشي وأدوات من العاج وأعمدة من الرخام الحفصي وتماثيل كنسية لبشر ولحيوانات ورخام بعود للفترة المسيحية وتابوت من الكلس بغطائه يحمل في واجهته صورة طائر بوني وعامود اسطواني الشكل يحمل كتابة بخطّ كوفي حفصي وشرائط كوفية وأعمدة تعود إلى الفترة الحسينية ودوائر تمثّل مجسّمات ملائكة مقيّدة ودعامة باب تعود إلى الفترة الإسلامية ورأس إله و قناع من فخار ولوحات قنينة مرصعة بالبلور الخالص وكميات من المرجان الخام والمئات من القطع النقدية الرومانية ومخطوطات نادرة وكتب تاريخية وأباريق من العهد المسيحي المبكر وبيزنطية وأواني شرب وأكل لحقب مختلفة وقناديل أندلسية إضافة إلى تمثال للإلهة فينوس وأوان من العهد الوندالي... والمئات أو الآلاف من القطع الأثرية النادرة التي لا تقدر بثمن".
هذا هو الجرد الذي قدمه منجي الخضراوي وهو يغني عن التعليق. وقد أشار توفيق العياشي في الطريق الجديد إلى قطع أثرية وجدت بمنزل رجل أعمال بالحمامات، ذكر اسمه في قضية الحال. وقد قال في هذا الصدد: "وتعذر على القضاء رفع ما وجد بداخل (المنزل) من محجوزات أثرية نظرا لضخامة كمياتها وعدم توفر الوسائل الكافية لرفعها الأمر الذي دفع قاضي التحقيق إلى تأمين المحل وتعيين حراسة عليه". ولسائل أن يسأل: إذا كانت كميات القطع الأثرية التي حجزت هذه المرّة بمثل هذا الحجم، فما هو إذن حجم كامل الكميات التي نهبت وهرّبت على مدى الأكثر من عشرين سنة الماضية؟ ومن الملاحظ أنّ التحقيق المنشور بصحيفة الطريق الجديد أشار إلى بعض السرقات حديثة العهد. فقد ذكر السيد فتحي البحري، كاتب عام النقابة الأساسية للمعهد الوطني للآثار، وهو أحد المستجوبين في هذا التحقيق، "أن كنوزا ذهبية تعود إلى حقب تاريخية مختلفة فقدت قبل سنوات من مخازن المعهد الوطني للآثار من بينها كنز حنبعل الذي يعدّ حوالي 533 قطعة ذهبية، سرعان ما وقع إنكار اكتشافها نهائيا بعد فترة من تسريب خبر اختفائه". ويتحسّر السيد فتحي البحري على كون إدارة المعهد كانت رفضت مطلبه في الاشتغال كباحث على ذلك الكنز، قبل أن يضيف : "أنّ 57 ورقة رقّ مرصّعة بالذهب (ورق قرآني) قيمة الواحد منها بين 10 آلاف و15 ألف أورو فقدت سنة 2008 فجأة من المتحف الأثري برقادة في ولاية القيروان". من سرق الكنوز؟ ومن سرق الأوراق القرآنية؟ ومن يقف وراء هذه السرقات وغيرها مثل تلك التي أشار إليها باحث آخر، وهو السيد صادق بعزيّز، وقد وقعت قبل سنوات بجهة القصرين (حقائق – العدد المذكور أعلاه)؟ ولماذا لم يتمّ البحث فيها؟ وألبس التكتم على هذه السرقات دليل على تورّط أشخاص "مرموقين" أو "محميين" فيها؟
2- إهمال وتهاون
لقد أثارت قضية نهب الآثار هذه مسألة الحفاظ على إرثنا التاريخي والحضاري. فالمرء لا يمكنه أن يتمالك، أمام هذه الكارثة، عن السؤال: "أين الدولة؟" باعتبارها المسؤول الأول عن حماية التراث من النهب والإتلاف. لقد كشف المستجوبون في صحيفة الطريق الجديد ومجلة حقائق وكلهم من أهل الاختصاص، مدى حجم مسؤولية الدولة في ما يحصل. فالجميع يتّفق أوّلا وقبل كل شيء على قلة العناية إن لم نقل على إهمال تراثنا. فالسيد فتحي البحري يقول: "لا وجود لجرد علمي أو أيّ نوع من الكشوفات التي تسجل المنقولات الأثرية الموجودة في مخازن المعهد الوطني للآثار أو في غيره من المعالم والمتاحف في البلاد. فلا أحد يعلم الكمية الحقيقية للآثار الموجودة في معالمنا وأنواعها وتواريخ الكشف عنها وعدد قطعها". ويضيف متسائلا: "لماذا تتجنب الإدارات القيام بجرد وكشوفات بكمية الآثار الموجودة (...) لذلك لا نستطيع إثبات عمليات الاختفاء المفاجئ التي شهدتها عدة منقولات ومن أهمّها الكنوز الذهبية التي تبخّرت منذ سنوات من مخازن المعهد التراث ومن ضمنها كنز حنّبعل (...) فلا أحد يستطيع إنكار وجود القطع الأثرية التونسية في المتاحف وقاعات العرض العالمية لكننا لا نملك حجّة امتلاكها مادامت غير مدونة في سجلاّتنا". ويقدم الباحث صورا أخرى من الإهمال فيقول : "من المتعارف عليه في جميع متاحف العالم ودور العرض العالمية وجود منشورات خاصّة بالمعروضات تقدّم جميع البيانات حول القطع الأثرية هذا فضلا عن قاعدة البيانات الالكترونية التي تخزن جميع المعطيات حول الآثار. فمن يتصور أن قاعدة البيانات الالكترونية في بعض المعالم التونسية ليست مشفرة بما يتيح لأيّ كان التسلل إليها والعبث بمحتوياتها، وأن إحدى العارضات البلورية في المتحف الأثري بقرطاج ليس بها قفل يحمي القطعة التي بداخلها؟" (انظر الطريق الجديد) ويلتقي الصادق بعزيّز، الباحث بالمعهد الوطني للتراث، في تصريحه لمجلة "حقائق" مع بعض ما جاء في كلام السيد فتحي البحري ويضيف أشياء أخرى فيقول "إن الخارطة الأثرية لم تضبط بعد وهي تعود إلى 30 سنة. وما لم تضبط الخارطة الأثرية وما لم تحدد المعالم والمواقع وتوظف الطاقات وتسخر الموارد البشرية المختصة فإن النهب سيتواصل". وقد عبّر الباحث بالمناسبة عن "أسفه المتجدد من تكرار هذه العمليات المنظمة للنهب دون أن تحرك الإدارات المعنية ساكنا" لحماية الآثار التي هي "رمز الذاكرة وحمالة المستقبل لا الماضي فقط". وفي نفس السياق يؤكد السيد منصور غاقي، الباحث في علوم الآثار: "أن الكمية الأهم من المعالم والمصنفات الأثرية مازالت مطمورة في الأرض في مختلف مناطق البلاد ويقع اكتشافها بصفة دورية عن طريق عمليات النبش سواء المقصودة أو العفوية لذلك تعتبر إمكانية المراقبة والحراسة على الثروة الأثرية محدودة قياسا إلى كثرة المعالم. وتوزّعها على كامل أنحاء البلاد وشساعة الأراضي المصنّفة على الخريطة الأثرية" (أنظر الطريق الجديد). وقد شدّد الباحث على النقص في حراسة المعالم وجميع الإطارات وخاصّة في الباحثين. وهذه النقطة أثارتها مجلّة حقائق إذ أكّدت أن عدد الحراس لا يتجاوز 66 حارسا لأكثر من 30 ألف موقع أثري. وتحدّث السيد فتحي البحري عن ظروف هؤلاء الحرّاس فذكر أنهم مجرّد عملة حظائر وقتيين لا اختصاص لهم وأنّ راتب الواحد منهم لا بتجاوز 100 دينار شهريا، علما "وأن المداخيل السّنوية مثلا للوكالة الوطنية لحماية التراث تقدّر بـ19 مليار من الملّيمات في حين أنّ الإعتمادات المخصّصة للمعهد لا تتجاوز المليار الواحد من الملّيمات" كما أشار باحث آخر في المعهد الوطني للآثار لم يذكر اسمه إلى غياب اختصاص واحد في السلامة في الـ50 متحفا الموجودين بالبلاد.
أمّا من الناحية القانونية فحدّث ولا حرج. فقد توجّهت "الطريق الجديد" إلى أحد المحامين، الأستاذ عبد الجواد الحرّازي، بجملة من الأسئلة تتعلّق بمدى حماية القانون لتراثنا، فأجاب بأنّ القانون (مجلّة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية الصادرة بمقتضى القانون عدد 35 لسنة 2004) "عام وفضفاض في تعريفه لمفهوم التراث، إذ لا يقدّم ملامح دقيقة لكلّ ما يصنّف كآثار..." كما أنّ التعريف المقدّم "لم يشمل المعادن والهياكل والمنحوتات والحليّ وأدوات الزينة". وإلى ذلك فإنّ جميع المخالفات المرتكبة في مجال السرقة والاتجار في الآثار تصنّف كجنح "إذ لا يمكن في جميع الحالات أن تتجاوز عقوبة مرتكب جميع المخالفات المنصوص عليها في مجلّة حماية التراث سنة سجنا وخطيّة مالية لا تتعدى في أقصى الحالات عشرة آلاف دينار إلاّ إذا توفّر شرط "العود" (...) فإنّ العقوية تتضاعف" ويصنّف الأستاذ الحرّازي أن القانون يكتفي أيضا "بمعاقبة من يقوم بالتفويت في عقار محمي أو منقولات أثرية محمولة دون إعلام الوزارة المكلّفة بحماية التراث بخطيّة قدرها 300 دينار، وهو ما يعني أنّ جميع عمليات تداول العقارات والمنقولات المحمية التي تقدّم عليها مجموعات الاتجار في الآثار لا تتجاوز عقوية مقترفها الخطيّة الرمزية".
3 – مظهر من مظاهر الفساد العام
ذاك هو إذن رأي أهل الاختصاص في أوضاع التراث في بلادنا: جرد غائب واستثمار ضعيف وحراسة شكلية وقانون غير رادع. وهو ما فتح الباب كما نرى إلى العبث بهذا التراث ونهبه. ولعلّ السؤال الذي يفرض نفسه أمام هذه الحال هو التالي: لماذا كلّ هذا الإهمال من الدولة؟ لماذا لا تعتني الدولة العناية اللازمة بهذا المخزون النفيس، "حمّال المستقبل وليس الماضي فقط" كما قال السيد صادق بعزيّز؟ إنّ الجواب يكمن في الحقيقة في طبيعة الدولة التي تسوس بلادنا في الوقت الحاضر، فهي دولة استبدادية لا وطنية، لا تعتني بالتراث ولا تحميه، لأنها قائمة على أجهزة وأشخاص لا تربطهم بالوطن سوى علاقة نهب مسترسل، ولا يهمّهم سوى ما يكدّسونه من ثروة، بل إنّ العلم والمعرفة والثقافة هي آخر ما يمكن أن يفكّر فيه هؤلاء المافيوزيون، أفلم تفرّط الدولة ذاتها، خلال السنوات الأخيرة، في بعض الأراضي، بمنطقة قرطاج الأثرية، المصنّفة من اليونيسكو "تراث وطني" (Patrimoine national) لبعض أفراد "العائلة الحاكمة" كي يشيّدوا عليها بنايات؟
إنّ قطاع الآثار ليس هو القطاع الوحيد المنهوب في بلادنا. فكلّ شيء فيها هو الآن عرضة للنهب والاتجار: الأرض التي تباع للشركات الأجنبية بالمليم الرمزي كي تقام عليها مشاريع لا فائدة ترجى منها للشعب التونسي، والمؤسسات العمومية التي يفوّت فيها للرأسمال الأجنبي، الذي حاز إلى حدّ الآن 87% من رأسمال المؤسسات المخوصصة، وأرزاق المواطنين ذاتها التي ينهبها أفراد العائلات المتنفّذة، الخ. فكيف يمكن لقطاع التراث، والحالة تلك، أن ينجو من النهب؟ إنّ نهب الآثار وتهريبها ما هو إلاّ جزء من الفساد العام في البلاد، ولا يمثّل بأيّ شكل من الأشكال ظاهرة معزولة أو استثنائية. وما من شكّ في أن ما يزيد الطين بلّة هو الطابع الاستبدادي للدولة وما يعنيه من غياب لحريّة التعبير والإعلام وانعدام لإستقلالية القضاء وصورية المؤسسات التمثيلية الوطنية (مجلس النواب...) والمحليّة (البلديات) والجهويّة (المجالس الجهوية) وغياب للتسيير الديمقراطي في كافة المؤسسات بما فيها المؤسسة الثقافية [3]، وهو ما يؤدّي في نهاية الأمر إلى استحالة المراقبة والمحاسبة والتصحيح. وليس أدلّ على ذلك ما أثاره المستجوبون من أهل الاختصاص بصدد القضيّة الحالية من بقاء العديد من الملفّات والقضايا المتعلّقة بسرقات الآثار في العديد من الجهات معلّقة، بلا جواب، بل ذهب الأمر في ما يتعلّق بسرقة "كنز حنّبعل" إلى حدّ إنكار اكتشاف هذا الكنز أصلا ودخوله مخازن المعهد الوطني للتراث.
إنّ المطّلع على تفاصيل هذه القصيّة المنشورة بالصحف التي ذكرناها لا يمكنه إلاّ أن يتساءل: أين هي الإدارة وخصوصا مصالح وزارة الثقافة التي يعود إليها الإشراف على قطاع التراث طوال العشرين سنة ونيف التي غطّاها نشاط "الشبكة" المعنية؟ وأين هو جهاز البوليس الذي يعدّ من أضخم الأجهزة في العالم مقارنة بعدد السكان؟ وأين هي "الديوانة" الحاضرة بكثافة في المطارات والموانئ والنقاط الحدودية وحتّى في المناطق المحاذية للحدود؟ وأين هو جهاز القضاء؟ إنّ الجواب على هذه الأسئلة بسيط ولا يتطلّب عناء التفكير، فكلّ الأجهزة والمؤسسات التي ذكرناها مسخّرة في الواقع لخدمة نظام بن علي والعائلات المتنفّذة التي تسنده، وليس لخدمة البلاد. فوزارة الثقافة موجودة لمراقبة المبدعين والمثقفين وتكريس التصحر الثقافي. أمّا جهاز البوليس فهو موجود لحماية نظام بن علي من الشعب ومن المعارضين والمنتقدين، وليس لحماية البلاد وملاحقة الذين ينهبونها. وكذلك الشأن بالنسبة إلى "الديوانة"، فأعوانها مهمومون دائما بالبحث عن كتاب أو جريدة أو قرص مضغوط فيها نقد لنظام بن علي. وليس أدلّ علة ذلك ممّا حصل في الأشهر الأخيرة من مهازل في المطارات والموانئ لمنع تسريب كتاب "حاكمة قرطاج" (La régente de Carthage) للصحفيين الفرنسيين "NICOLAS BEAU" و"CATHERINE GRACIET" تناولا فيه تصرّفات ليلى بن علي ومحيطها بناء على وثائق وشهادات صحفية مختلفة ومتنوّعة. وعن القضاء فحدّث ولا حرج، فهو مشغول بتوفيق بن بريك وزهير مخلوف ونشطاء الحركة الطلابية وسباب "السّلفية" وكلّ من يُؤمَر بعقابه والزجّ به في السجن. وفوق ذلك كلّه فإنّ كافة هذه الأجهزة والمؤسسات ينخرها الفساد، بل هي قلب الفساد المستشري وبالتالي لا يمكن أن تكون أداة لمقاومته في أيّ مجال من المجالات.
ولا بدّ لنا من قول كلمة في ما يتعلّق بمجلّة حماية التراث الأثري والتاريخي. لقد بيّن الأستاذ الحرّازي لصحيفة "الطريق الجديد" مدى تسامح هذا القانون من ناهبي تراثنا وآثارنا وبالتالي مدى تهاون المشرّع، الذي هو جزء لا يتجزأ من نظام الحكم القائم، والذي هو لا يتمتّع بأيّ تمثيلية حقيقية لإرادة الشعب التونسي، بحماية ذلك التراث وتلك الآثار. ولا يمكن للمرء أن يدرك فظاعة الأمر إلاّ إذا قارنا مثلا المجلّة المذكورة بـ"مجلّة الصحافة" أو حتى بالمجلّة الجنائية. إنّ من ينتقد بن علي أو أحد وزرائه أو إحدى مؤسسات نظامه مثل القضاء أو جهاز البوليس أو الجيش، هو في نظر مجلّة الصحافة مُجرم أخطر بكثير ممّن ينهب تراث البلاد وآثارها ويهرّبها إلى الخارج إذْ أنّ العقوبة في هذه الحالة لا تتجاوز السنة سجنا، أو حتى مجرّد خطيّة، كما أوضح ذلك الأستاذ الحرّازي، بينما تصل العقوبة في الحالة الأولى سنوات عدّة من السجن عدا الخطايا (5 سنوات سجنا في حال "النيل من كرامة رئيس الدولة" و3 سنوات سجنا في حال ثلب أحد أجهزة الدولة !!). كما أن المواطن الذي يرتكب جريمة سرقة، ربّما بدافع الحاجة، يمثّل في نظر القانون أيضا خطرا أكبر على المجتمع وعلى البلاد من ذلك الذي يسرق آثارها بل تاريخها !!! فالحكم على مرتكب السرقة يفوق أضعاف الحكم المسلّط على من يتاجر بأملاك الدولة وتاريخ الشعب التونسي. ففي المجلّة الجنائية (باب الإعتداء على أملاك الغير القسم الثاني في السرقات وغيرها مما هو مشابه بها)، ينصّ الفصل 261 (المنقح بالقانون عدد 23 لسنة 1989 المؤرخ في 27 فيفري 1989) على "العقاب بالسجن مدّة عشرين عاما لمرتكب السرقة الواقعة باستعمال التسوّر أو جعل منافذ تحت الأرض أو خلع أو إستعمال مفاتيح أو كسر الأختام وذلك بمحل مسكون...".
4 – إيقاف تيار النهب والفساد
إنّ قضيّة نهب الآثار وتهريبها التي كشفت أخيرا تفاصيلها بعض وسائل الإعلام، تبيّن أنّ ما من مجال في بلادنا لم يطله سوس الفساد. كما تبيّن أن حماية تراثنا وتاريخنا لا يمكن أن يتولاّها نظام استبدادي واستغلالي وتابع لا همّ له سوى تأمين بقائه بكلّ الوسائل خدمة لمصالح أقليات محلّية وأجنبية نهّابة. إنّ هذه الحماية لا يقدر عليها سوى نظام وطني، ديمقراطي، نابع من إرادة الشعب، ولا همّ له سوى النهوض بتونس والارتقاء بها إلى مصاف البلدان المتطوّرة، وتوفير أسباب العيش الكريم لبناتها وأبنائها، والحرص على تعليمهم وتربيتهم وتشجيعهم على الخلق والإبداع.
ولكن النضال من أجل هذه الغاية التي من شأنها أن توفّر الحلول الجوهرية للعناية بتراثنا وآثارنا وحمايتها من النهب والإتلاف وتحويلها إلى ثروة حقيقية للبلاد، لا يوفّرُ علينا النضال المباشر من أجل إيقاف تيار النّهب والفساد. وهذه المهّمة هي مهمّة كلّ الأحزاب والجمعيات والمنظّمات والهيئات الغيورة على تونس وعلى تاريخيها ومستقبلها والتي تعمل على تخليصها من الاستبداد. وما من شكّ في أنّ مسؤولية أهل الاختصاص من الأساتذة والباحثين والمثقّفين والمبدعين كي يكونوا في الواجهة الأولى.
إنّ من أوكد الواجبات استغلال القضيّة الحالية للضغط على السلطات من أجل ضبط خارطة جديدة للمعالم والمواقع الأثرية ببلادنا وكم أجل توفير الاعتمادات المادية والبشرية الضرورية للمؤسسات المعنية كي تؤدّي واجبها في العناية بتلك المعالم والمواقع بما فيذلك تطوير الأبحاث وتوفير الحراسة اللازمة لها. كما أن من أوكد الواجبات المطالبة بتطوير التشريع لينال النهابون والعابثون بالتراث والآثار العقاب المناسب لجرائمهم، علاوة على الإسراع بالكشف عن مرتكبي السرقات السابقة، مهما كان مركزهم أو علاقتهم بالسلطة، والقضايا المعلّقة. وأخيرا وليس آخرا، المطالبة بالتسيير الديمقراطي للمؤسسات التي تعنى بالتراث والآثار حتى تكون المسؤولية عن اتخاذ القرارات جماعية وحتى تتوفّر إمكانية المحاسبة وتصحيح الأخطاء وتلافي النقائص.
ج. ع.
هوامش
[1] أنظر مجلّة "حقائق" – العدد المشار إليه أعلاه
[2] 1023 منقولة أثرية حسب ما جاء في تحقيق توفيق العياشي للطريق الجديد – من عندنا
[3] أنظر استجواب أحد الباحثين في المعهد الوطني للآثار حول غياب انتخاب المجالس العلمية بمؤسسات البحث – (الطريق الجديد)
تعليق