لغز كاسبر هاوزر
- أين ذهب الناس ؟!
تمتم الاسكافي جورج ويكمان وهو يحملق عبر نافذة دكانه الصغير نحو الشارع الخالي، وبالطبع لم يغب عن بال الرجل بأن ذلك اليوم 26 أيار / مايو 1828 كان يصادف عطلة رسمية في مدينة نورنبيرغ الألمانية، لكن تلك الشوارع والميادين التي بدت كالقفار والمحال والأسواق المثقلة بالأغلال والأقفال أثارت في نفسه شعورا ثقيلا بالوحدة والكآبة زاد من وقعه ذلك اللون الأحمر الذي اكتست به جدران المدينة بفعل أشعة الشمس الآيلة للغروب.
عينا الاسكافي الضجرة وقعت فجأة على فتى يسير وحيدا في الطريق القادم من جهة بوابة المدينة، كان يتخبط في حركاته وخطواته كالمخمور. ثم توقف لبرهة ليلتقط أنفاسه فهرع الاسكافي العجوز إليه متسائلا : ما خطبك يا بني ؟ هل أنت مريض ؟.
كان الفتى ذو ملامح صبيانية وبدت نظراته بلهاء، حرك شفتيه بصعوبة كبيرة مستعينا بكل عضلات وجهه كأنه يتعلم النطق للتو ثم قال بتلعثم : أريد أن أصبح فارسا مثل أبي.
أستغرب الاسكافي لهذا الرد الأحمق، أعاد السؤال مرة أخرى لكن الفتى على ما يبدو لم يكن يفقه من الكلام سوى تلك الجملة الخرقاء. عينا الاسكافي الحائرة وقعت على مغلف مختوم كان الفتى يحمله في يده وقد كتبت عليه العبارة التالية : "إلى النقيب المحترم للسرية الرابعة من الفوج السادس لخيالة نورنبيرغ الخفيفة".
الاسكافي طيب القلب أغلق دكانه واصطحب الفتى إلى بوابة المدينة ليسأل الجنود المكلفين بحراستها عن أسم النقيب المذكور فعرف بأنه يدعى فون ويسنك وأرشده الجنود إلى عنوانه الذي وصله الاثنان بعد حلول الظلام، ولسوء الحظ لم يكن النقيب متواجدا في المنزل آنذاك، لكن الخدم قالوا بأنه سيعود قريبا وسمحوا لهما بانتظاره في الداخل حيث قدمت لهما إحدى الخادمات بعض السجق والشراب، ولشدة دهشة الجميع بصق الفتى أول لقمة تناولها باشمئزاز كبير كأنه لم يتذوق ولم يعرف في حياته طعاما كهذا.
حين عاد النقيب أخيرا إلى منزله، اعترته دهشة كبيرة لرؤية هذا الفتى غريب الأطوار، وأنكر أن يكون قد رآه أو عرفه سابقا، ثم حاول عبثا سؤاله عن أسمه وسبب قدومه، لكن رد الفتى اقتصر على عبارته اليتيمة حول رغبته في أن يصبح فارسا كأبيه. وفي النهاية فض النقيب المغلف الذي كان مع الفتى وعثر في داخله على رسالتين، عنوان الأولى اقتصر على جملة مبهمة واحدة : "من حدود بافاريا - 1828 "، وقد ذكر كاتبها بأنه رجل فقير يعمل بأجرة يومه وبأن والدة الفتى عهدت إليه بتربيته حين كان طفلا رضيعا في يوم ما من عام 1812، لكن بسبب ظروفه المادية الصعبة ولأنه كان يكافح أصلا من اجل إطعام أولاده العشرة، لذلك لم يتمكن من تقديم الرعاية اللازمة للطفل وأبقاه حبيس المنزل طوال حياته لم يغادره أبدا. الكاتب المجهول مضى قائلا بأنه قام بتعليم الفتى مبادئ القراءة والكتابة ولمس فيه قدرة كبيرة على التعلم فيما لو أتيحت له الفرصة المناسبة، كما أنه سيكون نعم الخادم المخلص لصاحب الجلالة الملك فيما لو تم قبوله في سلاح الخيالة ليصبح فارسا كوالده. أما السطر ألأخير من الرسالة فقد كان مثيرا للدهشة بحق، فالكاتب المجهول وضع النقيب فون ويسنك أمام خيارين لا ثالث لهما .. إما أن يحتفظ بالفتى أو أن يشنقه!!.
الرسالة الثانية التي احتواها المغلف كانت مؤرخة في عام 1812، ويبدو بأنها كتبت من قبل والدة الفتى، حيث ذكرت بأن طفلها ولد في 13 نيسان / أبريل 1812، وان أسمه الحقيقي هو كاسبر، وأن والده الميت كان فارسا في الجيش، وبأنها لم تستطع إعالة الطفل بسبب فقرها المدقع، لذلك التمست من احد معارفها رعايته حتى يبلغ سن السابعة عشر، حينها عليه أن يأخذه إلى مدينة نورنبيرغ ليقوم بتسليمه إلى قائد السرية التي كان والده يعمل فيها لكي يصبح فارسا مثله.
حين أكمل النقيب قراءة هاتين الرسالتين نظر الجميع إلى بعضهم البعض باستغراب، فما تلاه توا لم يزد اللغز إلا تعقيدا ولم يضف أية معلومات جديدة حول الفتى سوى بأن أسمه هو كاسبر، وعدا ذلك فقد خلت الرسالتين تماما من أي أسماء أو عناوين. أما الحديث عن قبول كاسبر في سلاح الخيالة فقد بدا سخيفا ومثيرا للسخرية نظرا لحالته، وفي النهاية أتفق كل من النقيب والاسكافي على تسليم كاسبر إلى الشرطة لتحقق في أمره وقضيته.
حال الشرطة مع كاسبر لم يكن أفضل، فأسئلتهم واستفساراتهم كانت تلقى نفس تلك الردود المبهمة الغبية، لكن محققو الشرطة توصلوا بعد تفحصهم للرسائل التي كانت بحوزة الفتى إلى معلومة مهمة، فقد تبين لهما بأن كلتا الرسالتين كتبتا بنفس الخط وبنفس نوع الحبر والورق، أي إن كاتبهما هو نفس الشخص وعلى الأرجح قام بكتابتهما معا في ذات الوقت. وبما أن كاتب تلك الرسائل ذكر في خطابه بأن كاسبر يستطيع القراءة والكتابة، لذلك اقترح احد رجال الشرطة وضع ورقة وقلم أمامه لعله يكتب شيئا، ولشدة دهشة الجميع فقد تناول كاسبر القلم وكتب أسمه على الورقة بخط واضح .. كاسبر هاوزر (Kaspar Hauser ).
الشرطة قررت الإبقاء على كاسبر في أحد أبراج المدينة تحت رعاية عائلة السجان أندرياس هيلتل. وبغض النظر عما قيل لاحقا حوله، إلا إن كاسبر لم يكن يعاني من أي مرض. كان ودودا ومحبوبا .. قصير القامة ممتلئ الجسم، ذو وجه مستدير وأكتاف عريضة، بشرته صافية باستثناء ندبة قديمة على كتفه الأيمن، قدمه مسطحة تماما كما لو أنه لم يلبس حذاءا في حياته. كما لاحظ السجان وزوجته بأن تعابير وجهه تكاد تقتصر على ابتسامة، وبدا جسده مترهلا كأنه لم يمارس أي عمل ولم يبذل أي جهد في حياته، وكان يرفض تناول أي طعام باستثناء الخبز الأسود والماء ولا ينام إلا فوق فراش من القش، ولديه قابلية غريبة على الرؤية في الظلام، ولم يكن يفرق بين الرجال والنساء إلا عن طريق الملابس. وكانت متعته القصوى في قضاء الوقت وحيدا في حجرته يلعب ويلهو مع بعض الألعاب الخشبية. لكنه لم يكن مجنونا أو أبله، كان في الحقيقة شابا مراهقا بعقل طفل.
كاسبر تحول خلال الشهرين التي قضاها في البرج إلى محط اهتمام الناس في نورنبيرغ، ودارت قصص عن كونه احد أولئك الأطفال الذين ولدوا في البرية فقامت الحيوانات بإرضاعهم ورعايتهم، وبالطبع لم تكن لتلك القصص الأسطورية أي أساس من الصحة، لكنها ساهمت في جذب العديد من الناس إلى البرج لرؤية هذا الفتى الغريب الأطوار.
لغز الحجرة السوداء
بمرور الأيام ومن خلال لعبه ولهوه مع أطفال السجان، تحسنت قابلية كاسبر على النطق والكلام وازداد إدراكه بما يجري حوله، وأخذ يتحدث بالتدريج عن ماضيه، كانت قصته غاية في الغرابة، إذ زعم بأنه أمضى طفولته وصباه حبيسا في حجرة صغيرة مظلمة كانت شبابيكها مسدلة على الدوام وأقتصر أثاثها على فراش من القش وحصان خشبي كدمية.
عند استيقاظه من النوم يوميا كان كاسبر يجد بجواره رغيفا اسود ودلو صغير من الماء. كاسبر لم يرى أبدا من كان يضع له الخبز والماء ولم يعرف طعاما أخر غير الخبز والماء، لكن أحيانا كان مذاق الماء يتغير فيسبب له نعاسا لا يقاوم ويجعله يستغرق في نوم عميق ما أن يستيقظ منه حتى يجد الغرفة وقد أصبحت نظيفة وتم تبديل ملابسه وجرى تشذيب أظافره وشعره.
كاسبر قال بأن حجرته كانت مظلمة على الدوام وبأنه لم يرى نور الشمس أبدا لذلك اعتادت عيناه على الرؤية في الظلام، وكان يقضي وقته أما في النوم أو باللهو مع الحصان خشبي، ولم يكن قادرا على السير على قدميه بل كان يزحف على أربع كالحيوانات كما لم يعرف شيئا عن النطق والكلام لأنه لم يرى أي إنسان خلال السنوات الطويلة التي قضاها وحيدا في تلك الحجرة المظلمة، لكنه شعر دوما بأن هناك من يراقبه ويحرسه في الخفاء.
عزلة كاسبر انتهت يوما ما عندما زاره رجل غامض حرص بشدة على أخفاء وجهه. هذا الرجل المجهول بدء بتعليمه الوقوف منتصبا والمشي كما علمه كتابة أسمه ولقنه نطق وترديد بعض الكلمات والجمل، خصوصا عبارة : "أريد أن أصبح فارسا مثل أبي" التي حفظها كاسبر عن ظهر قلب من دون أن يعلم معناها.
الرجل الغامض أتى إلى الحجرة في احد الأيام وقال لكاسبر بأنه سيأخذه إلى مدينة نورنبيرغ. الرحلة استغرقت ثلاثة أيام حرص الرجل خلالها على أن لا يرى كاسبر معالم الطريق. وحين وصلا أخيرا عند بوابة المدينة قام بوضع المغلف المختوم في يد كاسبر وطلب منه الذهاب للبحث عن النقيب الذي سيجعله فارسا كأبيه، بعدها اختفى تاركا إياه وحيدا لينتهي به المطاف أمام دكان الاسكافي كما أسلفنا.
قصة كاسبر عن ماضيه كانت صعبة التصديق ولم تقدم للشرطة أية معلومات مفيدة، لهذا تقرر وضع كاسبر في رعاية شخص يهتم به ويتولى تعليمه أساسيات الحياة، وقد تطوع لهذه المهمة مدرسوفيلسوف يدعى فردريتش دومر كان قد أبدى اهتماما كبيرا بكاسبر.
في منزل دومر وتحت رعايته بدئت مهارات كاسبر في الكلام والكتابة والإدراك تتطور بسرعة، أصبح كاسبر الآن يميز بين الأشياء ويدرك كنهها ومعناها، وأصبح يتناول صنوف الطعام المختلفة بعد أن كان غذاءه مقصورا على الخبز الأسود والماء، وازداد ولعه بالرياضة خصوصا ركوب الخيل، كما تبين بأنه رسام موهوب.
وبالتدريج بدء كاسبر يكتب حول حياته السابقة وسرعان ما نالت قصته قسطا وافرا من الاهتمام من قبل الصحف والجرائد في أرجاء أوربا. دومر نفسه وجد في الفتى فرصة كبيرة للبحث والدراسة، فأخضعه للعلاج النفسي وأخذ يدون الملاحظات حول سلوكه وتصرفاته، وقد أدهشته بعض قدرات الفتى، فحاسة شمه وسمعه كانت أقوى من المعتاد، كان بإمكانه مثلا سماع أدنى الأصوات من مسافات بعيدة، كما أمتلك قدرة عجيبة على التمييز بين المعادن والرؤية في الضوء الخافت والظلمة.
شبح الماضي يطل برأسه من جديد
في ظهيرة يوم 17 تشرين الأول / أكتوبر 1829 كان كاسبر يجلس وحيدا في منزل دومر حين تسلل شخص ما إلى الداخل وهاجمه بواسطة سكين حادة جارحا إياه في جبهته. كاسبر أخبر الشرطة لاحقا بأن المتسلل كان يرتدي قناعا ويعتمر قبعة سوداء وقد هدده قائلا : "يجب أن تموت قبل أن تغادر مدينة نورنبيرغ" .. كاسبر المذعور تعرف على الصوت في الحال، أنه نفس صوت الرجل الغامض الذي أتى به إلى المدينة.
غرابة الحادثة وعدم وجود أي دلائل أو شهود على تسلل شخص غريب إلى منزل السيد دومر جعلت البعض يرجح بأن كاسبر هو الذي دبر الحادثة بنفسه عن طريق جرح جبهته بواسطة شفرة حلاقة لكي يجذب إليه الاهتمام ويسلط عليه الأضواء مرة أخرى بعد أن خفت صيته وطواه النسيان، وكذلك لكي يكسب عطف السيد دومر الذي كان على ما يبدو يفكر آنذاك في التوقف عن رعايته. وبالفعل بدأت الصحافة تكتب مرة أخرى عن كاسبر وعن محاولة الاغتيال الغامضة التي تعرض لها، كما ظهرت آنذاك ولأول مرة الفرضية التي ربطت بين كاسبر وبين دوق سلالة بادن النبيلة، فالرواية الرسمية تقول بأن أبن الدوق الوحيد وولي عهده الشرعي مات رضيعا في عام 1812، أي في نفس عام ولادة كاسبر، وقد ذهبت بعض الآراء إلى أن ذلك الابن في الحقيقة لم يمت ولكن جرى استبداله بطفل ميت لأحد المزارعين، وأن من دبر تلك المؤامرة هو عم والد الطفل الذي قام باختطاف وإخفاء الوريث الشرعي في قلعة معزولة بعيدا عن أعين الناس لكي يصبح هو الوارث الوحيد للعرش. وهذا الطفل المختطف لم يكن في الحقيقة سوى كاسبر هاوزر. الناس تداولوا أيضا بعض القصص عن رؤية رجل مقنع يغسل سكينه بالقرب من منزل دومر في نفس يوم الحادثة، وكذلك مشاهدته بعد عدة أيام وهو يتجسس حول المكان لمعرفة مصير لكاسبر .. لكن أي من تلك القصص لم يثبت صحتها.
بعد الحادث تنقل كاسبر من منزل إلى أخر من أجل حمايته. عاش لفترة من الزمن مع عائلة الثري هير بايبرباخ، إلا أن علاقته السيئة مع السيدة بايبرباخ التي كانت تتهمه بأنه كاذب ومخادع دفعته إلى الانتقال للعيش مؤقتا تحت رعاية البارون فون توتشر. وفي عام 1830 ظهر فجأة نبيل انجليزي يدعى اللورد فيليب ستانهوب أبدى اهتماما مبالغا بقضية كاسبر وأنفق أموالا طائلة لكي يصبح وصيا عليه. اللورد أحاط كاسبر بعنايته الفائقة وزعم بأنه عاقد العزم على مساعدته لكشف غموض مولده والبحث عن عائلته الحقيقية. لكن هذا الحماس الكبير بدأ بالفتور تدريجيا. وانتهت الأمور بنقل كاسبر عام 1831 إلى مدينة آنسباخ الألمانية ليوضع تحت رعاية مدرس صعب المراس يدعى جورج ماير، اللورد ستانهوب وعد كاسبر بأنه سيعود خلال عدة أشهر ليتبناه رسميا ويصطحبه معه إلى انجلترا، لكن كاسبر لم يرى اللورد مرة أخرى أبدا.
أنسباخ .. الرحيل
علاقة كاسبر مع جورج ماير كانت متشنجة منذ البداية وازدادت سوءا بمرور الأيام. ماير كان معروفا بقسوته وتسلطه، كان دائم التوبيخ لكاسبر وكان ينعته بالكاذب والمخادع والفاشل، ومع نهاية عام 1833 واقتراب موسم الأعياد أصبحت العلاقة بين الاثنان لا تطاق.
في 14 كانون الأول / ديسمبر عام 1833 عاد كاسبر إلى المنزل وهو ينزف بغزارة من طعنة نافذة في صدره الأيسر، كاسبر أخبر الشرطة بأن شخصا ما أستدرجه إلى حديقة عامة بحجة اطلاعه على معلومات مهمة حول أمه وعائلته، وبعد أن سارا لمسافة قصيرة فوق الثلوج الكثيفة التي كانت تغطي أرضية الحديقة توقف الرجل المجهول فجأة متظاهرا بأن يريد أعطاء كاسبر محفظة جلدية تحتوي بعض الوثائق المهمة، وحين مد كاسبر يده لأخذ المحفظة باغته الرجل بطعنة قوية في صدره ثم فر هاربا.
في اليوم التالي للحادث قامت الشرطة بتمشيط الحديقة حيث تعرض كاسبر للطعن فعثرت على محفظة جلدية سوداء احتوت على رسالة غامضة كتبت بطريقة المرآة .. أي بالمقلوب .. وتضمنت التالي :
"كاسبر سيكون قادرا على أخباركم كيف أبدو ومن أين أتيت، لكني سأريح كاسبر من هذه المهمة وسأخبركم بنفسي من أين أتيت ......... لقد أتيت من ....... حدود بافاريا ...... عبر النهر ........ أنا أيضا سأخبركم بأسمي وهو : M.L.O ".
لكن هذه الرسالة المليئة بالفراغات لم تزد اللغز إلا غموضا، فهي لم تقدم أية معلومات عن القاتل المفترض، كما أن كاسبر الجريح والمحتضر لم يقدم بدوره أية معلومات مفيدة، فقد أخبر الشرطة بان الرجل المجهول كان ملتحي وطويل القامة ويرتدي معطفا أسود، وهي أوصاف يمكن أن تتطابق مع أوصاف آلاف الرجال.
متأثرا بجراحه فارق كاسبر هاوزر الحياة في 17 كانون الأول / ديسمبر 1833، أي بعد ثلاثة أيام على الحادث، وهناك من يلوم جورج ماير على موت كاسبر لأنه لم يطلب المساعدة الطبية في الحال ظنا منه بأن الجرح سطحي وبسيط . كاسبر كان في الواحدة والعشرين من عمره حين فارق الحياة وأخر جملة قالها قبل أن تغادره الروح كانت : "أنا تعب .. تعب جدا .. ومع ذلك لازال علي أن أمضي في رحلة طويلة".
أين الحقيقة ؟
لعقود طويلة بعد موته ظل لغز كاسبر هاوزر يؤرق الباحثين وعشاق حل الألغاز .. هل كان نصابا مخادعا أجاد تمثيل دوره ببراعة فائقة أم كان إنسانا بريئا تعرض إلى ظلم فادح ؟ .. أولئك الذين يزعمون بأن كاسبر مجرد دجال لديهم حججهم وأدلتهم، وفي مقدمتها القصة الغريبة التي رواها عن حياته قبل القدوم إلى نورنبيرغ، فكيف يعقل بأن يعيش طفل في ظلمة مطلقة لا تشرق عليه شمس ولا يأكل سوى الخبز والماء لسنوات طويلة ومع هذا يبقى على قيد الحياة ويشب سالما صحيحا من دون عاهة أو مرض ؟!. ثم إن العديد ممن عرفوا كاسبر عن كثب قالوا بأنه من ذلك النوع من الناس الذين لا يترددون عن فعل أي شيء من أجل جذب انتباه واستدرار عطف الآخرين، ولهذا فقد آمن العديدين بأن كاسبر هو الذي كتب الرسائل الموجهة إلى النقيب فون ويسنك منذ البداية، وهو الذي فبرك حادثة الاعتداء عليه في منزل دومر عن طريق جرح جبهته بشفرة حلاقة وكذلك دبر حادثة الاعتداء عليه في الحديقة العامة والتي أدت لاحقا إلى موته، ويبدو بأنه أخطأ في تقدير قوة الطعنة التي سددها إلى نفسه أو ربما كان يحاول الانتحار بسبب علاقته المتأزمة مع ماير وتخلي اللورد ستانهوب عنه وبسبب ملله من الدور الذي كان عليه تمثيله لما تبقى من حياته، وهذه الفرضية يدعمها عدم عثور الشرطة على أية آثار أقدام فوق الثلج في مكان الحادثة باستثناء آثار أقدام كاسبر نفسه، كما أن الرسالة التي عثر عليها في مسرح الجريمة كانت بدون معنى وعلى الأرجح قام كاسبر بكتابتها بنفسه ودسها هناك.
في مقابل هذه الادعاءات هناك أيضا فريق من المؤمنين بحقيقة قصته، وهؤلاء لا يجدون في قصة طفولة كاسبر أية غرابة، فكاسبر قال بأنه لم يكن وحيدا في حجرته المظلمة، كان هناك دائما من يراقبه ويتدخل للعناية به عند اللزوم، والدليل على ذلك هو أن هذا الشخص أو الأشخاص المجهولين كانوا يقومون بتخدير كاسبر من حين لآخر لتنظيف الحجرة وتغيير ملابسه وقص أظافره وربما لتعريضه لنور الشمس أيضا. ثم هناك احتمال كبير في أن كاسبر تعرض لعملية غسل دماغ، أي أنه لم يقضي في الحجرة السوداء سوى فترة قصيرة قبل إطلاق سراحه وخيل له أو بالأحرى جعلوه يتخيل بأنه امضي حياته كلها في تلك الحجرة. أضف إلى ذلك فأن جميع من عرفوا كاسبر قالوا بأنه يملك قوى وقدرات غير طبيعية مثل قوة الحواس والقدرة على النظر في الظلام. ثم لماذا لم يتعرف عليه أي شخص ولم تنكشف كذبته بعد أن كتبت عنه الصحف بإسهاب ونشرت صورا مرسومة له – كما حدث في قضية الأميرة المزيفة كارابو -. أضف إلى ذلك فأن الطبيب الذي شرح جثة كاسبر قال بأن الطعنة التي تعرض لها في الحديقة لا يمكن أن تكون من تدبيره وبأن هناك حتما شخص ما سدد له هذه الطعنة القاتلة.
أخيرا هناك فرضية تقع في منتصف الطريق بين المكذبين والمؤمنين بقصة كاسبر، وهذه الفرضية تزعم بأن كاسبر لم يكن سوى مريض نفسي، ربما مصاب بانفصام شخصية حاد أو غيره من الأمراض النفسية التي جعلته يتقمص شخصيته ويستمر في تمثيل دوره ببراعة كبيرة.
ماذا يقول فحص الحمض النووي ؟
ربما تكون أشهر الفرضيات حول كاسبر هي تلك التي ربطت بينه وبين سلالة بادن النبيلة، والتي زعمت بأنه أبن الدوق كارل والأميرة ستيفاني – ابنة نابليون بونابرت المتبناة - ، وقد أسهبنا في الحديث عن هذه الفرضية سابقا، فالبعض يعتقد بأن جميع ما حدث لكاسبر كان من تدبير عم والده الذي اغتصب عرش الدوقية والذي خاف من افتضاح سره خصوصا بعد أن ذاعت شهرة كاسبر وكتبت عنه الصحف وصار حديث الناس لذلك أرسل احد أصدقاءه المقربين وهو اللورد الانجليزي ستانهوب لتدبير خطة أبعاد كاسبر عن أصدقاءه في نورنبيرغ ومن ثم استدراجه وقتله. وطبعا لا يوجد تاريخيا ما يؤكد هذه الفرضية، فالوثائق الرسمية تقول بأن أبن الدوق كارل مات طفلا في عام 1812 وكان هناك شهود على موته من بينهم والده نفسه. لكن هذه الوثائق لم تلجم الجدل المستمر في هذه القضية، لذلك قام مجموعة من العلماء الألمان عام 1996 بمقارنة الحمض النووي لعينة من دماء قديمة منسوبة إلى كاسبر مع عينات مأخوذة من أشخاص متحدرين من سلالة بايدن النبيلة. وقد جاءت النتيجة سلبية ولم تظهر أية مؤشرات على تطابق الحمض النووي. وفي عام 2002 جرت محاولة أخرى باستعمال عينات من شعر كاسبر وباستخدام وسائل وأجهزة أكثر تطورا، وهذه المرة لم تكن النتيجة حاسمة، خصوصا وأن ورثة عائلة بادن يرفضون بشدة نبش قبر الدوق وزوجته لأخذ عينات مباشرة من رفاتهم.
أخيرا .. لازال اللغز معلقا من دون حل وقد يبقى كذلك إلى الأبد .. لكن كاسبر لم يكن الوحيد في التاريخ الذي دار كثير من اللغط حوله، هناك العديد من هذه القصص والألغاز ربما يكون أشهرها هو لغز موت لويس شارلز أبن الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت، وكذلك لغز الأميرة انستازيا ابنة أخر القياصرة الروس ولغز انتحار هتلر ولغز مقتل كيندي ولغز جاك السفاح .. الخ .. وهناك أيضا قصة ماري باكر أو أميرة كارابو الزائفة التي ظهرت في انجلترا عام 1817 وزعمت بأنها أميرة قادمة من جزيرة بعيدة لكن أمرها افتضح بعد عدة أشهر فقط وتبين بأنها ليست سوى فتاة انجليزية فقيرة .. على العموم .. تبقى قصة كاسبر هاوز من القصص الشيقة التي قد يظن البعض بأنها لا تحدث سوى في السينما وعالم الخيال، لكن هذه الدنيا لا تنفك تدهشنا بغرائبها وعجائبها التي لا تنتهي.
- أين ذهب الناس ؟!
تمتم الاسكافي جورج ويكمان وهو يحملق عبر نافذة دكانه الصغير نحو الشارع الخالي، وبالطبع لم يغب عن بال الرجل بأن ذلك اليوم 26 أيار / مايو 1828 كان يصادف عطلة رسمية في مدينة نورنبيرغ الألمانية، لكن تلك الشوارع والميادين التي بدت كالقفار والمحال والأسواق المثقلة بالأغلال والأقفال أثارت في نفسه شعورا ثقيلا بالوحدة والكآبة زاد من وقعه ذلك اللون الأحمر الذي اكتست به جدران المدينة بفعل أشعة الشمس الآيلة للغروب.
عينا الاسكافي الضجرة وقعت فجأة على فتى يسير وحيدا في الطريق القادم من جهة بوابة المدينة، كان يتخبط في حركاته وخطواته كالمخمور. ثم توقف لبرهة ليلتقط أنفاسه فهرع الاسكافي العجوز إليه متسائلا : ما خطبك يا بني ؟ هل أنت مريض ؟.
كان الفتى ذو ملامح صبيانية وبدت نظراته بلهاء، حرك شفتيه بصعوبة كبيرة مستعينا بكل عضلات وجهه كأنه يتعلم النطق للتو ثم قال بتلعثم : أريد أن أصبح فارسا مثل أبي.
أستغرب الاسكافي لهذا الرد الأحمق، أعاد السؤال مرة أخرى لكن الفتى على ما يبدو لم يكن يفقه من الكلام سوى تلك الجملة الخرقاء. عينا الاسكافي الحائرة وقعت على مغلف مختوم كان الفتى يحمله في يده وقد كتبت عليه العبارة التالية : "إلى النقيب المحترم للسرية الرابعة من الفوج السادس لخيالة نورنبيرغ الخفيفة".
الاسكافي طيب القلب أغلق دكانه واصطحب الفتى إلى بوابة المدينة ليسأل الجنود المكلفين بحراستها عن أسم النقيب المذكور فعرف بأنه يدعى فون ويسنك وأرشده الجنود إلى عنوانه الذي وصله الاثنان بعد حلول الظلام، ولسوء الحظ لم يكن النقيب متواجدا في المنزل آنذاك، لكن الخدم قالوا بأنه سيعود قريبا وسمحوا لهما بانتظاره في الداخل حيث قدمت لهما إحدى الخادمات بعض السجق والشراب، ولشدة دهشة الجميع بصق الفتى أول لقمة تناولها باشمئزاز كبير كأنه لم يتذوق ولم يعرف في حياته طعاما كهذا.
حين عاد النقيب أخيرا إلى منزله، اعترته دهشة كبيرة لرؤية هذا الفتى غريب الأطوار، وأنكر أن يكون قد رآه أو عرفه سابقا، ثم حاول عبثا سؤاله عن أسمه وسبب قدومه، لكن رد الفتى اقتصر على عبارته اليتيمة حول رغبته في أن يصبح فارسا كأبيه. وفي النهاية فض النقيب المغلف الذي كان مع الفتى وعثر في داخله على رسالتين، عنوان الأولى اقتصر على جملة مبهمة واحدة : "من حدود بافاريا - 1828 "، وقد ذكر كاتبها بأنه رجل فقير يعمل بأجرة يومه وبأن والدة الفتى عهدت إليه بتربيته حين كان طفلا رضيعا في يوم ما من عام 1812، لكن بسبب ظروفه المادية الصعبة ولأنه كان يكافح أصلا من اجل إطعام أولاده العشرة، لذلك لم يتمكن من تقديم الرعاية اللازمة للطفل وأبقاه حبيس المنزل طوال حياته لم يغادره أبدا. الكاتب المجهول مضى قائلا بأنه قام بتعليم الفتى مبادئ القراءة والكتابة ولمس فيه قدرة كبيرة على التعلم فيما لو أتيحت له الفرصة المناسبة، كما أنه سيكون نعم الخادم المخلص لصاحب الجلالة الملك فيما لو تم قبوله في سلاح الخيالة ليصبح فارسا كوالده. أما السطر ألأخير من الرسالة فقد كان مثيرا للدهشة بحق، فالكاتب المجهول وضع النقيب فون ويسنك أمام خيارين لا ثالث لهما .. إما أن يحتفظ بالفتى أو أن يشنقه!!.
الرسالة الثانية التي احتواها المغلف كانت مؤرخة في عام 1812، ويبدو بأنها كتبت من قبل والدة الفتى، حيث ذكرت بأن طفلها ولد في 13 نيسان / أبريل 1812، وان أسمه الحقيقي هو كاسبر، وأن والده الميت كان فارسا في الجيش، وبأنها لم تستطع إعالة الطفل بسبب فقرها المدقع، لذلك التمست من احد معارفها رعايته حتى يبلغ سن السابعة عشر، حينها عليه أن يأخذه إلى مدينة نورنبيرغ ليقوم بتسليمه إلى قائد السرية التي كان والده يعمل فيها لكي يصبح فارسا مثله.
حين أكمل النقيب قراءة هاتين الرسالتين نظر الجميع إلى بعضهم البعض باستغراب، فما تلاه توا لم يزد اللغز إلا تعقيدا ولم يضف أية معلومات جديدة حول الفتى سوى بأن أسمه هو كاسبر، وعدا ذلك فقد خلت الرسالتين تماما من أي أسماء أو عناوين. أما الحديث عن قبول كاسبر في سلاح الخيالة فقد بدا سخيفا ومثيرا للسخرية نظرا لحالته، وفي النهاية أتفق كل من النقيب والاسكافي على تسليم كاسبر إلى الشرطة لتحقق في أمره وقضيته.
حال الشرطة مع كاسبر لم يكن أفضل، فأسئلتهم واستفساراتهم كانت تلقى نفس تلك الردود المبهمة الغبية، لكن محققو الشرطة توصلوا بعد تفحصهم للرسائل التي كانت بحوزة الفتى إلى معلومة مهمة، فقد تبين لهما بأن كلتا الرسالتين كتبتا بنفس الخط وبنفس نوع الحبر والورق، أي إن كاتبهما هو نفس الشخص وعلى الأرجح قام بكتابتهما معا في ذات الوقت. وبما أن كاتب تلك الرسائل ذكر في خطابه بأن كاسبر يستطيع القراءة والكتابة، لذلك اقترح احد رجال الشرطة وضع ورقة وقلم أمامه لعله يكتب شيئا، ولشدة دهشة الجميع فقد تناول كاسبر القلم وكتب أسمه على الورقة بخط واضح .. كاسبر هاوزر (Kaspar Hauser ).
الشرطة قررت الإبقاء على كاسبر في أحد أبراج المدينة تحت رعاية عائلة السجان أندرياس هيلتل. وبغض النظر عما قيل لاحقا حوله، إلا إن كاسبر لم يكن يعاني من أي مرض. كان ودودا ومحبوبا .. قصير القامة ممتلئ الجسم، ذو وجه مستدير وأكتاف عريضة، بشرته صافية باستثناء ندبة قديمة على كتفه الأيمن، قدمه مسطحة تماما كما لو أنه لم يلبس حذاءا في حياته. كما لاحظ السجان وزوجته بأن تعابير وجهه تكاد تقتصر على ابتسامة، وبدا جسده مترهلا كأنه لم يمارس أي عمل ولم يبذل أي جهد في حياته، وكان يرفض تناول أي طعام باستثناء الخبز الأسود والماء ولا ينام إلا فوق فراش من القش، ولديه قابلية غريبة على الرؤية في الظلام، ولم يكن يفرق بين الرجال والنساء إلا عن طريق الملابس. وكانت متعته القصوى في قضاء الوقت وحيدا في حجرته يلعب ويلهو مع بعض الألعاب الخشبية. لكنه لم يكن مجنونا أو أبله، كان في الحقيقة شابا مراهقا بعقل طفل.
كاسبر تحول خلال الشهرين التي قضاها في البرج إلى محط اهتمام الناس في نورنبيرغ، ودارت قصص عن كونه احد أولئك الأطفال الذين ولدوا في البرية فقامت الحيوانات بإرضاعهم ورعايتهم، وبالطبع لم تكن لتلك القصص الأسطورية أي أساس من الصحة، لكنها ساهمت في جذب العديد من الناس إلى البرج لرؤية هذا الفتى الغريب الأطوار.
لغز الحجرة السوداء
بمرور الأيام ومن خلال لعبه ولهوه مع أطفال السجان، تحسنت قابلية كاسبر على النطق والكلام وازداد إدراكه بما يجري حوله، وأخذ يتحدث بالتدريج عن ماضيه، كانت قصته غاية في الغرابة، إذ زعم بأنه أمضى طفولته وصباه حبيسا في حجرة صغيرة مظلمة كانت شبابيكها مسدلة على الدوام وأقتصر أثاثها على فراش من القش وحصان خشبي كدمية.
عند استيقاظه من النوم يوميا كان كاسبر يجد بجواره رغيفا اسود ودلو صغير من الماء. كاسبر لم يرى أبدا من كان يضع له الخبز والماء ولم يعرف طعاما أخر غير الخبز والماء، لكن أحيانا كان مذاق الماء يتغير فيسبب له نعاسا لا يقاوم ويجعله يستغرق في نوم عميق ما أن يستيقظ منه حتى يجد الغرفة وقد أصبحت نظيفة وتم تبديل ملابسه وجرى تشذيب أظافره وشعره.
كاسبر قال بأن حجرته كانت مظلمة على الدوام وبأنه لم يرى نور الشمس أبدا لذلك اعتادت عيناه على الرؤية في الظلام، وكان يقضي وقته أما في النوم أو باللهو مع الحصان خشبي، ولم يكن قادرا على السير على قدميه بل كان يزحف على أربع كالحيوانات كما لم يعرف شيئا عن النطق والكلام لأنه لم يرى أي إنسان خلال السنوات الطويلة التي قضاها وحيدا في تلك الحجرة المظلمة، لكنه شعر دوما بأن هناك من يراقبه ويحرسه في الخفاء.
عزلة كاسبر انتهت يوما ما عندما زاره رجل غامض حرص بشدة على أخفاء وجهه. هذا الرجل المجهول بدء بتعليمه الوقوف منتصبا والمشي كما علمه كتابة أسمه ولقنه نطق وترديد بعض الكلمات والجمل، خصوصا عبارة : "أريد أن أصبح فارسا مثل أبي" التي حفظها كاسبر عن ظهر قلب من دون أن يعلم معناها.
الرجل الغامض أتى إلى الحجرة في احد الأيام وقال لكاسبر بأنه سيأخذه إلى مدينة نورنبيرغ. الرحلة استغرقت ثلاثة أيام حرص الرجل خلالها على أن لا يرى كاسبر معالم الطريق. وحين وصلا أخيرا عند بوابة المدينة قام بوضع المغلف المختوم في يد كاسبر وطلب منه الذهاب للبحث عن النقيب الذي سيجعله فارسا كأبيه، بعدها اختفى تاركا إياه وحيدا لينتهي به المطاف أمام دكان الاسكافي كما أسلفنا.
قصة كاسبر عن ماضيه كانت صعبة التصديق ولم تقدم للشرطة أية معلومات مفيدة، لهذا تقرر وضع كاسبر في رعاية شخص يهتم به ويتولى تعليمه أساسيات الحياة، وقد تطوع لهذه المهمة مدرسوفيلسوف يدعى فردريتش دومر كان قد أبدى اهتماما كبيرا بكاسبر.
في منزل دومر وتحت رعايته بدئت مهارات كاسبر في الكلام والكتابة والإدراك تتطور بسرعة، أصبح كاسبر الآن يميز بين الأشياء ويدرك كنهها ومعناها، وأصبح يتناول صنوف الطعام المختلفة بعد أن كان غذاءه مقصورا على الخبز الأسود والماء، وازداد ولعه بالرياضة خصوصا ركوب الخيل، كما تبين بأنه رسام موهوب.
وبالتدريج بدء كاسبر يكتب حول حياته السابقة وسرعان ما نالت قصته قسطا وافرا من الاهتمام من قبل الصحف والجرائد في أرجاء أوربا. دومر نفسه وجد في الفتى فرصة كبيرة للبحث والدراسة، فأخضعه للعلاج النفسي وأخذ يدون الملاحظات حول سلوكه وتصرفاته، وقد أدهشته بعض قدرات الفتى، فحاسة شمه وسمعه كانت أقوى من المعتاد، كان بإمكانه مثلا سماع أدنى الأصوات من مسافات بعيدة، كما أمتلك قدرة عجيبة على التمييز بين المعادن والرؤية في الضوء الخافت والظلمة.
شبح الماضي يطل برأسه من جديد
في ظهيرة يوم 17 تشرين الأول / أكتوبر 1829 كان كاسبر يجلس وحيدا في منزل دومر حين تسلل شخص ما إلى الداخل وهاجمه بواسطة سكين حادة جارحا إياه في جبهته. كاسبر أخبر الشرطة لاحقا بأن المتسلل كان يرتدي قناعا ويعتمر قبعة سوداء وقد هدده قائلا : "يجب أن تموت قبل أن تغادر مدينة نورنبيرغ" .. كاسبر المذعور تعرف على الصوت في الحال، أنه نفس صوت الرجل الغامض الذي أتى به إلى المدينة.
غرابة الحادثة وعدم وجود أي دلائل أو شهود على تسلل شخص غريب إلى منزل السيد دومر جعلت البعض يرجح بأن كاسبر هو الذي دبر الحادثة بنفسه عن طريق جرح جبهته بواسطة شفرة حلاقة لكي يجذب إليه الاهتمام ويسلط عليه الأضواء مرة أخرى بعد أن خفت صيته وطواه النسيان، وكذلك لكي يكسب عطف السيد دومر الذي كان على ما يبدو يفكر آنذاك في التوقف عن رعايته. وبالفعل بدأت الصحافة تكتب مرة أخرى عن كاسبر وعن محاولة الاغتيال الغامضة التي تعرض لها، كما ظهرت آنذاك ولأول مرة الفرضية التي ربطت بين كاسبر وبين دوق سلالة بادن النبيلة، فالرواية الرسمية تقول بأن أبن الدوق الوحيد وولي عهده الشرعي مات رضيعا في عام 1812، أي في نفس عام ولادة كاسبر، وقد ذهبت بعض الآراء إلى أن ذلك الابن في الحقيقة لم يمت ولكن جرى استبداله بطفل ميت لأحد المزارعين، وأن من دبر تلك المؤامرة هو عم والد الطفل الذي قام باختطاف وإخفاء الوريث الشرعي في قلعة معزولة بعيدا عن أعين الناس لكي يصبح هو الوارث الوحيد للعرش. وهذا الطفل المختطف لم يكن في الحقيقة سوى كاسبر هاوزر. الناس تداولوا أيضا بعض القصص عن رؤية رجل مقنع يغسل سكينه بالقرب من منزل دومر في نفس يوم الحادثة، وكذلك مشاهدته بعد عدة أيام وهو يتجسس حول المكان لمعرفة مصير لكاسبر .. لكن أي من تلك القصص لم يثبت صحتها.
بعد الحادث تنقل كاسبر من منزل إلى أخر من أجل حمايته. عاش لفترة من الزمن مع عائلة الثري هير بايبرباخ، إلا أن علاقته السيئة مع السيدة بايبرباخ التي كانت تتهمه بأنه كاذب ومخادع دفعته إلى الانتقال للعيش مؤقتا تحت رعاية البارون فون توتشر. وفي عام 1830 ظهر فجأة نبيل انجليزي يدعى اللورد فيليب ستانهوب أبدى اهتماما مبالغا بقضية كاسبر وأنفق أموالا طائلة لكي يصبح وصيا عليه. اللورد أحاط كاسبر بعنايته الفائقة وزعم بأنه عاقد العزم على مساعدته لكشف غموض مولده والبحث عن عائلته الحقيقية. لكن هذا الحماس الكبير بدأ بالفتور تدريجيا. وانتهت الأمور بنقل كاسبر عام 1831 إلى مدينة آنسباخ الألمانية ليوضع تحت رعاية مدرس صعب المراس يدعى جورج ماير، اللورد ستانهوب وعد كاسبر بأنه سيعود خلال عدة أشهر ليتبناه رسميا ويصطحبه معه إلى انجلترا، لكن كاسبر لم يرى اللورد مرة أخرى أبدا.
أنسباخ .. الرحيل
الحادث |
في 14 كانون الأول / ديسمبر عام 1833 عاد كاسبر إلى المنزل وهو ينزف بغزارة من طعنة نافذة في صدره الأيسر، كاسبر أخبر الشرطة بأن شخصا ما أستدرجه إلى حديقة عامة بحجة اطلاعه على معلومات مهمة حول أمه وعائلته، وبعد أن سارا لمسافة قصيرة فوق الثلوج الكثيفة التي كانت تغطي أرضية الحديقة توقف الرجل المجهول فجأة متظاهرا بأن يريد أعطاء كاسبر محفظة جلدية تحتوي بعض الوثائق المهمة، وحين مد كاسبر يده لأخذ المحفظة باغته الرجل بطعنة قوية في صدره ثم فر هاربا.
في اليوم التالي للحادث قامت الشرطة بتمشيط الحديقة حيث تعرض كاسبر للطعن فعثرت على محفظة جلدية سوداء احتوت على رسالة غامضة كتبت بطريقة المرآة .. أي بالمقلوب .. وتضمنت التالي :
"كاسبر سيكون قادرا على أخباركم كيف أبدو ومن أين أتيت، لكني سأريح كاسبر من هذه المهمة وسأخبركم بنفسي من أين أتيت ......... لقد أتيت من ....... حدود بافاريا ...... عبر النهر ........ أنا أيضا سأخبركم بأسمي وهو : M.L.O ".
لكن هذه الرسالة المليئة بالفراغات لم تزد اللغز إلا غموضا، فهي لم تقدم أية معلومات عن القاتل المفترض، كما أن كاسبر الجريح والمحتضر لم يقدم بدوره أية معلومات مفيدة، فقد أخبر الشرطة بان الرجل المجهول كان ملتحي وطويل القامة ويرتدي معطفا أسود، وهي أوصاف يمكن أن تتطابق مع أوصاف آلاف الرجال.
متأثرا بجراحه فارق كاسبر هاوزر الحياة في 17 كانون الأول / ديسمبر 1833، أي بعد ثلاثة أيام على الحادث، وهناك من يلوم جورج ماير على موت كاسبر لأنه لم يطلب المساعدة الطبية في الحال ظنا منه بأن الجرح سطحي وبسيط . كاسبر كان في الواحدة والعشرين من عمره حين فارق الحياة وأخر جملة قالها قبل أن تغادره الروح كانت : "أنا تعب .. تعب جدا .. ومع ذلك لازال علي أن أمضي في رحلة طويلة".
أين الحقيقة ؟
في مقابل هذه الادعاءات هناك أيضا فريق من المؤمنين بحقيقة قصته، وهؤلاء لا يجدون في قصة طفولة كاسبر أية غرابة، فكاسبر قال بأنه لم يكن وحيدا في حجرته المظلمة، كان هناك دائما من يراقبه ويتدخل للعناية به عند اللزوم، والدليل على ذلك هو أن هذا الشخص أو الأشخاص المجهولين كانوا يقومون بتخدير كاسبر من حين لآخر لتنظيف الحجرة وتغيير ملابسه وقص أظافره وربما لتعريضه لنور الشمس أيضا. ثم هناك احتمال كبير في أن كاسبر تعرض لعملية غسل دماغ، أي أنه لم يقضي في الحجرة السوداء سوى فترة قصيرة قبل إطلاق سراحه وخيل له أو بالأحرى جعلوه يتخيل بأنه امضي حياته كلها في تلك الحجرة. أضف إلى ذلك فأن جميع من عرفوا كاسبر قالوا بأنه يملك قوى وقدرات غير طبيعية مثل قوة الحواس والقدرة على النظر في الظلام. ثم لماذا لم يتعرف عليه أي شخص ولم تنكشف كذبته بعد أن كتبت عنه الصحف بإسهاب ونشرت صورا مرسومة له – كما حدث في قضية الأميرة المزيفة كارابو -. أضف إلى ذلك فأن الطبيب الذي شرح جثة كاسبر قال بأن الطعنة التي تعرض لها في الحديقة لا يمكن أن تكون من تدبيره وبأن هناك حتما شخص ما سدد له هذه الطعنة القاتلة.
أخيرا هناك فرضية تقع في منتصف الطريق بين المكذبين والمؤمنين بقصة كاسبر، وهذه الفرضية تزعم بأن كاسبر لم يكن سوى مريض نفسي، ربما مصاب بانفصام شخصية حاد أو غيره من الأمراض النفسية التي جعلته يتقمص شخصيته ويستمر في تمثيل دوره ببراعة كبيرة.
ماذا يقول فحص الحمض النووي ؟
أخيرا .. لازال اللغز معلقا من دون حل وقد يبقى كذلك إلى الأبد .. لكن كاسبر لم يكن الوحيد في التاريخ الذي دار كثير من اللغط حوله، هناك العديد من هذه القصص والألغاز ربما يكون أشهرها هو لغز موت لويس شارلز أبن الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت، وكذلك لغز الأميرة انستازيا ابنة أخر القياصرة الروس ولغز انتحار هتلر ولغز مقتل كيندي ولغز جاك السفاح .. الخ .. وهناك أيضا قصة ماري باكر أو أميرة كارابو الزائفة التي ظهرت في انجلترا عام 1817 وزعمت بأنها أميرة قادمة من جزيرة بعيدة لكن أمرها افتضح بعد عدة أشهر فقط وتبين بأنها ليست سوى فتاة انجليزية فقيرة .. على العموم .. تبقى قصة كاسبر هاوز من القصص الشيقة التي قد يظن البعض بأنها لا تحدث سوى في السينما وعالم الخيال، لكن هذه الدنيا لا تنفك تدهشنا بغرائبها وعجائبها التي لا تنتهي.
تعليق