أرشيف الفاتيكان السري..
أحاجي البابوية وأسرار التاريخ
لأول مرة في تاريخ حاضرة الفاتيكان يتم عرض بعض الوثائق من الأرشيف السري لتاريخ الباباوات والبابوية في روما، وبالتحديد في متاحف الكابيتول، وذلك في الفترة الممتدة من 1 مارس (آذار) 2012 حتى 9 سبتمبر (أيلول) المقبل. الوثائق المائة يتضمنها معرض بعنوان «نور في المخابئ» Lux in arcane (باللغة اللاتينية)، وتتنوع بين رق وسجل ومخطوط كلها أصلية، ولا تقدر بثمن، وتعود إلى ما بين القرن الثامن والقرن العشرين، وجميعها محفوظة كمخطوطات عادة في أرشيف الفاتيكان السري، الذي هو بدرجة أو بأخرى جزء ولو منفصل من واحدة من أهم وأثرى مكتبات العالم، إن لم تكن كذلك بالفعل.
ثم تبقى هناك قضايا سياسية تاريخية مثيرة لا تزال عالقة، يرى أصحابها أن جميع دقائقها وحقائقها كامنة في ذلك الأرشيف.
ومما لا شك فيه أن الوثائق المائة المعروضة كل منها مبعث لتقليب أوراق التاريخ، والتوقف أمام منعطفات جد خطيرة، مثلت في أوقاتها أزمات أثرت على تاريخ أوروبا والمسيحية هناك، وعلى المذهب الكاثوليكي بشكل خاص، فمنها مثلا وثيقة توقيع الحرم على الراهب الألماني مارتن لوثر الذي انشق في القرن السادس عشر عن الكاثوليكية، وكان نواة التيارات البروتستنتية حول العالم. وضمن الوثائق المنشورة نجد أيضا وثائق متعلقة بما كان يسمى وقتها «محاكمات هرطقة منفصلة»، ضد عالم الفلك جاليليو جاليلي الذي قال في وقت ما إن الأرض تدور حول الشمس، ولولا اعتذاره وتراجعه لاحقا عن رأيه هذا، الذي ثبت صحته في ما بعد، لكان لقي الموت حرقا في الأغلب الأعم. والجدير بالذكر أن الكنيسة الكاثوليكية في السنوات الماضية قد اعتذرت له، وقدمت ما يشبه إعادة رد الاعتبار لعالم الفلك الجليل هذا.
من بين الوثائق المعروضة المهمة للغاية، رسالة من أعضاء البرلمان الإنجليزي إلى البابا إقليمندس السابع، تطالب بتفسيح خاص للملك هنري الثامن ملك بريطانيا، كي يتمكن من تطليق زوجته كاثرين الأرجوانية ثم الزواج من عشيقته آن بولين، وكان رفض البابا وقتها بداية انفصال إنجلترا عن روما، واعتبار الملك هو صاحب أعلى سلطة في كنيسة إنجلترا وليس البابا في روما، وقد أوقع البابا إقليمندس حرما على هنري الثامن، الذي رد بتمرير قانون يدعى «بيتر بينس» يؤكد أن بريطانيا ليست خاضعة لسلطة بعد الله إلا لسلطة الملك، وأن تاج الملك هنري قد أضعف بطريقة غير مبررة، ومتعنتة، وبشكل ابتزازي من قبل البابا.
ماذا عن ذلك الأرشيف أصل القصة التي نحن بصدد الحديث عنها؟
في بداية القرن السابع عشر الميلادي، جرى فصل السجلات السرية للفاتيكان عن المكتبة، كان ذلك بحلول عام 1610، وإن كانت جميع الدراسات تجمع على أن ذلك الأرشيف يرجع إلى فترة زمنية أقدم من ذلك بمئات السنين، وطبيعة بعضها يرتبط ارتباطا عضويا بنشأة وتطور وطبيعة عمل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، إذ احتفظ الباباوات عبر التاريخ بحرص بالغ بكتاباتهم ومراسلاتهم وبأوراق القضايا والإشكاليات التي عرفوها في عصورهم.
من أين يستمد هذا الأرشيف أهميته وحضوره الطاغي عالميا وأوروبيا؟ الجواب يعود بنا إلى البابوية ذاتها، تلك المؤسسة الهرمية الأقدم في العالم، والتي دعت كارلو كاستيليوني المؤرخ ومؤلف إحدى أفضل الموسوعات عن البابوية للقول: «مما لا شك فيه أن التاج الثلاثي الأطراف الذي يضعه الباباوات يرمز إلى النفوذ الذي يمارسونه في السماء والأرض والعالم السفلي». وقد كان نابليون بونابرت يعتبر البابوية إحدى أفضل الوظائف في العالم، ودعاها أدولف هتلر «إحدى السياسات الدولية الأكثر خطورة ودقة».
والشاهد أن الأرشيف السري يعكس حقيقة البابوية على مر التاريخ، حيث بدت من خلال مظهرين، أولاهما القيادة العالمية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وثانيهما هو مظهر إحدى أقوى المنظمات السياسية على وجه الأرض، ذلك أنه بينما كان الباباوات يمنحون بركتهم لجماعة المؤمنين بيد، كانوا يستقبلون باليد الأخرى سفراء أجانب، ورؤساء دول، ويرسلون موفدين وسفراء بابويين في مهام خاصة.
52 ميلا من اللفافات ونحو 35 ألف وثيقة ومخطوط، غير ما هو ضارب في الخصوصية، تمثل ركيزة هذا الأرشيف، الذي هو بمثابة المستودع الخاص لما جرى في تاريخ البابوية، قبل أن تقوم دولة الفاتيكان بشكلها السياسي المعاصر غداة اتفاقية اللاتيران الشهيرة سنة 1929م.
هل تعرض هذا الأرشيف لمغامرات تاريخية؟
نعم حدث ذلك، ففي عام 1810 تم نقل وثائق الفاتيكان الأكثر سرية إلى باريس بأمر من نابليون، وأعيدت إلى الفاتيكان ما بين عام 1815 و1817، بعد أن فقد العديد منها، وهو أمر لا بد للمرء أن يربط بينه وبين التوجهات الثورية الفرنسية، والأصابع اليهودية، التي حركتها والجماعات الماسونية التي زخمتها، والعداء الشديد الذي أبدته للكنيسة الكاثوليكية، والذي كان من جرائه أن تعرض المئات من الكهنة والأساقفة الكاثوليك للقتل والترويع، وتعرضت ممتلكات الكنيسة في فرنسا للسطو والنهب والتأميم، وهذه قضية قائمة بذاتها في حاجة إلى مراجعة تاريخية موضوعية.
ما الذي يوجد داخل الأرشيف على وجه اليقين؟ علامة استفهام من الصعوبة بمكان الجواب عليها، ولا سيما أنه بخلاف المكتبة الرسولية للفاتيكان التي باتت منذ عام 1927 على اتصال وثيق بمكتبة الكونغرس الأميركي، وبخاصة في ما يتقاطع مع عملية تنظيم وتصنيف المكتبة بالشكل الذي تجري عليه مكتبة الكونغرس وطريقة حفظ الكتب، وعمليات الفهرسة ونظام البطاقات للمحفوظات، بما يعني أن ما بها أو غالبيته الغالبة معروف، فإن الحدود القاطعة لما هو داخل هذا الأرشيف غير معلومة أو محددة، إلا لعدد لا يتجاوز الأصابع، بعضهم بحسب روايات تروج كثيرا داخل الحاضرة نفسها، مرتبط بجمعيات سرية لها علاقة مباشرة بحاضرة الفاتيكان عينها مثل «الأوبس دي» (أعمال الله)، أو «جمعية بيوس»، وحكما فرسان الهيكل أو ما توارثها مع اختلاف المسمى، وغيرها من المنظمات السرية العتيدة، العميقة في أسرارها وتشابكات حضورها مع التاريخ والجغرافيا حول العالم، وفي أماكن انتشار الكاثوليكية المنتشرة بالفعل في قارات الأرض الست.
ما هي تبعات عرض الوثائق المائة الأخيرة؟ وهل ستكون مقدمة للكشف عن الكثير منها لاحقا؟ ثم الأهم ما هي القضايا الحساسة التي يثيرها هذا الأرشيف في بداية الأمر وآخره؟ الحديث يطول جدا، فنحن نتحدث عن «قلب التاريخ النابض»، أي الفاتيكان، والتعبير هنا للكاتب الإيطالي الكبير سيزار بافيزي، لكن يمكننا الإشارة وباختصار غير مخل إلى ثلاث قضايا بعينها فقط.
أولى تلك القضايا، موقف بابا الفاتيكان بيوس الثاني عشر (1939-1958) من المحرقة اليهودية، وهي قضية الصراع الأكبر بين اليهود حول العالم والفاتيكان، أولئك الذين يتهمون ذلك البابا بأنه تهاون بشأن محرقة اليهود أو في أفضل الأحوال لزم الصمت تجاه ما قام به هتلر في معسكرات أوشفيتز وما شابه.
لهذا السبب طلبت إسرائيل في 2009، وفي ديسمبر (كانون الأول) تحديدا، فتح الأرشيف الفاتيكاني السري العائد لفترة الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد قرار البابا بنديكتوس السادس عشر المضي قدما في دعوى تطويب سلفه البابا بيوس الثاني عشر. والمعروف أيضا في هذا السباق أنه بحلول عام 2002، وضع البابا يوحنا بولس الثاني حظرا على الوثائق الخاصة بحبرية البابا بيوس الثاني عشر، خصوصا تلك المتعلقة بالجدل الدائر بين الصهيونية والبابوية.
من جهته، تصدى الأب اليسوعي فيدريكو لومباردي لهذه الدعوة، وقد أشار إلى أن الوثائق الخاصة بحبرية البابا بيوس الثاني عشر تقع في أكثر من ستة عشر مليون صفحة، يتطلب تنظيمها فترة زمنية تتراوح بين ست وسبع سنوات، وهي مهمة شاقة ودقيقة، تتطلب جهدا وفترة زمنية غير قصيرة، لافتا في نهاية تصريحاته إلى شأن مهم بدوره، وهو أن الأرشيف السري هو أرشيف البابا، والقرار النهائي بشأنه بيد الحبر الأعظم، وعليه نتساءل: هل سنشهد تباعا وثائق أخرى تبرئ ساحة البابا بيوس الثاني عشر أم أن الفاتيكان لن يقيم وزنا للاعتراضات الإسرائيلية، ولا سيما أن «ساعة الفاتيكان تشير إلى توقيت مختلف عن التوقيت المعتمد في بقية العالم»، على حد تعبير غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في 15 يناير (كانون الثاني) 1973، غداة أول زيارة لرئيس وزراء إسرائيل إلى الفاتيكان؟
القضية الثانية التي تتقاطع مع الأرشيف السري والتي اشتعلت مؤخرا، تلك التي تتناول مسؤولية تركيا عما جرى للأرمن من مذابح في أوائل القرن العشرين، وهو الأمر الذي تنكره تركيا وتصر عليه أرمينيا.
في هذا الصدد يوجد من يؤكد أن لدى الفاتيكان وبالطبع في أرشيفه السري مكاتبات جرت بين البابا ليو الثامن عام 1896 يناشد فيها السلطان العثماني إظهار التعاطف ووقف العنف بحق المواطنين الأرمن. هذا الأمر أزعج بالفعل السلطات التركية ودعاها إلى التحقق من الأمر من خلال المسؤول عن أرشيف الفاتيكان السيد سيرجيو باجانو منذ عدة سنوات والذي لمح بالفعل إلى وجود وثائق سرية وشهادات عينية موثقة لجنود أتراك، حول ما جرى تحديدا لأطفال الأرمن، وجميعها حتما ستؤدي إلى تعميق كراهية أوروبية لتاريخ تركيا الماضي، وستؤثر على أي قرار من قبل الاتحاد الأوروبي لجهة قبول عضوية تركيا فيه بالسلب من دون شك، بل سيتجاوز الأمر ذلك إلى ما أطلق عليه حديثا «قوننة القوانين» الخاصة بالتعويضات التي يجب على تركيا أن تدفعها للأرمن.
أما القضية الثالثة والأخيرة في سياق الحديث عن الأرشيف، فتتصل وتنسحب على العلاقات الإسلامية - المسيحية وتاريخها، ومرجع الأمر ومرده أن ذلك الأرشيف السري حكما زاخر بالمئات إن لم يكن بالآلاف من الوثائق التي حصل عليها الكاثوليك الإسبان ومعظمها كان باللغة العربية، بعد أن أعادوا إحكام سيطرتهم على بلاد الأندلس، ولم تكن تعني للمحاربين الكاثوليك في ذلك الوقت شيئا، فتم إرسالها إلى مقر البابوية، وهذه بدورها تمثل ركيزة مهمة في فهم تقاطعات ما جرى تاريخيا وانسحابه على حاضر عصور أوروبا، إذ إن الحاضر هو الماضي عندما كان يتخلق في رحم الأحداث.
لماذا الكشف عن تلك الوثاق للعامة في هذا التوقيت رغم أنها منشورة ربما في بعض الكتب والمراجع العلمية القليلة النادرة والمتخصصة جدا؟ هل دقت ساعة الفاتيكان حاملة تغيرات جذرية في فلسفة الكرسي الرسولي المستقرة والمستمرة منذ مئات السنين؟ السؤال بحاجة إلى وقت لإيجاد جواب شاف واف عنه، لكن يبقى في كل الأحوال القول وكما أخبرنا أحدهم ذات مرة لدى السؤال عن إمكانية دخول الأرشيف السري «أنت تحتاج إلى قديس في الجنة «Abbiamo un Santo nel paradise»، أي وساطة قوية تفوق الأرضيات للولوج إلى هناك، مما يشير إلى عمق أحاجي البابوية وأسرار ذلك التاريخ، الأرشيف الغامض بعد.
تعليق