شجرة تمتص المرض
في نفس اللحظة المتزامنة مع آخر كلمات الرجل، سطع القمر بضياء مفاجىء غريب رافقته رياح باردة زعزعت قمة الشجرة... الرجل أخذ أدريان في حضنه و اتجه به نحو الشجرة التي انتزع منها غصنا صغيرا قبل أن يتلفظ بكلمات لم تفهمها لا أم الطفل و لا رفيقتها و فجأة أخذت غصون مختلفة من السنديانة تسقط على الأرض
في شهادة نشرتها إحدى المجلات الفرنسية، تذكر السيدة آسيا بلعيون، تفاصيل ما أصاب ابنها - أدريان -، حيث أن الطفل الذي لم يكن عمره يتجاوز 12 سنة، وجد نفسه فجأة أسير مرض غريب و أخذ يذبل يوما بعد يوم، قبل أن يفقد كل شهية في الأكل. في حين كانت تظهر على بشرته، من حين لآخر، بعض البقاع الحمراء أو التضليعات و كأنه تعرض إلى خدش إحدى الكائنات ذات المخالب الطويلة، بينما كان يعاني مرات أخرى من مشاكل في جهاز الهضم.
الأطباء الثلاثة الذين عاينوا وضعية الطفل - أدريان -... طبيب عام، مختص في أمراض الأطفال و مختص في الأمراض الجلدية، لم ينجحوا في تحديد طبيعة الداء و لا العلاج المناسب له. فأحدهم تحدث عن حساسية و الثاني أرجع كل شيء إلى اضطرابات في الدورة الدموية، بينما خلص الثالث إلى نقص في مادة الكلسيوم و المنزيوم أو إلى اضطراب عصبي.
بالمستشفى الذي أقام به أدريان لمدة 15 يوما تحت الرقابة الطبية، كان يخرج من مصلحة ليدخل أخرى بعد أن يخضع في كل مرة إلى تحاليل و فحوص مختلفة دون أن يتوصل أحد إلى الفصل في حقيقة المرض أو للقول ما إذا كان لأدريان أمل في الشفاء أم لا. بعدة عودة الطفل إلى البيت ساءت أحواله إلى درجة مخيفة، حيث أنه أصبح يجد صعوبة حتى في الوقوف على قدميه.
أمه لم تعد تعرف ما يجب أن تفعله و لمدة سنة كاملة كان عليها أن تسعى لتعرض ابنها على كل الأطباء المتخصصين الذين سمعت عنهم أو نصحوها باللجوء إليها... نفسانيون، متخصصون في الغدد الصم و غيرهم، بدون جدوى، فلم يبق لديها غير الاستنجاد بالمعالجين الاعجازيين و المغناطيسيين، لكن دائما بدون فائدة.
في أحد الأيام، اكتشفت السيدة آسيا بلعيون، مقالا منشورا في إحدى المجلات النسائية الفرنسية و قد تطرق محرره إلى ما يسمى
الطب الوحشيla médecine sauvage كما تطرق إلى المعالجين غير العاديين و كذا إلى تحويل الأمراض من البشر إلى
الحيوانات و النباتات. محرر المقال لم يشر إلى أي عنوان للأشخاص الذين يتمتعون بهذه القدرات الخارقة، بيد أن ذلك لم يمنعها من الاتصال هاتفيا بالمجلة التي أفاد مسؤولوها بأن ذلك المقال من توقيع صحفية، اتصلت بها السيدة آسيا و بهذا ا
لخصوص تقول هذه الأخيرة في شهادتها بأنها تحدثت إليها بكل راحة و المهم في ما دار بيننا هو أن تلك المرأة ( الصحفية )
وافقت على تلبية الدعوة التي وجهتها لها بغرض زيارتها في بيتها و هذا ما حدث فعلا إذ استقبلتها السيدة بلعيون عندها و
عرضت عليها ابنها المريض قبل أن تروي لها مختلف مراحل المعاناة
و عجز الأطباء عن تفسير حقيقة الداء الذي أصاب أدريان.
الصحفية أجابتها بكل صراحة و قالت لها بأنها لا تؤمن كثيرا بما يسمى القدرات الخارقة للسحرة و المعالجين الاعجازيين و ما شابههم و خصوصا منهم أولئك الذين صادفتهم عندما كانت تقوم بتحقيقها الصحفي حول هذا الموضوع الذي لم يكن يهم مجلتها إلا من جانبه التصويري الجذاب و على هذا الأساس لم تستطع الصحفية نصح السيدة آسيا أو توجيهها إلى عنوان معين ما داموا كلهم مشعوذون في نظرها. لكن أمام إلحاح السيدة آسيا بلعيون قبلت بنت الصحافة تلك بمرافقتها رفقة الصغير أدريان إلى شخص يعمل نجارا بالبادية و يُعرفُ بقدراته الخارقة على جبر الكسور و اشفاء المرضى بواسطة الصلاة و التضرع إلى الله، إضافة إلى قدرات مدهشة أخرى يُقال بأنها موجودة بين يديه و على الأقل كان هذا الرجل يحظى بثقة الصحفية النسبية. المعروف عن ذلك المعالج الاعجازي أنه يقود مرضاه في إحدى الغابات إلى غاية شجرة مسنة يدعي هو بأنها تمتص المرض.
رفقة الصحفية تم تحديد موعد قبل أن يأخذ الكل طريقه باتجاه قرية بعيدة، حيث تم استقبالهم بمزرعة مرتبة على نحو يؤكد الذوق الرفيع لمالكها الذي بدا رجلا لا يزال يتمتع بقوة سنه و الذي كان في المدخل ليرحب بالجميع و ليوجههم إلى الداخل، ثم أخذ الصغير أدريان و أجلسه بالمطبخ على كرسي... قابله وجها لوجه بعد أن أخذ الرجل لنفسه كرسي ثان، مسك بيديه التي لمسها بحرارة و كأنه كان يدلكها و بعد ذلك وضعهما على ركبتيه ( أي ركبتي أدريان ) و اثر ذلك راح الرجل يمسح بها جسد الطفل إلى أن اقترب من وجهه، حينها وجه يديه إلى رأسه و بعدها ساعد أدريان على الوقوف برهة من الزمن استغلها لمغنطسته من فوق إلى أسفل و من الأمام إلى المؤخرة إلى أن راحت أسنان الطفل تصطك ببعضها بعض و بشكل يوحي بأن جسده قد برد، لكن رغم هذا بقي واقفا دون مساعدة من أحد. عندها أخذ الرجل يمسد كتفيه و ينفخ في رقبته تزامنيا إلى أن نام أدريان نهائيا فأخذه إلى غرفة حيث وضعه فوق سرير.
السيدة آسيا بلعيون سألت متعجبة: " و الآن...؟ ) فأجابها الرجل بأن أدريان نائم و أنه في حاجة إلى ذلك حتى يستعيد قواه، لكن أم الطفل لم تجد حرجا في طرح سؤال ثان: " و الشجرة..؟ " ( تقصد الشجرة التي قيل لها بأنها تمتص المرض ) فرد عليها المعالج بأن وقت هذه المرحلة لم يحن بعد لأن حالة الطفل بعد استيقاظه من نومه هي التي ستحدد إمكانية اللجوء إلى الشجرة أو الاستغناء عنها.
و لما كانت عقارب الساعة في ذلك الوقت كانت تشير إلى بعد منتصف النهار، فقد دعا صاحب البيت ضيفتيه إلى تناول الغداء الذي كان مشكلا من وجبة خالية من اللحوم على اعتبار أن الرجل لا يستهلك أي غذاء من أصل حيواني...كل أكله كان مشكلا من نباتات و ثمار جناها من حقله الخاص.الطفل أدريان استيقظ في حدود الساعة السادسة مساء قبل أن يطلب شيئا للأكل (؟ ) و هذا ما لم يفعله منذ مدة بعيدة، فلم تتأخر زوجة الرجل عن تحضير كوب حليب ساخن و طبق من الحلويات المجففة، أكلها الطفل بشراهة تدعو إلى الاستغراب.
الطقس كان مثلما يكون عليه في بداية الربيع، بارد قليلا، لكنه جميل و مع بداية اختفاء النهار قام الرجل بفحص الطفل إلى جانب بعض الدلك على رأسه و سائر بدنه إلى أن أسقطه في النوم مرة أخرى، ثم انسحب ليصلي و دقائق معدودة بعد الساعة الحادية عشر من الليل توقف المعالج عن صلاته و أخطر الجميع بأن موعد الخروج من البيت قد حان... انه الطريق نحو الغابة، لكن قبل أن تتحرك المجموعة، التمس الرجل من السيدة آسيا بلعيون و الصحفية أن يحافظان على هدوئهما مهما يحدث و ألا يصرخان أو يتكلمان أبدا و أن يقتصران على المشاهدة و السماع دون غيرهما، ثم أخذ الرجل الطفل بذراع و عصاه بالآخر. المشي دام مدة طويلة في ظلام الليل المزعج بضياء النجوم.. الطريق كان شاقا و معقدا و بعد قرابة ساعة إلا ربع من السير وصل الكل إلى شبه وضح الغابة المزوق بالصخور و بحركة واحدة توقف الرجل بالقرب من شجرة سنديان مسنة ذات جذع كبير، طويل و عريض. وضع أدريان على ثوبه الذي نزعه لهذا الغرض ثم نزع خاتمه من إصبعه ليضعه في جيبه و كأن ذلك كان قاعدة ضرورية لما سيقدم على فعله و بعدها أشار إلى السيدة بلعيون و رفيقتها بعدم الاقتراب من المكان، ثم رسم بعصاه دائرة على سطح الأرض و على نحو جعل من شجرة السنديان تقع في مركز تلك الدائرة التي احتوت أدريان أيضا.
الرجل انحنى باتجاه الشجرة و راح يتضرع بلغة لاتينية قبل أن يركع لبضع لحظات، بينما كان رأسه مرفوعا باتجاه السماء، فيما اتكأ بظهره على جذع الشجرة ثم وقف من جديد ليدور من حول شجرة السنديان، ليتوقف فجأة و بصوت قوي قال: " أنت أيتها النباتات المنتشية في الأرض. أنت أيتها الأشجار التي تتغذى جذورك من باطن الأرض، أخضعي إلى ربك و إلى قوانينه ". الصوت المدوي لذلك الرجل كان يتجول في كل أرجاء الغابة مكسرا الصمت الذي كان مخيما على المكان... السيدة آسيا بلعيون اقشعر بدنها بعد سماعها لذلك، خصوصا بعدما لاحظت أن شجرة السنديان أخذت تتحرك بكاملها و كأن زلزالا أراد اقتلاعها من موقعها... الرجل واصل كلامه: " أنت أيتها الروح المتجذرة في هذه السنديانة، أيتها الروح القوية، الحية، المقدسة، إنني أترجاك لكي تتألمي باسم الله، إنني أنتظر منك تضحية حب... أجيبينني، هل تريدين، هل تقبلين باشفاء أدريان البريء من دائه؟... أنت أيتها الروح التي تألمتي قرابة الثلاثة قرون، هل تقبلين بأخذ عذاب هذا الطفل و بمعالجته إلى الأبد؟ ... يا لعبة الرياح و العواصف، أنت التي بقيت تتعذبين من البرودة و الجليد، من حرارة الصيف و جفافه، من الرياح العاتية و حافظتي على وجودك، انظري إلى هذا الطفل و إلى ساقيه، انه يطلب منك شيئا بنفسه و أنت، قادرة على فعل شيء له.. هل تقبلين بمنحه قوتك و طاقتك، هل تقبلين باشفائه؟ "
و في نفس اللحظة المتزامنة مع آخر كلمات الرجل، سطع القمر بضياء مفاجىء غريب رافقته رياح باردة زعزعت قمة الشجرة... الرجل أخذ أدريان في حضنه و اتجه به نحو الشجرة التي انتزع منها غصنا صغيرا قبل أن يتلفظ بكلمات لم تفهمها لا أم الطفل و لا رفيقتها و فجأة أخذت غصون مختلفة من السنديانة تسقط على الأرض و كأن تلك الشجرة كانت تنفض قواها من شدة اللم. حينها سارع الرجل إلى التضرع إلى الله ملتمسا منه مساعدته على تخليص أدريان من دائه و تقول السيدة آسيا بلعيون في شهادتها بان كل شيء حدث كالحلم قبل أن يسمح لها بالاقتراب من ابنها.
اثر ذلك عاد الكل إلى المزرعة حيث تم قضاء ما تبقى من الليلة إلى غاية اليوم الموالي، حيث حدثت المفاجأة إذ استيقظ أدريان و جرى على قدميه باتجاه أمه التي طلب منها أن تقدم له فطور الصباح، رغم أنه قضى شهورا عديدة دون القدرة على المشي و لا الرغبة في الأكل.
هذه هي قصتي قالت السيدة آسيا بلعيون التي أضافت مفيدة بأن شهادتها عن هذه الواقعة التي قد تبدو غير مقبولة في نظر الكثيرين بل في نظر الأغلبية الساحقة من الناس لأن تفاصيلها أقرب إلى القصة الخرافية منها إلى الواقع، لكن العبرة لا تكمن في إجهاد النفس في المقارنة بين الخيال و بين الحقيقة و إنما في شيء آخر و هو أن على الإنسان أ لا يفقد الأمل لأن الحياة تختزن من الأسرار ما يكفي لتحقيق معجزات لا يتصورها البشر في عقله المغلق بالخلفيات و الأحكام المسبقة
تعليق