معارك تاريخية خالدة
غيرت وجه التاريخ الأسلامى
شهد التاريخ الإسلامي في القرون الوسطى عدة حروب، خاضها المسلمون ضد الغزاة الذين جاؤوا من كل حدب وصوب إلى بلادهم في المشرق والمغرب طمعاً في ثرواتها الطبيعية الوفيرة، وسعياً دؤوباً منهم لبلوغ هدفهم القديم لاحتلالها والسيطرة على موقعها الفريد ذي الأهمية البالغة على خريطة العالم·
وكان المسلمون في كل تلك الحروب يدافعون عن أنفسهم ودينهم، الحنيف وحريتهم، وحماية لأوطانهم وحضارتهم من أولئك الغزاة· مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين}(البقرة 190)
وغالباً ما كانت تلك الحروب تحسم بمعارك فاصلة بين المسلمين والغزاة، كتب للمسلمين فيها النصر المبين تحقيقاً لوعد الله لهم في قوله تعالى:
{أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصيرهم لقدير}(الحج 39)·
وقوله عز وجل:
{ إنا لننصر رسلنا والذين أمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}(غافر 51)·
وأصبحت تلك المعارك تمثل صفحات مضيئة من التاريخ الإسلامي، لكي تستفيد الأجيال من تجاربها القاسية، ونستخلص منها الدروس التي تبين عوامل النصر وأسباب الهزيمة·
وعرفت تلك المعارك بأسماء المواقع الجغرافية التي دارت على أرضها وأشهرها موقعة الزلاقة في الأندلس، وموقعتي حطين وعين جالوت على أرض فلسطين·
1- موقعة الزلاقة في الأندلس (479هـ- 1086م)
عندما أخذ الوجود الاسلامي يضعف في شبه جزيرة الأندلس بسبب التفكك الذي أصابه بعد زوال الوحدة والقوة اللتين سادتا البلاد في ظل الدولة الأموية التي أسسها عبدالرحمن الداخل، الملقب بصقر قريش، وبقيت زهاء ثلاثة قرون (138هـ- 422هـ، 755-1031م) ولكنها انقسمت إلى ممالك وإمارات على رأس كل منها ملك أو سلطان أو أمير· ودب الخلاف والتنافس بين هؤلاء· وغالباً ما كان ينشب بينهم الصراع وتقوم الحروب، بل وصل العداء بينهم إلى الحد الذي دفع بعضهم إلى الاستعانة بالأعداء ضد إخوته وأبناء وطنة (1)، وعم الخوف والهلع بين سكان الأندلس بسبب الاضطرابات والحروب بين حكامها، مما شجع أعداءهم إلى غزوهم فاستطاعوا أن يستولوا على أراض واسعة ومدن زاهرة أهمها مدينة طليطلة التي كانت تقع وسط الأندلس، عبر عن ذلك شاعرهم، عندما قال:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ....... فما المقام بها الا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ..ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
لم يكن في قدرة دول الطوائف الدفاع عن البلاد وحمايتها من غزوات الأسبان الذين تحالفوا مع الفرنجه من الأيطاليين والفرنسيين، لذلك اتجهوا إلى طلب العون والنجدة من القائد الفذ مؤسس دولة المرابطين في المغرب يوسف بن تاشفين الذي استجاب لطلبهم ولبى النداء وقرر نجدة الأندلس وأهلها في ذلك الوقت الذي كانت فيه تهددها الأخطار من كل جانب· وكان رجلاً مؤمناً تقياً مطيعاً لأمر الله في قوله جل شأنه:
{وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير}(الأنفال 72)·
وبدأت قوات المرابطين الاستعداد للموقعة التاريخية· وتتابع وصولها من جميع أنحاء المغرب إلى مضيق جبل طارق· وعبرت إلى الأندلس وعلى رأسها قائدها يوسف بن تاشفين الذي كان عمره أنذاك ثمانين عاماً·
وعندما علم الفونسو السادس ملك قشتالة بعبور بن تاشفين وجيوشة إلى الأندلس أرسل يستنجد بحلفائه من ملوك أوروبا· وتتابعت لنجدته الجيوش من إيطاليا وفرنسا وغيرها· وقبل القتال بعث إليه يوسف بن تاشفين يدعوه إلى الإسلام والكف عن الاعتداء على المسلمين وديارهم وإلا فأنها الحرب· فأجابه الفونسو بكتاب غليظ فيه تهديد ووعيد وأنذره بأوخم العواقب· ولكن يوسف بن تاشفين رد عليه بكلمات فقط قال فيها:
( الذي يكون ستراه )·
وتأهب الفريقان للقتال في مكان يعرف بالزلاقة في وسط الأندلس وقبل نشوب القتال، حاول الفونسو أن يخدع المسلمين في تحديد يوم المعركة·
فأرسل إليهم رسالة قال فيها:
إن غداً يوم الجمعة وهو عيدكم، وبعده السبت يوم اليهود وهم كثير في محلتنا وبعده الأحد وهو عيدنا، فيكون اللقاء يوم الإثنين ·
وعقد يوسف بن تاشفين مجلس المشورة الذي يضم كبار القوات والعلماء وأهل الرأي وعرض عليهم الرسالة، فأجمعوا على أنها خدعة· وأن الهجوم سيكون فجر الجمعة على معسكرهم من الأعداء· واتفقوا على أرسال السرايا لاستطلاع الأخبار عند العدو· وتأكد لهم صدق ما قالوا· وأعلنوا الاستعداد في تلك الليلة· وهذا أحد أبرز وأهم مظاهر اليقظة والحس الاستراتيجي لديهم الذي جعلهم يكونون على أهبة للقاء العدو عند بدء الهجوم ايماناً بقوله سبحانه وتعالى:
{ يا أيها الذين أمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً}(النساء 71)·
ودارت المعركة التاريخية صباح يوم الجمعة 12 رجب سنة 479هـ، 23 تشرين أول، أكتوبر سنة 1086م واشتد القتال بين الفريقين وأندحر المسلمون عن مواقعهم في بداية القتال ثم تقدم يوسف بن تاشفين بقوات الاحتياط التي ادخرها لهذه اللحظة، وهم من فرسان المرابطين وحرسه الخاص من الأفارقة ولم يتجه إلى صفوف الأعداء مباشرة بل دار خلف خطوطهم واقتحم معسكرهم ومركز تموينهم مباشرة واستطاع أن يهزم ألفونسو وجيوش أوروبا ويستولى على معسكرهم وفر ذلك الملك وهو مجروح ونجا من الموت بصعوبة· وسلمت الأندلس لأهلها واستمرت الحضارة الإسلامية فيها بعد هذه الموقعة قرابة خمسة قرون(2)·
لقد أحرز المسلمون النصر في هذه المعركة، الفاصلة التي تماثل معركة حطين في المشرق العربي، بفضل الوحدة والإيمان بنصر الله لهم والثقة بالنفس ونبذ الخلافات وتقديم المصلحة العليا على المصالح الخاصة وصدق وعد الله لهم في قوله تعالى:
{ يا أيها الذين أمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(محمد 7)·
وصف الشاعر الأندلسي أبو طالب بن عبدالجبار ذلك النصر فقال:
فإذا أراد الله نصر الدين ..... استصرخ الناس ابن تاشفين
وواصل السير إلى الزلاقة..... وساقة يومها ما ساقة
لله در مثلها من واقعة ..... قامت بنصر الدين يوم الجمعة
2- موقعة حطين على أرض فلسطين (583هـ - 1187م)
في أواخر القرن الخامس الهجري، المواقف الحادي عشر الميلادي، استطاعت الحملات الصليبية التي قادها ملوك وأمراء أوروبا ضد الشرق الإسلامي تحت اسم الصليب لتبرير أطماعهم في هذه البلاد وثرواتها، أن يستولوا على عدد من بلدان المشرق العربي· وكانت غايتهم فلسطين لمكانتها الدينية ولاسيما حاضرتها القدس التي دخلوها في 23 شعبان سنة 492هـ الموافق 15 تموز/ يوليو 1099م وقد هزت هذه الهزيمة المسلمين في شتى بقاع الأرض· ومنذ ذلك الحين بدأ الاستعداد لبناء القوة القادرة على مواجهة هذا الحظر وتحرير الأرض واسترجاع بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين الى حظيرة الإسلام· وطبق المسلمون قول الله تعالى:
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}(الأنفال 60)·
واستمر ذلك حوالي قرن من الزمان· وكان صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب· مؤسس الدولة الأيوبية التي ضمت تحت جناحها مصر والشام، هو القائد المحنك والسياسي المجرب الذي تحقق على يديه، النصر في موقعة حطين التي جرت على أرض فلسطين في 17 ربيع الثاني 583هـ الموافق 4 تموز / يوليو 1187م·
فبعد سنوات من الإعداد المنظم والحشد الاستراتيجي السياسي والعسكري الذي تولى القيام به صلاح الدين بنفسه، ونجاحه في توحيد مصر وسوريا، ووضع قواتهما تحت قيادته الحكيمة· قرر أن يضع حداً للجرائم التي ارتكبها أمير الكرك المعروف بأرناط ضد المسلمين وتعرضه المستمر لقوافل الحج الذاهبة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، مخالفاً بذلك ما كان بين المسلمين وبينه من اتفاقات للهدنة·
فوضع صلاح الدين خطة حربية محكمة، وأحسن اختيار الزمان والمكان المناسبين للمعركة المنتظرة فتقدمت الجيوش تحت قيادته من الشرق نحو فلسطين· وبدأ بمحاصرة مدينة طبرية وهي مهمة بالنسبة للصليبيين ثم أسرع واستولى عليها، وأحاط بها من كل جانب، وأحكم قبضته على مصادر المياه في المنطقة كلها· عندئذ تجمعت جيوش الصليبيين وحاولت مهاجمته والتقدم لاسترجاع طبرية· وهذا ما أراده منها صلاح الدين فقام على الفور بمحاصرتها في وادي ضيق بين الجبال ومنعهم من الوصول إلى خزانات المياه وهي مادة حيوية في الحروب مثل النفط في عصرنا، لاسيما أن المعركة دارت في فصل الصيف شديد الحرارة في هذه البقعة من فلسطين· وبعد أن حاصرهم حصاراً محكماً، وبلغ منهم الجهد مبلغه فتح لهم ثغرة ضيقة للاندفاع منها واستطاعت قواته أن تهجم عليهم من كل جانب، ودارت معركة حامية بين الطرفين ورجحت كفة صلاح الدين الذي حقق النصر المبين على جيوش الصليبيين· وكانت هزيمتهم في حطين بداية النهاية لاحتلالهم للشرق الإسلامي· وتقدم صلاح الدين لتحرير بيت المقدس وظفر بذلك ودخلها في 26 رجب سنة 583هـ الموافق/ تشرين أول/ أكتوبر سنة 1187م أي بعد نصر حطين بثلاثة أشهر فقط ولما كان هذا النصر يبدو بعيداً في ظل ما كان يعاني منه المسلمون في ذلك الزمان من ضعف فقد وصفه نائب صلاح الدين عماد الدين الأصفهاني، بقوله: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ·
وعلى عكس ما فعل الصليبيون عند احتلالهم للقدس وقيامهم بارتكاب مذابح ضد السكان دون تمييز بين المسلمين أو النصارى الذين كانوا يعيشون جنباً الى جنب قروناً عديدة تحت راية الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي الحنيف، فقد عفا صلاح الدين عن الأسرى من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة وقدم لهم العون والمساعدة التي تبلغهم بلادهم لمن أراد العودة منهم، وأمن من رغب في البقاء· يصف ذلك الشاعر أبو الفوارس سعد بن محمد فيقول :
ملكنا فكان العفوا منا سجية ,,,, فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأساري وطالما ... غدونا على الأسرى نمن ونصفح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا ,,,,, وكل إناء بالذي فيه ينضح
وقال المؤرخ الانجليزي لين بول عن فتح بيت المقدس:
لو لم يكن لصلاح الدين من الأعمال الثابتة إلا أخذه بيت المقدس لكان ذلك كافيا لجعله أعظم الفاتحين في عصره وأكبرهم قلباً بل لعله كان كذلك في أي عصر من العصور ·
3- موقعة عين جالوت (658هـ - 1259م)
بلغت موجات الغزو التتاري لأقطار الشرق الإسلامي أوجها باحتلال بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وتدميرها وحرق وإغراق كنوز العلوم الإسلامية ومؤلفاتها في مياه نهر دجلة والفرات· وتقدمت جافل جيوشهم بقيادة هولاكو نحو دمشق ودخولها سنة 658هـ الموافق 1259م عندئذ أرسل هولاكو رسالة إلى السلطان المظفر قطز في مصر يهدده فيها ويطلب منه التسليم والخضوع لقادته الذين ارسلهم لتسليم البلاد منه· فعقد السلطان قطز مجلس الشورة وعرض الأمر على القادة والأمراء والعلماء، واتفقوا جميعاً على محاربة التتار والدفاع عن ديار الاسلام· وتم إعلان النفير العام وتوفير الأموال وحشد الجيوش وتعيين قائد عام لها هو الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وسارعت الجيوش بالتقدم نحو الشام لمحاربة التتار هناك· ومثل هذه المبادرة أعطت المسلمين ميزة المفاجئة بالهجوم على عدوهم وإرباك خططه وإفشالها· هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قوت الروح المعنوية للمسلمين وجعلتهم يشعرون بالثقة في النصر وبذلك قطعوا منتصف الطريق نحو الفوز على عدوهم·
وفي يوم الجمعة 25 رمضان سنة 658هـ دارت أكبر معركة عرفها التاريخ الأنساني بين الحضارة الإنسانية تحت لواء الأسلام وبين قوات التخلف والهمجية التي كان يمثلها التتار أنذاك· وثبت المسلمون في ميدان المعركة واستطاعوا أن يحققوا النصر· وتراجعت قوات التتار إلى الخلف وبدأت في الانسحاب من الشام ثم واصلت أنسحابها إلى أن عادت متقهقرة ودخل كثير منهم الإسلام ·
وقد اعترف الكثير من الكتاب الغربين المعاصرين أنه لولا انتصار المسلمين على التتار في عين جالوت لكان هناك شك في أن تبقى الحضارة الأسلامية وتراثها العريق أو تنهض الحضارة الأوروبية الحديثة يقول الله سبحانه وتعالى في محكم أياته:
{حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولايرد بأسنا عن القوم المجرمين· لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون}(يوسف 110-111)·
وكان المسلمون في كل تلك الحروب يدافعون عن أنفسهم ودينهم، الحنيف وحريتهم، وحماية لأوطانهم وحضارتهم من أولئك الغزاة· مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين}(البقرة 190)
وغالباً ما كانت تلك الحروب تحسم بمعارك فاصلة بين المسلمين والغزاة، كتب للمسلمين فيها النصر المبين تحقيقاً لوعد الله لهم في قوله تعالى:
{أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصيرهم لقدير}(الحج 39)·
وقوله عز وجل:
{ إنا لننصر رسلنا والذين أمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}(غافر 51)·
وأصبحت تلك المعارك تمثل صفحات مضيئة من التاريخ الإسلامي، لكي تستفيد الأجيال من تجاربها القاسية، ونستخلص منها الدروس التي تبين عوامل النصر وأسباب الهزيمة·
وعرفت تلك المعارك بأسماء المواقع الجغرافية التي دارت على أرضها وأشهرها موقعة الزلاقة في الأندلس، وموقعتي حطين وعين جالوت على أرض فلسطين·
1- موقعة الزلاقة في الأندلس (479هـ- 1086م)
عندما أخذ الوجود الاسلامي يضعف في شبه جزيرة الأندلس بسبب التفكك الذي أصابه بعد زوال الوحدة والقوة اللتين سادتا البلاد في ظل الدولة الأموية التي أسسها عبدالرحمن الداخل، الملقب بصقر قريش، وبقيت زهاء ثلاثة قرون (138هـ- 422هـ، 755-1031م) ولكنها انقسمت إلى ممالك وإمارات على رأس كل منها ملك أو سلطان أو أمير· ودب الخلاف والتنافس بين هؤلاء· وغالباً ما كان ينشب بينهم الصراع وتقوم الحروب، بل وصل العداء بينهم إلى الحد الذي دفع بعضهم إلى الاستعانة بالأعداء ضد إخوته وأبناء وطنة (1)، وعم الخوف والهلع بين سكان الأندلس بسبب الاضطرابات والحروب بين حكامها، مما شجع أعداءهم إلى غزوهم فاستطاعوا أن يستولوا على أراض واسعة ومدن زاهرة أهمها مدينة طليطلة التي كانت تقع وسط الأندلس، عبر عن ذلك شاعرهم، عندما قال:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ....... فما المقام بها الا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ..ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
لم يكن في قدرة دول الطوائف الدفاع عن البلاد وحمايتها من غزوات الأسبان الذين تحالفوا مع الفرنجه من الأيطاليين والفرنسيين، لذلك اتجهوا إلى طلب العون والنجدة من القائد الفذ مؤسس دولة المرابطين في المغرب يوسف بن تاشفين الذي استجاب لطلبهم ولبى النداء وقرر نجدة الأندلس وأهلها في ذلك الوقت الذي كانت فيه تهددها الأخطار من كل جانب· وكان رجلاً مؤمناً تقياً مطيعاً لأمر الله في قوله جل شأنه:
{وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير}(الأنفال 72)·
وبدأت قوات المرابطين الاستعداد للموقعة التاريخية· وتتابع وصولها من جميع أنحاء المغرب إلى مضيق جبل طارق· وعبرت إلى الأندلس وعلى رأسها قائدها يوسف بن تاشفين الذي كان عمره أنذاك ثمانين عاماً·
وعندما علم الفونسو السادس ملك قشتالة بعبور بن تاشفين وجيوشة إلى الأندلس أرسل يستنجد بحلفائه من ملوك أوروبا· وتتابعت لنجدته الجيوش من إيطاليا وفرنسا وغيرها· وقبل القتال بعث إليه يوسف بن تاشفين يدعوه إلى الإسلام والكف عن الاعتداء على المسلمين وديارهم وإلا فأنها الحرب· فأجابه الفونسو بكتاب غليظ فيه تهديد ووعيد وأنذره بأوخم العواقب· ولكن يوسف بن تاشفين رد عليه بكلمات فقط قال فيها:
( الذي يكون ستراه )·
وتأهب الفريقان للقتال في مكان يعرف بالزلاقة في وسط الأندلس وقبل نشوب القتال، حاول الفونسو أن يخدع المسلمين في تحديد يوم المعركة·
فأرسل إليهم رسالة قال فيها:
إن غداً يوم الجمعة وهو عيدكم، وبعده السبت يوم اليهود وهم كثير في محلتنا وبعده الأحد وهو عيدنا، فيكون اللقاء يوم الإثنين ·
وعقد يوسف بن تاشفين مجلس المشورة الذي يضم كبار القوات والعلماء وأهل الرأي وعرض عليهم الرسالة، فأجمعوا على أنها خدعة· وأن الهجوم سيكون فجر الجمعة على معسكرهم من الأعداء· واتفقوا على أرسال السرايا لاستطلاع الأخبار عند العدو· وتأكد لهم صدق ما قالوا· وأعلنوا الاستعداد في تلك الليلة· وهذا أحد أبرز وأهم مظاهر اليقظة والحس الاستراتيجي لديهم الذي جعلهم يكونون على أهبة للقاء العدو عند بدء الهجوم ايماناً بقوله سبحانه وتعالى:
{ يا أيها الذين أمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً}(النساء 71)·
ودارت المعركة التاريخية صباح يوم الجمعة 12 رجب سنة 479هـ، 23 تشرين أول، أكتوبر سنة 1086م واشتد القتال بين الفريقين وأندحر المسلمون عن مواقعهم في بداية القتال ثم تقدم يوسف بن تاشفين بقوات الاحتياط التي ادخرها لهذه اللحظة، وهم من فرسان المرابطين وحرسه الخاص من الأفارقة ولم يتجه إلى صفوف الأعداء مباشرة بل دار خلف خطوطهم واقتحم معسكرهم ومركز تموينهم مباشرة واستطاع أن يهزم ألفونسو وجيوش أوروبا ويستولى على معسكرهم وفر ذلك الملك وهو مجروح ونجا من الموت بصعوبة· وسلمت الأندلس لأهلها واستمرت الحضارة الإسلامية فيها بعد هذه الموقعة قرابة خمسة قرون(2)·
لقد أحرز المسلمون النصر في هذه المعركة، الفاصلة التي تماثل معركة حطين في المشرق العربي، بفضل الوحدة والإيمان بنصر الله لهم والثقة بالنفس ونبذ الخلافات وتقديم المصلحة العليا على المصالح الخاصة وصدق وعد الله لهم في قوله تعالى:
{ يا أيها الذين أمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(محمد 7)·
وصف الشاعر الأندلسي أبو طالب بن عبدالجبار ذلك النصر فقال:
فإذا أراد الله نصر الدين ..... استصرخ الناس ابن تاشفين
وواصل السير إلى الزلاقة..... وساقة يومها ما ساقة
لله در مثلها من واقعة ..... قامت بنصر الدين يوم الجمعة
2- موقعة حطين على أرض فلسطين (583هـ - 1187م)
في أواخر القرن الخامس الهجري، المواقف الحادي عشر الميلادي، استطاعت الحملات الصليبية التي قادها ملوك وأمراء أوروبا ضد الشرق الإسلامي تحت اسم الصليب لتبرير أطماعهم في هذه البلاد وثرواتها، أن يستولوا على عدد من بلدان المشرق العربي· وكانت غايتهم فلسطين لمكانتها الدينية ولاسيما حاضرتها القدس التي دخلوها في 23 شعبان سنة 492هـ الموافق 15 تموز/ يوليو 1099م وقد هزت هذه الهزيمة المسلمين في شتى بقاع الأرض· ومنذ ذلك الحين بدأ الاستعداد لبناء القوة القادرة على مواجهة هذا الحظر وتحرير الأرض واسترجاع بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين الى حظيرة الإسلام· وطبق المسلمون قول الله تعالى:
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}(الأنفال 60)·
واستمر ذلك حوالي قرن من الزمان· وكان صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب· مؤسس الدولة الأيوبية التي ضمت تحت جناحها مصر والشام، هو القائد المحنك والسياسي المجرب الذي تحقق على يديه، النصر في موقعة حطين التي جرت على أرض فلسطين في 17 ربيع الثاني 583هـ الموافق 4 تموز / يوليو 1187م·
فبعد سنوات من الإعداد المنظم والحشد الاستراتيجي السياسي والعسكري الذي تولى القيام به صلاح الدين بنفسه، ونجاحه في توحيد مصر وسوريا، ووضع قواتهما تحت قيادته الحكيمة· قرر أن يضع حداً للجرائم التي ارتكبها أمير الكرك المعروف بأرناط ضد المسلمين وتعرضه المستمر لقوافل الحج الذاهبة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، مخالفاً بذلك ما كان بين المسلمين وبينه من اتفاقات للهدنة·
فوضع صلاح الدين خطة حربية محكمة، وأحسن اختيار الزمان والمكان المناسبين للمعركة المنتظرة فتقدمت الجيوش تحت قيادته من الشرق نحو فلسطين· وبدأ بمحاصرة مدينة طبرية وهي مهمة بالنسبة للصليبيين ثم أسرع واستولى عليها، وأحاط بها من كل جانب، وأحكم قبضته على مصادر المياه في المنطقة كلها· عندئذ تجمعت جيوش الصليبيين وحاولت مهاجمته والتقدم لاسترجاع طبرية· وهذا ما أراده منها صلاح الدين فقام على الفور بمحاصرتها في وادي ضيق بين الجبال ومنعهم من الوصول إلى خزانات المياه وهي مادة حيوية في الحروب مثل النفط في عصرنا، لاسيما أن المعركة دارت في فصل الصيف شديد الحرارة في هذه البقعة من فلسطين· وبعد أن حاصرهم حصاراً محكماً، وبلغ منهم الجهد مبلغه فتح لهم ثغرة ضيقة للاندفاع منها واستطاعت قواته أن تهجم عليهم من كل جانب، ودارت معركة حامية بين الطرفين ورجحت كفة صلاح الدين الذي حقق النصر المبين على جيوش الصليبيين· وكانت هزيمتهم في حطين بداية النهاية لاحتلالهم للشرق الإسلامي· وتقدم صلاح الدين لتحرير بيت المقدس وظفر بذلك ودخلها في 26 رجب سنة 583هـ الموافق/ تشرين أول/ أكتوبر سنة 1187م أي بعد نصر حطين بثلاثة أشهر فقط ولما كان هذا النصر يبدو بعيداً في ظل ما كان يعاني منه المسلمون في ذلك الزمان من ضعف فقد وصفه نائب صلاح الدين عماد الدين الأصفهاني، بقوله: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ·
وعلى عكس ما فعل الصليبيون عند احتلالهم للقدس وقيامهم بارتكاب مذابح ضد السكان دون تمييز بين المسلمين أو النصارى الذين كانوا يعيشون جنباً الى جنب قروناً عديدة تحت راية الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي الحنيف، فقد عفا صلاح الدين عن الأسرى من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة وقدم لهم العون والمساعدة التي تبلغهم بلادهم لمن أراد العودة منهم، وأمن من رغب في البقاء· يصف ذلك الشاعر أبو الفوارس سعد بن محمد فيقول :
ملكنا فكان العفوا منا سجية ,,,, فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأساري وطالما ... غدونا على الأسرى نمن ونصفح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا ,,,,, وكل إناء بالذي فيه ينضح
وقال المؤرخ الانجليزي لين بول عن فتح بيت المقدس:
لو لم يكن لصلاح الدين من الأعمال الثابتة إلا أخذه بيت المقدس لكان ذلك كافيا لجعله أعظم الفاتحين في عصره وأكبرهم قلباً بل لعله كان كذلك في أي عصر من العصور ·
3- موقعة عين جالوت (658هـ - 1259م)
بلغت موجات الغزو التتاري لأقطار الشرق الإسلامي أوجها باحتلال بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وتدميرها وحرق وإغراق كنوز العلوم الإسلامية ومؤلفاتها في مياه نهر دجلة والفرات· وتقدمت جافل جيوشهم بقيادة هولاكو نحو دمشق ودخولها سنة 658هـ الموافق 1259م عندئذ أرسل هولاكو رسالة إلى السلطان المظفر قطز في مصر يهدده فيها ويطلب منه التسليم والخضوع لقادته الذين ارسلهم لتسليم البلاد منه· فعقد السلطان قطز مجلس الشورة وعرض الأمر على القادة والأمراء والعلماء، واتفقوا جميعاً على محاربة التتار والدفاع عن ديار الاسلام· وتم إعلان النفير العام وتوفير الأموال وحشد الجيوش وتعيين قائد عام لها هو الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وسارعت الجيوش بالتقدم نحو الشام لمحاربة التتار هناك· ومثل هذه المبادرة أعطت المسلمين ميزة المفاجئة بالهجوم على عدوهم وإرباك خططه وإفشالها· هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قوت الروح المعنوية للمسلمين وجعلتهم يشعرون بالثقة في النصر وبذلك قطعوا منتصف الطريق نحو الفوز على عدوهم·
وفي يوم الجمعة 25 رمضان سنة 658هـ دارت أكبر معركة عرفها التاريخ الأنساني بين الحضارة الإنسانية تحت لواء الأسلام وبين قوات التخلف والهمجية التي كان يمثلها التتار أنذاك· وثبت المسلمون في ميدان المعركة واستطاعوا أن يحققوا النصر· وتراجعت قوات التتار إلى الخلف وبدأت في الانسحاب من الشام ثم واصلت أنسحابها إلى أن عادت متقهقرة ودخل كثير منهم الإسلام ·
وقد اعترف الكثير من الكتاب الغربين المعاصرين أنه لولا انتصار المسلمين على التتار في عين جالوت لكان هناك شك في أن تبقى الحضارة الأسلامية وتراثها العريق أو تنهض الحضارة الأوروبية الحديثة يقول الله سبحانه وتعالى في محكم أياته:
{حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولايرد بأسنا عن القوم المجرمين· لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون}(يوسف 110-111)·
منقول
تعليق