كهنوت المقابر والأثاث الجنائزى فى الحضارات القديمة
حاولت الحضارة القديمة أن تعكس قراءتها الكهنوتيّة والطوطميّة على جملة مقوماتها ومن بينها ما بعد الموت وما انجرّ عنه من تقاليد وطقوس ضاربة فى الرمزيّة لتحاول من موقعها فهم أهم المسائل الوجودية العالقة إلى الآن: جدلية الموت والحياة، الوجود والإندثار مُسخّرة فى ذلك علوم عصرها وما امتلكته من تقنيات ووسائل.
فجدلية الموت والحياة صاحبت الإنسان منذ صدامه الأول مع الفناء، مع الإندثار لتبعث التّصوّرات البدائيّة الأولى حول هذا الإشكال الذى يلازمه ويتحداه يلازمه ويهزمه ففكر فى التجاوز والانتصار بمنظومات معرفيّة أخذت أبعادا مختلفة ومتنوّعة طبقا للحضارات المنتجة لمثل هذه التصوّرات والمعارف.
وقد حاول الإنسان قبل التفاعل المعرفى مع معطى الموت وما بعد عالم الظلام والسّكون دفن هذه الجثة أولا ليعتنى بهذه العملية ثانيا وما تبعها من تنويع وتطور ويذهب علماء الآثار بأنّ إنسان النياندرتال أوّل نوع بشرى عنى بدفن موتاه فى القبور حيث وضعت الجثث فى وضعيات رمزيّة متقاربة صاحبها أثاث جنائزى تطور هو الآخر كمّا ونوعا كأشكال القبور وأنواعها من الحفر، الآبار، القبور الجلمودية، الدلامين، الأضرحة، المصاطب والأهرامات وغيرها مقتصرين فى مبحثنا هذا على نماذج حضارية مميزة.
1- المقابـر الفرعونية :
إنّ الإنتاجات الأدبية والمعرفية وحتى العمرانية لحضارة مصر القديمة مازالت تشدّ إلى الآن اهتمام علماء الآثار وغيرهم وقد حظيت أهرامات مصر بنوع خاص من الاهتمامات فقد صنفت كإحدى عجائب الدنيا إن لم نقل أهمّها نظرا لما أولته أدبيات هذه الحضارة لجدلية الموت والحياة.
تقاليد تدينها فى كتاب الموتى وقبورهم التى أولوها مكانة متميزة فى حياتهم هذه وقد خلدت لنا الأراضى المصرية التطور النوعى والكمّى للمقابر حيث كانت حفر بسيطة لا يتجاوز عمقها المترين وتكون إمّا مستديرة أو مستطيلة، على شاكلة مصاطب ثم أهرامات وغيرها المحفورة فى المغارات، أو المنحوتة فى الجبال ذات الصور والرسوم الجنائزية المرعبة المناظر المتنوعة لتقديم القرابين والحراثة كما احتوت لصور الميت وهو يرعى غنمه ومكتوب عدد حميره وغنمه وأخرى تذكر بصاحب القبر ومراتبه السامية لتتطور هذه الرسوم والنقش والتصاوير من الدولة القديمة، الوسطى والحديثة.
أمّا عن الأثاث الجنائزى فمردّه ايمان المصرى بعالم ما بعد الموت وقد وجد منذ عصر ما قبل الأسر. ومنها مجموعة من الأوانى توضع فيها اللحوم والخضر والحبوب خاصة الشعير والأشربة مع أدوات الحرب كالرماح والأسنة والسهام ومجموعة من أدوات الزينة كالعقود والأساور والأمشاط ليتواصل حضور الأثاث الجنائزى فى المقابر.
لكن دلّ تاريخها على عظمة الفراعنة والحاشية وعلى فقر بقية القوم ولا أدلّ على ذلك قبر توت خنع آمون وما احتواه من كنوز ذهبية، تماثيل الملك والمجوهرات الذهبية والأثاثات السحرية والمحاريب الذهبية والأوانى المصنوعة من المرمر ومن الخزف هى الآن متواجدة بالمتحف المصرى وقد احتلت مكانة هامّة فى التوزيع العام لثروات المتحف الأثرية.
كما احتوت مقبرة الأميرات على أنواع الحلى وأدوات الزينة كما فى مقبرة الأميرة "خنومت " حيث وجد الأثريون وريدات من الذهب ذات رسوم مفرغة متصلة بعضها ببعض بواسطة سلاسل صغيرة يتدلى منها قفل صغير مستدير يحتوى على صورة ملونة لعجل راقد وهى مغطاة بطبقة رقيقة من الكوارتز وجزء من عقد مؤلف من إشارات هيروغليفية يرمز بها للحياة والثبات والصحة وتاج بأسلاك من ذهب وغيرها من الأدوات بباقى مقابر الأميرات.
كما نجد بمقابر العساكر والمحاربين الكبار النشاب، الحراب، خوذ أو عدة أدوات كالتى وجدت بقبر رمسيس الثالث لكونه محاربا عظيما لتتعداها إلى الموائد المعدّة للقرابين، مخازن توضع فيها القرابين والنعال ومسند للرأس وعلى صدر الميت سبح من خرز وفصول من كتاب الموتى كما تحف الميت التماثيل الصغيرة الخزفيّة والتى تسمى بالمساخيط وهم بمثابة الوكلاء والنائبين فهم يجيبون عن الميت عندما يطلب للحساب والعقاب وتؤدى بدلا عنه أشغال السخرة التى يطلبها أوزيريس وتحفه بأجنحتها لتقيه من الشرّ وتكون بأعداد معتبرة ويطلونها بالزجاج الأزرق، الرخام، المرمر.
وقد كشفت بعض الحجر الجنائزية على الخبز، اللحم، الملابس وعدّة تحف أخرى تزخر بها مقابر وأماكن دفن موتى المصريين القدامى من ملوك وعامّة الناس.
2-المقابر الصينية :
إنّ الحضارة الصينيّة واحدة من أعرق الحضارات وأقدمها التى مازلت تمثل مادة خاما للدراسة والبحث والتنقيب وككل الأمم القديمة قدست الصين الموتى واعتبرت المقابر إحدى مفاخرها المعمارية وطقوسها الكهنوتية فكانت مقابرها متنوعة كمّا وكيفا من حيث البناء والهندسة ومن حيث الأثاث الجنائزى الملازم لها والذى يمثل أحد أهم ركائزها العقائدية.
فكانت القبور عامة حفرا ترابية وصخرية منها العمودية المستطيلة وغيرها ذات الأطوال المتراوحة بين 6 و52 م وأكثر وذات مساحات مختلفة تصل حتى 2700 م2 وأكثر وتكون عموما ذات ثلاث غرف تتوسطها التوابيت وجدران هذه الغرف غالبا ما تكون مزينة إذ لوحظ عند بعض القبور نماذج من قمم الجبال والغيوم والتنانين اللاهية والأيائل الراكضة وحتى مشاهد رعى المواشى والزراعة، رسم المدن القديمة، مشاهد المواكب والألعاب البهلوانية كما صورت لنا غرفة مقبرة دفن فيها موظف إدارى حالة توليه المناصب الحكومية فى حياته.
إذا كان قبر توت عنخ آمون مفخرة المقابر المصرية فإن قبر Qin Shihuangdi يعدّ من التراث العالمى إذ استغرق عمله أكثر من 40 سنة وبأكثر من 700.000 عامل وبمساحة تقدّر بأكثر من 50 كم2.
أما عن الأثاث الجنائزى فإنّ بدايته كانت بالأدوات البدائية الحربية وبعقود قدّت من عظام الحيوانات لتحتوى بعد ذلك القبور على العديد من القطع الجنائزية ومنها الأدوات الفخارية، البرونزية، اليشمية، الخيزرانية والخشبيّة والملابس كالجوارب والأحذية والأوراق ومحابر حجرية وكتب عدّت بالمئات وأوانى للطّعام والخمر وبذور وقدور للطبخ وآلات موسيقية مثل الأعواد والطبول والأسلحة التى وصلت بهذه القبور إلى 93 قطعة بالقبر الواحد وقد وجد معظمها فى حالة سليمة ومنها الأقواس والنشابات والسهام وغيرها من الحلى وأدوات الزينة كعشرات الأقراص من الذهب والحلى المصنوعة من صفائح الذهب المطروقة .
ولا يمكنا ونحن نتحدث عن الأثاث الجنائزى إلا الوقوف لذكر الثروة الجنائزية التى احتواها قبر Qin وهى موزعة بين احتوائه على 40000 إلى 50000 قطعة من الأشياء النادرة والثمينة و4 خنادق للجنود من الطين المحروق وعربات حرب من البرونز وأسلحة مرافقة للجنود الذين يعدّون بالآلاف وتابوت ذهبى يتحرك فوق الزئبق حيث مازالت الحفريات متواصلة لمزيد كشف هذه الثروات.
3-المقابـر الاتروسكيـة :
عظم الاتروسكيون من شأن مقابرهم وذلك مردّه نفوذ الكهنة وتأثيرهم المباشر على عقول الناس وتصرفاتهم وإيمانهم بعالم آخر هو مستقر لأرواحهم سموه هاديس لتأتى فى الأخير هذه المقابر كمدن حقيقية من حيث عمارتها التى نحتت فى جوف الصخر على شكل كهوف لتلتحق بها الرسوم والأثاث الجنائزى الذى عادة ما صاحب الميت فى رحلته وهى خاصية التقت عندها تقريبا كلّ الحضارات .
وعن نماذج أثاثهم الجنائزي: مشك ذهبى طوله 17 صم، دبوس ذهبي، مرآة وعدّة تماثيل صغيرة منحوتة من البرونز وقنان العطور…
أما عن الرسوم وهى ما ميز نوعيا هذه المقابر لارتباطها بمجموع طقوس وشعائر مجتمعهم وبرمزيّة فائقة ومعبرة فهذه الأكاليل لها دور أساسى فى الشعائر الاتروسكية فخضرتها الدائمة ترمز للخلود كما مثلت الوحوش قبضة الموت المهلكة والأزهار ترمز للمجتمع النسائى وحياة العذارى.
فهذه مقبرة العرافين قد خلدت لنا رسما لوحشين فى المساحة المثلثة بأعلى الحائط يرمزان لقبضة الموت المهلكة مع صورة لرجلين يضربان جبهتيهما بكفيهما كعلامة للأسى وكانت هذه الحركة الشعائرية المعبرة عن الحزن سائدة كذلك فى اليونان.
واحتفظت لنا كذلك مقبرة البارون بصور رجلين متواجهين فوق صهوة جواديهما ورجل يحتضن بذراعه اليمنى صبيا ينفخ فى الناى وعن مقبرة اللّبوات فلقد خلدت لنا المشاهد الجدارية صورا للهو ، الخدم ، الموسقيين والراقصات.
تعليق