رحلة الى جزر الكاريبي..
إلى الشمس الاستوائية والجو الحار المشبع برطوبة خانقة..
إلى المزارعين البسطاء ذوي الوجوه السمراء الباسمة وسط مزارع الموز..
وقد التمعت جباههم بقطرات العرق التي بدت مع انعكاس أشعة الشمس عليها كحبات اللؤلؤ..
إلى رقصة (الكاليسبو) على دقات الطبول في ضوء القمر..
دمى ليست كأي دمى..
إلى الموتى الأحياء..
إلى عالم ساحر لن تنمحي ذكراه من مخيلتكم ابدا ..
عالم (الفودو)...
=
الزمن (أميركا) نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر..
(أميركا) الغضة البكر..التي كانت بحق وقتها أرض الأحلام..والجنة الموعودة
مخطوطات (كريستوفر كولومبس) و (أمريجو فيسبوتشي) وكلماتهم عن الجنة الموعودة المليئة بالكنوز الغضة داعبت خيال الكثير من الأوروبيين الذين كانوا يقاسون شظف العيش ويطمعون في الثراء السريع..
لذا..كان القرار الأصوب بالهجرة إلى هناك..
وانطلق الأوروبيون أفواجا وجماعات صوب جنة الله في أرضه كما كانوا يعتقدون..
في البداية فوجئوا بسكان (أميركا) الأصليين من الهنود الحمر..الذين انطلقوا يدافعون عن أرضهم أمام المستعمر الجديد..
كانوا يجابهون بصدورهم العارية بنادق (ونشستر) في أيدي المستعمرين..غير آبهين بالموت في سبيل الدفاع عن الأرض وكنتيجة حتمية..حصدت البنادق أرواح الآلاف..وتناثرت جثث القتلى في طول البلاد وعرضها.. ودانت الأرض للمستعمرين.. وبدؤوا يخططون للحياة الجديدة..
وبدؤوا يفكرون في تعمير الخرائب التي خلفتها الحروب الطويلة.. ولكن ظهرت مشكلة جديدة..
كان الأوروبيون قد أنهكتهم الحروب هم أيضا..
فمن ذا الذي سيقوم بالتعمير؟..
ومن ذا الذي سيقوم بما لا يقدر عليه الأوروبيون؟..
من ذا الذي سيقوم على خدمة السادة الجدد؟..
باختصار..من ذا الذي سيلعب دور العبيد في المجتمع الجديد؟؟
وظهر الحل الأمثل الذي تفتقت عنه عقول السادة..
انطلقوا إلى ساحل (أفريقيا) الغربي..(أفريقيا) التي كانت ومازالت تمتلك أكبر ثروة بشرية في تاريخ الأرض.. وهكذا انطلقت السفن مرة أخرى ولكن هذه المرة صوب سواحل (أفريقيا) الغربية..
انطلقوا صوب (ساحل الذهب) (الاسم القديم لغانا) و(ساحل العاج) (الاسم القديم لكوت ديفوار) و(الكاميرون) و(فولتا العليا) (الاسم القديم لبوركينا فاسو)..و(بنين) و(توجو) و(نيجيريا)..
وازدهرت تجارة العبيد..
كانت السفن تعود محملة بآلاف البشر الحالمين بالجنة الموعودة التي وعدهم بها السادة..
حتى إذا حطوا رحالهم فوجئوا بأنهم تعرضوا لأكبر خدعة في تاريخ البشرية..
فلا جنة ولا ثراء..بل شظف عيش أقسى بمراحل مما كانوا يعانون منه في بلادهم..
عمل يمتد لساعات طوال .. يستغرق كل النهار وشطرا كبيرا من الليل في خدمة السادة ..ينهكهم أيما إنهاك..
لا راتب يتقاضونه..بل فتات خبز يلقى به السادة إليهم في نهاية اليوم الشاق يقيمون به بالكاد أودهم..فيكونون والحيوانات سواء..
لا بيوت بل أكواخ انتشر العطب في جذوع أشجارها وصارت رائحته تزكم الأنوف وتخنقهم..
لا أسرة ينامون عليها..بل يفترشون الأرض ويلتحفون السماء
والعبد المطيع منهم الذي يرضى عنه السادة ربما يحظى بفراش من قش يقيه صلابة الأرض وخشونتها..
أما من يخطئ فأبشع وسائل التعذيب في انتظاره..وكان أقلها الضرب بالسياط على جسده العاري..أو ربطه في الجواد وسحله لمسافة طويلة ثم يترك ليموت وحيدا..حيث لا وزن لحياة العبد..
لا رعاية صحية..فمن يمرض يتم عزله عن بقية القطيع حتى لا ينشر الوباء..
فإن برأ فبها ونعم..وإن قبض أحرقت جثته على مرأى من الجميع..
وبالطبع كانت طريق العودة مغلقة..فكيف يسمح السادة لهم بالعودة..ومن ذا الذي سيقوم على خدمة السادة إن عادوا هم لأوطانهم؟؟..
كان العبيد يعاملون بمنتهى القسوة
فأنى لهم والعودة وهم يفصلهم عن أوطانهم آلاف الأميال من المياه في بحر الظلمات (الاسم القديم للمحيط الأطلسي)
أما من يحاول الهرب..فكان بانتظاره طلقة أو ربما طلقتين من بندقية تذهب بروحه إلى العالم الآخر..
أو ربما إمعانا في إذلاله..يترك - برضا السادة - فارا ولا يجهدوا أنفسهم بالبحث عنه..فقط عليه أن يواجه الصحراء بشمسها الحارقة وحيواناتها البرية المفترسة وحيدا بلا زاد ولا ماء ولا سلاح..
فيكون الموت هو النتيجة الحتمية المنتظرة لمغامرة كهذه..وبعدها ينطلق السادة على جيادهم في رحلة (سفاري) لاصطياد جثته ومن ثم تعليقها على باب كوخه وتركها للنسور والجوارح لتتسلى عليها ليكون عبرة لمن يفكر في الهرب مثله..
وسط هذا الخضم من العذاب..لم يكن أمام العبيد من تسلية إلا سويعات يقضونها سويا مجتمعين ومتحلقين حول النار في الليل يثرثرون ويتذكرون أيامهم الخوالي ويتندرون بقصصهم وقصص أهليهم..ويمارسون شعائر دينهم..
كانت هذه هي تسليتهم الوحيدة التي وجدوها لمواجهة قسوة حياتهم..والمحافظة على تراثهم في مجتمعهم الجديد
كانت تلك العقيدة التي يؤمنون بها هي (الفودو) وكان هذا هو أول ظهور للفودو..في (أميركا)
ولكن هل كان هذا هو الظهور الأول للفودو على وجه الأرض بالفعل؟؟
بالطبع لا..لقد ظهر (الفودو) قبل ذلك بقرون قدرها العلماء بعشرة آلاف عام..مع بداية البشر على الأرض..
ولكن قبل أن أشرح عقيدة (الفودو) دعوني أولا أعرفكم أصل كلمة (فودو)
....
=
كلمة(فودو)(Voodoo ) مشتقة من كلمة(Vodun ) وتعني (الروح) وهو مذهب ديني عقائدي انتشر في ربوع قارة (أفريقيا)..ومع انتقال الأفارقة كعبيد إلى (أميركا) انتقلت معهم طقوس (الفودو) إلى (أميركا) و(هاييتي) وجزر (الكاريبي)..
وكأي دين غريب اقتصرت ممارسته على أتباعه دون غيرهم..
وكانوا يمارسونه كما أسلفت في تجمعاتهم الليلية بعد انتهاء يوم العمل الشاق..
كانوا يوقدون النار ويتراقصون حولها نصف عراه على دقات الطبول مطلقين الصيحات والصرخات..
ولكن ويا للأسف.. حتى تلك التسلية لم يسمح بها السادة..
فكيف يسمحون بتجمعات قد تفضي إلى إرهاصات ثورة هم في غنى عنها..
لذلك..منع السادة تلك التجمعات وسعوا إلى تشتيت تلك العقائد..وذلك بعدة وسائل
فكانوا يرغمون العبيد على تعلم الإنجليزية والفرنسية.. ويحرمون عليهم التعامل بلغتهم الأصلية حتى فيما بينهم..
كما أرغموهم على اعتناق المسيحية..ونسيان دينهم..
كما أصدروا القوانين التي تجرم ممارسة (الفودو) وتحكم على من يمارسها بالجلد والسجن بل وربما الإعدام في كثير من الأحيان..فمن ذا الذي يقيم وزنا لروح عبد ؟
والأخطر من ذلك أنهم أطلقوا الشائعات على (الفودو) من أنه مذهب بربري يحض على العنف وممارسة السحر الأسود والإيذاء والقتل..
حيث قام من يدعى (القديس سانت جون) بتأليف كتاب يدعى(هاييتي الجمهورية السوداء) عام 1884م..
ادعى فيه أن عقيدة (الفودو) تقوم على السحر الأسود وتشمل تقديم القرابين البشرية للآلهة ..بل وأكل لحوم البشر..
وتجدر الإشارة هنا أن كل هذه المعلومات مغلوطة بالطبع ولا أساس لها من الصحة..
حيث تم استقائها من الكهنة الذين أجبروا على كتابة اعترافات بخط أيديهم بذلك تحت وطأة التعذيب..
كان غرضهم من هذا هو تفريق جماعات العبيد وتحويلهم إلى أفراد يسهل السيطرة عليهم..
ولكن.. وكما لكم أن تتوقعوا.. فقد جاء ذلك بنتيجة عكسية..
فقد ازداد خوف الأفارقة على عقيدتهم..واجتمعوا مرارا لتوحيد الطوائف ودمج المذاهب في مذهب واحد يجتمع عليه الكل..
بل ودمجوا طقوسهم بالديانة المسيحية التي أجبروا على اتباعها..وذلك حتى يتمكنوا من ممارستها دون أن يتعرضوا للعقاب..
حيث كانوا يحضرون القداس في الكنيسة بانتظام وفي ذات الوقت يمارسون عقيدتهم ولكن في الخفاء بعيدا عن أعين المتطفلين...
من ثم انتشر (الفودو) بشكله الجديد بانتشار الأفارقة في شتى بقاع الأرض..
وبهذا لم تندثر عقيدتهم ولا طواها النسيان..
حتى عائق اللغة انتصروا عليه بإيجاد كلمات بديلة تعبر عن معتقداتهم بالإنجليزية والفرنسية..
وكان لهم ما أرادوا..
فقد انتشر (الفودو) كالنار في الهشيم في ربوع الأمريكتين وجزر الكاريبي بل وحتى في أوروبا..حتى وصلنا على صورته الحالية..
وفي العصر الحديث تعرضت عقيدة (الفودو) لأبشع وسائل الاضطهاد على يد النظام الماركسي..
ولكن كالعادة..ولد الأمل من رحم المعاناة..واعترف الجميع بعقيدة (الفودو)..
بل إن بعض الدول رخصت ممارسته قانونيا..
ففي (البرازيل) يطلقون عليه (كاندومبل)(Candombel )..
وفي الكاريبي يطلقون عليه (أوبيه)(O'ieh )..
بل إن حكومة (هاييتي) اعترفت به كدين رسمي كباقي الأديان يحق لأتباعه ممارسة طقوسهم علانية دون أي حظر...
وفي (بنين) كان يمارس بحرية منذ انتخاب حكومة محلية عام 1989م ..ثم قامت حكومة (بنين) بالاعتراف به كدين رسمي عام 1996م
إذن فالفودو ديانة وعقيدة..وليست كما وصمها المستعمر الأوروبي من أنها مجرد طقوس سحر أسود ..
يتبع
تعليق