(الجزء 1)
الصراع اليهودي – الإغريقي
في عصر الرومان
لقد نعم اليهود بالأمن والطمأنينة في أكثر فترات العصر البطلمي بمصر، فازدهرت جاليتهم وبصفة خاصة جالية الإسكندرية، وأصبحوا عنصرًا له خطره في حياة البلاد الاقتصادية والسياسية. وعندما أحسوا بأفول نجم البطالمة وبأن حكم مصر سيصير إلى روما أخذوا يعدون أنفسهم لاستقبال العهد الجديد وإظهار الولاء لأوكتافيانوس دون أن يقيموا وزنًا لمشاعر أغريق الإسكندرية، الذين اظهروا حنقهم على اليهود عملاء الاستعمار الروماني. وكان من الطبيعي أن تتأزم العلاقات بينهم خلال عهد الرومان الذين منحوا اليهود الكثير من الحقوق والامتيازات، ولم يعبأوا بمطالب الإسكندريين. وتعرض هذه الدراسة للصراع اليهودي – الإغريقي وسياسة الأباطرة (أوغسطس – تيبيريوس – كاليجولا – كلوديوس) نحو كل منهم
مقدمةفي عصر الرومان
لقد نعم اليهود بالأمن والطمأنينة في أكثر فترات العصر البطلمي بمصر، فازدهرت جاليتهم وبصفة خاصة جالية الإسكندرية، وأصبحوا عنصرًا له خطره في حياة البلاد الاقتصادية والسياسية. وعندما أحسوا بأفول نجم البطالمة وبأن حكم مصر سيصير إلى روما أخذوا يعدون أنفسهم لاستقبال العهد الجديد وإظهار الولاء لأوكتافيانوس دون أن يقيموا وزنًا لمشاعر أغريق الإسكندرية، الذين اظهروا حنقهم على اليهود عملاء الاستعمار الروماني. وكان من الطبيعي أن تتأزم العلاقات بينهم خلال عهد الرومان الذين منحوا اليهود الكثير من الحقوق والامتيازات، ولم يعبأوا بمطالب الإسكندريين. وتعرض هذه الدراسة للصراع اليهودي – الإغريقي وسياسة الأباطرة (أوغسطس – تيبيريوس – كاليجولا – كلوديوس) نحو كل منهم
ترجع علاقة الإغريق Hellenes بمصر إلى عصور ضاربة في القدم توثقت بشدة في عهد الأسرة الصاوية التي سمحت للإغريق بالإقامة في مصر للعمل والتجارة والانخراط في سلك الجندية(1)، بل وأقامت لهم مدينة عُرفت باسم نوقراطيس(2) Navcrates. وعندما أتى الإسكندر (356 – 323 ق.م) لفتح مصر كان في ركابه مجموعة كبيرة من الإغريق اعتمد عليهم الملوك البطالمة في إقامة دولة قوية تكون محط الأنظار في المنطقة الهيللينية حول حوض بحر إيجة،(3) وقد حاول البطالمة استقطاب هؤلاء الإغريق وإغرائهم بالمجيء إلى مصر، وأغدقوا عليهم الامتيازات المادية والمعنوية، وهيئوا لهم سبل العيش في البيئة التي تعودوا عليها في بلادهم الأم “ونعني بذلك تأسيس مجموعة من الدويلات الحرة(4) Poleis“ يمارسون فيها حياتهم بمعزل عن السلطة الحاكمة.(5)
الإسكندرية Alexandria أشهر وأعظم دولة هيللينية ظهرت في العالم قاطبة،(6) وقد نجح أحد الباحثين في تعداد الأجناس التي كانت تسكن هذه المدينة في عصر الرومان، فحصل على خليط من القوميات يبلغ حوالي العشرين قومية، واحدة منهم فقط هي التي كانت تتربع على قمة الهرم الطبقي وهم “الإغريق”، وكانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب هذه المدينة، فكانت لهم هيئة مواطنة كاملة الأهلية، وفضلاً عن ذلك؛ كانت لهم مؤسسات تبدو وكأنها مستقلة في الحكم عن الملك البطلمي، أو بمعنى أخر كأنهم دولة داخل دولة، فعلى سبيل المثال كان هناك: هيئة رياسة عليا – مجلس شورى – هيئات تعليمية – مؤسسات اجتماعية (تشرف على العلاقات بين المواطنين) – هيئات اقتصادية.
غير أن ذلك لم يكن يمنع بعض الإغريق من الانخراط بالعناصر الأخرى القاطنة بالريف، يمارسون ما يمارسه غيرهم من العناصر التي تليهم في الوضع الاجتماعي من حيث التقاليد والعادات والأعراف.(8) بل إن بعضهم كان يتعلم اللغة المصرية القديمة ليستطيع التفاهم مع العناصر الغالبة في هذه المناطق “أي المصريون”، وكانوا يسمون أولادهم بأسماء مصرية. ومجمل القول؛ أن الإغريق (الهيللينيون) إذا كانوا شعبًا مترفًا بطبيعته استمر يحيى على نفس هذه الوتيرة، فإن بعضهم (الإغريق) على الأقل فضل الحياة البسيطة بين العناصر الأخرى دون أن يشعر بأي فرق.
العبرانيون Hebrew هم شعب تنتمي لغته إلى مجموعة اللغات السامية Semitic وكانوا في الأصل قبائل بدو رحالة، هاجروا بقطعانهم نحو الشرق ليستقروا في الجزء المسمى البلاد الخصيبة وبالتحديد في أرض كنعان، وعرفوا لأول مرة كيف يعيشون في مدن مسورة (لها أسوار). والأدلة التاريخية تشير إلى أن علاقتهم بمصر قديمة، فكانوا يشدون الرحال إليها كلما ألمت بهم كارثة لاسيما إبان السبي البابلي الأول في القرن السادس على يد الكلدانيين، حيث سمح لهم ملوك العصر الصاوي بالإقامة والتجارة والانخراط في الجندية وأنشئوا لهم في مصر أول معبد في سيناجو Synagoge وعملوا على تكثيف منازلهم حوله، حتى أصبح لهم حي خاص بهم يسمى Jewry. وعندما دحر الإسكندر الإمبراطورية الفارسية جاء في ركابه بعض العبرانيين ينشدوا الحياة الآمنة في مصر، وعندما ألت مصر إلى البطالمة وانتهى إلى حكمهم جوف سوريا تفاءل اليهود العبرانيون وقامت حركة تهجير على قدم وساق للإقامة في وادي النيل.
ويزعم المؤرخ اليهودي الكبير يوسف Iosipos “أن بني جلدته اتخذوا من الإسكندرية مقر منذ بدايته”. فتعداد العبرانيين في مصر مع أوائل حكم الرومان كان يقرب على مليون نسمة(9)، كان بعضهم يقطن المدن الحرة Poleis التي تم تشييدها خصيصًا للإغريق، ويسكن البعض الآخر عواصم الأقاليم Metropoleis وذاب البعض الثالث في المناطق الريفية Khore. ولا جدال؛ أن هؤلاء وأولئك كانوا بلا استثناء يخضعون لضريبة الرأس فضلاً عن الخدمات الإلزامية.
كان يقود العاصمة الإسكندرية طائفة من الأثرياء الذين كونوا ثرواتهم من التجارة خاصةً العمل بالربا بفرض أعلى سعر للفائدة، وكذلك التزام جباية الضرائب بنسبة أكبر من المقرر المألوف، وكانوا يقيمون في الحي الرابع Delta القريب من الساحل حيث ضاق عليهم فزحف بعضهم للسكن في الحي الثاني Beta. وكانوا يطلقون على أنفسهم لقب السكندريون(10) Alexandries ولكن واقع الأمر أنه كان مجرد اصطلاح جغرافي بمعنى سكان الإسكندرية، سواء منهم المواطنين الإغريقPolitai (لهم حق الإقامة)، أو غيرهم من العناصر الأخرى التي لم يتم تسجيلها في هيئة المواطنة Politeia (لهم حق المواطنة) السكندرية، وبالتالي عدم أحقيتهم في ممارسة حقوقهم السياسة والاجتماعية. فقد صرح الملوك البطالمة لهم باستعاضة نظام الجالية القومية Politeuma (البوليتيوما)(11) كوسيلة مشروعة تمكن أعضائها من أن ينظموا حياتهم وفقًا لما يجري في بلادهم الأم، بالإضافة إلى أن رئيس هذه الجالية كان في استطاعته الحماية والدفاع عن أفرادها أمام السلطان.
الباحثون الجدد يعتقدون أن جالية يهود الإسكندرية كانت مجتمع عبريًا يتمتع بالحكم الذاتي دون أي تدخل من السلطة الحاكمة أو الجاليات (العناصر) الأخرى المقيمة في الإسكندرية، ولا جدال أن هذه الجالية كان لها رئيس طائفة وهيئة دستورية ورجال دين. لكن السؤال المطروح الآن؛ هل كان في استطاعة يهود مصر الاحتفاظ طويلاً بمقومات مجتمعهم قوية بعيدة عن مؤثرات البيئة المصرية الإغريقية المحيطة بهم؟ الحقيقة أن الشعب اليهودي على وجه العموم لا يحاول التأقلم مع البيئة التي يحي فيها إلا بقدر بسيط بحيث لا ينفذ إلى أعماقه، فهو بطبيعته متقوقع ينظر إلى كل ما حوله كغرباء عنه حتى ولو كان يعيش وسطهم، والعكس صحيح أي أنه يلتمس الحماية من إخوانه حتى ولو كان نائيًا عنهم. وهكذا؛ فإنهم في شتى أنحاء العالم يفضلون السكنى متجاورين حتى يتكون لهم في النهاية حي مقصور عليهم يعرف بـ جيتو Ghetto.
يتبع…
تعليق