وسطية الحضارة الإسلامية
التوازن والوسطية من أبرز خصائص الحضارة الإسلامية، وتعني هذه الخاصية التوسُّط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادَّيْن؛ بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حَقِّه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه. ذلك التوازن والاعتدال الذي يليق برسالة عامة خالدة، جاءت لِتَسَعَ أقطارَ الأرض وأطوارَ الزمن.
فترى حضارة الإسلام تجمع بين الروحية والمادية، أو مُتَطَلَّبَات الرُّوح ومتطلبات المادَّة، وتجمع بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وتهتم بالدنيا كما تهتم بالآخرة، كما تجمع بين المثالية والواقعية، ثم إن فيها توازنًا بين الحقوق والواجبات.
ومعنى التوازن بين هذه المتضادَّات أن يُفْسَح لكل طرف منها مجاله، ويُعْطَى حقَّه بالقسط؛ فلا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار، كما أشار إلى ذلك كتاب الله سبحانه بقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7-9].
وإذا ما أردنا توضيح ذلك، فإنه قد تبيَّن من تاريخ الحضارات السابقة أن كلاًّ من الجوانب الرُّوحيَّة البحتة أو المادية البحتة وَحْدَها لا تَصْلُح أن تكون سبيلاً لسعادة الإنسان، فليس في مسلك الروحية البحت سوى التخلُّف، وتعطيل الإرادة والتفكير وطاقات العمل، وقتل آدمية الإنسان، وخسارة منافع الكون، وكذلك ليس في مسلك المادية البحتة سوى الطغيان والظلم والاستعباد والذلِّ، والتحكم الغاشم بالأرواح والأموال والأعراض.
وهنا جاءت حضارة الإسلام الخالدة لتُزَاوج وتوازن بين مُتَطَلَّبَات الرُّوح ومتطلبات المادَّة، أو بين الماديَّة والرُّوحية الإنسانية؛ فتصبح الرُّوحية المهذَّبة أساس المادِّية المهذَّبة، وعندها ينعم الإنسان بالإرادة والحرية والتفكير وثمرة الجهود والعمل، في إطار من الإيمان والأخلاق القائمة على العدل والأمن والاستقرار والرحمة والمحبَّة.
فمن شأن ذلك التوازن إذن أن يُحَقِّق الانسجام والتوافق بين الفطرة الإنسانية والغاية العقلية، وكذلك التجاوب والانسجام الشامل في أفكار الإنسان وخيالاته، وإراداته ونياته.
وبالنسبة للجمع بين علوم الشرع وعلوم الحياة؛ فقد أقام الإسلام حضارته الرفيعة على منهج العلم والمعرفة والعقل، والبحث والتجربة والاستنباط؛ تقديرًا منه لحيوية العلوم في بناء الدولة والمجتمع، وفي ذلك أشاد الإسلام بالعلم والعلماء في مختلف الاختصاصات، الشاملة لكل إدراك يفيد الإنسان في القيام برسالته في الحياة، وهي تعمير الأرض والاستفادة من خيراتها وكنوزها، وأعني بذلك الجمع بين علوم الشرع وعلوم الحياة. ويكفينا ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في كتابه "إحياء علوم الدين" حيث قال:
"فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح؛ فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة. أما فرض الكفاية فهو علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب؛ إذ هو ضرورى في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضرورى في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمَّنْ يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات -أيضًا- من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة".
وقد جاءت كلمة (العلم) في كتاب الله تعالى وفي سُنَّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مطلقة، دونما تقييد أو تحديد؛ فهي تشمل كل علمٍ نافعٍ يهدف إلى خير الدنيا وعمارة الأرض.. وكل علمٍ يهدف إلى صلاح الناس، والقيام السليم بواجبات الخلافة البشرية على هذا الكوكب، فهي تعني -في أكثر الأحيان- العلم بشقيه الشرعي والحياتي.. وكل ما جاء من مدحٍ للعلماء، فهو لكل عالمٍ نفع الناس بعلمه، سواء كان شرعيًّا أم حياتيًّا، وإن تاريخ الحضارة الإسلامية قد عَبَّر عن ذلك أصدق تعبير، من إسهامات وإبداعات المسلمين في العلوم الحياتية أو علوم الحياة، لخير شاهد وأفضل مُعَبِّر عن هذا الجمع.
وإن هذا المنهج المتوازن مغاير لتلك الحضارات التي سيطر فيها الدين على القوى الفكرية والعملية، وبات يمنع العلم ويكبل التفكير وإعمال العقل.
وبالنسبة للتوازن بين الدنيا والآخرة، فلعلَّ أوضح دليل نذكره هنا تلك الآيات التي جاء الأمر فيها بصلاة الجمعة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9، 10].
فهذا هو شأن الحضارة الإسلامية في الجمع بين الدنيا والآخرة؛ فالآية السابقة تُوَضِّح أنه حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعى إلى ذكر الله وإلى الصلاة، وتَرْكٌ للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشارٌ في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرًا في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح، وفضل الله هنا هو الرزق والكسب.
وفي آية أخرى تدلُّ على الاعتدال بين العمل لهذه الحياة، والعمل لما بعد الحياة، يقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. فلم يطلب الإسلام من المسلم أن يكون راهبًا في دَيْر، أو عابدًا في خلوة قائمًا ليله صائمًا نهاره، لا حظَّ له في الحياة ولا حظَّ للحياة فيه، وإنما طلب من المسلم أن يكون إنسانًا عاملاً في الحياة، يعمرها ويسعى في مناكب الأرض، ويلتمس الرزق في خباياها.
وهكذا يكون أبناء الحضارة الإسلامية، طُلاّب دنيا وآخرة، يطلبون الحسنة في الحياتين، والسعادة في الدارين.
لذلك جاءت الحضارة الإسلامية وسطًا بين إغراق اليهود في العَبِّ من متع الدنيا، حتى جنحوا إلى كل ما يرتبط بالحياة الدنيا وأفرطوا فيه حتى خالفوا أوامر الله -جل وعلا- والتمسوا الحرام في الربا وغيره من المنكرات، وبين انسحاب رهبان المسيحيين من الحياة وعمارتها، وتركها للمفسدين يعيثون فيها فسادًا ضد منهج الله تعالى.
ومن التوازن -أيضًا- الذي تميزت به الحضارة الإسلامية، ذلك الجمع بين المثالية والواقعية في شكل محكم رائع؛ فالإسلام دين مثالي وفي الوقت ذاته واقعي؛ فهو ينشد لمعتنقه الكمال والمثل العليا دائمًا، لكنه يطلب بأسبابه ويسعى إليه من بابه، ولا يُكَلِّف الناس شططًا؛ ولذلك كان من الصعب فصل المثالية عن الواقعية في الإسلام، وإنما هما شرعة للبشر متكاملة تُنِيرُ لهم سبل الخير، وترسم لهم قواعد السلوك وقوانين المعاملات.
ففي المثالية تحرص حضارة الإسلام على إبلاغ الإنسان أعلى أفق ممكن من المستوى العالي الرفيع، في يُسْرٍ وراحة وطمأنينة، وفي الواقعية تراعي حضارة الإسلام ظروف الإنسان وفطرته، وحدود طاقته، وطبيعة تكوينه، وواقع حياته.
وليس في حضارة الإسلام تلك المثالية الخيالية التي لا وجود لها إلا في عالم الأحلام، مثل التي أنشأها أفلاطون في المدينةِ الفاضلة، والتي هي بعيدة كل البعد عن واقع الإنسان وما ركّب فيه من غرائز ونزعات، وما يعتريه من نقص وقصور.
كما أنه ليس في حضارة الإسلام تلك الواقعية التي تعني الرضا بالواقع، أيًّا كان وضعه أو صورته، أو أن تُطَوِّعَ حضارة الإسلام مبادئها لتوافق الحياة على أي لون، أو لتساير الواقع على أي شكل؛ فلم تأتِ حضارة الإسلام لتُرَبِّت على شهوات الناس وأنظمتهم، أو لتَرْضَى بأوضاعهم المختلَّة وتقاليدهم المعوجَّة..
وإنما جاءت لتلغي كل أشكال الجاهلية ونُظُمِهَا، ولتنشِئ من ذات نفسها نظامًا خاصًّا بها، قد يتشابه في جزئيات مع واقع الناس وقد لا يتشابه؛ فقد جعل الإسلام مثلاً إنكار المنكر فريضة، ولكنه فريضة متدرِّجة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ". فأعلى درجة في إنكار المنكر تمثل المثالية، وهي لمن كان قويَّ الإيمان، ثم تنزل الدرجات مراعية ضعف قدرات البعض وتفاوتها.
وفي التوازن بين المثالية والواقعية جعل الإسلام حدًّا أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقلُّ ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين، وقد شرع هذا المستوى على نحو يستطيع بلوغه وأداءه أقلُّ الناس استعدادًا لفعل الخير وابتعادًا عن الشر، وهذا المستوى يتكون من الفرائض الواجبة، والمحرمات المنهي عنها، وهذه الفرائض والمحرمات جُعِلَتْ بحيث يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاها، وعند الضرورات تراعيها الشريعة وتُقَدِّرُها قدرها.
وبجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع، ورَغَّبَتْ فيه الناس وحَبَّبَتْ إليهم بلوغه، وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات وأنواع القربات التي ترغب الشريعة في القيام بها، ويشمل -أيضًا- المكروهات والمشتبهات التي ينبغي تنزُّه المسلم وابتعاده عنها.
لكن الوصول إلى ذلك المثل أو المستوى الأعلى يحتاج إلى جهد ضخم لا يتيسَّر لكل الناس، بل هو رهين بمواهب خاصة، واستعداد خاصٍّ يتميز به القلَّة النادرة من الناس؛ لذلك لا يفرض الإسلام هذا المثل الأعلى على الجميع فرضًا، لا يُلزمهم جميعًا به، بل يرسمه أمامهم، ثم يتركهم لطاقاتهم {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ويتقبل من كلٍّ ما يتقدَّم به على قدر جهده {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
وكذلك نلمح توازن الإسلام ووسطيته في العبادات فيما شرعه من العزيمة والرخصة؛ فالعزيمة كأداء الصلوات الخمس في السفر في أوقاتها بأعداد الركعات نفسها، ولكن لأن الإسلام يعلم أن في السفر مشقة تجهد الكثيرين من الناس؛ فقد خفف عنهم برخصة الجمع والقصر.
أما التوازن الأخير الذي أردناه فهو الذي بين الحقوق والواجبات؛ فالحضارة الإسلامية ترى أنه ما من حق لفرد أو جماعة إلا كان واجبًا على غيره؛ فحقوق المحكومين إنما هي واجبات على الحُكَّام، وحقوق المستأجرين إنما هي واجبات على المالكين، وحقوق الأولاد إنما هي واجبات على الوالدين.. وهكذا، ومن خلال أداء الواجبات تُراعى الحقوق.
وقد اتجه الإسلام إلى تحقيق التوازن في الحقوق والواجبات بين الفرد والجماعة؛ ليوازن بين النزعة الفردية والمصلحة الاجتماعية؛ فالإنسان ليس وحدة حياتية مستقلة عن بقية أفراد المجتمع، بل لا بُدَّ له أن يعيش ضمن دائرة المجتمع، ويتبادل المنافع والمصالح، وينشئ العلاقات، ومن تلك الروابط نشأت الحقوق والواجبات، التي نَظَّمتها الشريعة الإسلامية.
وهكذا اتسمت حضارة الإسلام من بين كل الحضارات السابقة واللاحقة بالتوازن والوسطية.
التوازن والوسطية من أبرز خصائص الحضارة الإسلامية، وتعني هذه الخاصية التوسُّط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادَّيْن؛ بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حَقِّه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه. ذلك التوازن والاعتدال الذي يليق برسالة عامة خالدة، جاءت لِتَسَعَ أقطارَ الأرض وأطوارَ الزمن.
فترى حضارة الإسلام تجمع بين الروحية والمادية، أو مُتَطَلَّبَات الرُّوح ومتطلبات المادَّة، وتجمع بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وتهتم بالدنيا كما تهتم بالآخرة، كما تجمع بين المثالية والواقعية، ثم إن فيها توازنًا بين الحقوق والواجبات.
ومعنى التوازن بين هذه المتضادَّات أن يُفْسَح لكل طرف منها مجاله، ويُعْطَى حقَّه بالقسط؛ فلا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار، كما أشار إلى ذلك كتاب الله سبحانه بقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7-9].
وإذا ما أردنا توضيح ذلك، فإنه قد تبيَّن من تاريخ الحضارات السابقة أن كلاًّ من الجوانب الرُّوحيَّة البحتة أو المادية البحتة وَحْدَها لا تَصْلُح أن تكون سبيلاً لسعادة الإنسان، فليس في مسلك الروحية البحت سوى التخلُّف، وتعطيل الإرادة والتفكير وطاقات العمل، وقتل آدمية الإنسان، وخسارة منافع الكون، وكذلك ليس في مسلك المادية البحتة سوى الطغيان والظلم والاستعباد والذلِّ، والتحكم الغاشم بالأرواح والأموال والأعراض.
وهنا جاءت حضارة الإسلام الخالدة لتُزَاوج وتوازن بين مُتَطَلَّبَات الرُّوح ومتطلبات المادَّة، أو بين الماديَّة والرُّوحية الإنسانية؛ فتصبح الرُّوحية المهذَّبة أساس المادِّية المهذَّبة، وعندها ينعم الإنسان بالإرادة والحرية والتفكير وثمرة الجهود والعمل، في إطار من الإيمان والأخلاق القائمة على العدل والأمن والاستقرار والرحمة والمحبَّة.
فمن شأن ذلك التوازن إذن أن يُحَقِّق الانسجام والتوافق بين الفطرة الإنسانية والغاية العقلية، وكذلك التجاوب والانسجام الشامل في أفكار الإنسان وخيالاته، وإراداته ونياته.
وبالنسبة للجمع بين علوم الشرع وعلوم الحياة؛ فقد أقام الإسلام حضارته الرفيعة على منهج العلم والمعرفة والعقل، والبحث والتجربة والاستنباط؛ تقديرًا منه لحيوية العلوم في بناء الدولة والمجتمع، وفي ذلك أشاد الإسلام بالعلم والعلماء في مختلف الاختصاصات، الشاملة لكل إدراك يفيد الإنسان في القيام برسالته في الحياة، وهي تعمير الأرض والاستفادة من خيراتها وكنوزها، وأعني بذلك الجمع بين علوم الشرع وعلوم الحياة. ويكفينا ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في كتابه "إحياء علوم الدين" حيث قال:
"فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح؛ فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة. أما فرض الكفاية فهو علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب؛ إذ هو ضرورى في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضرورى في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمَّنْ يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات -أيضًا- من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة".
وقد جاءت كلمة (العلم) في كتاب الله تعالى وفي سُنَّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مطلقة، دونما تقييد أو تحديد؛ فهي تشمل كل علمٍ نافعٍ يهدف إلى خير الدنيا وعمارة الأرض.. وكل علمٍ يهدف إلى صلاح الناس، والقيام السليم بواجبات الخلافة البشرية على هذا الكوكب، فهي تعني -في أكثر الأحيان- العلم بشقيه الشرعي والحياتي.. وكل ما جاء من مدحٍ للعلماء، فهو لكل عالمٍ نفع الناس بعلمه، سواء كان شرعيًّا أم حياتيًّا، وإن تاريخ الحضارة الإسلامية قد عَبَّر عن ذلك أصدق تعبير، من إسهامات وإبداعات المسلمين في العلوم الحياتية أو علوم الحياة، لخير شاهد وأفضل مُعَبِّر عن هذا الجمع.
وإن هذا المنهج المتوازن مغاير لتلك الحضارات التي سيطر فيها الدين على القوى الفكرية والعملية، وبات يمنع العلم ويكبل التفكير وإعمال العقل.
وبالنسبة للتوازن بين الدنيا والآخرة، فلعلَّ أوضح دليل نذكره هنا تلك الآيات التي جاء الأمر فيها بصلاة الجمعة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9، 10].
فهذا هو شأن الحضارة الإسلامية في الجمع بين الدنيا والآخرة؛ فالآية السابقة تُوَضِّح أنه حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعى إلى ذكر الله وإلى الصلاة، وتَرْكٌ للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشارٌ في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرًا في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح، وفضل الله هنا هو الرزق والكسب.
وفي آية أخرى تدلُّ على الاعتدال بين العمل لهذه الحياة، والعمل لما بعد الحياة، يقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. فلم يطلب الإسلام من المسلم أن يكون راهبًا في دَيْر، أو عابدًا في خلوة قائمًا ليله صائمًا نهاره، لا حظَّ له في الحياة ولا حظَّ للحياة فيه، وإنما طلب من المسلم أن يكون إنسانًا عاملاً في الحياة، يعمرها ويسعى في مناكب الأرض، ويلتمس الرزق في خباياها.
وهكذا يكون أبناء الحضارة الإسلامية، طُلاّب دنيا وآخرة، يطلبون الحسنة في الحياتين، والسعادة في الدارين.
لذلك جاءت الحضارة الإسلامية وسطًا بين إغراق اليهود في العَبِّ من متع الدنيا، حتى جنحوا إلى كل ما يرتبط بالحياة الدنيا وأفرطوا فيه حتى خالفوا أوامر الله -جل وعلا- والتمسوا الحرام في الربا وغيره من المنكرات، وبين انسحاب رهبان المسيحيين من الحياة وعمارتها، وتركها للمفسدين يعيثون فيها فسادًا ضد منهج الله تعالى.
ومن التوازن -أيضًا- الذي تميزت به الحضارة الإسلامية، ذلك الجمع بين المثالية والواقعية في شكل محكم رائع؛ فالإسلام دين مثالي وفي الوقت ذاته واقعي؛ فهو ينشد لمعتنقه الكمال والمثل العليا دائمًا، لكنه يطلب بأسبابه ويسعى إليه من بابه، ولا يُكَلِّف الناس شططًا؛ ولذلك كان من الصعب فصل المثالية عن الواقعية في الإسلام، وإنما هما شرعة للبشر متكاملة تُنِيرُ لهم سبل الخير، وترسم لهم قواعد السلوك وقوانين المعاملات.
ففي المثالية تحرص حضارة الإسلام على إبلاغ الإنسان أعلى أفق ممكن من المستوى العالي الرفيع، في يُسْرٍ وراحة وطمأنينة، وفي الواقعية تراعي حضارة الإسلام ظروف الإنسان وفطرته، وحدود طاقته، وطبيعة تكوينه، وواقع حياته.
وليس في حضارة الإسلام تلك المثالية الخيالية التي لا وجود لها إلا في عالم الأحلام، مثل التي أنشأها أفلاطون في المدينةِ الفاضلة، والتي هي بعيدة كل البعد عن واقع الإنسان وما ركّب فيه من غرائز ونزعات، وما يعتريه من نقص وقصور.
كما أنه ليس في حضارة الإسلام تلك الواقعية التي تعني الرضا بالواقع، أيًّا كان وضعه أو صورته، أو أن تُطَوِّعَ حضارة الإسلام مبادئها لتوافق الحياة على أي لون، أو لتساير الواقع على أي شكل؛ فلم تأتِ حضارة الإسلام لتُرَبِّت على شهوات الناس وأنظمتهم، أو لتَرْضَى بأوضاعهم المختلَّة وتقاليدهم المعوجَّة..
وإنما جاءت لتلغي كل أشكال الجاهلية ونُظُمِهَا، ولتنشِئ من ذات نفسها نظامًا خاصًّا بها، قد يتشابه في جزئيات مع واقع الناس وقد لا يتشابه؛ فقد جعل الإسلام مثلاً إنكار المنكر فريضة، ولكنه فريضة متدرِّجة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ". فأعلى درجة في إنكار المنكر تمثل المثالية، وهي لمن كان قويَّ الإيمان، ثم تنزل الدرجات مراعية ضعف قدرات البعض وتفاوتها.
وفي التوازن بين المثالية والواقعية جعل الإسلام حدًّا أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقلُّ ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين، وقد شرع هذا المستوى على نحو يستطيع بلوغه وأداءه أقلُّ الناس استعدادًا لفعل الخير وابتعادًا عن الشر، وهذا المستوى يتكون من الفرائض الواجبة، والمحرمات المنهي عنها، وهذه الفرائض والمحرمات جُعِلَتْ بحيث يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاها، وعند الضرورات تراعيها الشريعة وتُقَدِّرُها قدرها.
وبجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع، ورَغَّبَتْ فيه الناس وحَبَّبَتْ إليهم بلوغه، وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات وأنواع القربات التي ترغب الشريعة في القيام بها، ويشمل -أيضًا- المكروهات والمشتبهات التي ينبغي تنزُّه المسلم وابتعاده عنها.
لكن الوصول إلى ذلك المثل أو المستوى الأعلى يحتاج إلى جهد ضخم لا يتيسَّر لكل الناس، بل هو رهين بمواهب خاصة، واستعداد خاصٍّ يتميز به القلَّة النادرة من الناس؛ لذلك لا يفرض الإسلام هذا المثل الأعلى على الجميع فرضًا، لا يُلزمهم جميعًا به، بل يرسمه أمامهم، ثم يتركهم لطاقاتهم {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ويتقبل من كلٍّ ما يتقدَّم به على قدر جهده {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
وكذلك نلمح توازن الإسلام ووسطيته في العبادات فيما شرعه من العزيمة والرخصة؛ فالعزيمة كأداء الصلوات الخمس في السفر في أوقاتها بأعداد الركعات نفسها، ولكن لأن الإسلام يعلم أن في السفر مشقة تجهد الكثيرين من الناس؛ فقد خفف عنهم برخصة الجمع والقصر.
أما التوازن الأخير الذي أردناه فهو الذي بين الحقوق والواجبات؛ فالحضارة الإسلامية ترى أنه ما من حق لفرد أو جماعة إلا كان واجبًا على غيره؛ فحقوق المحكومين إنما هي واجبات على الحُكَّام، وحقوق المستأجرين إنما هي واجبات على المالكين، وحقوق الأولاد إنما هي واجبات على الوالدين.. وهكذا، ومن خلال أداء الواجبات تُراعى الحقوق.
وقد اتجه الإسلام إلى تحقيق التوازن في الحقوق والواجبات بين الفرد والجماعة؛ ليوازن بين النزعة الفردية والمصلحة الاجتماعية؛ فالإنسان ليس وحدة حياتية مستقلة عن بقية أفراد المجتمع، بل لا بُدَّ له أن يعيش ضمن دائرة المجتمع، ويتبادل المنافع والمصالح، وينشئ العلاقات، ومن تلك الروابط نشأت الحقوق والواجبات، التي نَظَّمتها الشريعة الإسلامية.
وهكذا اتسمت حضارة الإسلام من بين كل الحضارات السابقة واللاحقة بالتوازن والوسطية.