اختيار الخلفاء في الدولة الإسلامية
لقد منحت الحضارة الإسلامية أفضل الطرق والوسائل وأعدلها لكيفية اختيار الخلفاء والأمراء، وهذه السبل هي مما تفرَّدت به الحضارة الإسلامية عما سواها من الحضارات السابقة واللاحقة عليها، فأُولَى الآليات المبتكرة التي جاءت بها حضارتنا الإسلامية الخالدة، في مجال اختيار الخلفاء أو أصحاب المناصب العليا في الدولة الإسلامية، نجد الشورى، وليس هناك أدنى ريبة في أن الشورى مبدأ إسلامي خالص، ولأهمية قضية الشورى في الحضارة الإسلامية والإنسانية، فقد أفردنا لها مبحثًا مستقلاًّ.
ولكننا في حديثنا هنا نتحدَّث عن الأشكال المختلفة التي ابتكرها المسلمون لاختيار خليفتهم، ولا شكَّ في أننا نجد أن الخلفاء الراشدين، قد جاءوا إلى الخلافة عبر أربع طرق مختلفة، ولكنها مع اختلافها وتباينها، قد مَثَّلت لجمهور المسلمين أربع نظريات أو أمثلة شرعية يمكن من خلالها اختيار خليفة المسلمين أو إمامهم، وهذا التنوُّع في حقيقته هو مما قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية كلها في مجال اختيار الحاكم أو الزعيم.
طرق اختيار الخليفة
الطريقة الأولى:
ومن أُولَى هذه الطرق أو الأمثلة الرائدة، نجد طريقة اختيار خليفة لرسول الله ؛ فالأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ليختاروا من أنفسهم إمامًا للمسلمين، لكن ثلاثة فقط من المهاجرين قد اجتمعوا بهم، وهم أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، فالنتائج التي توصَّل إليها المجتمعون والتي تمثَّلت في ترجيح كفة المهاجرين، ومبايعة أبي بكر الصديق لم نجد لها مثيلاً في تاريخ الحضارات البشرية، في اختيار زعيم أو رئيس بمثل هذا النقاش الحرِّ؛ خاصة إذا علمنا أن هذا الزعيم من فرع ضعيف في قبيلة قريش، وهو فرع تيم، بينما يترك الأنصار وهم في بلدهم الأمر له؛ لأنه الأصلح والأفضل، ويمكن أن نطلق على هذه النموذج "الاختيار الشعبي المباشر"!
الطريقة الثانية:
وثاني هذه الطرق أو الأمثلة التي قَدَّمها المسلمون في المنظومة السياسية الحضارية ما قام به أبو بكر الصديق من عهد لعمر بن الخطاب ، ولم يكن هذا العهد جبرًا على المسلمين؛ فقد كان باختيارهم، وبعرض من أبي بكر لهم؛ فقد ذكر الطبري في تاريخه، أن أبا بكر خرج على الناس في مرض وفاته فقال لهم: "أترضون بمن أستخلف عليكم؟! فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وَلَّيت ذا قرابة، وإني قد استخلفتُ عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا".
ولم يكن فِعْل أبي بكر هذا مفاجأة للمسلمين؛ فقد استطلع آراء كبار الصحابة قبل قراره هذا، فمما رواه الطبري أن أبا بكر لما عزم على العقد لعمر في مرض الوفاة "دعا عبد الرحمن بن عوف ، فقال: أخبرني عن عمر . فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة. فقال أبو بكر : ذلك لأنه يراني رقيقًا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقتُهُ فرأيتُني إذا غضبتُ على الرجل في الشيء أرانيَ الرضا عنه، وإذا لنتُ له أراني الشدةَ عليه، لا تذكر يا أبا محمد مما قلتُ لك شيئًا. قال: نعم. ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر. قال: أنت أخبرُ به. فقال أبو بكر: على ذاك يا أبا عبد الله. قال: اللهم علمي به أن سريرته خيرٌ من علانيته، وأن ليس فينا مثله. قال أبو بكر: رحمك الله يا أبا عبد الله، لا تذكر مما ذكرتُ لك شيئًا. قال: أفعلُ". ولذلك كان العهد لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب بمنزلة "إجماع الأمة على مرشح الخليفة السابق".
الطريقة الثالثة:
وثالث هذه الطرق التي قَدَّمَتْها الحضارة الإسلامية في منظومة السياسة العالمية، ما رأيناه من ترشيح ممنهج من الخليفة عمر بن الخطاب لمن يأتي من بعده؛ فقد اختار ستة من كبار صحابة رسول الله ، وهم الذين اجتمعت آراء المسلمين داخل المدينة وخارجها على مكانتهم وفضلهم، ومن ثم صلاحيتهم لتولية إمامة المسلمين، والحق أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب قد اختار هؤلاء بناء على رضا رسول الله عنهم، فهم "المبشَّرُون بالجنة"، والمستغرب أنهم لم يكونوا ستة فقط، بل سبعة نفر، وهم: عثمان بن عفان الأموي ، وعلي بن أبي طالب الهاشمي ، وعبد الرحمن بن عوف الزهري ، وسعد بن أبي وقاص الزهري ، والزبير بن العوام الأسدي ، وطلحة بن عبيد الله التيمي ، وأما سابعهم فهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، لكن عمر بن الخطاب قد استبعده لقرابته منه، فلم يشأ أن يلي أمر المسلمين أحد من آل عمر أو من أقاربه فـ"بحسب آل عمر أن يُحَاسب منهم رجل واحد!".
ومن دون شكٍّ أن هذه الطرق التي اقترحها عمر ، كانت مقبولة لأقصى درجة من خاصة المسلمين وعامتهم، بل يمكن القول: إنها توافقت مع ما استجد على ساحة المسلمين من رقعة شاسعة، ومسئولية هائلة، فلم يكن من المتوقع أن يعهد عمر لأحد بعينه وسط هذه الظروف الجديدة، ومن ثم تواكبت هذه الآلية العمرية مع الأحداث حينئذ، وبالطبع فإنها كانت منضبطة بالضوابط الشرعية التشاورية؛ لذلك استطاع المجتمعون أو "أهل الشورى" أن يتوصَّلُوا إلى اختيار خليفة بطريقة تشاورية رائعة في المدة التي حددها عمر بن الخطاب ، وتمت الموافقة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، وهذه الطريقة التي استحدثها عمر ، بمنزلة "تنافس المرشحين بطرق شرعية على منصب الخلافة".
الطريقة الرابعة:
والطريقة الرابعة التي تم اختيار الخليفة الراشد علي بن أبي طالب من خلالها، كانت غاية في الأهمية ويجب الوقوف أمامها؛ لأنها كانت ملازمة لأحداث استثنائية مرت بها الدولة الإسلامية حينئذ، وهذه الأحداث كانت الفتنة بعينها! ومن ثم، كان من الضروري أن تدرأ الأمة هذه المفسدة قبل استفحالها، فلم يكن من بُدٍّ أن يُسرع المسلمون لمبايعة رجل بمكانة علي بن أبي طالب ، وهو ما تمَّ بالفعل، حتى إن علي بن أبي طالب ، قد اشترط أن تكون بيعته عامة في المسجد، ولقد كان البعض كعبد الله بن عباس في تخوُّف من البيعة في المسجد وسط هذه الفتنة وأحداث "الشغب"، لكن البيعة قد تمت بالفعل من المهاجرين والأنصار في مسجد رسول الله، وهذه الآلية الجديدة التي لجأ إليها المسلمون وسط هذه الأحداث الدامية يمكن أن نطلق عليها "اللجوء إلى الرجل المناسب في أوقات المحن".
هذه الطرق المتنوِّعة هي مما قَدَّمته الحضارة الإسلامية كحلول ناجعة وشرعية لكيفية اختيار الحكام والرؤساء، وقد جمعت هذه الطرق بين أوقات مختلفة، وأحداث متنوِّعة؛ حيث جمعت بين السلم والهدوء، وبين الحرب والفتن، ولكن الجامع لهذه الآليات كان مبدأ الشورى والبيعة، وهذان الأمران سنُفْرِد لهما فصلين مستقلين، وكذلك الخلافة بالعهد والوراثة.
والحق أن هذه الطرق الأربع في اختيار الحاكم -وغيرها من الطرق التي استحدثها المسلمون بعد عصر الخلفاء الراشدين- هو مما يُؤَكِّد على مرونة الشريعة الإسلامية، ومن ثَمَّ قدرة الحضارة الإسلامية على مواكبة المستجدات، وهذه المرونة هي مما تَفَرَّدَتْ به الحضارة الإسلامية على سواها من الحضارات الأخرى.
للامانة منقول
تعليق