السومريون واللغة السومرية
يعد السومريون في تاريخ بلاد وادي الر افدين من أقدم الشعوب العريقة التي استطاعت وضع لبنات الحضارة الأولى في القسم الجنوبي من العراق القديم الذي عرف ببلاد سومر ... وما يزال شان السومريين ودورهم في التاريخ القديم يتعاظم باستمرار كلما استجدت مكتشفات أثرية واستظهرت نصوص سومرية جديدة لتسلط الأضواء مرة بعد أخرى على جوانب مشرقة من منجزاتهم الحضارية ودورهم في أغناء الشعوب بالمعرفة في مختلف جوانب الحياة اليومية .. وقد اختلف العلماء في أصل السومريين وهناك من قال أنهم قدموا إلى جنوب العراق من مناطق قريبة أو أخرى بعيدة إلى غيرها من الآراء ..
فهذه الآراء مما قيل بخصوص أصل السومريين بقيت في نطاق التخمين والافتراض ولم يحظ أي منها في يوم من الأيام بقبول الأغلبية من علماء الآثار ..
وفي اعتقادنا انه ليس هناك ما يبرر الافتراض القائل بهجرة السومريين من بلد آخر إلى جنوب وادي الرافدين .. صحيح أن هناك خصائص أو عناصر مميزة للحضارة السومرية لكن هذا لا يعني بالضرورة أن تلك العناصر جاء بها السومريون معهم من خارج العراق ، والشيء المنطقي هو أن نفترض بان هذه العناصر المميزة للحضارة السومرية التي نشاهدها في عصر الوركاء ( 3500 – 3000 ق . م ) عبارة عن نتيجة وامتداد طبيعيين لمدنيات عصور ما قبل التاريخ الأخرى التي سبقت هذا العصر مثل حسونة وسامراء وحَلَف في شمال العراق والعبيد في الجنوب .. بمعنى أننا نرى في السومريين امتدادا لأقوام عصور ما قبل التاريخ في وادي الر افدين وأنهم انحدروا من شمال العراق إلى الجنوب واستوطنوا في منطقة كانت على الأرجح تعرف باسم سومر والتي عرف السومريون باسمها في العصور التاريخية اللاحقة ..
اللغة السومرية
تمثل العلامات الصورية على الألواح الطينية المكتشفة في مدينة الوركاء ، الطبقة الرابعة أ ، أقدم محاولات الإنسان العراقي القديم في الكتابة وتدوين اللغة ونقلها إلى الغير .. ( وهناك من يرى بان علامات هذه الألواح لا تمثل أقدم الكتابات بل كان كاتبوها ، وهم من السومريين قد استخدموا نظاما كتابيا كان موجودا أصلا إلا انه من صنع حضارة مبكرة مفقودة حتى الآن ) .. ويرقى تاريخ هذه الألواح إلى الفترة ( 3500 – 3200 ق. م) أما أقدم الألواح التي تحمل علامات كتابية أمكن التعرف على لغة كاتبيها فتمثلها الألواح المكتشفة في كل من الوركاء ( الطبقة الثانية والثالثة ) وجمدة نصر والعقير التي يرقى تاريخها التقريبي إلى دور جمدة نصر الذي أعقب دور الوركاء .. ولقد تمكن الباحثون بعد محاولات عدة تحديد لغة علامات هذه الألواح باللغة السومرية التي ظلت بالاستخدام في الفترة التالية وطوال الألف الثالث قبل الميلاد وما بعده .. ويؤكد علماء اللغة العرب والأجانب أن اللغة السومرية هي أقدم اللغات العراقية القديمة من حيث تاريخ التدوين ، بل أنها أقدم اللغات البشرية المعروفة التي وجدت طريقها للتدوين وتليها اللغة الاكدية واللغة المصرية القديمة ، حيث عرفت الكتابة الهيروغليفية في مصر في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد ، أي بعد ابتداع الكتابة في القسم الجنوبي من العراق بمدة من الزمن قدرها بعض الباحثين بعدة قرون أو قرنين عل أرجح الآراء .. واللغة السومرية هي لغة الأقوام السومرية التي استقرت في جنوب العراق وبرزت على المسرح التاريخي والسياسي طوال الألف الثالث قبل الميلاد ..
ومن العلماء الأجانب الذين اهتموا بدراسة هذه اللغة هو العالم ( هنكس ) الذي ألقى محاضرة عن هذه اللغة عام 1850 أمام الجمعية الانكليزية لتطوير العلم والعالم الانكليزي (رولنصون ) الذي وجد عام 1852 من خلال دراسته لبعض النصوص المسمارية المكتشفة في نينوى ، أن هناك جداول مسمارية ثنائية اللغة تضم مفردات بابلية والى جانبها ما يقابلها بلغة أخرى جديدة تماما لا علاقة لها باللغة البابلية أو الأشورية وقد أطلق ( رولنصون ) على هذه اللغة اسم اللغة الاكدية .. كما أشار بعد ذلك إلى أن هناك نصوصا مسمارية كشف عنها في بابل وهي مدونة باللغة الجديدة التي أطلق عليها اللغة الاكدية وخلص إلى الافتراض بان السيئيين البابليين ، أو الاكديين ، هم الذين اخترعوا الكتابة المسمارية وهم الذين أسسوا المدن والمعابد الأولى .. وهكذا تمكن ( رولنصون ) من اكتشاف حقيقة وجود السومريين ولغتهم إلا انه سماهم باسم آخر غير اسمهم الحقيقي ..
وفي عام 1869 ألقى العالم ( يوليس اوبرت ) محاضرة أعلن فيها بأنه ينبغي أن يسمى هؤلاء الناس الذين سماهم ( رولنصون ) بالسيئيين البابليين او الاكديين بالسومريين وتسمى لغتهم بالسومرية استنادا إلى ما جاء في لقب ( ملك سومر وأكد ) الذي استخدمه عدد من الحكام الأوائل ، كما أشار ( اوبرت ) إلى الشبه الموجود بين اللغة السومرية واللغة التركية والفنلندية والهنغارية ..
ومع أن التسمية التي اقترحها ( اوبرت ) كانت دقيقة وصحيحة ، كما أثبتت فيما بعد ، فانه لم يأخذ بها بعض العلماء في حينه واستمر استخدام مصطلح اللغة الاكدية للإشارة إلى اللغة السومرية لفترة ليست بالقصيرة .. بل أن احد علماء اليهود ، وهو ( جوزيف هاليفي ) أنكر وجود الشعب السومري واللغة السومرية أصلا على الرغم من وجود الأدلة العلمية والمادية المتوفرة ونشر مقالات متتابعة حول نظريته غير العلمية هذه وقال بان ما يعرف باللغة السومرية ما هو في الواقع إلا من ابتداع الكهنة البابليين .. وقد أيده في رأيه هذا بعض علماء الأشوريات ، ثم تبين خطا هذا الرأي وبعده عن الواقع التاريخي .. ولعل السبب في هذا التضليل اليهودي راجع إلى اعتبار الكثير من علماء اليهود أن اللغة العبرية هي اللغة الأقدم في العالم وان ادم تكلم بها .. ( ولنا دراسة عن هذا الموضوع وتفنيد هذا الرأي علميا وتاريخيا وماديا إن شاء الله ) .
وكان من نتائج التنقيب في أهم المدن السومرية ، مثل مدينة لكش ونفر وأور ( بلد أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام ) أن تم الكشف عن المئات من النصوص المسمارية المدونة باللغة السومرية ، وبدأت الدراسات العلمية عن اللغة السومرية معتمدة على هذه النصوص وعلى النصوص ثنائية اللغة المكتشفة في مدينة نينوى ، ومنذ مطلع القرن العشرين ظهرت بحوث عدة عن قواعد اللغة السومرية وخواصها وسماتها ..
وهناك مسالة مهمة نشير إليها وهي أن الدراسات اللغوية التي تمت عن اللغة السومرية
تؤكد أنها لغة منفردة لا تشبه الاكدية ولا غيرها من اللغات المحلية المعاصرة أو التالية لها سواء في التراكيب أم القواعد أم المفردات أم حتى الأصوات .. وتشير هذه الدراسات أيضا إلى أن اللغة السومرية لا تنتمي إلى أي من العائلات اللغوية المعروفة كاللغة التركية والهنغارية والقوقاسية إلا أن هذا الشبه لا يرقى إلى درجة القرابة أو الانتماء إلى عائلة لغوية واحدة ..
مراحل اللغة السومرية
كان اول استخدام اللغة السومرية للتدوين منذ الألف الرابع قبل الميلاد – كما مر ذكره - إلا أن اللغة السومرية لابد أن كانت في الاستخدام قبل هذا التاريخ بفترة معينة تتزامن وتاريخ استقرار السومريين في جنوب العراق ..
وخلال النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى قيام المملكة الاكدية ( 2371 ق . م ) كانت السومرية هي اللغة الرئيسة السائدة على النطاق الشعبي والرسمي ولغة المكاتبات الرسمية والشخصية والدينية ، وقد جاءتنا آلاف من النصوص المسمارية المدونة خلال تلك الفترة تضمنت مختلف المواضيع فمنها الوثائق الإدارية والاقتصادية والنصوص الملكية والكتابات الأدبية كالترانيم والرقي والصلوات والشرائع القانونية والقرارات القضائية والأمثال والأساطير وغيرها .. ثم بدا استخدام الاكدية إلى جانب السومرية مع مجيء الأقوام الاكدية في فترة غير معروفة على وجه الدقة .. إلا أن الانتقال من اللغة السومرية إلى الاكدية بدا بعد تأسيس المملكة الاكدية وأصبحت اللغة الرسمية في البلاد هي اللغة الاكدية إلى جانب السومرية ..
ولما طرا على اللغة السومرية تغييرات عبر العصور التي مرت بها واختلاف اللغة المدونة حسب الفترات الزمنية التي تعود إليها النصوص المكتشفة ، وان كان الاختلاف بسيطا ، فقد ميز الباحثون عددا من المراحل التي مرت بها اللغة السومرية استنادا إلى النصوص المكتشفة وحسبما يأتي :
2 . مرحلة العصر السومري القديم ( 2600 – 2350 ق. م ) عثر على نصوص هذه المرحلة في مدينة لكش ( تقرا الكاف كالجيم المصرية ) بالدرجة الأولى وبعض المدن السومرية الأخرى وجلها نصوص اقتصادية وكتابات ملكية ...
3 . المرحلة السرجونية والكوتية ( 2350 – 2150 ق. م ) ونصوص هذه الفترة قليلة ولا سيما الفترة الكوتية ..
4 . مرحلة العصر السومري الحديث ( 2150 – 2000 ق. م ) ومعظم نصوص هذه الفترة التي تميزت بسيادة الأقوام السومرية في عهد سلالة أور الثالثة جاءتنا من مدينة لكش واوما وأور وغالبيتها نصوص اقتصادية وبعض النصوص القانونية .. وفضلا عن ذلك خلفت لنا هذه الفترة نصوصا قانونية وأدبية كثيرة بعضها مستنسخ في فترة العهد البابلي القديم ..
5 . مرحلة العهد البابلي القديم ( 2000 – 1600 ق. م ) وهناك أكثر من مرحلتين من مراحل اللغة السومرية خلال هذه الفترة ..
6 . مرحلة ما بعد العهد البابلي القديم ( 1600 – 1000 ق . م ) ومعظم نصوص هذه المرحلة عبارة عن استنساخات لنصوص سومرية من الفترات السابقة وكذلك بعض النصوص الملكية الكشية وبعض النتاجات الأدبية الكشية ولغة هذه النصوص متأثرة باللغة الاكدية ..