الدين في روما القديمة
الدين في روما القديمة ، هي الديانة التي كان يعتنقها الرومان قديما. ولهم العديد من الآلهة والأساطير المرتبطة بهم والتي كانت تدخل في صميم حياتهم اليومية.
لقد كانت الأسرة الرومانية رابطة بين الأشخاص والأشياء، كما كانت رابطة بين الأشخاص والأشياء من جهة والآلهة من جهة أخرى. وكانت هي المركز الذي يلتف حوله الدين، والخلق، والنظام الاقتصادي، وكيان الدولة بأجمعها، كما كانت هي المنبع الذي تُستَمد منه هذه المقومات كلها. وكان كل جزء من أملاكها مهما صغر وكل مظهر من مظاهر وجودها يرتبط ارتباطاً وثيقاً جدّيّاً بالعالم الروحي؛ فكان الطفل يعلم بالقدوة الصامتة الفصيحة أن نار الموقد التي لا تخمد ليست إلا رمز الإلهة ڤستا Vesta ومادتها، وأنها هي الشعلة المقدسة التي ترمز إلى حياة الأسرة والى دوامها؛ ومن أجل هذا كان من أوجب الواجبات ألا تنطفئ هذه النار، وأن يُعنى بها العناية "المقدسة"، وأن تغذى بنصيب من كل وجبة.
وكان الطفل يرى فوق الموقد النصمات تتوجها الأزهار وتمثل آلهة الأسرة أو أرواحها المقدسة: إللار Lra الذي يحرس حقولها ومبانيها، وسعادتها ومصيرها؛ والبينات Penates أو الآلهة الداخلية التي تحمي ما تجمع للأسرة في مخازنها وأصونتها وبيادرها؛ وكان الإله يانوس Janus يحوم حول عتبة الدار وإن كانت الأعين لا تراه، وكان ذا وجهين، وليس معنى هذا أنه كان مخادعاً بل معناه أنه كان يرقب الداخلين والخارجين من كل باب. وكان الطفل يعلم أن أباه هو الحافظ للأسرة وأنه رمز القوة الخلاقة الداخلية (genius) التي لا تفنى بفناء الجسم بل يجب أن تغذى على الدوام عند قبر الأب. وكانت الأم هي الأخرى تحمل ربّاً من الأرباب، وكان عليه أن يعاملها أيضاً معاملة الآلهة. وكان فيها يونو Juno وهو روح قدرتها على الحمل يقابل قدرة الأب على الخلق.
وكان للطفل أيضاً يونوه Juno وهو ملاكه الحافظ وروحه أو النواة الإلهية في غلافه الفاني. وكن يقال له قولاً يبعث في قلبه الرهبة، إنه يحيط به من كل مكان أطياف رحيمة Di Manes هي أطياف الذكور من أسلافه التي كانت أقنعة وجوههم الرهيبة معلقة على جدران المنزل تحذره من أن يتنكب طريق هؤلاء الأسلاف، وتذكره بأن الأسرة لا تتألف فقط من أولئك الذين كانوا في الأيام الخالية أو سيكونون في الأيام المقبلة أعضاء فيها بأجسامهم، والذين يكونون لهذا السبب جزءاً من مجموعها الروحي ووحدتها الأبدية. وكانت أرواح أخرى تأتي لمعونته كلما كبر: فكوبا Cuba تحرسه وهو نائم وأبيونا Abeona تهدي خطاه، وفبيولينا Fabulina تعلمه الكلام. وإذا ما غادر المنزل وجد نفسه مرة أخرى في حضرة الآلهة أينما حل. وكانت الأرض نفسها آلهة فهي تارة تلس Tellus وتارة ترا ماتر Terra Mater أي الأرض الأم، وكانت أحياناً هي مارس Mars أي الأرض التي يطؤها بقدميه وخصبها المقدس، وأحياناً تكون هي الآلهة الصالحة Bona Dea التي تمد النساء والحقول بالأرحام الخصيبة.
وكان في المزرعة إله معين لكل عمل وكل بقعة فيها، پومونا Pomona للبساتين، وفونس Faunus للماشية، وپالس Pales للمراعي، واستركيولس Sterculus لأكوام السماد، وساترن Saturn للزرع، وسيريز Ceres للحاصلات، وفـُرناكس Fornax لتحميص الذرة في التنور، وڤلكان Vulcan لإيقاد النار.
وكان يشرف على الحدود الإله العظيم ترمينس Terminus وهو يتمثل ويعبد في الحجارة والأشجار التي تحدد المزارع. وإذ كانت غير الروماني تتطلع إلى السماء، فإن الرومان أنفسهم لم يكونوا ينكرون أن فيها هي الأخرى آلهة، ولكن المحور الذي كانت حوله أعظم مظاهر تقواه وإيمانه وأخلص كفارته واستعطافه كان هو الأرض أم حياته ومصدرها، ومنزل أمواته، والمربية الساحرة للبذور النامية. وإذا ما حل شهر يناير من كل عام أقيمت الصلوات للارات Lares الأرض في عيد ملتقى الطرق Compitalia أو Corssroads البهيج؛ وإذا أقبل شهر يناير قدمت الهدايا الغالية مرضاة لتلس Tellus واستدراراً لعطفه على كل المزروعات؛ وفي شهر مايو من كل عام يسير كهنة "إخوان أرفال Arval" إلى أخوان الحرث في موكب غنائي حول حدود المزارع المجاورة لهم يطوقون الحجارة بتيجان من الزهر، ويرشون عليها دماء الأضاحي، ويدعن المريخ (الأرض) أن تخرج الفاكهة الموفورة.
ويرى من هذا أن الدين كان يؤمن الملكية، ويزيل أسباب الشحناء، ويكرم العمل في الحقول، فينشئ فيه الشعر، ويؤلف فيه المسرحيات، ويقوي الجسم والروح والإيمان والعمل.
ولم يكن الروماني، كما كان الإغريقي، يفكر في آلهته كأن لها صوراً كصور الآدميين، ولم يكن يسميها إلا مونينا Munina أي الأرواح، وكانت هذه الآلهة في بعض الأحيان معنويات مجردة كالصحة، أو الشباب، أو الذاكرة، أو الحظ، أو الشرف، أو الأمل، أو الخوف، أو الفضيلة، أو العفاف، أو الوفاق، أو النصر، أو روما. وكان منها أرواح للمرض يصعب استرضاؤها كالأطياف وأرواح الموتى؛ ومنها أرواح فصول السنة، مثل Maia روح شهر مايو؛ ومنها آلهة الماء مثل نپتون Neptune، وأرواح الغابات أو الآلهة التي تسكن الأشجار مثل سيلڤانس Silvanus. وكان بعضها يتقمص الحيوانات المقدسة كالحصان أو الحيوان الذبيح، أو الأوز المقدس الذي كان المتقون يحتفظون بها فوق الكبتول لا يناله أحد بأذى، ومنها أرواح التناسل والإنتاج: تتومس يشرف على الحمل، ولوسينا تحمي الحيض والولادة، وكان بريابس Priapus ألهاً للإخصاب عند اليونان، ولكنه سرعان ما سكن روما، وكانت العذارى والأمهات (إذا كان لنا أن نصدق القديس أوغستين الغاضب) يجلسن على قضيب تمثاله ليضمن بذلك استعدادهن للحمل.
وكانت صور خليعة فاحشة لهذا الإله تزين كثيراً من الحدائق، وكان السذج من الأهلين يلبسون صوراً صغيرة منه ظاهر فيها قضيبه لتهبهم القدرة على التناسل أو ترد عنهم "العين الحاسدة". وجملة القول إننا لا نعرف قط ديناً يبلغ فيه عدد الآلهة ما بلغه عند الرومان، ويقدرها فارو بثلاثين ألفاً، ويشكو بترونيوس من أن بعض المدن الإيطالية كان فيها من الآلهة أكثر ممن فيها من الرجال؛ لكن الذين يسميهم بترونيوس deus لم يكونوا كلهم آلهة؛ لأن كلمة deus كانت تعني عند الرومان قديساً أو إلهاً.
وكان يكمن تحت هذه الأفكار الأساسية حشد من العقائد الشعبية المتعددة الأشكال، من عبادة الطبيعة، والدكاكيرية fetishism، والطوطمية، والإيمان بالسحر، والمعجزات، والرقى، والخرافات، والمحرمات، ومعظمها عقائد باقية من أيام سكان إيطاليا فيما قبل التأريخ، ولعلها باقية من أيام أسلافهم الهندوربيين جاءوا بها من موطنهم القديم في قارة آسيا. وكان الكثير من الأشياء والأماكن والأشخاص مقدساً (sacer) محرماً مسه أو تدنسيه، ومن هؤلاء الأشخاص الأطفال حديثو الولادة، والنساء في وقت الحيض، والمجرمون إذا أدينوا. وكانت مئات من الصيغ اللفظية أو المبتكرات الآلية تستخدم للوصول إلى غايات طبيعية بوسائل خارقة للطبيعة. فكانت التمائم شائعة بينهم لا يكاد يخلو منها واحد منهم؛
وكان كل طفل تقريباً يلبس "بلّة" Bulla أو طلمساً ذهبياً معلقاً في عنقه. وكانت تماثيل صغيرة تعلق إلى الأبواب أو الأشجار لترد الأرواح الخبيثة. وكانت الرقى والتعاويذ تستخدم لمنع الأخطار، وللشفاء من الأمراض، وإنزال الماء من السماء، وإهلاك جيوش الأعداء، وإتلاف محصولات العدو أو إهلاكه هو نفسه.
ومن أقوال پلني Pliny في هذا: "كلنا نخشى أن تصيبنا اللعنات أو الطلاسم بالسوء". كذلك يرد ذكر الساحرات في أقوال هوراس Horace، وڤرجيل Virgil، وتبيولوس Tibulus، ولوشيان Lucian. وكان الاعتقاد السائد أنهن يأكلن الأفاعي ويطرن في الهواء ليلاً، ويعصرن السم من أعشاب لا يعرفها غيرهن، ويقتلن الأطفال، ويحيين الموتى.
ويلوح أن الرومان جميعاً، إلا قليلاً من المتشككين، كانوا يؤمنون بالمعجزات، وبالفأل والطيرة، وبأن التماثيل تتحدث وتعرق ، وبأن الآلهة تنزل من جبل أولمپس Olympus لتحارب في صف الرومان، وبأن الأيام الفردية الأسماء محظوظة، والزوجية الأسماء منحوسة، وبأن الحوادث الغريبة تنبئ بالمستقبل. ويحتوي تأريخ ليفي على عدة مئات من أمثال هذا الإنباء يسجلها كلها بوقاره الفلسفي. وفي مجلدات پلني الأكبر Pliny من التنبؤات ووسائل العلاج السحري ما يصح لنا معه أن نسمي تأريخه "تأريخ خوارق الطبيعة". وكثيراً ما كان يحدث أن تؤجل أهم الأعمال التجارية أو الحكومية أو الحربية أو تلغى إلغاءً تاماً إذا تشاءم الكاهن بأن وجد شيئاً غير مألوف في أمعاء ذبيحة، أو سمع قصف رعد في السماء. وكانت الدولة تبذل كل ما في وسعها لتحد من الإسراف في هذه العادات، وكان يطلق عليها اللفظ الذي يعبر عنها أدق تعبير وهو لفظ Supersitis أي العقائد الدينية المفرطة.
ولكنها كانت لا تقعد قط عن استغلال تقوى الشعب لتثبيت دعائم الحكم والنظام الاجتماعي فكيفت آلهة الريف لتوائم حياة الحذر، وشادت موقداً قومياً للإلهة فستا، وعينت طائفة من العذارى الفستيات لتقوم على خدمة نار المدينة المقدسة، وأخرجت من مجموع آلهة الأسرة والمزرعة والقرية الآلهة القومية للدولة di indigetes، ونظمت لهذه الآلهة عبادة جديدة جميلة المنظر تقوم بها الدولة باسم جميع المواطنين. وكان أحب هذه الآلهة القومية الأولى إلى قلوب الشعب الإله جوبتر أو جوف Jupiter or Jove وإن لم يكن هذا الإله قد أصبح ملكها كما أصبح زيوس عند اليونان، بل كان في القرون الأولى من حياة روما لا يزال قوة نصف معنوية يمثل رقعة السماء المتلألئة وضياء الشمس القمر وقصف الرعد،
وكان في صورة جوبتر فلوفيوس Jupiter Fluvius يمثل شؤبوباً من المطر المخصب. وقد كان فرجيل وهوراس نفسهما يستعملان في بعض الأحيان لفظ "Jove" مرادفاً للفظ المطر أو السماء. وكانت أكثر نساء روما ثراءً إذا أجدبت السماء يسرن حافيات في موكب كبير إلى تل الكبتولين حيث هيكل جوبتر تونانز Jupiter Tonans -جوف المرعد- ليستسقين. ولعل لفظ جوبتر محرف عن ديوسپاتر Diuspater أو ديسپيتر Diespeter أي إله السماء. ولعل يانوس Janus الذي كان في الأصل يسمى ديانوس Dianus كان يؤلف هو وجوبتر في بداية الأمر إلهاً واحداً، وكان يرمز به أولاً إلى روح باب الكوخ ذي الوجهين ثم إلى باب المدينة، ثم إلى أي فتحة أو بداية كبداية اليوم أو السنة. وكانت أبواب هيكله لا تفتح إلا في أيام الحرب ليخرج منها مع جيوش روما لهزيمة آلهة الأعداء. وكان المريخ Mars إلهاً معظماً عند الشعب مذ بدأ يعظم جوبتر. وكان أولاً إله الحرث، ثم أصبح إله الحرب، ثم كاد أن يكون هو فيما بعد رمز روما وشعارها؛ وكانت كل قبيلة في إيطاليا تطلق اسمه على شهر من الشهور. ولم يكن زحل الإله القومي للبذرة الحديثة الزرع
(Sata) أقل قدماً من جوبتر والمريخ، وكانت الأساطير تصوره على أنه ملك من ملوك ما قبل التأريخ أخضع القبائل كلها لقانون واحد وعلمها الزراعة وأقر السلام والمشايعة في العهد الذهبي من عهد زحل Saturna Regina. وكانت إلهات روما أقل قوة من آلهتها، ولكنهن كن أحب إلى قلوب الشعب من الآلهة الذكور. وكان من هذه الإلهات يونو رجينا Juno Regina ملكة السماء وحامية الأنوثة والزواج والأمومة.
وكانوا يوصون بالزواج في شهرها -شهر يونيو - ويقولون أن الزواج فيه أسعد الزيجات؛ وكانت مينرڤا Minerva إلهة الحكمة (mens) أو الذاكرة، والصناعات اليدوية وطوائف الصناع، والممثلين والموسيقيين والكتبة.
وكان البلاديوم Palladium التي تقف عليها في اعتقادهم سلمة روما صورة صغيرة للإلهة بلاس منيرفا Pallas Minerva مدججة بالسلاح جاء بها إنياس Aeneas في زعمهم من طروادة إلى روما بأساليب الحب والحرب، وكانت ڤينوس Venus (الزهرة) إلهة الشهوة، والزواج والإخصاب. وكان شهرها المقدس هو شهر إبريل شهر تفتح الأزهار (Aperire). وكان الشعراء أمثال لكريشيوس Lucretius واوڤيد Ovid يرون فيها المنشأ الغرامي لجميع الكائنات الحية. وكانت ديانا Diana إلهة القمر والنساء والولادة والصيد والغابات وسكانها من الوحوش؛ وكانت في زعمهم روح شجرة جيء بها من أريشية Aricea حينما خضع هذا الإقليم من أقاليم لاتيوم لحكم روما.
وكان بالقرب من أريشيا بحيرة نيمي Nemi وأيكتها، وكان في هذا الأيكة مزار ديانا ملجأ الحجاج الذين كانوا يعتقدون أن هذه الإلهة قد ضاجعت في هذا المكان ڤيربيوس Virbius ملك الغابات الأول. ولكي يضمن دوام إخصاب ديانا وإخصاب الأرض كان خلفاء فربيوس -وهم كهنة الصائدة وأزواجها- يستبدل بهم جميعاً واحداً بعد واحد أي عبد قوي يعوذ نفسه بغصن (يسمى عندهم بالغصن الذهبي) يأخذه من شجرة البلوط المقدسة إحدى أشجار الأيكة ويهاجم الملك ويذبحه. وقد بقيت هذه العادة إلى القرن الثاني بعد ميلاد المسيح. هذه إذن هي الآلهة الكبرى لدين روما الرسمي.
وكان للأهلين غير هؤلاء أرباب قومية أصغر منها ولكنها لم تكن تقل عنها محبة لدى الرومان. ومن هذه الأرباب الصغرى هرقول Hercules إله الفرح والخمر، والذي لم يتورع أن يقامر وهو مبتهج مع قندلفت هيكله لينال منه محظية. وكان مركيوري Mercury راعي التجار والممثلين واللصوص. وكانت أپس Aps إلهة الثروة وبلونا Bellona إلهة الحرب، وكان غير هؤلاء أرباب ذكور وإناث يخطئهم الحصر. ولما أن بسطت روما سلطانها جاءت إليها آلهة جديدة. وكانت في بعض الأحيان إذا غلبت مدينة جاءت منها بآلهتها لتضمها إلى مجمع الآلهة الروماني دليلاً على غلبتها وضماناً لهذه الغلبة كما فعلت بيونو إلهة فياي حين قادتها أسيرة إلى روما؛ وكان سكان الأقاليم النائية إذا جاءوا إلى العاصمة أتوا معهم بآلهتهم ليثبتوا فيها أقدامهم حتى لا تجتث أصول أولئك السكان الجدد الروحية والأخلاقية اجتثاثاً مفاجئاً لسبب من الأسباب، وكذلك يفعل اليوم المهاجرون إلى أمريكا فيأتون إليها بآلهتهم. ولم يكن الرومان يأبهون بمجيء هؤلاء الآلهة الأجانب؛ وكان معظمهم يعتقدون أنهم إذا أزاحوا التمثال من مكانه أزاحوا الإله معه، ومنهم كثيرون كانوا يؤمنون أن التمثال نفسه هو الإله.
على أن بعض الآلهة الجديدة لم تغلب، بل كانت هي الغالبة. فقد تسربت إلى العبادات الرومانية بطريق التجارة والصلات الحربية والثقافية التي نشأت بين الحضارتين الرومانية واليونانية.
وقد حدثت هذه الصلات أول الأمر في كمبانيا ثم جنوبي إيطاليا ثم صقلية، وانتهت آخر الأمر في بلاد اليونان نفسها. وكان في آلهة دين الدولة شيء من التجرد المعنوي وبرود الطبع؛ وكان المستطاع رشوهم بالقرابين والتضحيات، ولكنهم قلما كانوا يمدون عبادهم بالراحة أو الإلهام الفردي؛ وكانوا من هذه الناحية يختلفون عن آلهة اليونان ذوي الصفات البشرية الممتلئين مغامرة وفكاهة وشعراً. ومن أجل هذا رحب الشعب الروماني بآلهة اليونان وأقام لهم الهياكل، وسره أن يتعلم ما يتطلبه أولئك الآلهة من مراسم وطقوس، وكذلك سر الكهنة الرسميين أن يجندوا أولئك الجند الجدد لبث النظام والطمأنينة في النفوس، فضموهم إلى أسرة روما المقدسة، ومزجوهم كلما استطاعوا بأقرب الآلهة الوطنية المماثلة لهم. فجاء من عهد بعيد أي من عام 496 ق.م دمتر Demeter وديونيسيوس Dionysius ومُزجا بسيريس Ceres وليبر Liber (إله العنب) واستقبل كاستر Castor وپلكس Pollax بعد اثني عشر عاماً من ذلك الوقت وصارا حاميي روما: وشيد في عام 431 هيكل لأپلون Apollo الشافي لعله يخفف من وباء طاعون فشا في روما وقتئذٍ؛ وفي عام 294 جيء إلى روما من إپيدوروس Epidaurusبإسكلاپيوس Aesculapius إله الطب عند اليونان في صورة أفعوان ضخم ، وشيد على جزية في نهر التيبر معبد في صورة مستشفى تكريماً له.
وجيء بكرونس Cronus اليوناني وقيل أنه لا يختلف في شيء عن زحل، ومزج پوسيدن Poseidon بنبتون Neptune وأرتميس Artemis بديانا Diana وهفستس Hephaestus بڤلكان Vulcan، وهرقل Heracle بهرقول Hercules، وهادس Hadesبپلوتون Pluto وهرمس Hermes بعطارد Mercury، وارتفع جوبتر بفضل بعض الشعراء إلى زيوس غير زيوس اليونان، فصار شاهد الأيمان الصارم وحارسها، وقاضي الأخلاق الملتحى، والقيم على القوانين، وإله الآلهة؛ وهيئت عقول الرومان المتعلمين على مهل لقبول عقائد التوحيد الرواقية واليهودية والمسيحية.
الكهنة
واستخدمت إيطاليا نظاماً من الكهنوت محكم الوضع لتضمن به معونة هؤلاء الأرباب. وكان الأب في منزله كاهناً، ولكن الصلوات العامة كان يرأسها جماعات (Collegia) من الكهنة، تملأ كل منها ما يخلو في صفوفها من الأماكن ويرأسها كلها حبر أعظم Pontifex Maximus تختاره الجمعية المئوية. ولم تكن عضوية هذه الكليات المقدسة تحتاج إلى تدريب خاص؛ بل كان في وسع كل مواطن أن ينضم إليها أو يخرج منها؛ ولم تكن تؤلف مرتبة أو طبقة منفصلة عن سائر المراتب أو الطبقات، ولم يكن لها أي سلطان سياسي عدا أن الدولة كانت تستخدمها أداة من أدواتها. وكانت تستولي على إيراد بعض أراضي الدولة لتستعين به على العيش، وكان لها عبيد يقومون على خدمتها؛ وقد أصبحت بتوالي الأجيال عظيمة الثراء بما كان يحسبها عليها أتقياء الناس من الأموال. وكانت الكلية الدينية الكبرى في القرن الثالث قبل المسيح تضم تسعة من الأعضاء، يحتفظون بالحوليات التاريخية، ويسجلون القوانين، ويقرءون الغيب، ويقربون القرابين، ويطهرون روما مرة في كل خمس سنوات. وكان يساعد هؤلاء الأحباء في القيام بالمراسم الرسمية خمسة عشر كاهناً آخر يسمون فلميني flamine- أي موقدي نيران الأضاحي.
وكان ثمة طوائف من الأحباء أقل من هؤلاء شأناً يؤدون واجبات خاصة: فالساليون Salii أو القافزون كانوا يستقبلون العام الجديد بنوع من الرقص المقدس للمريخ، والفتيالي fetiales يصدقون على عقد الصلح، وإعلان الحرب، واللوبرسي Luperci أو إخوان الذئاب يقومون بطقوس لوبركاليا Lupercalia العجيبة. وكانت طائفة العذارى الفستية Vestal Virgins تعني بموقد الدولة وترشه في كل يوم بالماء المقدس تأخذه من عين الحورية المقدسة إجريا Egeria؛ وكان هؤلاء الراهبات ذوات الثياب البيض والخُمرُ البيض يُ
خترن من بين الفتيات اللاتي تتراوح سنهن بين السادسة
والعاشرة، وكن يقسمن بأن يظللن عذارى في خدمة الإلهة فستا
ثلاثين سنة، وينلن في نظير هذا ضروباً من
الامتيازات والتكريم وإذا اقترفت إحداهن جريمة العلاقات الجنسية
ضربت بالعصى ودفنت وهي على قيد الحياة، وقد سجل المؤرخون
الرومان اثنتي عشرة جريمة من هذا النوع، فإذا قضين الثلاثين عاماً
كان لهن أن يتركن خدمة الإلهة ويتزوجن، ولكن قل منهن من كانت
تتاح لها هذه الفرصة أو تغتنمها إذا أتيحت لها.
وكانت أعظم طوائف الكهنة نفوذاً طائفة العرافين التسعة الذين كانوا يدرسون إدارة الآلهة ومقصدهم باتجاه الطيور في الأيام الأولى ، وبالفحص عن أحشاء الحيوانات المضحاة فيما بعد. فكان كبار الحكام "يستطلعون الطلع" قبل كل عمل هام من أعمال السياسة أو الحكم أو الحرب، ثم يفسر العرافون ما يجده الحكام، أو يفسره لهم مفتشو الأكباد hauruspices الذين تلقوا فنهم هذا من بلاد الكلدان أو من أمم قبلهم عن طريق إتروريا. ولم يكن الكهنة على الدوام بمنجاة من الإغراء بالمال، ولذلك كانوا في بعض الأحيان يوقفون بين أقوالهم وبين حاجات من يذهب لاستشارتهم. من ذلك أن أي قانون لا يتفق مع مصلحة طائفة أو جماعة من الناس كان يمكن تعطليه إذا قيل إن اليوم الذي ينظر فيه القانون يوم مشئوم لا يصلح العمل فيه، وكان في الاستطاعة إقناع الجمعية بالموافقة على إعلان الحرب إذا قيل لها أن اليوم الذي يطلب إليها إعلانها فيه يوم سعيد. وكانت الحكومة في الأزمات الخطيرة تدعى أنها تعرف ما تريده الآلهة بالرجوع إلى الكتب السبيلية Sibylline
وهي الكتب التي سجلت فيها نبوءات سيبيل Sibyl أو كاهنة أبلون
Apollo في كومية Cumae. وكان في وسع الأعيان أن يؤثروا في
الشعب بهذه الوسائل وبالرسل الذين كانوا يرسلونهم إلى هاتف
دلفي The oracle at Delphi في بعض الأحيان وبذلك يوجهونهم
في أي اتجاه يشاءون، ويكادون يبلغون كل غاية يبغونها. ولم يكن
يقصد بطقوس العبادات إلا أن تقدم هدية أو ضحية للآلهة لكسب
عونها أو اتقاء غضبها. وكان الكهنة يقولون إن الاحتفالات التي تقام
لهذا الغرض لا تثمر ثمرتها إلا إذا روعي فيها منتهى الدقة في
الأقوال والحركات، وهي دقة لا يستطيع غير الكهنة أن يشرفوا
عليها. وإذا وقع في طقس من هذه الطقوس أيّاً كان نوعه وجبت
إعادته من جديد ولو تطلب ذلك إعادته ثلاثين مرة. وكان معنى لفظ
Religio هو أداء الطقس الديني بالعناية التي يحتمها الدين.
الأضحية
وكان أهم ما في الاحتفال هو التضحية Sacrifice؛ ومعنى اللفظ مشتق من كلمة Cacer اللاتينية ومعناها ملك للإله. وكانت التضحية في البيت تتخذ عادة شكل قطعة من كعكة توضع على الموقد أو كمية من النبيذ تلقى في نار البيت، وتكون في القرية أول ثمرة تخرجها الأرض، وقد تكون كبشاً أو كلباً أو خنزيراً، وتكون في المناسبات الهامة فرساً أو خنزيراً أو شاة أو ثوراً، وكانت الثلاثة الحيوانات الأخيرة تذبح في أكبر المناسبات أهمية في عيد السو-أوڤه-طوريليه Su-ove-taur-illa (أي عيد الخنزير والشاة والثور). وكانوا يعتقدون أنه إذا تليت صيغ خاصة على التضحية استحالت إلى الإله الذي يراد منه أن يتقبلها؛ وعلى هذا الاعتبار كان الإله نفسه هو الذي يضحي به ؛ وإن كانت أحشاء الحيوان وحدها هي التي تحرق على المذبح؛ وكان الكهنة والناس يأكلون كل ما بقي منه، فقد كان هؤلاء يأملون أن تنتقل قوته ومجده إلى عبيده المحتفلين بعيده. وكان يضحي بالآدميين في بعض الأحيان؛ ومما يجدر ذكره أنه كان لابد من صدور قانون في عام 97 م لتحريم هذه العادة.
ثم حورت هذه الكفارة تحويراً يبيح للرجل أن يضحي بحياته للدولة كما فعل القنصل پپليوس ديسيوس Publius Decius وولده، وكما فعل مارخوس كورتيوس Marchus Curtius
إذ ألقي بنفسه في أخدود شقه زلزال في السوق العامة ليسكن
بذلك غضب القوى الأرضية الخفية، وتقول القصة بعد ذلك إن
الشق قد التحم وإن الأمور قد عادت إلى مجاريها. وكان احتفال
التطهير أكثر من هذه الطقوسمتعة؛ وكان هذا التطهير
يحدث للمحصولات الزراعية أو لقطعان الماشية أو المدينة. وكانت
الطريقة المتبعة في هذا الاحتفال أن يطوف موكب بالشيء المراد
تطهيره، ويقدم له الصلوات والذبائح، فيتطهر بذلك من المؤثرات
السيئة ويرد عنه الشر. ولم تكن الصلوات قد خلصت كل الخلاص
من الرقي السحرية؛ وكان اللفظ الذي يطلق عليها وهو كارمن
Carmen
يعني الأنشودة والرقية جميعاً؛ ويعترف بلني صراحة بأن الصلاة
ضرب من الأقوال السحرية. وإذا ما تليت الصيغة حسب الأصول
المرعية ووجهت إلى الإله الذي يجب أن توجه إليه حسب سجل
الآلهة indigitamenta
الذي جمعه الكهنة واحتفظوا به، فإن الرجاء لا بد أن يجاب؛
فإذا لم يجب فإن غلطة ما قد حدثت في الطقوس المرعية.
وقريب من السحر وذو صلة به الفوتا vota أو النذور التي كان يطلبون بها معونة الآلهة؛ وكانت هياكل عظمية تشاد في بعض الأحيان وفاء بهذه النذور. وتوحي النذور الكثيرة التي كشفت بين مخلفات الرومان على أن الدين كان يملأ قلوبهم، وعلى أنه كان يمتزج به ويلطفه تقي وشكر على النعم، وشعور بالصلة القوية بين الناس وبين قوى الطبيعة الخفية، ورغبة أكيدة في أن يكون الناس على وفاق مع هذه القوى جميعها. هذا ما كان للدين من أثر في قلوب الشعب، أما دين الدولة فكان على النقيض من هذا، كان شكلياً جامداً، لا يعدو أن يكون نوعاً من العلاقة القانونية التعاقدية بين الحكومة والآلهة. ولما أن تسربت إلى البلاد أديان جديدة من الشرق المغلوب، كان أول ما تضعضع في الدولة الرومانية هو هذا الدين الرسمي، أما الإيمان العميق ذو المظاهر الجميلة الجذابة، والطقوس المنتشرة في الريف، فقد ظلت تقاوم الأغلال في صبر وعناد طويلين. ولما تغلب الدين المسيحي في آخر الأمر استسلم بعض الاستسلام إلى هذا الإيمان الريفي القديم فأخذ عنه كثيراً من عقائده وطقوسه، وكان ذلك الأخذ عن حكمة وأصالة رأي، ولا تزال هذه الطقوس باقية في العالم المسيحي إلى هذه الأيام، وإن تشكلت بأشكال جديدة وعبر عنها بألفاظ غير الألفاظ القديمة.
تعليق