الحصــار الكبيــر
بعد موت فيليب خلفه ابنه الاسكندر عام 336 ق.م ، ملكا ً على مقدونيا، وعمره عشرون عاما ً .
ويحتاج الاسكندر الى سنتين ليوحد البلاد اليونانية كلها تحت قيادته ، ويبدأ بلاستعداد لغزو اسيا ، ويلتقي بجيوش داريوس الثالث في ايسوس ( قرب الاسكندرون ) حيث يحرز نصرا ً ساحقا ً عل جيوش فارس ويفر داريوس الثالث هاربا ً الى ما وراء الفرات تاركا ً زوجته وأمه اسيرتين في يد الاسكندر .
وعندما بدأ الملك المقدوني مسيرته على محاذاة الشاطئ الفينيقي كانت صور لاتزال تعتبر نفسها لا تقهر ، ويلتقي بطريقه بستراتون ابن ملك أرواد الذي ليقدم له مع تاج من الذهب الخالص المدينة وكل ما يخضع لسيطرة ملكها جرعشترت الذي كان في البحر الايجي يقود اسطوله في خدمة ملك الفرس .
وبعد أن يستريح المقدونيين في ماراتوس ( مدينة فينيقية قرب ارواد ) يتابعون سيرهم الى جبيل التي تستسلم في الحال ، وكذلك تفعل صيدون التي تستقبله بحفاوة بالغة ، فيعزل ملكها ستراتو ويعهد بالملك الى عبدلونيم ، من اعضاء الاسرة المالكة القديمة ، الذي كان يعيش يومها في فقر مدقع .
" أما صور التي اشتهرت منذ القدم بين كل مدن سوريا بعظمتها وقوتها ، فكانت تميل الى عقد معاهدة مع الاسكندر لا الى الخضوع له ، ولذا ارسلت مع وفدها تاجا ً من الذهب وكثيرا من المؤن الغذائية لجنده ، فيأمر بقبول الهدايا باعتبارها من اصدقاء ويظهر حفاوة بالرسل ويبلغهم رغبته في تقديم القرابين لهرقل ، في هيكله الذي يحمي جزيرة الصوريين بوجوده عليها "
ولكن الصوريين الذين لا يريدون أن يسمحوا لمقدوني او فارسي بدخول مدينتهم ، مفضلين عليها حيادا ً تاما ً بين العدوين المتطاحنين ، ينصحون سليل هرقل – كما كان الاسكندر يعتبر نفسه – بأن يضحي في هيكل صور البرية زاعمين بأنه اقدم بكثير من هيكل الجزيرة وأن تقديم القرابين في هيكل الجزيرة هو من حقوق ملوك الصوريين فقط.
كل هذا من جانب الصوريين للمحافظة على حريتهم وصيانتها ، وقد شجعهم على هذا الموقف والمضي فيه وصول وفد قرطاجي حضر للمشاركة بالاحتفال بعيد ملقرت السنوي ، دعاهم الى الثبات في وجه الاسكندر ، واعدا بالمساعدات التي ستأتي عن قريب من قرطاجة.
ولكن الاسكندر كان يعتبر السيطرة المطلقة على الجزيرة كقاعدة بحرية ، ضرورة حربية ذات اهمية بالغة ، ولذا يصمم على فتحها مهما يكلفه ذلك .
وصور المبنية على صخرة في وسط البحر ، مع منازلها ذات الطبقات الكثيرة ، كانت محاطة بجدران من الحجارة الضخمة ، يبلغ ارتفاعها مئة وخمسين قدما ً وترتفع فوقها ابراج تسهل على حماتها مهمة الدفاع عنها ، بينما كانت صفوف السفن متأهبة لسد الطريق بوجه من لا ترضى عنه " وكانت المدينة لا تؤخذ من البر إذ كان يفصلها عنه قناة يتراوح عرضها بين ثلاثة واربعة ملاعب ، والبحر الذي يحيط بالجزيرة كان على جانب كبير من العمق ، ولم يكن عنده مكان لنصب السلالم وتسلق الاسوار ، إذ كانت هذه تنزلق حتى البحر ولا تترك مكانا ً لقدم . الى جانب هذه الصعوبة لم يكن للملك سفن يستطيع بواسطتها قذف ابراج المدينة، ولو حصل على بعضها ، فعدم ثباتها وتلاعب الامواج بها يجعلان قذائفها اقل فعالية، عدا عن امكان اصابتها ورد ضرباتها "
" ولم يبقَ امام الاسكندر سوى ردم القناة البحرية التي تفصل بين الجزيرة والبر ، ويستولي اليأس على جنوده عندما يتحققون من عمق البحر الذي يصعب حتى على الالهة ردمه ، ولكن الاسكندر الخبير بمعاملة جنده ، يعرف كيف يستثير حميتهم " .
ويجمع الاسكندر قواده ويروي لهم أن جده هرقل ظهر له في الحلم واقفا ً على اسوار المدينة مادا ً يمناه ليقوده بها الى الداخل ، ثم يلقي بهم كلمة بليغة يثير فيها حماستهم ويذكرهم بأن هذه المدينة هي الوحيدة التي تجاسرت على مجابهتهم وإيقاف موجة انتصاراتهم ، ثم دعاهم الى حث الرجال على العمل وإلى عدم التهاون معهم . وفي كانون الثاني سنة 332 ق م ، وبهذه الروح ، تبدأ اعمال الحصار .
ويراقب الاسكندر من خيمته المنصوبة على البر الصوري سير الاعمال ، فمشروعه يتطلب مساهمة عشرات الالوف من الايدي العاملة ، ويبدأ جنوده بنقل انقاض صور البرية ، ثم يحولون أنظارهم الى غابات لبنان القريبة ليقطعوا منها الصخور والاشجار اللازمة ، ويضحك الصوريون من جهود محاصريهم وتحديهم لاله اليم ولحامي مدينتهم.
" ويظهر بعد مدة قسم صغير من السد فوق سطح الماء ، ويدرك عندها الصوريون أي خطر يتهددهم إذا استطاع العدو انجاز البناء ، فيبدأون بارسال قوارب قتال خفيفة الى جانبي السد ، ويرمون العمال بالسهام ، فيقتلوا ويجرحوا كثيرين منهم ، فيتولى قسم منهم مهمة الدفاع عن العمال ضد هجمات الصوريين ، بينما اخذ السد كلما ازداد بعدا ً عن الشاطئ يلتهم كميات اكثر من الانقاض والاخشاب . "
ويهيئ الصوريون سفينة كبيرة يملؤنها بالزفت والكبريت ويجذفون بها لى السد ثم يشعلون النار فيها ويقفزون الى الزوارق التي سحبوها معهم ، وتساعد رياح تهب في هذه الاثناء على نشر اللهب ومد النيران بسرعة . وقبل أن يتمكن احد من العمال من عمل شيئ لحصرها تمتد الى جميع المنشآت على السد ملتهمة كل ما تجده امامها .
ويعيد الاسكندر الثقة الى نفوس رجاله التي دب فيها اليأس ، ويضع الخطط لبناء سد اعرض من السابق ولابراج وآلات حصار بعجلات يمكن دفعها كلما تقدم البناء .
أما الصوريون فلا يتركون وسيلة لعرقلة الاعمال ، فكان الغطاسون يسبحون تحت السد مثبتين خطافاتهم بغصون الاشجار وفروعها تحت المياه ، ثم يرجعون الى قواعدهم ويسحبون ما علق في الخطافات ، جارفة كل ما عليها وما حولها الى الاعماق .
ويذهب الاسكندر الى صيدون لجمع الاساطيل الفينيقية التي تركت الاميرال الفارسي بعد موقعة ايسوس ، وتضم ارواد وجبيل وصيدون ورودس اساطيلها الى اسطول برونياس الذي كان يقود اساطيل كيليكيا ومقدونيا ، وكانت مهمته محاصرة صور من البحر بسفنه المئتين وخمسين ، والتصدي عند اللزوم للسفن الصورية التي نشكل سدا ً منيعا ً عند مدخل المينائين.
" وبينما كان الاسكندر يسلح قطعه البحرية ويهيئ آلات القذف والهجوم ، يصل الى مسامعه ان عربا ً من لبنان فاجأوا ثلاثين من رجاله المكلفين بقطع الاشجار من الغابات المجاورة فقتلوهم وأسروا غيرهم " .
ويصل الى صور في هذه الاثناء ثلاثون مبعوثا ً قرطاجيا ً معلنين ان مدينتهم لن تتمكن من ايفاد النجدات لانشغالها هي الاخرى بالحرب .
ويروي احد الصوريين حلمه الذي رأى فيه ابولو – وكانوا يجلونه كثيرا ً – يغادر صور، فيعمدون الى ربط تمثاله بسلاسل ذهبية الى مذبح هرقل ، الذي كانت صور مدينته ، كما لو أن هذا الاله سيمسك بأبولو ويمنعه من الذهاب .
" وهدتهم الحاجة الى استنباط وسائل جديدة للدفاع ، إذ كانوا يربطون الخطافات ومراسي السفن الى عواميد وصواري ويرمونها فجأة على السفن المقتربة ، كما أن الرماح والفؤوس والمناجل المربوطة الى الاخشاب كانت تلحق اضرارا ً كثيرة بالمحاربين والسفن . وكانت لديهم قدور كبيرة من الحديد تملأ بالرمل المتوهج والكبريت المغلي وتصب فجأة من اعلى الاسوار، وما من شر كان يخشى اكثر من هذا الرمل الذي كان يحرق كل ما في طريقه وحباته تغرز في الدروع والاجساد . أما الخطافات والمراسي ، فكانت تسحب بعد رميها جارفة معها المقاتلين واجزاء من السفن ، واحيانا ً سفنا ً بكاملها " .
وهكذا بدأ الملك يفكر بفك الحصار ومتابعة الزحف على مصر ، إذ بعد ان اخضع آسيا كلها بسرعة لا مثيل لها اضطر للوقوف امام اسوار هذه المدينة مضيعا ً احسن الفرص لاتمام كثير من مشاريعه الهامة ، ولكن خجله من الذهاب دون التغلب على عناد صور كان يعادل الصعوبات التي يلقاها امام اسوارها ، وكان يخشى على اسمه وشهرته الحربية التي كانت افعل من السلاح فيما لو ترك صور وتابع الزحف ، ولكان هذا برهاناً بامكان التغلب عليه .
ويظهر خلال هذه المدة الى جانب السد وحش بحري غريب فتتفاءل به الجهتان ، إذ يفسره المقدونيون بأنه يبين لهم الاتجاه لمتابعة بناء السد ، بينما يعتبره الصوريون تهديداً من نبتون الذي يريد أن ينتقم من الغزاة لعبثهم بالبحر ، وأنه سوف يدمر لهم السد عن قريب .
ويقوم الصوريون في الصيف بعملية مفاجئة لفك الحصار ، فيفرقوا شمل السفن القبرصية ويغرقوا بعضها ، ولكن الاسكندر بمقدرته الحربية ، يطيح بهذا النصر الضئيل الذي يحرزه الصوريون على سفن العدو .
وعلى السفن والزوارق وعلى السد الذي انتهى بناؤه نصبت آلات الهجوم ، وبينها ابراج ديادس وكارياس ذات العشرين طابقا ً والتي يبلغ ارتفاع كل منها ثلاثة وخمسين مترا ً وتـُجر على ثماني عجلات ، لتشرف على اسوار المدينة التي ترتفع أربعة وأربعين متراً والتي فاقت كل ما بني من آلات الحصار حتى ذلك العهد .
ويظهر مخططو الإسكندر العسكريون ذكاء ً وبراعة ً لا يقلان عن براعة وفطنة المحاصرين المدافعين بصلابة وعناد عن مدينتهم ، إذ يفتح المهاجمون ثغرة في احد الجدران سرعان ما يسدها ابناء الجزيرة بإقامة جدار كامل وراءها .
ومع شهر آب يبدأ الهجوم العام فتزعزع آلات الحصار الجدار الجنوبي ، ومن السفن حاملة الجنود ترمى السلالم المتسلقة على الابراج ، ويستولي أدميتوس قائد الاسكندر على أحدها ولكنه يسقط تحت ضربات المدافعين ، فيحل ملكه محله ، ويحتل برجين من ابراج الجزيرة ثم يتقدم على رأس جنوده الى القصر الملكي .
وتتمكن سفن الصيدونيين والجبيليين والارواديين من فتح المرفأ الجنوبي بينما تهاجم سفن القبارصة المرفأ الشمالي وتملأ دفقات المهاجمين الجزيرة .
" أما الصوريون الذين احدقت بهم الاخطار من جميع الجهات ، فقد انسحبوا اما الى الهياكل او الى بيوتهم لمتابعة القتال ، كما أن بعضهم رمى نفسه بين المهاجمين كي لا يقضي دون ان ينتقم من الغزاة ، وكثيرون منهم صعدوا الى سطوح بيوتهم وأخذوا يقذفون منها بالحجارة والصخور وبكل ما تقع عليه ايديهم " .
" ويأمر الاسكندر بإضرام النار في البيوت وبقتل الجميع ، بإستثناء من يحتمي في احد منشآت صور المقدسة . وبالرغم من أن المنادين أعلنوا ذلك مرارا ً ، فلم يلجأ احد من المدافعين ليحتمي بالآلهة ، بل وقف كل واحد أمام بيته ، متأهبا ً لصد المهاجمين حتى النفس الاخير " .
" أما الدماء التي سالت ذلك اليوم فيمكن تقديرها من عدد المحاربين الذين سقطوا امام الاجنوريوم ( بيت آجنور ) وكانوا ثمانية آلاف ، ومن الالفين الذين ابقى عليهم تعب المقدونيين من سفك الدماء ، فأمر الاسكندر بصلبهم على محاذاة الشاطئ " ويباع ثلاثون الفا ً من الناجين ، بينما يهرب آخرون على سفن صيدونية تحركت ضمائر ربابنتها فجأة ذاكرين صلات القربى التي تربطهم بأبناء صور . وينجو آخرون ، بينهم الملك والهيئة الادارية والوفد القرطاجي للجوئهم الى هيكل ملقرت .
ويختتم المؤرخ الروماني وصفه للحصار بقوله : " وتسقط صور في الشهر السابع من بدء الحصار (آب 332ق م ) ، هذه المدينة التي اسسها آجنور والتي سيطرت ازمانا ً طويلة على البحار التي وصلت اليها سفنها . وإذا كان للمرء أن يصدق الأساطير ، فإن الصوريين كانوا اول من علـّم او تعلـّم الألفباء. ومن الثابت أن مدنهم كانت منتشرة في جميع انحاء العالم : قرطاجة في افريقيا ، وثيبا التي اسسها قدموس بن آجنور في البيوسي (بويوتيا) وقادش على الاوقيانيوس " .
وفي اقدس واشهر وأكبر معابد الجزيرة ، هيكل ملقرت المشهور بعموديه اللذين يرمزان الى اعمدة ملقرت على ابواب المحيط ، قدم الاسكندر الضحايا والقرابين أمام جنده المدجج بالسلاح ، بينما كانت السفن مزينة بالاعلام والانوار تتهادى اما الجزيرة ، تكريما ً لإله صور وشكرا ً له ، كما أن مباريات رياضية وسباقات بالمشاعل اقيمت أمام هيكله .
أما برج الحصار الذي احدث الفجوة الاولى في الاسوار ، وأعلام الفرق ، وسفينة هرقل المقدسة التي غنمها الاسكندر عند هجومه على المدينة ، فيقدمها لهيكل الاله بخشوع كبير.
ويأمر بإعادة بناء المدينة التي احترق قسم كبير منها ، لتصبح قاعدة ومركزاً للقوى المقدونية على الشاطئ الفينيقي ، ويعيد إسكانها بابناء البلاد وبجماعات من الاغريق ، ثم يعزل ملكها عزيملكوس ، لميله للفرس ، ويعين عبدلونيم ، أحد أعضاء الاسرة المالكة ، محله . وبخلع عزيملكوس عن عرش صور ، نصل الى نهاية قائمة ملوك صور الابطال الذين بقيادتهم وحكمتهم توصلت صور الى ان تبقى قرونا ً طويلة ملكة البحار .
وعند رجوع الاسكندر من مصر في خريف 331 مرَّ على صور وقدم القرابين ثانية لهرقل، ونظم احتفالات موسيقية ومسابقات رياضية ، اكراما ً لإله صور .
رسم يظهر جزيرة صور واسوارها ومرفأيها وقوات الاسكندر تحاصرها
رسم يظهر اسوار صور العظيمة وابراج الحصار التي بناها جيش الاسكندر
بعد موت فيليب خلفه ابنه الاسكندر عام 336 ق.م ، ملكا ً على مقدونيا، وعمره عشرون عاما ً .
ويحتاج الاسكندر الى سنتين ليوحد البلاد اليونانية كلها تحت قيادته ، ويبدأ بلاستعداد لغزو اسيا ، ويلتقي بجيوش داريوس الثالث في ايسوس ( قرب الاسكندرون ) حيث يحرز نصرا ً ساحقا ً عل جيوش فارس ويفر داريوس الثالث هاربا ً الى ما وراء الفرات تاركا ً زوجته وأمه اسيرتين في يد الاسكندر .
وعندما بدأ الملك المقدوني مسيرته على محاذاة الشاطئ الفينيقي كانت صور لاتزال تعتبر نفسها لا تقهر ، ويلتقي بطريقه بستراتون ابن ملك أرواد الذي ليقدم له مع تاج من الذهب الخالص المدينة وكل ما يخضع لسيطرة ملكها جرعشترت الذي كان في البحر الايجي يقود اسطوله في خدمة ملك الفرس .
وبعد أن يستريح المقدونيين في ماراتوس ( مدينة فينيقية قرب ارواد ) يتابعون سيرهم الى جبيل التي تستسلم في الحال ، وكذلك تفعل صيدون التي تستقبله بحفاوة بالغة ، فيعزل ملكها ستراتو ويعهد بالملك الى عبدلونيم ، من اعضاء الاسرة المالكة القديمة ، الذي كان يعيش يومها في فقر مدقع .
" أما صور التي اشتهرت منذ القدم بين كل مدن سوريا بعظمتها وقوتها ، فكانت تميل الى عقد معاهدة مع الاسكندر لا الى الخضوع له ، ولذا ارسلت مع وفدها تاجا ً من الذهب وكثيرا من المؤن الغذائية لجنده ، فيأمر بقبول الهدايا باعتبارها من اصدقاء ويظهر حفاوة بالرسل ويبلغهم رغبته في تقديم القرابين لهرقل ، في هيكله الذي يحمي جزيرة الصوريين بوجوده عليها "
ولكن الصوريين الذين لا يريدون أن يسمحوا لمقدوني او فارسي بدخول مدينتهم ، مفضلين عليها حيادا ً تاما ً بين العدوين المتطاحنين ، ينصحون سليل هرقل – كما كان الاسكندر يعتبر نفسه – بأن يضحي في هيكل صور البرية زاعمين بأنه اقدم بكثير من هيكل الجزيرة وأن تقديم القرابين في هيكل الجزيرة هو من حقوق ملوك الصوريين فقط.
كل هذا من جانب الصوريين للمحافظة على حريتهم وصيانتها ، وقد شجعهم على هذا الموقف والمضي فيه وصول وفد قرطاجي حضر للمشاركة بالاحتفال بعيد ملقرت السنوي ، دعاهم الى الثبات في وجه الاسكندر ، واعدا بالمساعدات التي ستأتي عن قريب من قرطاجة.
ولكن الاسكندر كان يعتبر السيطرة المطلقة على الجزيرة كقاعدة بحرية ، ضرورة حربية ذات اهمية بالغة ، ولذا يصمم على فتحها مهما يكلفه ذلك .
وصور المبنية على صخرة في وسط البحر ، مع منازلها ذات الطبقات الكثيرة ، كانت محاطة بجدران من الحجارة الضخمة ، يبلغ ارتفاعها مئة وخمسين قدما ً وترتفع فوقها ابراج تسهل على حماتها مهمة الدفاع عنها ، بينما كانت صفوف السفن متأهبة لسد الطريق بوجه من لا ترضى عنه " وكانت المدينة لا تؤخذ من البر إذ كان يفصلها عنه قناة يتراوح عرضها بين ثلاثة واربعة ملاعب ، والبحر الذي يحيط بالجزيرة كان على جانب كبير من العمق ، ولم يكن عنده مكان لنصب السلالم وتسلق الاسوار ، إذ كانت هذه تنزلق حتى البحر ولا تترك مكانا ً لقدم . الى جانب هذه الصعوبة لم يكن للملك سفن يستطيع بواسطتها قذف ابراج المدينة، ولو حصل على بعضها ، فعدم ثباتها وتلاعب الامواج بها يجعلان قذائفها اقل فعالية، عدا عن امكان اصابتها ورد ضرباتها "
" ولم يبقَ امام الاسكندر سوى ردم القناة البحرية التي تفصل بين الجزيرة والبر ، ويستولي اليأس على جنوده عندما يتحققون من عمق البحر الذي يصعب حتى على الالهة ردمه ، ولكن الاسكندر الخبير بمعاملة جنده ، يعرف كيف يستثير حميتهم " .
ويجمع الاسكندر قواده ويروي لهم أن جده هرقل ظهر له في الحلم واقفا ً على اسوار المدينة مادا ً يمناه ليقوده بها الى الداخل ، ثم يلقي بهم كلمة بليغة يثير فيها حماستهم ويذكرهم بأن هذه المدينة هي الوحيدة التي تجاسرت على مجابهتهم وإيقاف موجة انتصاراتهم ، ثم دعاهم الى حث الرجال على العمل وإلى عدم التهاون معهم . وفي كانون الثاني سنة 332 ق م ، وبهذه الروح ، تبدأ اعمال الحصار .
ويراقب الاسكندر من خيمته المنصوبة على البر الصوري سير الاعمال ، فمشروعه يتطلب مساهمة عشرات الالوف من الايدي العاملة ، ويبدأ جنوده بنقل انقاض صور البرية ، ثم يحولون أنظارهم الى غابات لبنان القريبة ليقطعوا منها الصخور والاشجار اللازمة ، ويضحك الصوريون من جهود محاصريهم وتحديهم لاله اليم ولحامي مدينتهم.
" ويظهر بعد مدة قسم صغير من السد فوق سطح الماء ، ويدرك عندها الصوريون أي خطر يتهددهم إذا استطاع العدو انجاز البناء ، فيبدأون بارسال قوارب قتال خفيفة الى جانبي السد ، ويرمون العمال بالسهام ، فيقتلوا ويجرحوا كثيرين منهم ، فيتولى قسم منهم مهمة الدفاع عن العمال ضد هجمات الصوريين ، بينما اخذ السد كلما ازداد بعدا ً عن الشاطئ يلتهم كميات اكثر من الانقاض والاخشاب . "
ويهيئ الصوريون سفينة كبيرة يملؤنها بالزفت والكبريت ويجذفون بها لى السد ثم يشعلون النار فيها ويقفزون الى الزوارق التي سحبوها معهم ، وتساعد رياح تهب في هذه الاثناء على نشر اللهب ومد النيران بسرعة . وقبل أن يتمكن احد من العمال من عمل شيئ لحصرها تمتد الى جميع المنشآت على السد ملتهمة كل ما تجده امامها .
ويعيد الاسكندر الثقة الى نفوس رجاله التي دب فيها اليأس ، ويضع الخطط لبناء سد اعرض من السابق ولابراج وآلات حصار بعجلات يمكن دفعها كلما تقدم البناء .
أما الصوريون فلا يتركون وسيلة لعرقلة الاعمال ، فكان الغطاسون يسبحون تحت السد مثبتين خطافاتهم بغصون الاشجار وفروعها تحت المياه ، ثم يرجعون الى قواعدهم ويسحبون ما علق في الخطافات ، جارفة كل ما عليها وما حولها الى الاعماق .
ويذهب الاسكندر الى صيدون لجمع الاساطيل الفينيقية التي تركت الاميرال الفارسي بعد موقعة ايسوس ، وتضم ارواد وجبيل وصيدون ورودس اساطيلها الى اسطول برونياس الذي كان يقود اساطيل كيليكيا ومقدونيا ، وكانت مهمته محاصرة صور من البحر بسفنه المئتين وخمسين ، والتصدي عند اللزوم للسفن الصورية التي نشكل سدا ً منيعا ً عند مدخل المينائين.
" وبينما كان الاسكندر يسلح قطعه البحرية ويهيئ آلات القذف والهجوم ، يصل الى مسامعه ان عربا ً من لبنان فاجأوا ثلاثين من رجاله المكلفين بقطع الاشجار من الغابات المجاورة فقتلوهم وأسروا غيرهم " .
ويصل الى صور في هذه الاثناء ثلاثون مبعوثا ً قرطاجيا ً معلنين ان مدينتهم لن تتمكن من ايفاد النجدات لانشغالها هي الاخرى بالحرب .
ويروي احد الصوريين حلمه الذي رأى فيه ابولو – وكانوا يجلونه كثيرا ً – يغادر صور، فيعمدون الى ربط تمثاله بسلاسل ذهبية الى مذبح هرقل ، الذي كانت صور مدينته ، كما لو أن هذا الاله سيمسك بأبولو ويمنعه من الذهاب .
" وهدتهم الحاجة الى استنباط وسائل جديدة للدفاع ، إذ كانوا يربطون الخطافات ومراسي السفن الى عواميد وصواري ويرمونها فجأة على السفن المقتربة ، كما أن الرماح والفؤوس والمناجل المربوطة الى الاخشاب كانت تلحق اضرارا ً كثيرة بالمحاربين والسفن . وكانت لديهم قدور كبيرة من الحديد تملأ بالرمل المتوهج والكبريت المغلي وتصب فجأة من اعلى الاسوار، وما من شر كان يخشى اكثر من هذا الرمل الذي كان يحرق كل ما في طريقه وحباته تغرز في الدروع والاجساد . أما الخطافات والمراسي ، فكانت تسحب بعد رميها جارفة معها المقاتلين واجزاء من السفن ، واحيانا ً سفنا ً بكاملها " .
وهكذا بدأ الملك يفكر بفك الحصار ومتابعة الزحف على مصر ، إذ بعد ان اخضع آسيا كلها بسرعة لا مثيل لها اضطر للوقوف امام اسوار هذه المدينة مضيعا ً احسن الفرص لاتمام كثير من مشاريعه الهامة ، ولكن خجله من الذهاب دون التغلب على عناد صور كان يعادل الصعوبات التي يلقاها امام اسوارها ، وكان يخشى على اسمه وشهرته الحربية التي كانت افعل من السلاح فيما لو ترك صور وتابع الزحف ، ولكان هذا برهاناً بامكان التغلب عليه .
ويظهر خلال هذه المدة الى جانب السد وحش بحري غريب فتتفاءل به الجهتان ، إذ يفسره المقدونيون بأنه يبين لهم الاتجاه لمتابعة بناء السد ، بينما يعتبره الصوريون تهديداً من نبتون الذي يريد أن ينتقم من الغزاة لعبثهم بالبحر ، وأنه سوف يدمر لهم السد عن قريب .
ويقوم الصوريون في الصيف بعملية مفاجئة لفك الحصار ، فيفرقوا شمل السفن القبرصية ويغرقوا بعضها ، ولكن الاسكندر بمقدرته الحربية ، يطيح بهذا النصر الضئيل الذي يحرزه الصوريون على سفن العدو .
وعلى السفن والزوارق وعلى السد الذي انتهى بناؤه نصبت آلات الهجوم ، وبينها ابراج ديادس وكارياس ذات العشرين طابقا ً والتي يبلغ ارتفاع كل منها ثلاثة وخمسين مترا ً وتـُجر على ثماني عجلات ، لتشرف على اسوار المدينة التي ترتفع أربعة وأربعين متراً والتي فاقت كل ما بني من آلات الحصار حتى ذلك العهد .
ويظهر مخططو الإسكندر العسكريون ذكاء ً وبراعة ً لا يقلان عن براعة وفطنة المحاصرين المدافعين بصلابة وعناد عن مدينتهم ، إذ يفتح المهاجمون ثغرة في احد الجدران سرعان ما يسدها ابناء الجزيرة بإقامة جدار كامل وراءها .
ومع شهر آب يبدأ الهجوم العام فتزعزع آلات الحصار الجدار الجنوبي ، ومن السفن حاملة الجنود ترمى السلالم المتسلقة على الابراج ، ويستولي أدميتوس قائد الاسكندر على أحدها ولكنه يسقط تحت ضربات المدافعين ، فيحل ملكه محله ، ويحتل برجين من ابراج الجزيرة ثم يتقدم على رأس جنوده الى القصر الملكي .
وتتمكن سفن الصيدونيين والجبيليين والارواديين من فتح المرفأ الجنوبي بينما تهاجم سفن القبارصة المرفأ الشمالي وتملأ دفقات المهاجمين الجزيرة .
" أما الصوريون الذين احدقت بهم الاخطار من جميع الجهات ، فقد انسحبوا اما الى الهياكل او الى بيوتهم لمتابعة القتال ، كما أن بعضهم رمى نفسه بين المهاجمين كي لا يقضي دون ان ينتقم من الغزاة ، وكثيرون منهم صعدوا الى سطوح بيوتهم وأخذوا يقذفون منها بالحجارة والصخور وبكل ما تقع عليه ايديهم " .
" ويأمر الاسكندر بإضرام النار في البيوت وبقتل الجميع ، بإستثناء من يحتمي في احد منشآت صور المقدسة . وبالرغم من أن المنادين أعلنوا ذلك مرارا ً ، فلم يلجأ احد من المدافعين ليحتمي بالآلهة ، بل وقف كل واحد أمام بيته ، متأهبا ً لصد المهاجمين حتى النفس الاخير " .
" أما الدماء التي سالت ذلك اليوم فيمكن تقديرها من عدد المحاربين الذين سقطوا امام الاجنوريوم ( بيت آجنور ) وكانوا ثمانية آلاف ، ومن الالفين الذين ابقى عليهم تعب المقدونيين من سفك الدماء ، فأمر الاسكندر بصلبهم على محاذاة الشاطئ " ويباع ثلاثون الفا ً من الناجين ، بينما يهرب آخرون على سفن صيدونية تحركت ضمائر ربابنتها فجأة ذاكرين صلات القربى التي تربطهم بأبناء صور . وينجو آخرون ، بينهم الملك والهيئة الادارية والوفد القرطاجي للجوئهم الى هيكل ملقرت .
ويختتم المؤرخ الروماني وصفه للحصار بقوله : " وتسقط صور في الشهر السابع من بدء الحصار (آب 332ق م ) ، هذه المدينة التي اسسها آجنور والتي سيطرت ازمانا ً طويلة على البحار التي وصلت اليها سفنها . وإذا كان للمرء أن يصدق الأساطير ، فإن الصوريين كانوا اول من علـّم او تعلـّم الألفباء. ومن الثابت أن مدنهم كانت منتشرة في جميع انحاء العالم : قرطاجة في افريقيا ، وثيبا التي اسسها قدموس بن آجنور في البيوسي (بويوتيا) وقادش على الاوقيانيوس " .
وفي اقدس واشهر وأكبر معابد الجزيرة ، هيكل ملقرت المشهور بعموديه اللذين يرمزان الى اعمدة ملقرت على ابواب المحيط ، قدم الاسكندر الضحايا والقرابين أمام جنده المدجج بالسلاح ، بينما كانت السفن مزينة بالاعلام والانوار تتهادى اما الجزيرة ، تكريما ً لإله صور وشكرا ً له ، كما أن مباريات رياضية وسباقات بالمشاعل اقيمت أمام هيكله .
أما برج الحصار الذي احدث الفجوة الاولى في الاسوار ، وأعلام الفرق ، وسفينة هرقل المقدسة التي غنمها الاسكندر عند هجومه على المدينة ، فيقدمها لهيكل الاله بخشوع كبير.
ويأمر بإعادة بناء المدينة التي احترق قسم كبير منها ، لتصبح قاعدة ومركزاً للقوى المقدونية على الشاطئ الفينيقي ، ويعيد إسكانها بابناء البلاد وبجماعات من الاغريق ، ثم يعزل ملكها عزيملكوس ، لميله للفرس ، ويعين عبدلونيم ، أحد أعضاء الاسرة المالكة ، محله . وبخلع عزيملكوس عن عرش صور ، نصل الى نهاية قائمة ملوك صور الابطال الذين بقيادتهم وحكمتهم توصلت صور الى ان تبقى قرونا ً طويلة ملكة البحار .
وعند رجوع الاسكندر من مصر في خريف 331 مرَّ على صور وقدم القرابين ثانية لهرقل، ونظم احتفالات موسيقية ومسابقات رياضية ، اكراما ً لإله صور .
رسم يظهر جزيرة صور واسوارها ومرفأيها وقوات الاسكندر تحاصرها
رسم يظهر اسوار صور العظيمة وابراج الحصار التي بناها جيش الاسكندر
تعليق