بسم الله الرحمن الرحيم
الدولة المدنية
الحمد لله الذي جعل الدين حاكماً بالحق والعدل، وبرهن على علوه وصلاحه بما أقرته العقول، ولم يخله مما يصلح عباده بما لا يعارض مدنيتهم وتطورهم، فهو ملائم لكل زمان ومكان، وكل فكر سليم صحيح، ومهما بلغت العقول من وضع قوانين للدين والدنيا، فلن تصل ما أحكم فيه، لأنه ممن لا يخفى عليه صلاح الأمم وما يصلحهم.
ومما شاع فيه الكلام هذه الأيام، الدولة المدنية، وهل الإسلام جاء بالدولة المدنية أم الدينية، وقد تباينت كلمات الناس في ذلك، وحتى نصل إلى الجواب فلا بد من إلماحة حول مفهوم الدولة عموماً، ثم المدنية خصوصاً، ثم نبين حقيقةالدولة الإسلامية فيما نراه والله أعلم.
الدولة: هي تجمع بشري عمراني، قائم على التعاون والانقياد لجهة معينة ضمن قوانين ونظم معينة، ينتج عنها حياة فيها كمال بحسبه.
ولها أشكال كثيرة سابقاً ولاحقاً، وهي في هذا الزمان:
* منها ما هو شمولي استبدادي، وهذه هي الدولة الشيوعية الاشتراكية، سواءسميت بروسيا أو الصين أو سوريا أو إيران أو غيرها، لأنها تمارس كل أنواع التجبر حسب المتاح لها، فأن عدلت عن ذلك كان من باب التخطيط والمرحلية فقط.
*ومنها الدولة الرأسمالية، وهي دولة تقوم على حفظ حقوق الأفراد في الدين والملكية، لاعتمادها على الديمقراطية في الحكم، لكنها ـ وإن كانت لا تعادي الأديان ـ فأنها تبيح التدين ولو بالزندقة، كل دولة بحسبها، سواء سميت بريطانيا أو أمريكا أو فرنسا أو غير ذلك.
* ومنها الدولة الدينية، وهي دولة يحكمها الدين، سواء في دستورها ونظام ملكها، أو بين الأفراد، سواء طبقت أحكام الدين كاملة أم قصر فيها أصحابها، وليس هناك على هذا المبدأ فيما أعلم سوى المملكة العربية السعودية ـ حماها الله تعالى ـ وأما دعوى: أن السودان وإيران دول دينية إسلامية، كما زعم الشيخ القرضاوي، فهذا إما من الجهل والمكابرة، أو من خداع المسلمين، لأن السودان دولة أقرب إلى الشيوعية والبعثية، وأما إيران، فهي يصح قولنا فيها: دولة دينية فارسية، وليس إسلامية، مع أنها في نفس الوقت دولة شيوعية اشتراكية،ويقرب منها الدولة اليهودية، فهي وإن زعمت الديمقراطية لكنها في حقيقة الأمر دولة دينية مستبدة شيوعية توراتية حتى النخاع، إلا في الظاهر، حتى لا تفقد الدعم الأمريكي وغيره.
هذا والدولة الدينية الإسلامية، شمولية، لكنها لا تنكر حق الأفراد في الملكية والتصرف والتدين، ضمن الضوابط المعروفة عند أهل العلم في مسألةحق التدين.
الدولة المدنية:
" هي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع، بغض النظر عن القومية والدين والفكر، ولا تمارس الدولة ولا مؤسساتها أي تمييز بين المواطنين بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس"
والدولة المدنية ديمقراطية، أي:" حكم الشعب لنفسه" وهي في دول الغرب ليبرالية، وهي "تؤكد على حماية حقوق الأفراد والأقليات،.........، بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي لا تشتمل على دستور يلزم مثل هذه الحماية" قلت: والنوع الثاني، أعني الديمقراطية، هو النوع السائد، في عموم الدول العربية، حيث لا ترقى بأنظمتها إلى الليبرالية.
قلت: وسواء قلنا: مدنية ديمقراطية، أو ليبرالية، فكلها تجمع على عزل الدين عن نظام الدولة، لكنها لا تعادي الدين ولا أهله،ـ سوى المتطرفين منهم ـ ويمارس حكامها عبادات الدين كعموم أفراد المجتمع، لكنها تقصيه ـ أعني الدين ـ عن السياسه والحكم.
هل الدولة الإسلامية مدنية؟!
الدولة الإسلامية شمولية تراعي حقوق الأفرادوالأقليات كما سبق، وواقع التاريخ كله يشهد لذلك، ابتداء من عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكيف كان اليهود يعيشون بينهم بكامل الحقوق، حتى يومنا هذا في السعودية، بل وفي الدول الإسلامية التي تتبنى الديمقراطية نظام حكم.
لكن زعم أن هذه الممارسة ( المدنية ) تمنحنا الحكم بأن الدولة الإسلامية مدنية، فلا وألف لا، لأن الدولة المدنية ـ وإن كانت حسناتها كثيرة ـ لكن حسنات الدولة الإسلامية الدينية ( المدنية ) أضعاف أضعاف ذلك.
ومجرد الممارسات المدنية في الحكم والنظام والسياسة، لا يجعلنا نحكم بأن الدولة الإسلامية دولة مدنية، لكن هي: دينية مدنية .
الديمقراطية:
هي حكم قائم على آراء حكماء الدولة، ومن هنا زعم البعض أن الدولة الإسلامية كذلك، لأن هذا عندهم حقيقة الشورى، قلت: لا شك أن الشورى هي رأي عقلاء الأمة من ذوي النفوذ، لكنها مدعومة بأصل كلي وهو: تحقيق العدل، الذي هو عدل شرعي، أي : تقدير كونه عدلاً هو الشرع والدين والإسلام، ولو تشاور هؤلاء فيما يخالف مقطوعاً به أو مجمعاً عليه أو ثبت بنص ثابت ظاهر للعيان، لرفض ذلك تماماً، بخلاف الديمقراطية، فأنها تقبل الرأي الجمهوري الأغلبي في البرلمان أو الشعب، وإن كان ينقض الدين، نعم: الديمقراطية الإجرائية في الدول الإسلامية بعيدة عن ذلك تماماً على وجه العموم، لكن الحكم على الأصول الكلية للديمقراطية والمدنية وعليه: فالدولة الإسلامية: دينية أصالة، لا تعارض المدنية قط، خصوصاً في وجوه السياسة والإدارة والاجتماع، القائمة على تحقيق المصالح والعدل، لأن الشرع جاء بذلك، وليس هذا من التناقض، لأن العدل والمصلحة مطلب شرعي وكوني كلي، المقصود تحقيقه وتحصيله بأي طريقة كانت، ولو لم ينص عليها الشرع، شريطة ألا تخالفه صراحة، لأن الاختلاف وارد والحق مع العدل أينما كان ومهما كان اسمه، لأن العبرة بالمعاني دون المباني .
الخلاصة:
1ـ الديمقراطية لها حسنات كثيرة، والحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها أخذها.
2ـ الديمقراطية توافق الشورى من حيث التطبيق، لكنها تخالفها من حيث التأصيل، إذ الأصل تحقيق العدل، لا تحقيق قول الأكثرية.
3ـ الديمقراطية الإجرائية في الدول العربية أقل خطراً من الديمقراطية الغربية.
4ـ الدولة الإسلامية دولة دينية مدنية ( مركبة ) لأنها لا تغفل الدين حتى في النظام والسياسة لكن ضمن تحقيق العدل كما سبق مع مراعاة حقوق الأفراد، بل والجماعات في النظم الإدارية وغيرها.
5ـ دعوة إلى رفع مستوى الديمقراطية برفع مستوى النواب الأخلاقي والعلمي، بحيث نصل إلى الرقي المنشود، وبحيث تصبح مستقبلاً حكما شورياً مصلحياً، والله أعلم
.6ـ دعوتنا إلى تطوير الديمقراطية، ليس من باب التخلي عن الشورى، لكن من باب دفع المفسدة الكبرى ( الشيوعية )، بالمفسدة الصغرى ( الديمقراطية )، وحيث أن الديمقراطية يمكن تطويرها لتكون موافقة للدين، وليسموها ديمقراطية، لأن العبرة بالمضمون.
والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه: سمير مراد
4/2/1433
29/12/2011
تعليق