توسع الدولة العثمانية و ازدهارها
ضم البلاد العربية
استفحل أمر الدولة الصفوية، بعد عهد السلطان بايزيد الثاني، الذي استخدم اللين مع الشاه إسماعيل الصفوي، على الرغم من نشاط الخير في نشر المذهب الشيعي بين القبائل التركية البدوية، وقتل الكثير من أهل السنة، بعد استيلائه على بغداد. وكان ذلك يحمل في طياته خطراً كبيراً على الدولة العثمانية، التي تزعمت أهل السنة في ذلك الوقت. إذ أن الشاه إسماعيل الصفوي، الذي جعل من التشيع سياسة لدولته ومذهباً لها، وجد له أعواناً كثيرين في الأناضول. وكان ذلك كفيلاً بأن يفتت وحدة الدولة العثمانية في الأناضول، على وجه الخصوص فأجَّل السلطان سليم الأول فتوحاته، في أوروبا، ردحاً من الزمن، وتوجه بكل ما أوتي من قوة نحو الشرق، لوقف ذلك المد الشيعي وتأديب المماليك، في مصر والشام، المتحالفين مع الصفويين، والعاجزين عن حماية الأماكن المقدسة. وكانت معركة جالديران عام 920هـ (1514م)، انتصاراً باهراً للعثمانيين وهزيمة نكراء للصفويين، توغل الجيش العثماني بعدها في إيران حتى وصل إلى تبريز وقد ثبّت ذلك الانتصار أقدام العثمانيين في الأناضول، وحسنت من صورتهم أمام العالم الإسلامي. غير أن ذلك النصر لم يكن ليكتمل ما لم تتم إزالة التهديدات البرتغالية للبحر الأحمر والأماكن المقدسة، في وقت استغاث فيه أهالي المنطقة بالعثمانيين، إزاء عجز المماليك عن الدفاع عنها، إضافة إلى إيواء المماليك للثائرين على السلاطين العثمانيين، وتحالفهم مع الصفويين ضد العثمانيين.توجّه السلطان سليم الثاني إلى سوريا، ووقعت بينه وبين الغوري المملوكي معركة، بالقرب من حلب عند مرج دابق، عام 922هـ (1516م)، ومني الغوري بالهزيمة، وسقوط قتيلاً، ودخل السلطان سليم الأول مدينة دمشق، وضُمت الأراض السورية إلى الدولة العثمانية. ثم توجه السلطان سليم إلى القاهرة، وانتصر في معركة الريدانية، بالقرب منها، في عام 923هـ (بدايات عام 1517م). وبذلك بدأ عهد جديد في تاريخ العثمانيين، اكتملت فيه سيطرتهم على العالم العربي، والتي استمرت أربعة قرون. وأعلن بذلك العثمانيون حمايتهم للأماكن المقدسة، وجعل البحر الأحمر بحيرة إسلامية.
مسألة انتقال الخلافة إلى العثمانيين
هناك من المؤرخين من يرى عدم شرعية انتقال الخلافة إلى العثمانيين، ويستنكر حصول شيء من هذا القبيل، غير أن هناك من الباحثين من يذكر أن الخلافة انتقلت إلى العثمانيين عندما تنازل عنها الخليفة المتوكل العباسي، للسلطان سليم الأول، في احتفال أقيم بهذه المناسبة وسلَّمه الآثار النبوية الشريفة. ومن ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميراً للمؤمنين، وخليفة لرسول رب العالمين اسماً وفعلاً ودعم حصول السلطان سليم الأول على منصب الخلافة مركزه في العالم الإسلامي. وأصبح استخدام العثمانيين لهذا اللقب الديني يعني المسؤولية عن الأماكن المقدسة وعن حماية العالم الإسلامي، ضد أي اعتداء على بقعة من بقاعه. وتعلق سلاطين الدولة العثمانية بلقب الخلافة في تلك العصور، التي تلت عصر السلطان سليم الأول، وتشبثوا بدلالاته الدينية والدنيوية
أوج القوة والتوسع
أجرى السلطان سليم الأول بعض الإصلاحات التعليمية، والإدارية، في إستانبول، بعد عودته من مصر، ونظم أمور الجيش كما أنشأ مرسىً كبيراً في خليج إستانبول، بغية صناعة السفن الحربية الكبيرة ومواجهة السفن البرتغالية والحد من خطرها وأضرارها في العالم العربي. وبفضل الجهود التي بذلت في هذا الصدد، فقد أضحى للعثمانيين أسطول بحري متميز
توجه السلطان سليم، عقب تجهيزه الأسطول، إلى أدرنه. وعلى الرغم من عدم تحديد المكان، الذي كان يزمع فتحه، فقد ذكر أنه كان يود القيام بحملة على المجر، وقيل إنه كان يستعد لملاقاة الحملة الصليبية البحرية. ومهما يكن من أمر، فإنه لم يتسن له رؤية ثمار ذلك الأسطول؛ إذ وافته المنية قبل أن يصل إلى أدرنة، في قرية جورلو، وذلك عام 927هـ -1520م
لما انتقل الحكم إلى ابنه السلطان سليمان القانوني، كانت الدولة العثمانية قد وصلت إلى أوج قوتها واتساعها؛ حيث قام في بداية حكمه بإجراء الإصلاحات الداخلية، ووضع الأنظمة المقننة، وأظهر الحزم في تنفيذ القوانين، وحماية الحقوق، وإعطاء مصطلح العدالة طابعه المميز. ثم توجَّه، عام 928هـ (1521م)، صوب أوروبا، لاستئناف الفتوحات، فاستولى على بلغراد، وهو في طريقه إلى المجر، وفتح جزيرة رودس، عام 929هـ (1522م)، وغزا المجر بقوة، قوامها مائة ألف مقاتل، عام 933هـ (1526م)، وفتح بودابست ثم المجر التي ظلت ولاية عثمانية لمدة مائة وأربعين عاماً. ثم زحف السلطان سليمان، في عام 936هـ (1529م)، بجيش، قوامه ربع مليون جندي إلى فيينا، إلاّ أنها قاومت مقاومة شديدة، وكرر السلطان محاولته، بعد ثلاث سنوات، وصمدن في مقاومتها مرة أخرى، ثم وقع الصلح بين الطرفين في إستانبول، عام 940هـ (1541م). سرعان ما استأنف الحرب من جديد بعد عام واحد، واستطاع السلطان سلميان، خلال تلك الفترة، أن يهزم النمساويين، وأن يضم المجر إلى أملاك الدولة العثمانية نهائياً، وأن يحصل من النمسا على جزية سنوية لمدة خمس سنوات وهكذا،
سار السلطان سليمان القانوني من فتح إلى فتح، ومن غرب إلى شرق، وفتح جنوده مدينة بغداد، عام 941هـ (1534م)، ودخل الجيش العثماني مدينة تبريز للمرة الثانية، وجرت اتصالات مع ملك فرنسا،
كما فُتح إقليما الجزائر وتونس، عام 942هـ (1535م).
وفُتِحت كذلك في هذا العهد عدن وزبيد، عام 945هـ (1538م)،
ثم استولى على البصرة، ومسقط، وهرمز، وامتد نفوذ العثمانيين إلى الأحساء عام 963هـ (1555م)،
وتمكن العثمانيون من السيطرة على المواقع الإستراتيجية في كل من الخليج العربي والبحر الأحمر، مما نشط من الحركة التجارية في المنطقة، بعيداً عن أعمال القرصنة، التي كانت تقوم بها السفن البرتغالية، وفي الوقت نفسه وفروا الحماية اللازمة للأماكن الإسلامية المقدسة، وانفتحوا إلى المحيط الهندي.
واصل العثمانيون جهادهم في غربي البحر المتوسط ضد الصليبيين. وفي خلال سنوات قليلة، كانت أغلبية الموانىء، الممتدة من تونس إلى المغرب، قد ضمت أساطيل إسلامية أثارت الرعب في قلوب الأوروبيين. وكان دخول الأخوين الربانيين: عروج رئيس وخير الدين بارباروس في خدمة السلطان العثماني، قد زاد العثمانيين في البحر الأبيض قوة على قوة. حيث استولى القائد البحري خير الدين بارباروس على كورون، وليبانتو، وتونس، وأغار على سواحل إيطاليا، وجزيرة صقلية، وتمكن من بسط النفوذ على غربي البحر المتوسط.
وهكذا، أقام السلطان سليمان القانوني، دولة مترامية الأطراف، امتدت من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، وأضاف إلى أملاك الدولة العثمانية العديد من البلاد والأراضي، التي لم يتسن لغيره السيطرة عليها، ولم يصل إلى ذلك سلطان قبله ولا بعده. فقد ألحق الكثير من البلاد بالدولة العثمانية، ومنها المجر، وأردل، وطرابلس الغرب، والجزائر، والعراق، ورودس، ومعظم أنحاء كردستان، وقسم من جورجيا وجزر بحر إيجة، وبلغراد، وجزيرة جربة في تونس
فتح جزيرة قبرص وسيطرة البحرية العثمانية على البحر الأبيض.
افتقدت الدولة العثمانية، في عهود خلفاء السلطان سليمان، سياسته، الرامية إلى التركيز على الفتوحات، سواء في الشرق أو في الغرب وظهر نوع من الفتور والضعف في أركان الدولة، ولا سيما بعد أن تخلى السلاطين عن الاشتراك بأنفسهم في الحروب. وبقيت المشروعات التي تقدم بها الوزير الأعظم، صقوللي محمد باشا، حبراً على ورق. وكانت تلك المشروعات تحوي: افتتاح قناة السويس، بغية اتباع سياسة أكثر فعالية في المحيط الهندي؛ ومنع النفوذ الروسي، الذي بدأ يكتسب أهمية تجارية، واقتصادية، وسياسية، بعد استيلائهم على قازان وأستراخان؛ وتوثيق العلاقات مع المسلمين في آسيا الوسطى.
والحقيقة إن السبب، الذي دفع بالعثمانيين إلى تأخير الشروع في تلك الخطط، هو تركيز جهودهم على فتح جزيرة قبرص. إذ إنها كانت حصناً منيعاً، ساهم في عرقلة التجارة البحرية بين إستانبول ومصر. وكانت قبرص يحتلها أهل البندقية، الذين دأبوا على مهاجمة السفن التجارية وقوافل الحجاج المسلمين. وبعد صدور فتوى شيخ الإسلام، عام 975هـ (1567م)، بضرورة فتح هذه الجزيرة، شرعت الدولة العثمانية بكل ما أوتيت من قوة في فتحها. وتمكنت، خلال عامي 978 ـ 979هـ (1570 ـ 1571م)، من دخولها. وعلى الرغم من هزيمة الأسطول العثماني انهزم في لبانتو (اينة باختي)، أمام أسطول دول الحلف الصليبي، عام 979هـ (20 مايو 1571م). إلاّ أن جهود العثمانيين ومثارتهم لطرد أساطيل الأعداء من مياه مودون، ونافارين، بعد ذلك بسنة واحدة، قد قضى على آما الصليبين، ولا سيما الأسبان، في البحر المتوسط كما أن اكتمال فتح تونس، عام 982هـ (1574م)، أدى إلى هيمنة البحرية العثمانية على البحر المتوسط
كان هذا أقصى ما وصلت إليه الدولة العثمانية من القوة، والنفوذ، والانتشار. ولم يزد عصر القوة هذا عن نصف قرن كثيراً ولم يشمل سوى عهد السلطان سليم الأول وابنه سليمان القانوني. وجاء عصر الضعف بعدهما مباشرة. وبدأ الخط البياني للخلافة الإسلامية بعدهما في الهبوط باستمرار، وإن كان يتوقف هذا الهبوط، أو يتوازن في بعض المراحل لقوة شخصية بعض الخلفاء أو لهمة حاشيتهم، وخاصة الصدور العظام