معاشِر المؤمنين: لا تزال المحرقةُ النصيريةُ تعيث في الأرض الفساد، لا تزال مَناظرُ الأَشْلاء وشلاَّلاتُ الدماء تنْزِفُ في أرض الشام، مَشاهد فاقت المعقول، وأدْهشت العقول، فآهٍ ثم آه، مِن مَراراتٍ في القُلُوب، ولَوعاتٍ في الضمير لا نملك معها إلا الحوقلةَ، واستقطارَ الدموع، والاستعاذةَ بالله تعالى من ولاية مَن لا يرقُب في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذِمَّة!
نعوذ بالله مِنْ قُلُوبٍ كالحجارة، نُزِعَتْ منها الرحمةُ والرأفة والإنسانيَّة
نعوذ بالله مِن ألسنةٍ حداد، لا تفتر في شتم الدِّين، والكفر بالله رب العالمين.
لسنا بحاجة - عبادَ الله - أن نستذكرَ الفواجع، ونستدرَّ المواجع، لسنا بحاجةٍ أن نصوِّر توجُّعاتِ المُصابين، ولا آهاتِ المقْهُورين، ولا أنَّاتِ المكْلومِين، بل حتى المساجد التي يُذكر فيها اسم الله كثيرًا؛ لَم تسلمْ من هذه الهجْمَة النصيرية الهُولاكية!
f
لنتجاوز هذا كلَّه؛ فعدساتُ الإعلامِ قد كفتْنا تصويرها، والصورةُ أبلغ من ألفِ قولٍ ومقال، وإنما سيكون الحديثُ عن منحٍ بيضاء، في أزمتنا السوداء.
عن المكاسبِ الموجودة، والخيرِ الحاصلِ الذي غاب مع ظلام الأزمة، وغُبْسِها الداهم.
مكاسبُ، نخفِّف بها جراحاتنِا، ونستعلي بها على تشاؤُماتنِا، ونحيي بها جذوةَ الأمل، فما أضيق العيشَ لولا فسحةُ الأملِ!
إذ إنَّ منَ المقرَّر شرعًا: أنَّ الله لا يُقدِّر شرًّا محضًا؛ بل قضاءُ الله فيه من الخيرِ والخيرية ما يغيب على كثيرٍ من العباد؛ فأيُّ مُصابٍ أعظم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن يُتَّهَم في عِرْضِه، وتُرمَى زوجتُه - أحبُّ الخَلْق إليه - بالفاحشة، ويمكثُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَهرًا كاملًا، بهمِّه وغمِّه، ينتظر خبر السَّماء، ثم يأتي الوحيُ بَلْسَمًا على قَلْب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11]، فمِن غير اللائق بأمَّة الإسلام، أمَّة الشهادة والحُجَّة، أمَّة البَذْل والهِداية والإرشاد، أن تنوحَ على مآسيها، وتتوجَّع لخسائرها، وتتناسى مكاسبها ومرابحها.
إخوة الإيمان: إنَّ أول مكاسب نطقتْ بها أحداثُ سوريا: أنها فضحتْ سَوْءَةَ النِّظام النُّصَيري في المنطقة، هذا النظام الذي أصَمَّ الآذان دُهُورًا بشعارات المقاومة للعدو، فإذا هذا النظامُ الطائفي يرتكب من المجازِر والقَتْل والوحْشِيَّة في بضعة أشهر ما لَم يرتكبْه الصهاينة في خمسين سنة!
لقد تيقَّنت الشُّعوب السُّنيَّة أن التقنُّع بالممانعة ما هو إلا دعاية يُغَطِّي بها النظام النصيري خيانتَه وحمايته لحدود الصهاينة مِن جهة الجولان، هذه الجِهة المحتلَّة الناعمة المسالمة لم تُرْمَ حتى بحجارةٍ واحدة، رغم كل الجرائم اليهودية في بلاد الإسراء.
لقد يقنت الشُّعوب السُّنِّيَّة صِدق ما كتبَه العلماءُ الأكابر عن حقيقة هؤلاء النُّصيريين، الذين لا يعرفون حُرمةً لدين، ولا رحمة لإنسان مسلم! بل لم يعرف المسلمون في واقعهم المعاصر نظامًا أجبر الناس على الكفر، واستهدف المساجد، ومزَّق المصاحف، واستهزأ بالشعائر، كما فَعَلَه النظامُ النُّصيري في سوريا.
ورحم الله العلَم الشامي، شيخَ الإسلام ابن تيميَّة الحراني، الذي تعايَش مع هؤلاء في الشام، وسبر عقائدهم وأحوالهم، فقال عنهم: "ضررُهم على أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أعظم مِن ضرَر الكفَّار المحارِبين".
- ومِن مكاسب الثورة في سوريا: انكماشُ التمدُّد الشِّيعي في العالَم الإسلامي والشامي على وجه الخصوص. فكم أَنفقت حكومة ملالي طهران منَ المليارات لنشر التشيُّع في الشام خلال سنوات طويلة؛ تحت نظر وحماية النظام النصيري، وعلى حين غفلةٍ أو قلَّة حيلةٍ مِن أهل السنة هناك، وكان من نتائج هذا التغلغُل: تشُّيع قبائل عدَّة من أهل السنة، ومُصادرة أوقاف سُنيَّة، وإقامة حُسينيَّات شِركيَّة مكانها، وتجنيس أعداد كثيرة مِن الأعاجم الفُرس لتغيير التَّركيبة السُّكانيَّة في الشام، واقرؤُوا إن شِئتُم بعض هذه الآثار والنتائج في كتاب: "تحذير البَرية من نشاط الشِّيعة في سورية".
هذه الجُهُود كلها ذهبتْ هباء مَنثورًا، فلم ولن يحتمل الشعب السوري السنِّي بعد مواجِعِه هذه أيَّ نشاط صفويّ في بلادهم.
- ومِن مكاسِب الثَّورة السوريَّة: أنها عرَّت سياسة الصفويين العَوْراء؛ فلطالما تباكى إعلامُهم وإعلام عملائهم على حال البحرين، رغم أنَّ عدد الضحايا لا يُذكرون، وصمَّت وخرست أمام آلاف الضحايا السوريين، وما ذاك إلا لأنَّ شعب سوريا في منطِقِهِم مِن أهل السنة النواصب، والذين لا حُرمة لدمائهم وأموالهم وأعراضهم!
وفضحتْ أحداثُ سوريا الذِّراع الإيراني في لبنان حزب الله، الذي تلمّعتْ صُورتُه كثيرًا في بلاد الشام لادِّعائه الوُقُوف مع الشُّعوب المظْلُومة، فإذا هو اليوم يقِف مع الظالِم الجزَّار في سياسته وكذِبه، فأصبح أهلُ الشام اليوم لا يحتَمِلون أن يَروا صور عَلَمَ هذا الحِزْب، بعد أن كانتْ أعلامُه وصورُ رئيسه تملأ الشوارع والمحلات! وعرَّت ثورةُ سوريا أيضًا: حكومة العراق الطائفيَّة التي شتمت، وتشتم إلى اليوم حِزْبَ البعث في العراق، ثم تتلوَّن كالحرباء، فإذا هي ترى أن حِزْب البعث في سوريا وجوده ضرورة. عباد الله، ومِن أعظم مَكاسِب الثورة في سوريا: اجتِماع الناس وتوحُّدهم تحت راية الدِّين، وارتباط القُلُوب بالله رب العالمين.
شكواهم: "حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". [ آل عمران :173]
شعارهم: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51].
رؤيتهم: ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
عزاؤهم: ﴿ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 50].
يقينهم: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].
سلواهم: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ [إبراهيم: 42].
أصْبحت المساجِدُ هي الملاذ وهي مَقَر الانْطِلاق، آيات القُرآن لم ينقطعْ دويُّها، وعبارات التكبير والتهليل دام هتافُها.
الاستشهادُ بأقوال ابن تيميَّة وابن القيِّم والنووي هي أحاديث الشباب هناك، تواصي الناس على الصبر والمُصابَرة والمرابطة حديثٌ مَسْموع، وأحاديثهم عن المقاوَمة والشهادة خطابٌ مرفوعٌ، بل عادتْ صور التَّضحيَّات التي كنَّا نقرَؤُها في التُّراث نراها في الواقع، نساء شامِخات يتجلَّدْنَ مع ما بهن مِن الألَم والكَلْم، ويرفُضن أن يتلقَّيْن العَزاءَ في أبنائهن، بل يطلُبْن التهاني بهذه المناسبة.
هذه هي الشام التي عرَفها تاريخُ الإسلام، هذه هي الشام التي كانتْ رمز العِزِّ، وموْطِن التمكين، فعلى ثَراها دُفِن سيف الله المسلول، خالد بن الوليد، وفي أرضها عسْكَر موْكِب الفاروق ثلاثة أيام في أرض الجولان حين ذهب لفتح القدس، هي موطن الخلافة الأمويَّة، ومنها انطلقتْ جُيُوش الإسلام إلى أرجاء الدُّنيا، وهي البلاد التي خرَّجَتْ للأمة آلاف العلماء والفُقهاء والأُدَباء.
هذه البلاد ستبقى إسلاميَّة بهُويتها، سُنيَّة بعقيدتها، أبيَّة بعُرُوبتها، وما حياة الإعراض التي مرَّت بها البلادُ وبغيرها من البلدان بعد عهود الاستعمار إلا مرحلة استثنائيَّة - بإذن الله.
- ومِن أعظم مكاسِب ثورة الشام: انتصار القِيَم، والثبات على المبادئ، والإصرار على إزالة هذه العصابة الحاكمة التي بلغتْ جرائمها عنان السماء، بل أسقطت المقاوَمةُ صنمَ الخوف الذي بناه النظام طيلة أربعين سنة. لقد ثبت هذا الشَّعب السُّوري الأبيُّ ثباتًا يَعِزُّ نظيره في عالم اليوم، رغم تخاذُل القريب والبعيد، ولسانُ حالهم: مرحبًا بالمنايا في سبيل عزتنا وديننا، ورفع الظلم القاهر عنا، فإمَّا حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدا.
لقد علَّمنا أحفادُ الأمويين أنَّ الدبابة لا تكسر إرادة الشُّعوب، وأنَّ أهل الطغيان هم أحرص الناس على حياة. "فلا نامت أعين الجبناء"، عبارة أطلقها قديمًا خالد بن الوليد، وتمثّلها أهل الشام اليوم في صبرهم ومُصابرتهم ومرابطتهم.
- ومن مغانم أحداث الشام: المكاسب الاجتماعيَّة، التي جعلتْ أرواح السوريين عبارة عن روح واحدة، تسكن ملايين الأجساد. فرغم المآسي والجرح الغائر، ورغم أن الظَّلَمة منعوا الشَّعب أبجديات الحياة من الكهرب والماء والعلاج، حتى عمَّت الحاجة، وشاعت الفاقة، إلاَّ أنَّ الناس لم ينسَ بعضهم بعضًا، لقد شاهَد العالَم كيف يعيش أهلُنا في سوريا حياة التعاوُن والأُخُوَّة والإيثار، فأخرجتْ لنا هذه الأحداث معادنَ رجوليَّة ضحَّت بأرواحها من أجل إسعاف طريح، ومداواة جريح، أو إيصال القوت للأحياء المحاصَرة.
- ومن مكاسب الثورة: المكاسِب السِّياسيَّة التي يتَّسع مداها كل يوم، لقد وصل صوتُ المعارضة الشرق والغرب، وتعاطَف معها المسلمون وغيرهم، وأصبحت قضيتهم عادلة عند جميع المُنْصِفين والعقلاء، وأصبح النظام النصيري يلاقي من التخلِّي والانتقاد ما جعله يعيش عُزلة إقليميَّة، هذه المقاوَمة والإرادة الشعبيَّة التي فرضتْ نفسها، هي التي فرضت التغيير في المواقف الغربيَّة، والتي كانتْ بالأمس سندًا للأنظمة البائدة.
وأخيرًا: عبادَ الله، لنعلم أن المآسي كلما زاد ألمُها، وعظم جرحها، فدافعتها الأمةُ بالصبر والتقوى، فإنَّ التَّغْيير بعدها كبيرٌ بكبر حجم هذه المأساة، لقد تسلَّط فرعون على أهل مصر، فسامهم سوء العذاب، وأنَّ الناسُ مِن جبروته وعلوِّه وزهوه، وهم لا يدرون أنَّ في غيب الله المستور؛ ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 5]، ثم بعدين أربعين سنة من سياسة البطش والتنكيل، كانت المكافأة عظيمة، والتغيير كبيرًا، رأى الناس القوم الذين يستضعفون يرِثون الأرض؛ ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف: 137].
نعوذ بالله مِنْ قُلُوبٍ كالحجارة، نُزِعَتْ منها الرحمةُ والرأفة والإنسانيَّة
نعوذ بالله مِن ألسنةٍ حداد، لا تفتر في شتم الدِّين، والكفر بالله رب العالمين.
لسنا بحاجة - عبادَ الله - أن نستذكرَ الفواجع، ونستدرَّ المواجع، لسنا بحاجةٍ أن نصوِّر توجُّعاتِ المُصابين، ولا آهاتِ المقْهُورين، ولا أنَّاتِ المكْلومِين، بل حتى المساجد التي يُذكر فيها اسم الله كثيرًا؛ لَم تسلمْ من هذه الهجْمَة النصيرية الهُولاكية!
f
لنتجاوز هذا كلَّه؛ فعدساتُ الإعلامِ قد كفتْنا تصويرها، والصورةُ أبلغ من ألفِ قولٍ ومقال، وإنما سيكون الحديثُ عن منحٍ بيضاء، في أزمتنا السوداء.
عن المكاسبِ الموجودة، والخيرِ الحاصلِ الذي غاب مع ظلام الأزمة، وغُبْسِها الداهم.
مكاسبُ، نخفِّف بها جراحاتنِا، ونستعلي بها على تشاؤُماتنِا، ونحيي بها جذوةَ الأمل، فما أضيق العيشَ لولا فسحةُ الأملِ!
إذ إنَّ منَ المقرَّر شرعًا: أنَّ الله لا يُقدِّر شرًّا محضًا؛ بل قضاءُ الله فيه من الخيرِ والخيرية ما يغيب على كثيرٍ من العباد؛ فأيُّ مُصابٍ أعظم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن يُتَّهَم في عِرْضِه، وتُرمَى زوجتُه - أحبُّ الخَلْق إليه - بالفاحشة، ويمكثُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَهرًا كاملًا، بهمِّه وغمِّه، ينتظر خبر السَّماء، ثم يأتي الوحيُ بَلْسَمًا على قَلْب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11]، فمِن غير اللائق بأمَّة الإسلام، أمَّة الشهادة والحُجَّة، أمَّة البَذْل والهِداية والإرشاد، أن تنوحَ على مآسيها، وتتوجَّع لخسائرها، وتتناسى مكاسبها ومرابحها.
إخوة الإيمان: إنَّ أول مكاسب نطقتْ بها أحداثُ سوريا: أنها فضحتْ سَوْءَةَ النِّظام النُّصَيري في المنطقة، هذا النظام الذي أصَمَّ الآذان دُهُورًا بشعارات المقاومة للعدو، فإذا هذا النظامُ الطائفي يرتكب من المجازِر والقَتْل والوحْشِيَّة في بضعة أشهر ما لَم يرتكبْه الصهاينة في خمسين سنة!
لقد تيقَّنت الشُّعوب السُّنيَّة أن التقنُّع بالممانعة ما هو إلا دعاية يُغَطِّي بها النظام النصيري خيانتَه وحمايته لحدود الصهاينة مِن جهة الجولان، هذه الجِهة المحتلَّة الناعمة المسالمة لم تُرْمَ حتى بحجارةٍ واحدة، رغم كل الجرائم اليهودية في بلاد الإسراء.
لقد يقنت الشُّعوب السُّنِّيَّة صِدق ما كتبَه العلماءُ الأكابر عن حقيقة هؤلاء النُّصيريين، الذين لا يعرفون حُرمةً لدين، ولا رحمة لإنسان مسلم! بل لم يعرف المسلمون في واقعهم المعاصر نظامًا أجبر الناس على الكفر، واستهدف المساجد، ومزَّق المصاحف، واستهزأ بالشعائر، كما فَعَلَه النظامُ النُّصيري في سوريا.
ورحم الله العلَم الشامي، شيخَ الإسلام ابن تيميَّة الحراني، الذي تعايَش مع هؤلاء في الشام، وسبر عقائدهم وأحوالهم، فقال عنهم: "ضررُهم على أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أعظم مِن ضرَر الكفَّار المحارِبين".
- ومِن مكاسب الثورة في سوريا: انكماشُ التمدُّد الشِّيعي في العالَم الإسلامي والشامي على وجه الخصوص. فكم أَنفقت حكومة ملالي طهران منَ المليارات لنشر التشيُّع في الشام خلال سنوات طويلة؛ تحت نظر وحماية النظام النصيري، وعلى حين غفلةٍ أو قلَّة حيلةٍ مِن أهل السنة هناك، وكان من نتائج هذا التغلغُل: تشُّيع قبائل عدَّة من أهل السنة، ومُصادرة أوقاف سُنيَّة، وإقامة حُسينيَّات شِركيَّة مكانها، وتجنيس أعداد كثيرة مِن الأعاجم الفُرس لتغيير التَّركيبة السُّكانيَّة في الشام، واقرؤُوا إن شِئتُم بعض هذه الآثار والنتائج في كتاب: "تحذير البَرية من نشاط الشِّيعة في سورية".
هذه الجُهُود كلها ذهبتْ هباء مَنثورًا، فلم ولن يحتمل الشعب السوري السنِّي بعد مواجِعِه هذه أيَّ نشاط صفويّ في بلادهم.
- ومِن مكاسِب الثَّورة السوريَّة: أنها عرَّت سياسة الصفويين العَوْراء؛ فلطالما تباكى إعلامُهم وإعلام عملائهم على حال البحرين، رغم أنَّ عدد الضحايا لا يُذكرون، وصمَّت وخرست أمام آلاف الضحايا السوريين، وما ذاك إلا لأنَّ شعب سوريا في منطِقِهِم مِن أهل السنة النواصب، والذين لا حُرمة لدمائهم وأموالهم وأعراضهم!
وفضحتْ أحداثُ سوريا الذِّراع الإيراني في لبنان حزب الله، الذي تلمّعتْ صُورتُه كثيرًا في بلاد الشام لادِّعائه الوُقُوف مع الشُّعوب المظْلُومة، فإذا هو اليوم يقِف مع الظالِم الجزَّار في سياسته وكذِبه، فأصبح أهلُ الشام اليوم لا يحتَمِلون أن يَروا صور عَلَمَ هذا الحِزْب، بعد أن كانتْ أعلامُه وصورُ رئيسه تملأ الشوارع والمحلات! وعرَّت ثورةُ سوريا أيضًا: حكومة العراق الطائفيَّة التي شتمت، وتشتم إلى اليوم حِزْبَ البعث في العراق، ثم تتلوَّن كالحرباء، فإذا هي ترى أن حِزْب البعث في سوريا وجوده ضرورة. عباد الله، ومِن أعظم مَكاسِب الثورة في سوريا: اجتِماع الناس وتوحُّدهم تحت راية الدِّين، وارتباط القُلُوب بالله رب العالمين.
شكواهم: "حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". [ آل عمران :173]
شعارهم: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51].
رؤيتهم: ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
عزاؤهم: ﴿ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 50].
يقينهم: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].
سلواهم: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ [إبراهيم: 42].
أصْبحت المساجِدُ هي الملاذ وهي مَقَر الانْطِلاق، آيات القُرآن لم ينقطعْ دويُّها، وعبارات التكبير والتهليل دام هتافُها.
الاستشهادُ بأقوال ابن تيميَّة وابن القيِّم والنووي هي أحاديث الشباب هناك، تواصي الناس على الصبر والمُصابَرة والمرابطة حديثٌ مَسْموع، وأحاديثهم عن المقاوَمة والشهادة خطابٌ مرفوعٌ، بل عادتْ صور التَّضحيَّات التي كنَّا نقرَؤُها في التُّراث نراها في الواقع، نساء شامِخات يتجلَّدْنَ مع ما بهن مِن الألَم والكَلْم، ويرفُضن أن يتلقَّيْن العَزاءَ في أبنائهن، بل يطلُبْن التهاني بهذه المناسبة.
هذه هي الشام التي عرَفها تاريخُ الإسلام، هذه هي الشام التي كانتْ رمز العِزِّ، وموْطِن التمكين، فعلى ثَراها دُفِن سيف الله المسلول، خالد بن الوليد، وفي أرضها عسْكَر موْكِب الفاروق ثلاثة أيام في أرض الجولان حين ذهب لفتح القدس، هي موطن الخلافة الأمويَّة، ومنها انطلقتْ جُيُوش الإسلام إلى أرجاء الدُّنيا، وهي البلاد التي خرَّجَتْ للأمة آلاف العلماء والفُقهاء والأُدَباء.
هذه البلاد ستبقى إسلاميَّة بهُويتها، سُنيَّة بعقيدتها، أبيَّة بعُرُوبتها، وما حياة الإعراض التي مرَّت بها البلادُ وبغيرها من البلدان بعد عهود الاستعمار إلا مرحلة استثنائيَّة - بإذن الله.
- ومِن أعظم مكاسِب ثورة الشام: انتصار القِيَم، والثبات على المبادئ، والإصرار على إزالة هذه العصابة الحاكمة التي بلغتْ جرائمها عنان السماء، بل أسقطت المقاوَمةُ صنمَ الخوف الذي بناه النظام طيلة أربعين سنة. لقد ثبت هذا الشَّعب السُّوري الأبيُّ ثباتًا يَعِزُّ نظيره في عالم اليوم، رغم تخاذُل القريب والبعيد، ولسانُ حالهم: مرحبًا بالمنايا في سبيل عزتنا وديننا، ورفع الظلم القاهر عنا، فإمَّا حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدا.
لقد علَّمنا أحفادُ الأمويين أنَّ الدبابة لا تكسر إرادة الشُّعوب، وأنَّ أهل الطغيان هم أحرص الناس على حياة. "فلا نامت أعين الجبناء"، عبارة أطلقها قديمًا خالد بن الوليد، وتمثّلها أهل الشام اليوم في صبرهم ومُصابرتهم ومرابطتهم.
- ومن مغانم أحداث الشام: المكاسب الاجتماعيَّة، التي جعلتْ أرواح السوريين عبارة عن روح واحدة، تسكن ملايين الأجساد. فرغم المآسي والجرح الغائر، ورغم أن الظَّلَمة منعوا الشَّعب أبجديات الحياة من الكهرب والماء والعلاج، حتى عمَّت الحاجة، وشاعت الفاقة، إلاَّ أنَّ الناس لم ينسَ بعضهم بعضًا، لقد شاهَد العالَم كيف يعيش أهلُنا في سوريا حياة التعاوُن والأُخُوَّة والإيثار، فأخرجتْ لنا هذه الأحداث معادنَ رجوليَّة ضحَّت بأرواحها من أجل إسعاف طريح، ومداواة جريح، أو إيصال القوت للأحياء المحاصَرة.
- ومن مكاسب الثورة: المكاسِب السِّياسيَّة التي يتَّسع مداها كل يوم، لقد وصل صوتُ المعارضة الشرق والغرب، وتعاطَف معها المسلمون وغيرهم، وأصبحت قضيتهم عادلة عند جميع المُنْصِفين والعقلاء، وأصبح النظام النصيري يلاقي من التخلِّي والانتقاد ما جعله يعيش عُزلة إقليميَّة، هذه المقاوَمة والإرادة الشعبيَّة التي فرضتْ نفسها، هي التي فرضت التغيير في المواقف الغربيَّة، والتي كانتْ بالأمس سندًا للأنظمة البائدة.
وأخيرًا: عبادَ الله، لنعلم أن المآسي كلما زاد ألمُها، وعظم جرحها، فدافعتها الأمةُ بالصبر والتقوى، فإنَّ التَّغْيير بعدها كبيرٌ بكبر حجم هذه المأساة، لقد تسلَّط فرعون على أهل مصر، فسامهم سوء العذاب، وأنَّ الناسُ مِن جبروته وعلوِّه وزهوه، وهم لا يدرون أنَّ في غيب الله المستور؛ ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 5]، ثم بعدين أربعين سنة من سياسة البطش والتنكيل، كانت المكافأة عظيمة، والتغيير كبيرًا، رأى الناس القوم الذين يستضعفون يرِثون الأرض؛ ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف: 137].
تعليق