عندما لا يتم الاعتراف باقتراف الجرم، وأي جرم، يسود اعتقاد في المجتمع بأن مثل تلك الأفعال لا يترتب عليها عواقب وبالتالي لا يتقدم المجتمع. خلال الحكم العثماني، ارتكبت الكثير من المذابح ضد الأقليات الدينية، غير الموثقة أو تلك التي لا يراد توثيقها، التي يمكن تصنيفها ضمن عمليات التطهير العرقي.
عائلة آشورية في بدايات القرن العشرين
تظهر الهجمات الأخيرة على الكنائس في مصر والعراق أن المواطنين المسيحيين يواجهون مستقبلا غامضا في الشرق الأوسط. ففي دولة يعد الدين فيها مكونا أساسيا من مكونات الحياة، يبدو أن قضية العنف الديني تعرضت للتهميش في التغطية الإخبارية للربيع العربي، على الرغم من الأهمية البالغة لتلك الهجمات، فهي تدفعنا للتساؤل إذا ما كان النزاع الديني قد قوض أي مساع ديمقراطية في أعقابه. فعندما لا يكون هناك تسامح ديني، لا يصبح هناك أمل في الديمقراطية، بل فقط صراع مصالح. فالعلاقات الطيبة بين الديانات والمعتقدات ضرورية لبناء مجتمع صحي ديمقراطي ومستقر، شريطة المساواة أمام القانون والحماية من العنف الناجم عن الاستبداد. والأهم من ذلك، أن كل مجتمع بحاجة إلى ضمير أخلاقي. وكلما وجد عدم التسامح الديني، فإن مجتمعات الأقليات هي أكثر من يعاني. وللأسف، يتناقص عدد هذه الأقليات في الشرق الأوسط لتصبح أكثر استضعافا.
ويوضح ذلك قضية دير القديس غابرييل في تركيا الذي تم تأسيسه في عام 397 بعد الميلاد. حيث يعد الدير أقدم المراكز الدينية والثقافية وأكثرها أهمية عند الآشوريين ولكن مستقبل الدير مهدد تماما. ففي عام 2004، عندما قدمت الحكومة التركية “قانونا جديدا لتسجيل ملكية الأراضي”، تم تمكين القرى الكردية الثلاث المحيطة بالدير وتشجيعها على تقديم قضية الدير إلى المحكمة. في 2008، اتهم زعماء القرية الدير بالتبشير نظرا لقبوله طلاب يمكنه تمرير المعتقدات المسيحية إليهم. كما زعموا أنه كان هناك مسجد من قبل في موقع الدير على الرغم من أن الدير تم بناؤه قبل عقدين من مجيء الإسلام، وطالبوا بتقسيم الأرض بين القرويين. وفي قرار 2006، اعتبر البرلمان الأوروبي تلك القضية قضية حقوق إنسان. ولكن ما بدا أنه آخر “حملة اضطهاد” ضد المجتمع الآشوري، جاء أيضا ليذكرهم بماضيهم المؤلم.
جدير بالذكر، أن عدد السكان الآشوريين وغيرهم من المسيحيين الذين يعيشون في الشرق الأوسط يتضاءل على نحو متسارع. فقد تضاءل عدد الآشوريين، الذين كانوا من قبل أمة قوية وكبيرة يبلغ عددها نحو مليون نسمة تعيش في تركيا، وكانوا روادا في فترة 2400 قبل الميلاد في مجالات الطب، التعليم، القانون والفلك. وتم القضاء عليهم من خلال عدد لا نهائي من الإعدامات، حتى أصبح عددهم يبلغ الآن نحو 5 آلاف نسمة. فقبل الحرب العالمية الأولى، كان المسيحيون يشكلون 33 في المائة من السكان في تركيا، ولكنهم أصبحوا يمثلون حاليا نحو 0.1 في المائة – نتاج المذابح التي تعرضوا لها، والهجرة الإجبارية ثم الهجرة لاحقا. واليوم، لا تعترف تركيا بالآشوريين حتى كأقلية. ويشعر العديد من أفراد ذلك المجتمع بأنهم ضحايا دائرة كانت تستهدف محو وجودهم ليس المادي فقط بل حتى وجودهم في الذاكرة. وبالفعل، فإن ذلك بالإضافة إلى الحرمان من ملكية الأراضي مذكور في كتب الأكاديميين المتخصصين في دراسة المذابح الجماعية مثل رافييل لمكن، باعتبارها أحدث خطوات الإبادة.
في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 1914، وفي بداية الحرب العالمية الأولى، أعلن “شيخ الإسلام” حربا مقدسة ضد جميع المسيحيين في الدولة العثمانية. وتعد مذبحة الأرمن التي جاءت نتاج تلك الدعوة مذبحة مشهورة وموثقة ولكن عددا قليلا يعرف بشأن المذابح الجماعية التي تعرض لها الآشوريون الكلدان، السريان.
يؤكد الأستاذ ريتشارد هوفانسيان في الكتاب الذي يتضمن مقالاته حول المذبحة الأرمينية “Anahit Khosroeva” في الأكاديمية الوطنية لعلوم أرمينيا، أنه في الفترة بين 1895 – 1922 في تركيا، وعندما تم ذبح نحو 802.947، فقد نحو ثلثي السكان الآشوريين حياتهم.
ويمكن تفسير ذلك “الفصل المفقود” من التاريخ بطغيان قضية أرمينيا عليه وأيضا بوجود حظر قانوني على الحديث حول تلك المذابح في تركيا بالإضافة إلى التمويل الحكومي الفعال للأدبيات التاريخية البديلة في الولايات المتحدة وبريطانيا وامتداح الدولة العثمانية وتصوريها كضحية من منطلق أن المتمردين يستحقون العقاب.
وقد عزت تركيا الأحداث إلى “الحرب الأهلية والاضطرابات” وليس للمذابح الجماعية واستخدمت ذلك كمبرر لغياب الاعتذار الرسمي. ولكن روايات الشهود وشهادات الدبلوماسيين والمبعوثين التي كانت ترسل عبر البرقيات والخطابات والتقارير التي كانوا يرفعونها لرؤسائهم تروي لنا قصة مختلفة.
ففي أبريل (نيسان) 1916، تم رفع تقرير لمستشار الإمبراطورية الألمانية بأن الأشوريين في شرق الإمبراطورية العثمانية أبيدوا. وعلى الرغم من أن التقديرات الأولية لعدد الأشوريين في 1922 تشير إلى أنهم كانوا نحو 250 ألف نسمة، تشير تقييمات حديثة إلى أن عدد الآشوريين الذين قتلوا بلغ 750 ألف نسمة. هل يمكن تفسير ذلك حقا في إطار آثار الحرب الأهلية؟
فرق تسد
من المعروف على نطاق واسع أن الأتراك حشدوا قبائل الأكراد من خلال استخدام الدعاية المناهضة للمسيحيين بالإضافة إلى الرشوة ومخزون السلاح، واستغلال نظرية فرق تسد. وفي عام 1955، أصدر برلمان كردستان في المنفى ذلك الاعتراف: “بدأ رجال الإدارة العثمانية سياسة إبادة الأرمن والأشوريين.. بمساعدة بعض القبائل الكردية”، وكانت النتيجة “قتل ملايين الأرمن والآشوريين”.
في يناير (كانون الثاني) 1915، وفي مقاطعة واحدة بأورمييا، تمت مهاجمة 70 قرية ونهبها. وقام الأتراك والأكراد بذبح الآشوريين في أماديا في مايو (أيار) 1915 قبل نقل انتباههم إلى الكلدان في مقاطعة سرت. كما تم أيضا قتل الآشوريين في مقاطعة جوار، هاربوت، هوسنكيف، وأورفا في يونيو (حزيران). وتم إجبار من لم يقتل على الهرب من قراهم التي تم تدميرها أو حرقها، حيث قطعوا رحلة طويلة إلى سوريا ولبنان والأردن بعربات تجرها الخيول ومقطورات، أو سيرا على الأقدام تاركين منازلهم وممتلكاتهم. وقد مات العديد منهم خلال تلك الرحلة الشاقة والطويلة.
وربما تكون أسباب المذبحة هي تطهير الأراضي التركية، خوفا من تعاون المسيحيين مع الأقلية الكردية أو مع روسيا في الحرب العالمية. يقول البعض إن ذلك كان رد الفعل التركي تجاه الانتفاضة الأرمينية ضدهم لاحتلالهم جانبا من أراضيهم، رغم أن تلك المذابح امتدت إلى ما هو أبعد من المقاومة المسلحة ولا تبرر مقتل الآشوريين والسريان والكلدان الذين لم يشاركوا في تلك الانتفاضة. ومن جهته، يقول المؤرخ التاريخي ديفيد غونت إنه على الرغم من أن ذلك لا أساس له من الصحة، يبدو أن خوف الأتراك من اندلاع ثورة مسيحية كان سببا أساسيا في تلك المذابح. وبغض النظر عن السبب، ليس هناك شيء يبرر تدمير القرى، وذبح الآلاف من الضحايا الأبرياء من الشباب والعجائز، والاغتصاب، والذبح واختطاف النساء والأطفال المسجل بالتفصيل عبر شهود العيان باعتباره أحد أكثر الأفعال قسوة ولا إنسانية.
لقد أصبحت أحداث العنف في عام 1915 تعرف باسم السيف، أو عام السيف داخل المجتمع الآشوري ولم يتم تجاهلها. بل إنها تمثل بالنسبة لهم قمة المذابح المستمرة التي ارتكبت خلال عهد الإمبراطورية العثمانية. وخلال عامين فقط، في الفترة من 1843 – 1845، وفقا لممثلين بريطانيين ومصادر البعثات الغربية، تم ذبح عشرة آلاف آشوري. ومنذ ذلك الوقت، تعرضوا للمزيد من المذابح ولكن 1915 كان العام الأكثر وحشية من حيث عدد الضحايا. فقد اعترفت “الرابطة الدولية لأكاديميي المذابح الجماعية” التابعة للبرلمان الأوروبي بالمذبحة الآشورية وكذلك “الرابطة الأميركية الأرمينية”. ولكن تركيا ما زالت تنكر المذبحة رغم أنها رسميا قد اعترفت باقتراف مذابح في أماكن أخرى بما في ذلك المذابح التي تضمنت عددا أقل من الضحايا والجماعات الأصغر مثل البوسنة وكوسوفو في الاتحاد اليوغوسلافي السابق.
وفي 2009، أدلى رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا بذلك التصريح الجريء بأن حوادث التطهير العرقي التي ارتكبتها الحكومات التركية السابقة كانت أفعال فاشية قائلا: “لسنوات طويلة، كان من يحملون هويات مختلفة يتعرضون للطرد من بلادنا”.
وهي الخطوة التي تعرضت للانتقاد الحاد وللتفنيد من جانب برلمانه ولكن مجتمعات الأقليات رحبت بها. على أية حال، كانت هناك العديد من التحفظات على صدقه، وما زال لم يقدم اعتذارا رسميا حتى الآن.
انكار
ولكي نجد حلولا للنزاعات الحالية، يجب أن نعود للتاريخ الحديث، وندرس ما الذي حدث ونعرض المناحي الإيجابية وندين المناحي السلبية. وإلا نكون قد شاركنا في دعم السلوكيات الأصولية والعرقية بصمتنا. عندما لا نعترف بوقوع مذبحة جماعية، فإن ذلك يخلق شعورا في المجتمع بأن ذلك النوع من الأفعال مر من دون عقاب وهو ما لا يسمح للمجتمع بالتطور. كما يساهم الإصرار على إنكار جرائم الإمبراطورية العثمانية في انعدام الثقة واستمرار اضطهاد ضحاياها حتى اليوم. وفقا لصبري إتمان، مؤسس مركز سيف الآشوريين في أوروبا “فإن الإنكار، جعل الوضع الذي كان موجودا منذ عام 1915 يستمر من خلال الجرائم التي ترتكب في الوقت الراهن ضد الآشوريين في تركيا والعراق وإيران”. الكرة الآن في ملعب تركيا حيث يمكنها استغلال الفرصة لتقدم نموذجا طيبا للدول الأخرى. وقبل أن يحدث ذلك، يتساءل إتمان: “هل يجب عليهم أن يعيشوا وفقا للعقلية التي كانت سائدة وقت ارتكاب تلك الجرائم؟”.
ومن جهته، يقول هانيبال ترافيس مؤلف كتاب “المذابح الجماعية في الشرق الأوسط: الإمبراطورية العثمانية العراق والسودان” إن “تنفيذ القانون الدولي ربما يحل المشكلة”، مضيفا: “يمنع القانون الدولي إنكار وقوع المذابح الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية ويتطلب سداد التعويضات ويضمن مساواة أعضاء الأقليات الثقافية، الدينية، العرقية والسياسية والسكان الأصليين”.
ربما يكون لدى كل فرد من الأشوريين أو السريان أو الكلدان فرد قد قتل أو اختطف أو تم إجباره على الزواج خلال أحداث 1915. ولكن العدالة ربما تأتي في أشكال مختلفة، ففي الوقت الذي يخشى فيه البعض من مطالبة المجتمع الآشوري بالتعويضات – كما حدث في ألمانيا النازية – فإن كل ما تطالب به أسر الضحايا هو اعتذار تركي حكومي، اعتراف بأن ما حدث كان مذبحة وأنه كان هجوما أحادي الجانب عليهم، على أناس أبرياء. ويشعر العديد منهم أنه حتى يحدث ذلك، فإن أرواح الملايين الذين قتلوا بلا سبب لا يمكن أن ترقد في سلام. فالمجتمع يحتاج إلى خاتمة، لأنه بالنسبة لكل من فقد خالة أو عما أو جدا، بالإضافة إلى أرض الوطن، فإن القصة المروعة للدمار المنهجي لشعبهم ما زالت محسوسة حتى الآن وما زالت واقعية للغاية.
عائلة آشورية في بدايات القرن العشرين
تظهر الهجمات الأخيرة على الكنائس في مصر والعراق أن المواطنين المسيحيين يواجهون مستقبلا غامضا في الشرق الأوسط. ففي دولة يعد الدين فيها مكونا أساسيا من مكونات الحياة، يبدو أن قضية العنف الديني تعرضت للتهميش في التغطية الإخبارية للربيع العربي، على الرغم من الأهمية البالغة لتلك الهجمات، فهي تدفعنا للتساؤل إذا ما كان النزاع الديني قد قوض أي مساع ديمقراطية في أعقابه. فعندما لا يكون هناك تسامح ديني، لا يصبح هناك أمل في الديمقراطية، بل فقط صراع مصالح. فالعلاقات الطيبة بين الديانات والمعتقدات ضرورية لبناء مجتمع صحي ديمقراطي ومستقر، شريطة المساواة أمام القانون والحماية من العنف الناجم عن الاستبداد. والأهم من ذلك، أن كل مجتمع بحاجة إلى ضمير أخلاقي. وكلما وجد عدم التسامح الديني، فإن مجتمعات الأقليات هي أكثر من يعاني. وللأسف، يتناقص عدد هذه الأقليات في الشرق الأوسط لتصبح أكثر استضعافا.
ويوضح ذلك قضية دير القديس غابرييل في تركيا الذي تم تأسيسه في عام 397 بعد الميلاد. حيث يعد الدير أقدم المراكز الدينية والثقافية وأكثرها أهمية عند الآشوريين ولكن مستقبل الدير مهدد تماما. ففي عام 2004، عندما قدمت الحكومة التركية “قانونا جديدا لتسجيل ملكية الأراضي”، تم تمكين القرى الكردية الثلاث المحيطة بالدير وتشجيعها على تقديم قضية الدير إلى المحكمة. في 2008، اتهم زعماء القرية الدير بالتبشير نظرا لقبوله طلاب يمكنه تمرير المعتقدات المسيحية إليهم. كما زعموا أنه كان هناك مسجد من قبل في موقع الدير على الرغم من أن الدير تم بناؤه قبل عقدين من مجيء الإسلام، وطالبوا بتقسيم الأرض بين القرويين. وفي قرار 2006، اعتبر البرلمان الأوروبي تلك القضية قضية حقوق إنسان. ولكن ما بدا أنه آخر “حملة اضطهاد” ضد المجتمع الآشوري، جاء أيضا ليذكرهم بماضيهم المؤلم.
جدير بالذكر، أن عدد السكان الآشوريين وغيرهم من المسيحيين الذين يعيشون في الشرق الأوسط يتضاءل على نحو متسارع. فقد تضاءل عدد الآشوريين، الذين كانوا من قبل أمة قوية وكبيرة يبلغ عددها نحو مليون نسمة تعيش في تركيا، وكانوا روادا في فترة 2400 قبل الميلاد في مجالات الطب، التعليم، القانون والفلك. وتم القضاء عليهم من خلال عدد لا نهائي من الإعدامات، حتى أصبح عددهم يبلغ الآن نحو 5 آلاف نسمة. فقبل الحرب العالمية الأولى، كان المسيحيون يشكلون 33 في المائة من السكان في تركيا، ولكنهم أصبحوا يمثلون حاليا نحو 0.1 في المائة – نتاج المذابح التي تعرضوا لها، والهجرة الإجبارية ثم الهجرة لاحقا. واليوم، لا تعترف تركيا بالآشوريين حتى كأقلية. ويشعر العديد من أفراد ذلك المجتمع بأنهم ضحايا دائرة كانت تستهدف محو وجودهم ليس المادي فقط بل حتى وجودهم في الذاكرة. وبالفعل، فإن ذلك بالإضافة إلى الحرمان من ملكية الأراضي مذكور في كتب الأكاديميين المتخصصين في دراسة المذابح الجماعية مثل رافييل لمكن، باعتبارها أحدث خطوات الإبادة.
في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 1914، وفي بداية الحرب العالمية الأولى، أعلن “شيخ الإسلام” حربا مقدسة ضد جميع المسيحيين في الدولة العثمانية. وتعد مذبحة الأرمن التي جاءت نتاج تلك الدعوة مذبحة مشهورة وموثقة ولكن عددا قليلا يعرف بشأن المذابح الجماعية التي تعرض لها الآشوريون الكلدان، السريان.
يؤكد الأستاذ ريتشارد هوفانسيان في الكتاب الذي يتضمن مقالاته حول المذبحة الأرمينية “Anahit Khosroeva” في الأكاديمية الوطنية لعلوم أرمينيا، أنه في الفترة بين 1895 – 1922 في تركيا، وعندما تم ذبح نحو 802.947، فقد نحو ثلثي السكان الآشوريين حياتهم.
ويمكن تفسير ذلك “الفصل المفقود” من التاريخ بطغيان قضية أرمينيا عليه وأيضا بوجود حظر قانوني على الحديث حول تلك المذابح في تركيا بالإضافة إلى التمويل الحكومي الفعال للأدبيات التاريخية البديلة في الولايات المتحدة وبريطانيا وامتداح الدولة العثمانية وتصوريها كضحية من منطلق أن المتمردين يستحقون العقاب.
وقد عزت تركيا الأحداث إلى “الحرب الأهلية والاضطرابات” وليس للمذابح الجماعية واستخدمت ذلك كمبرر لغياب الاعتذار الرسمي. ولكن روايات الشهود وشهادات الدبلوماسيين والمبعوثين التي كانت ترسل عبر البرقيات والخطابات والتقارير التي كانوا يرفعونها لرؤسائهم تروي لنا قصة مختلفة.
ففي أبريل (نيسان) 1916، تم رفع تقرير لمستشار الإمبراطورية الألمانية بأن الأشوريين في شرق الإمبراطورية العثمانية أبيدوا. وعلى الرغم من أن التقديرات الأولية لعدد الأشوريين في 1922 تشير إلى أنهم كانوا نحو 250 ألف نسمة، تشير تقييمات حديثة إلى أن عدد الآشوريين الذين قتلوا بلغ 750 ألف نسمة. هل يمكن تفسير ذلك حقا في إطار آثار الحرب الأهلية؟
فرق تسد
من المعروف على نطاق واسع أن الأتراك حشدوا قبائل الأكراد من خلال استخدام الدعاية المناهضة للمسيحيين بالإضافة إلى الرشوة ومخزون السلاح، واستغلال نظرية فرق تسد. وفي عام 1955، أصدر برلمان كردستان في المنفى ذلك الاعتراف: “بدأ رجال الإدارة العثمانية سياسة إبادة الأرمن والأشوريين.. بمساعدة بعض القبائل الكردية”، وكانت النتيجة “قتل ملايين الأرمن والآشوريين”.
في يناير (كانون الثاني) 1915، وفي مقاطعة واحدة بأورمييا، تمت مهاجمة 70 قرية ونهبها. وقام الأتراك والأكراد بذبح الآشوريين في أماديا في مايو (أيار) 1915 قبل نقل انتباههم إلى الكلدان في مقاطعة سرت. كما تم أيضا قتل الآشوريين في مقاطعة جوار، هاربوت، هوسنكيف، وأورفا في يونيو (حزيران). وتم إجبار من لم يقتل على الهرب من قراهم التي تم تدميرها أو حرقها، حيث قطعوا رحلة طويلة إلى سوريا ولبنان والأردن بعربات تجرها الخيول ومقطورات، أو سيرا على الأقدام تاركين منازلهم وممتلكاتهم. وقد مات العديد منهم خلال تلك الرحلة الشاقة والطويلة.
وربما تكون أسباب المذبحة هي تطهير الأراضي التركية، خوفا من تعاون المسيحيين مع الأقلية الكردية أو مع روسيا في الحرب العالمية. يقول البعض إن ذلك كان رد الفعل التركي تجاه الانتفاضة الأرمينية ضدهم لاحتلالهم جانبا من أراضيهم، رغم أن تلك المذابح امتدت إلى ما هو أبعد من المقاومة المسلحة ولا تبرر مقتل الآشوريين والسريان والكلدان الذين لم يشاركوا في تلك الانتفاضة. ومن جهته، يقول المؤرخ التاريخي ديفيد غونت إنه على الرغم من أن ذلك لا أساس له من الصحة، يبدو أن خوف الأتراك من اندلاع ثورة مسيحية كان سببا أساسيا في تلك المذابح. وبغض النظر عن السبب، ليس هناك شيء يبرر تدمير القرى، وذبح الآلاف من الضحايا الأبرياء من الشباب والعجائز، والاغتصاب، والذبح واختطاف النساء والأطفال المسجل بالتفصيل عبر شهود العيان باعتباره أحد أكثر الأفعال قسوة ولا إنسانية.
لقد أصبحت أحداث العنف في عام 1915 تعرف باسم السيف، أو عام السيف داخل المجتمع الآشوري ولم يتم تجاهلها. بل إنها تمثل بالنسبة لهم قمة المذابح المستمرة التي ارتكبت خلال عهد الإمبراطورية العثمانية. وخلال عامين فقط، في الفترة من 1843 – 1845، وفقا لممثلين بريطانيين ومصادر البعثات الغربية، تم ذبح عشرة آلاف آشوري. ومنذ ذلك الوقت، تعرضوا للمزيد من المذابح ولكن 1915 كان العام الأكثر وحشية من حيث عدد الضحايا. فقد اعترفت “الرابطة الدولية لأكاديميي المذابح الجماعية” التابعة للبرلمان الأوروبي بالمذبحة الآشورية وكذلك “الرابطة الأميركية الأرمينية”. ولكن تركيا ما زالت تنكر المذبحة رغم أنها رسميا قد اعترفت باقتراف مذابح في أماكن أخرى بما في ذلك المذابح التي تضمنت عددا أقل من الضحايا والجماعات الأصغر مثل البوسنة وكوسوفو في الاتحاد اليوغوسلافي السابق.
وفي 2009، أدلى رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا بذلك التصريح الجريء بأن حوادث التطهير العرقي التي ارتكبتها الحكومات التركية السابقة كانت أفعال فاشية قائلا: “لسنوات طويلة، كان من يحملون هويات مختلفة يتعرضون للطرد من بلادنا”.
وهي الخطوة التي تعرضت للانتقاد الحاد وللتفنيد من جانب برلمانه ولكن مجتمعات الأقليات رحبت بها. على أية حال، كانت هناك العديد من التحفظات على صدقه، وما زال لم يقدم اعتذارا رسميا حتى الآن.
انكار
ولكي نجد حلولا للنزاعات الحالية، يجب أن نعود للتاريخ الحديث، وندرس ما الذي حدث ونعرض المناحي الإيجابية وندين المناحي السلبية. وإلا نكون قد شاركنا في دعم السلوكيات الأصولية والعرقية بصمتنا. عندما لا نعترف بوقوع مذبحة جماعية، فإن ذلك يخلق شعورا في المجتمع بأن ذلك النوع من الأفعال مر من دون عقاب وهو ما لا يسمح للمجتمع بالتطور. كما يساهم الإصرار على إنكار جرائم الإمبراطورية العثمانية في انعدام الثقة واستمرار اضطهاد ضحاياها حتى اليوم. وفقا لصبري إتمان، مؤسس مركز سيف الآشوريين في أوروبا “فإن الإنكار، جعل الوضع الذي كان موجودا منذ عام 1915 يستمر من خلال الجرائم التي ترتكب في الوقت الراهن ضد الآشوريين في تركيا والعراق وإيران”. الكرة الآن في ملعب تركيا حيث يمكنها استغلال الفرصة لتقدم نموذجا طيبا للدول الأخرى. وقبل أن يحدث ذلك، يتساءل إتمان: “هل يجب عليهم أن يعيشوا وفقا للعقلية التي كانت سائدة وقت ارتكاب تلك الجرائم؟”.
ومن جهته، يقول هانيبال ترافيس مؤلف كتاب “المذابح الجماعية في الشرق الأوسط: الإمبراطورية العثمانية العراق والسودان” إن “تنفيذ القانون الدولي ربما يحل المشكلة”، مضيفا: “يمنع القانون الدولي إنكار وقوع المذابح الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية ويتطلب سداد التعويضات ويضمن مساواة أعضاء الأقليات الثقافية، الدينية، العرقية والسياسية والسكان الأصليين”.
ربما يكون لدى كل فرد من الأشوريين أو السريان أو الكلدان فرد قد قتل أو اختطف أو تم إجباره على الزواج خلال أحداث 1915. ولكن العدالة ربما تأتي في أشكال مختلفة، ففي الوقت الذي يخشى فيه البعض من مطالبة المجتمع الآشوري بالتعويضات – كما حدث في ألمانيا النازية – فإن كل ما تطالب به أسر الضحايا هو اعتذار تركي حكومي، اعتراف بأن ما حدث كان مذبحة وأنه كان هجوما أحادي الجانب عليهم، على أناس أبرياء. ويشعر العديد منهم أنه حتى يحدث ذلك، فإن أرواح الملايين الذين قتلوا بلا سبب لا يمكن أن ترقد في سلام. فالمجتمع يحتاج إلى خاتمة، لأنه بالنسبة لكل من فقد خالة أو عما أو جدا، بالإضافة إلى أرض الوطن، فإن القصة المروعة للدمار المنهجي لشعبهم ما زالت محسوسة حتى الآن وما زالت واقعية للغاية.