ترجمت مكتبة الإسكندرية كتاب «اللغات المفقودة» للعالم الانجليزي أندرو روبنسون الذي يبحث في أصول اللغات القديمة، وهل ثمة مشترك بينها لا تزال له دلالات وآثار وشواهد خفية في لغتنا اليوم، قد تحكم وتنظم عملية التفاعل الإنساني بين الشعوب والأجناس المختلفة على كوكبنا الأرض؟ ولو صح ذلك، فإلى أي مدى يمكن الإفادة منه، خاصة في تحرير وعينا الإنساني من النظرة الشيفونية للغة؟
تحت عنوان «منظومات الكتابة، الحضارات المشفرة، والكتابات الملغزة الطلاسم» يقدم المؤلف للكتاب مستهلا بأهم المنظومات الكتابية القديمة التي تم فك طلاسمها، حيث يعرض لأهم الاكتشافات التي شهدتها البشرية على مدى الألفيتين الماضيتين، وكيف شهد القرنان الماضيان تحديدا، بداية فك طلاسم الحضارات السالفة. بدءا بأول الانجازات، وهي فك جان فرنسوا شامبليون لطلاسم الكتابة الهيروغليفية علي حجر رشيد عام 1882 والذي ساهم في فك رموز اللغة المصرية القديمة. بذلك اتسعت مساحة التاريخ المكتوب لتستوعب ألفين من السنين. وحول بداية الكتابة وكيفيتها يرى روبنسون أن الاعتقاد السائد حتي عصر التنوير هو أن الكتابة بدأت كهبة سماوية ربانية، واليوم يسود الاعتقاد بين أغلب العلماء بأن الكتابة الأكثر قدمًا في التاريخ الإنساني كانت تدور حول الأمور الحسابية، وإن كان هذا الأمر لا يتضح بالقدر الكافي في السجلات المتبقية من مصر القديمة، والصين، وأمريكا الوسطى. ويعتقد روبنسون أن الحاجة الملحة في زمن ما من الألفية الرابعة قبل الميلاد، ظهرت في بلاد ما بين النهرين لتسجيل المعاملات التجارية المتشابكة الأطراف في مختلف المدائن، عندما لم تعد ذاكرة الصفوة الحاكمة كافية لرصد وتذكر هذه الأمور الحسابية التجارية. وعندما ألح هذا المطلب على عقول رجال الإدارة والتجار في سومر، شاعت بين القوم عبارات من قبيل «سوف أسجل هذا الأمر كتابة».
ويشير روبنسون إلى أن أول ظهور للكتابة كان في بلاد الرافدين، وهو ما كان مصدقا عليه حتي وقت قريب، لكن في ضوء اكتشافات البروفيسور جونتر دراير ـ مدير المعهد الألماني ـ في منطقة أبيدوس في صعيد مصر ظهر أن المصريين هم أسبق في اختراع الكتابة بمائتي عام على بلاد سومر، فقد ظهرت الكتابة في مصر حوالي 3500:3400 ق.م، وفي بلاد سومر في عام 3300 ق.م، وفي وادي السند في عام 2500 ق م، وفي كريت سنة 1750 ق.م، وفي الصين سنة 1200 ق.م، وفي أمريكا الوسطى قرابة سنة 500 ق.م، وليس من شك في أن المجتمعات البشرية قد استعارت من واحدتها الأخرى شيئًا من منظومة الكتابة. لقد اقتبس أهل مروي في السودان بعض الحروف الهيروغليفية المصرية لتمثيل أصوات لغتها التي لا نعرف أصولها، كما استخدم الرومان الأبجدية الأتروسكية، واقتبس اليابانيون الحروف الصينية في الألفية الأولى للميلاد، وطوع الأسلاف الأبجدية اليونانية لخلق كتابتهم «الكتابة السيريلية». ويرى ان أفضل طريقة في مواجهة الكتابات المشفرة الملغزة هي في الرجوع إلى محاولات العلماء السابقين مع كتابات مماثلة للتعرف على كيفية مغالبتها كي «تكشف» عما تخفيه من أسرار.
ويعالج الجزء الأول من الكتاب في ثلاثة فصول، جهود ثلاثة من المشاهير في هذا الميدان وهم: شامبليون وفك طلاسم الهيروغليفيات المصرية، ثم مايكل فنتريس وفك ألغاز الكتابة الخطية الثانية، وأخيرًا كنوروزوف ومعالجته لكتابة حضارة المايا في أمريكا الوسطى. وهذا العرض يبرز العوامل الأساسية التي أدت إلى نجاح هؤلاء العلماء الثلاثة في مهامهم، كما يبين مقاربات كل منهم وطرائقهم المذهلة في التوصل إلى أن العلامات الصوتية (مقطعية وأبجدية) والعلامات الصوتية ( تصويرية أو غير تصويرية) هي التي تؤلف منظومة الكتابة الفعالة. كما توضح هذه الإطلالة قدر الصعوبات التي واجهت هؤلاء العلماء ـ على المستويين العقلي والعاطفي ـ وكذا الحقيقة المقلقة بأن المشتغلين بفك رموز الكتابات القديمة أحيانًا ما يتوصلون إلى نتائج صائبة من خلال افتراضات خاطئة. لم يتطرق الكتاب الى العديد من الإنجازات الناجحة في عالم الكتابات القديمة، من قبيل الكتابات المسمارية، والحيثية في الأناضول، والكارية (Carian) التي تعد أحدث المحاولات في الأناضول أيضًا، وهي كتابة نقشت بحروف بعضها مستعارة من الأبجدية اليونانية.
أما الجزء الثاني من الكتاب فيتناول الكتابات المشفرة مرتبة حسب قواعد أساسية تقوم على مدى معرفة الخبراء بالنقوش من حيث تعرفهم على اللغة التي نقش بها النص قيد المناقشة. لذا بدأ المؤلف بالكتابات التي لدى الباحثين بعض المعرفة النسبية عنها، ولكنها منقوشة بلغات مجهولة الهوية (أي لغات لا صلة لها بأي من اللغات التي نعرفها، من قبيل لغة مروي، واللغة الأتروسكية، ولغة الكتابة الخطية الأولى واللغة العيلامية المبكرة). وبعدها انتقل إلى الكتابات التي لا يعرف الكثير عنها، ولكن يظن أنها كتبت جزئيًا بلغات معروفة، من قبيل الرونجو رونجو ولغة زابوتي Zapotec، ولغة إسثمي Isthmia . وأسقط الكاتب عدة كتابات مثل الأبجدية الرونية (runic) المُشكلة في الشمال الأوروبي، وكتابات الصين القديمة، والنقوش النادرة من شبه جزيرة سيناء (حوالي 1500 ق.م) وقد عثر عليها السير فلندرز بتري Flinders Petrie سنة 1905 في وسط شبه جزيرة سيناء، على صورة حجرين صغيرين في شكل أبي الهول وعلى بعض الصخور. وكتابة «تانجوت» لأهل شمال غربي الصين، التي تبنى على الحروف الصينية وقد استخدمت سنة 1036 الكتابة اللغة الخاصة بأهالي التبت وبورما، كما عمد المؤلف إلى إسقاط مخطوطة «فونيش» Voynich التي تقع في 235 صفحة ملغزة، وهي على ما يبدو من نتاج أوروبا العصور الوسطى. ويفسر اسقاطه لهذه الكتابات بأسباب علمية، فكتابات شبه جزيرة سيناء الباكرة ليست هناك مادة كافية تعين على التحقق من هويتها على وجه التحديد، في حين يرى أن حضارة «تانجوت» ليس لها موقع في مثل هذا الكتاب الذي ليست له سمة التخصص الضيقة. وبالنسبة لمخطوطة فونيش فيجد انها تمثل تحديًا حقيقيًا لمحللي اللغات القديمة أكثر من تحديها لعلماء الخطوط القديمة، وبهذا فهي تقع خارج دائرة هذا الكتاب. وفي المقابل ركز المؤلف على تلك الكتابات التي تنتمي إلى حضارات مهمة مثل «الأبجدية الإتروسكية»، أو على تلك التي تبشر بآمال في فك رموزها على المدى البعيد مثل «الكتابة العيلامية المبكرة»، أو تلك التي تتوافر لها هذه المعايير الثلاثة مثل «كتابة نهر السند».
ويتناول الجزء الثالث بعض الكتابات الملغزة تمامًا التي تم نقشها بلغات مجهولة وهي تمثل التحدي الأكبر للباحثين، من قبيل كتابة أهل نهر السند، ورموز اسطوانة «فايستوس».
وجاءت خاتمة الكتاب تحمل عنوان «فك الطلاسم كمطلب مُلح» لتدور حول المحاولات التي لا تنقطع في حقل الكتابات المشفرة، والتحديات التي تنطوي عليها مهمة فك الطلاسم. ويصارح المؤلف القارئ باعتقاده في عدم إمكانية فك طلاسم الكتابات التي عرج عليها في الجزء الثاني من هذا الكتاب بصفة قاطعة في الوقت الحالي، ولكنه في الوقت نفس يعتقد بإمكان إحراز شيء من التقدم اذا كانت المادة الجديدة المكتشفة وفيرة، وعندها فقط قد تبدو في الأفق آمال تبشر بالخير.
ذيل روبنسون كتابه بالمراجع والمقالات العلمية إلى جانب المصادر الأخرى العالمية على مواقع الإنترنت، لإعانة الباحثين المتحمسين للخوض في هذا المجال، الذي ما زال في حاجة الي جهود مضنية لفك طلاسم الكتابات الغامضة.
صدر هذا الكتاب حديثا عن دار نشر ماجروهيل لندن/ نيويورك بعنوان The lost ********، وقام مركز الخطوط بمكتبة الاسكندرية بترجمة الكتاب إلى العربية تحت عنوان «اللغات المفقودة»، وهو من تأليف أندرو روبنسون Andrew Robinson، المتخصص في اللغات القديمة. ويقع في 565 صفحة، بتقديم د. اسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية وتحرير د. خالد عزب نائب مدير مركز الخطوط مدير إدارة الإعلام بالمكتبة.
تعليق