الإمام الرباني القدوة، سماه الحسن البصرى (زينَ القراء) ،
ولم تكن له عبادة ظاهرة، وكانت الفتيا إلى غيره، وإذا قيل مع هذا مَن أفضل أهل البصرة ؟ قيل: محمد بن واسع.
وكان رحمه الله يبالغ في إخفاء عمله ويقول: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بَلَّ ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته.
ومن حاله ما يرويه أبو الطيب موسى بن بشار يقول:
" صحبت محمد بن واسع من مكة إلى البصرة
فكان يصلى الليل أجمع في المحمل جالساً يومئ برأسه إيماءاً، وكان يأمر الحادى يكون خلفه ويرفع صوته حتى لا يُفطن له "
وكان ربما عَرَّس من الليل فينزل ويصلى فإذا أصبح أيقظ أصحابه رجلاً رجلاً فيجئ إليه فيقول: الصلاة الصلاة.
هذه زهور من بستان هذا العابد الذى كان إذا رؤى وجهه ذكر الله تعالى، ورقت القلوب،
(إن إصبع محمد بن واسع الأزدي أحب إليّ من ألف سيف شهير يحملها ألف شاب طرير)
كلمات سطرها التاريخ جاءت على لسان القائد العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي
ولكن يا تُرى ما هذه الأصبع؟, ألم تكن من لحم ودم وعظم ككل الأصابع وما الذي ميزها فصارت أحب إلى القائد من ألف سيف شهير وهو المحتاج في أرض المعارك إلى كل جندي حتى يحقق النصر على عدوه نعم إنها أصبع تتصل بجسد ولحم و دم لحم نبت من حلال طاب مطعمه فكان مستجاب الدعوة ودم يتدفق من قلب فاض بالصدق والإخلاص وسلم من أن يكون فيه شريك لله أو حظ من حظوظ النفس والهوى وامتلأ فقراً وذلا وانكسار أو مسكنة لله رب العالمين استحيا من الله فاستحيا الله أن يرد له دعوة فكان مستجاب الدعوة.. لله درك يا بن واسع يا زين الفقهاء وتاج الأتقياء وقدوة العابدين وشيخ الزاهدين ولم لا؟!, وهو الذي تتلمذ وتربى على يد أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتخرج من المدرسة النبوية والجامعة المحمدية فلا غرابة أن يكون هذا حال تلميذه رضي الله عنه ورحمه الله.
ولقد أوتى محمد بن واسع من الحكمة والعلم ما جعله منهلاً عذباً لكل طالب علم حتى جاء أحدهم وقال له : أوصني يا أبا عبد الله فقال: ( أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة ), فدهش السائل وقال : وكيف لي بذلك يا أبا عبد الله؟!, فقال: (ازهد بعرض الدنيا تكن ملكا هنا بالاستغناء عما في أيدي الناس وملكاً هناك بالفوز بما عند الله من حسن الثواب), وجاء له آخر فقال : ( إني لأحبك في الله يا أبا عبد الله), فقال: (أحبك الله الذي أحببتني من أجله), ثم ولى وهو يقول : اللهم إني أعوذ بك أن أحب فيك وأنت لي ماقت ) , إن الإنسان كلما ازداد علماً ازداد لله خشية وتواضعاً وهذا كان حال محمد بن واسع فكان يقول في مجلس أصحابه: (لو كان للذنوب رائحة تفوح ما استطاع أحد منكم أن يدنو مني لما يصيبه من أذى رائحتي) , كما أنه كان محباً للقرآن يشدو به تلاوة ويترنم به تعبدا وتدبرا حتى وصفه مالك بن دينار فقال: (للأمراء قراء وللأغنياء قراء وان محمد بن واسع لمن قراء الرحمن ), ومن حبه لهذا الكتاب العظيم وسعادته به كان يرغب أصحابه فيه فيقول القرآن بستان المؤمن فأينما حل منه نزل في روضته وصدق والله فإنه نعم البستان لمن تدبر آياته وتفهم معانيه وعاش في كنفه.
ولقد ترقى على السلم التقى حتى بلغ منه مبلغا عظيماً قلما يبلغها أحد حتى روى عنه أنه رؤى في السوق وهو يعرض للبيع حماراً له فسأله رجل: أترضاه لي أيها الشيخ؟, فقال: لو رضيته لنفسي ما بعته, وسأله صاحب له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟, فأجاب قائلا:ً (أصبحت قريبا أجلي بعيدا أملي سيئاً عملي ), فإذا رآه مندهشاً قال: ما ظنك برجل يقطع إلى الآخرة كل يوم مرحلة؟!,
ولقد سطر لنا التاريخ صفحات ناصعة من جهاد محمد بن واسع وشجاعته واستبساله وحرصه على أن يكون في صفوف المجاهدين الفاتحين بسيفه وسنانه وأيضا بأصبعه التي تعرف طريقها إلى السماء فينزل الله بسببها الخيرات والبركات والنصر الذي وعد عباده المؤمنين وهاك طرف منها .
فقد خرج مع القائد المظفر يزيد بن المهلب والى خراسان في خلافة أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك في جيش كان قوامه مائة ألف مقاتل غير المتطوعين ممن خرجوا يطلبون الشهادة في سبيل الله وكان محمد بن واسع في طليعة المتطوعين ونزل الجيش بأرض يقال لها دهشان وكان يسكنها قوم من الترك أشداء أقوياء تحميهم حصونهم المنعية حتى أنهم كانوا يخرجون كل يوم لقتال المسلمين فإذا أعيتهم المواجهة لاذوا بتلك الحصون وتحصنوا بها ولكن ما كان دور محمد بن واسع في هذه المعركة وهو ضعيف البنية متقدم السن؟, نعم.. لقد كان له دور فعال إذ كان المسلمون يستبشرون إذا نظروا إلى وجهه المهلل بنور الطاعة ويتحمسون إذا سمعوه يلهج بذكر الله سبحانه ويطمئنون إذا رأوه يرفع أصبعه إلى السماء لأنهم يعلمون أنه مستجاب الدعوة وكانوا يستجيبون لندائه فيهم: يا خيل الله اركبي.. يا خيل الله اركبي.. فيهبون إلى قتال عدوهم كالليوث الضواري المتشوقة إلى فريستها..
وفي ذات يوم من تلك الأيام المشهودة برز فارس من صفوف الأعداء لم تقع العين على رجل أضخم جسماً منه ولا أشد قوة وأخذ يصول ويحول بين الصفوف حتى نحى المسلمين عن مواقعهم وجعل يدعوهم إلى المبارزة متحديا لهم فما كان من محمد بن واسع إلا أن تهيآ لآن يبرز له فبعث الشجاعة في نفوس المسلمين ونفث البسالة في قلوبهم وخرج واحد من هؤلاء الفرسان البواسل وألح على محمد بن واسع وأقسم عليه بأن يترك له ذلك فأبر الشيخ قسمه ودعا له فتقابل الفارسان وتصاولا وتجاولا فترة من الزمان هذا يختلف ضربة والآخر يختلف أخرى والناس من حولهم ينظرون شاخصة أبصارهم مشدوهة أنفسهم ينتظرون النتيجة.. ثم اختلف الفارسان ضربتين بسيفيهما على رأسيهما في لحظة واحدة فثبت سيف (التركي ) في حديد بيضة الفارس المسلم وشطر سيف المسلم رأس التركي شطرتين وعاد إلى صفوف المسلمين منتصراً يحمل سيفين سيف في يده يقطر دما وسيف مثبت في خوذته فنظر إليه يزيد بن المهلب قائد جيش المسلمين فقال: لله أبوه من فارس!!, أي رجل هذا ؟!, فقيل له: إنه رجل بركته دعوات محمد بن واسع, ففرح المسلمون أيما فرح وازدادوا شجاعة إلى شجاعتهم وحماسة إلى حماستهم وأقبلوا نحو أعدائهم كالسيل الهادر متشوقين أن يحققوا نصراً و مجدا وأحاطوا بعدوهم وأحكموا عليهم القبضة وقطعوا عنهم أي مدد فلم يجد ملكهم بدا من المصالحة فبعث إلى يزيد يعرض عليه الصلح ويعلن استعداده لتسليمه ما في يده من البلاد بكل ما فيها ومن فيها على أن يؤمنه على نفسه وماله وأهل بيته فقبل منه يزيد بشرط أن يقدم له سبعمائة ألف درهم مقسطة وأن يعطيه أربعمائة ألف عاجلة وأن يقدم له أربعمائة دابة محملة زعفراناً وأن يسوق له أربعمائة رجل في يد كل واحد منهم كاًس من الفضة وعلى رأسه برنس من الخز وعلى البرنس طيلسان من القطيفة وشقة من الحرير ليلبسها نساء الجند حتى إذا انتهت المعركة أمر يزيد خازنه فقال: أحصي لنا الغنائم حتى نعطي كل ذي حق حقه, فحاول الخازن ومن معه إحصاءها فعجزوا لكثرتها فقسمت بين الجند قسمة مبنية على التسامح .
وقد وجد المسلمون في الغنائم تاجاً من الذهب الخالص محلى بالدرر والجواهر مزخرف مزركش فتمنى كل واحد أن لو كان من نصيبه فأخذه يزيد بيده ورفعه ثم قال: أترون أن أحد يزهد في هذا التاج؟!, فقالوا أصلح الله الأمير ومن الذي يزهد به؟, فقال: سترون أنه مازال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يزهد به وبملء الأرض من مثله ثم التفت إلى حاجبه وقال: التمس لنا محمد بن واسع الأزدي..
فانطلق الحاجب يبحث عنه في كل جهة فوجده متنحيا عن الناس مختلياً بنفسه منتصباً مصلياً يدعو ويستغفر متعبدا لربه فأقبل عليه وقال: إن الأمير يدعوك للقائه ويسألك أن تمضي إليه الساعة فمضى مع الحاجب حتى إذا صار عند الأمير حيا وجلس قريبا منه فحياه الأمير ثم رفع التاج بيده وقال: يا أبا عبد الله إن جند المسلمين قد ظفروا بهذا التاج الثمين وقد رأيت أن أوثرك به وأن أجعله من نصيبك فطابت نفوس الجند بذلك.. فقال: تجعله من نصيبي أنا أيها الأمير؟!, فقال: نعم.. من نصيبك أنت, فقال: لا.. حاجة لي به أيها الأمير وجزيت وإياهم عني خيرا, فقال: أقسمت عليك بالله لتأخذنه فلماً أقسم عليه الأمير أخذه وانصرف,
فقال من يعرف من هو محمد بن واسع: ها هو ذا قد استأثر بالتاج ومضي به فأمر يزيد غلاماً أن يتبعه - دون أن يشعر- أن ينظر ماذا يصنع بهذا التاج وأن يأتيه خبره.. فتبعه الغلام وهو لا يدري به فعرض له رجل يسأله من مال الله فنظر بن واسع يمينه ويسره حتى إذا ظن أن أحداً لا يراه أعطاه ذلك التاج الثمين ثم انطلق فأمسك الغلام بيد السائل وأتى به على الأمير وقص عليه خبر التاج والناس ينظرون وأخذه من السائل وعوضه من مال بدلا منه حتى رضي ثم التفت إلى الجند وقال: أما قلت لكم, إنه مازال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يزهد بهذا التاج وأمثال أمثاله.
ظل محمد بن واسع يجاهد المشركين تحت إمرة يزيد بن المهلب حتى إذا اقترب موسم الحج استأذنه أن يمضي ليقضي المناسك فأذن له وقال: إذنك بيدك يا أبا عبد الله فأمض متى شئت وقد أمرنا لك بمبلغ من المال يعينك على حجك فقال له: وهل ستأمر بمثل هذا المال لكل جندي من جنودك أيها الأمير؟!, فقال: لا, فقال: لا حاجة لي بشيء أخص به من دون جند المسلمين ثم انصرف وقد شق على يزيد فراق هذا الرجل مستجاب الدعوة وتمنى أن لو انتهى من المناسك حتى عاد أدراجه في عداد جيش يزيد فيطمئن إلى صحته وإلى دعائه المستجاب.هكذا يكون الرجل الصالح التقي الورع قوي الإيمان يتمنى الناس صحبته والقرب منه بل ويحزنون لفراقه ويتألمون للبعد عنه..
هاك صورة أخرى من جهاد بن واسع رحمه الله مع قتيبة بن مسلم الباهلي والذي أحب بن واسع حباً جما وقربه وأدناه وكان عنده أحب من ألف فارس طرير يشهرون سيوفهم في سبيل الله.. قتيبة الذي توجه إلى بخارى ليفتح ما تبقى من بلاد ما وراء النهر - أي ما وراء نهر جيحون بخراسان - والذي ما أن وصل إلى بخاري وعبر النهر حتى علم به أهل البلاد فدقوا طبول الحرب واستنفروا الناس لقتال المسلمين فأخذت الجموع تتدفق عليهم من (الصفد ) و(الترك ) و( الصين ) وغيرهم حتى بلغوا أضعاف أضعاف المسلمين عددا وعدة وسدوا أفواه الطرق في وجوه المسلمين وأغلقوا كل المسالك والثغور حتى انه لم يستطع قتيبة أن يرسل سرية لتحسس له الأخبار وعسكر قتيبة بالقرب من مدينة (بيكند) لا يتحرك, وأخذ العدو يخرج له في كل صباح بطليعة من طلائعه يناوش جيش المسلمين النهار ثم يعود إلى حصونه المنيعة ليلا وكان هذا هو الحال طوال شهرين كاملين حتى صار قتيبة في حيرة من أمره أيحجم عن القتال أم يقدم, وما إن وصل خبر جيش قتيبة إلى المسلمين في كل مكان فقلق الناس اشد القلق لما رأوا ما عليه جيشهم الذي لم يغلب ذي قبل حتى صدرت التوجيهات إلى الأمصار بأن يلجوا في الدعاء لجند المسلمين إثر كل صلاة فأخذ الأئمة يقنتون في كل صلاة وتطوع الكثير لنجدة جيش المسلمين في طليعتهم محمد بن واسع رحمه الله ثم إن قتيبة كان له عين من أبناء العجم ذا حنكة ودهاء يقال له (تيذر) استماله الأعداء وبذلوا له المال الكثير وطلبوا منه توهين المسلمين وحملهم على أن يغادروا بلادهم وبالفعل أتى (تيذر) إلى قتيبة مستخدما دهاءه ومكره ودار بينهما حوار كان مفاده أن أمير المؤمنين بدمشق قد عزل الحجاج بن يوسف الثقفي وعزل من يتبعه من القواد وقتيبة منهم, وولى قوادا جدداً وأشار عليه أن ينصرف بجيشه عن تلك الديار ولكن قتيبة كان أكثر فراسة منه فأمر بقتله لخيانته.
ثم أذن للناس بالدخول فارتاعوا وفزعوا لما رأوه متجندلاً في دمائه فأخبرهم خبره وخيانته لجيش المسلمين وقال: ما يروعكم من قتل رجل غادر خائن؟!, فقالوا: كنا نظنه ناصحا للمسلمين, فقال: بل كان غاشا لهم فأخذهم الله بذنبه ثم رفع صوته: والآن انصرفوا إلى قتال عدوكم والقوه بقلوب غير القلوب التي كنتم تلقونه بها من قبل, فاستجابوا وما أن تصاف الجيشان حتى رأى المسلمون من كثرة عدوهم ووفرة عتاده فأخذ قتيبه يقوى عزائمهم ويشحذ هممهم وينفث فيهم روح البسالة والشجاعة ثم قال لمن حوله: أين محمد بن واسع الأزدي؟, فقالوا: إنه هناك في الميمنة أيها الأمير, فقال وما يفعل؟!, فقالوا: إنه متكئ على رمحه شاخص ببصره يحرك أصبعه نحو السماء أنناديه لك أيها الأمير؟, فقال: لا.. بل دعوه والله, إن تلك الأصبع أحب إليّ من ألف سيف شهير يحملها ألف شاب طرير اتركوه يدعو فما عرفناه إلا مستجاب الدعاء..
التقي الجمعان وتجالد الفريقان النهار كله وأنزل الله سكينته وتأييده على قلوب جنده الذين يقاتلون لإعلاء كلمته وإخراج العباد من قهر الذل والاستعباد إلى واحة الإيمان الرحيبة والتحرر من ذلك الذل والقهر بعضهم البعض إلى حرية الاعتقاد وقذف في قلوب عدوهم الرعب فمنحوا ظهورهم للمسلمين ليقتلوا منهم ويأسروا ومزقهم الله كل ممزق حتى سألوا قتيبة الصلح والفدية, فصالحهم قتيبة وكان من الأسرى رجل خبيث نفسه كثير شره على المسلمين مجرم حرب فيعرف القانون الحديث فقال لقتيبة: أنا أفدى نفسي أيها الأمير.. فقيل له: وكم تبذل؟, فقال: خمسة ألاف حريرة صينية ثمنها ألف ألف.. فاستشار قتيبة جنده وقال ما ترون؟,
فقال بعضهم: نرى أن هذا المال سيزيد في غنائم المسلمين ثم إننا بعد أن أحرزنا النصر عليهم لم نعد نخشى بأس هذا الرجل وأمثاله فالتفت قتيبة إلي بن واسع وقال: وما تقول أنت يا أبا عبد الله؟, فقال: أيها الأمير إن المسلمين لم يخرجوا من ديارهم لجمع الغنائم وتكديس الأموال وإنما خرجوا مرضاة لله ونشر الدين في الأرض وقهراً لأعدائه, فقال قتيبة: جزآك الله خيراً والله لا أدعه يروع امرأة مسلمة بعد الساعة ولو بذل مال الدنيا فداء لنفسه.. ثم أمر بقتله..
وهكذا كان محمد بن واسع مجاهدا في سبيل الله يخرج في صفوف المسلمين جندا وفيا سامعاً مطيعاً لا يفرق بين هذا أو ذاك ممن ولاه الله عليه وهو الذي لم يقاتل تحت إمرة يزيد بن المهلب وقتيبة بن مسلم فحسب وإنما أيضا مع غيرهم من الأمراء والذي فرض عليهم جميعاً - بتقواه وصلاحه وقربه من ربه - أن يحبوه ويقربوه ويبشروا بدعائه.
أن المواقف التي تشهد لمحمد بن واسع على زهده وورعه أكثر من أن تحصى نذكر منها..
أن والي البصرة بلال بن أبي بردة دخل عليه محمد بن واسع ذات يوم وهو لابس مدرعة - جبة مشقوقة المقدم خشن من الصوف - فقال له بلال: ما يدعوك إلى لبس هذا الكساء الخشن يا أبا عبد الله؟!, فتشاغل عنه ولم يجبه فنظر إليه وقال: مالك لا تجيبني يا أبا عبد الله؟!, فقال: أكره أن أقول زهدا فأزكي نفسي وأكره أن أقول فقرا فأشكو ربي وأنا لا أريد هذا ولا ذاك, فقال له: ألك حاجة يا أبا عبد الله فنقضيها لك؟, فقال: أما أنا فما لي من حاجه أسألها أحداً من الناس وإنما أتيتك في حاجة لأخ مسلم فإن أذن الله في قضائها وكنت محمودا وإن لم يأذن في قضائها وكنت معذورا, فقال: بل نقضيها إن شاء الله,
التفت إليه الوالي وقال: ما تقول في القضاء والقدر يا أبا عبد الله؟, فقال: أيها الأمير إن الله عز وجل لا يسأل عباده يوم القيامة عن القضاء والقدر وإنما يسألهم عن أعمالهم فاستحيا منه الأمير ولم يتكلم..
وفيما هو جالس عنده حان موعد الغداء فدعاه الوالي إلى طعامه فأبى ذلك فألح عليه فجعل يتعلل فغضب الوالي وقال: أراك تكره أن تصيب شيئاً من طعامنا يا أبا عبد الله, فقال: لا تقل ذلك أيها الأمير فوالله إن خياركم معشر الأمراء لأحب إلينا من أبنائنا وخاصة أهلينا وعرض على محمد بن واسع تولي منصب القضاء فأبى ذلك أن محمد بن المنذر صاحب شرطة البصرة دعاه إلى ذلك قائلا: إن أمير العراق طلب مني أن أدعوك لتولي القضاء فقال: أعفوني من ذلك عافاكم الله, فألح عليه مرارا فأصر فقال له: والله لتتولين القضاء أو لأجلدنك ثلاثمائة جلدة ولأعذرنك, فقال له: إن تفعل فإنك مسلط وإن معذب الدنيا خير من معذب الآخرة فخجل منه وصرفه..
ولقد ذخرت كتب تاريخ المسلمين بالصفحات الناصعة المضيئة بمواقف هذا الرجل العظيم التي تشهد أنه وأمثاله كانوا خير سلف لهذه الأمة التي لن ينصلح حالها إلا بما انصلح به حال سلفها الصالحين, ثم أن محمد بن واسع مرض مرضه الذي مات فيه فتكاثر الناس على زيارته والاطمئنان عليه فمال عليه أحد أصحابه وقال: أخبرني ما يغني عني هؤلاء إذا أُخذنا غدا بالنواصي والأقدام وما ينفعوني إذا ألقيت في النار.. ثم أقبل على ربه وجعل يقول: اللهم إني أستغفرك من كل مقام سوء قمته ومن كل مقعد سوء قعدته ومن كل مدخل سوء دخلته ومن كل مخرج سوء خرجته ومن كل عمل سوء عملته ومن كل قول سوء قلته.. اللهم إني أستغفرك من ذلك كله فاغفره لي وأتوب لك منه فتب عليّ وألقى إليك بالسلام قبل أن يكون لزاما.. ثم فاضت روحه..
رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته وأعلى ذكره في الآخرة كما أعلاه في الدنيا.. ويا رب كما أحببنا بن واسع فيك فأحبنا وارض عنا وارزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل قول وعمل يقربنا إلى حبك آمين يا رب العالمين وهؤلاء هم سلفنا الصالح الذين أبدًا سنظل نذكرهم ونستهدى بهم فا لذكر للإنسان عمر ثان.
منقوووووووووول
............
تعليق