الجمال
بنظرتها الفخورة ووجهها المتناسق الرقيق ذي الخدّين العاليين والحاجبين المقوّسين الرقيقين والأنف الأهيف والشفتين المكتنزتين والعنق الارستقراطي الطويل كانت نفرتيتي ولا غرو ذات طلعة فاتنة بهية. فاسمها، الذي من المرجّح أنه كان يُنطق "نافتيتا" كان يعني "الجميلة قد أقبلت".
لقي جمال نفرتيتي المتألق توثيقاً في العديد من اللوحات، وُجد بعضها في تل العمارنة التي كانت يوماً ما حاضرة عرش اخناتون.
ومن أبدع تلك التحف الفنية تمثال جيري نصفي يعرض في المتحف المصري ببرلين منذ 1924. وقد اكتشف هذا التمثال، الذي لا يزيد طوله عن خمسين سنتمتراً (20 بوصة) والذي يعتبر الآن من أشهر الآثار الفنية المصرية من عصر الفراعنة، عالم الآثار الألماني لودفيك بورخاردت. وقد قام بهذا الاكتشاف في السادس من ديسمبر 1912 أثناء تنقيبه في تل العمارنة.
ولا يزال موضوع صدر التمثال حتى الآن مثارً للجدل عمّا إذا كان لنفرتيتي أو أنه ينتسب إلى ثتموسيس. غير أن تمثال نفرتيتي به عين واحدة فقط مكتملة الرسم، وهذا يشير إلى أن صدر التمثال ربما يكون نموذجاً فقط يمثل قاعدة للعمل الفني الخالد.
كما تم العثور على تمثال نصفي آخر للملكة الفاتنة من قبل الباحث البريطاني جون بندلبيري في نحو عام 1932 أثناء حفريات جرت في تل العمارنة. وهذا الرأس، الذي كان يعتزم المثّال وضعه على نصب تذكاري، لا يحمل أي نقوش. لكن مثله مثل بقية الأعمال الفنية الخاصة بنفرتيتي، تم قبوله على أنه يمثلها. واليوم يمكن إلقاء نظرة على هذا العمل الفني بالمتحف القومي المصري في القاهرة.
أحب الزوجات
لابد أن اخناتون كان يكن كل الود والاحترام لزوجته وشريكته بصورة استثنائية. فقد حملت أعمدة مدينته نقوشاً وكتابات تعبّر عن سعيه لانتزاع حبها:
"جميلة المُحيّا، مالكة السعادة، يا من وُهبت بالمقدرة على الاستماع، ويجلب صوتها الحبور، ملكة كل الحسان، من رُزقت بكل الحب، جالبة السعادة لملك البرّين".
مظهر ملكي
كانت نفرتيتي تتحلى في السنوات الأولى من حكمها بشارة الشرف التقليدية التي تتحلى بها الملكات. وقد رُسمت وهي ترتدي تيجاناً وشعراً مستعاراً مزيناً بقرني بقرة وريش وقرص شمس، وكلها سمات ذات علاقة بطائفة الإلهة (هاثور).
وتزينت الملكة عقب ذلك في العمارنة، العاصمة الملكية الجديدة، بتاج أزرق ذا قمة مسطحة يشبه في شكله تاج الحرب الخاص باخناتون؛ وهو ذاك التاج الذي يجسّده تمثال متحف برلين والذي أصبح معروفاً على نطاق العالم أجمع. وفي بعض الأحيان كانت تظهر في الرسوم وهي ترتدي تاجاً ضيقاً يشبه القلنسوة. كما كانت الملكة الجميلة ترتدي في أحيان أخرى لباساً في الرأس يشبه المنديل وكان يعرف بالخات.
وكانت نفرتيتي تبدو في رسومات قديمة أخرى وقد صفف شعرها بما يوصف بأنه "باروكة الشمعة النوبية". وهي مكونة من مجموعة من طبقات خصلات الشعر والضفائر التي ترقد فوق بعضها البعض، وتلك الباروكة لا يرتديها سوى الرجال المنتمين للجيش الملكي.
وكان حاجبا الملكة كثيراً ما يزينهما ثعبانا الكوبرا من كل جانب، وهما يرمزان لسيادتها على البرّين، مصر العليا ومصر السفلى.
وتظهر النقوش والرسومات التي وجدت على تابوت اخناتون الشريكة الملكية وهي ترتدي ثوباً مطوياً. كما كانت أيضاً تضع على رأسها باروكة ذات شعر مجعّد ويظهر الثعبانان وفوقهما تاج قرص الشمس المحكم وإفريز الكوبرا وريشتان طويلتان.
وكما هو الحال بالنسبة لبقية أفراد الطبقة الأرستقراطية، لم تكن نفرتيتي تتحلى بالمجوهرات والشعر المستعار والملابس الضيقة وحسب، بل استخدمت المساحيق التجميلية أيضاً لإظهار جمالها الطبيعي. فقد كانت النساء في تلك الأيام ترسم خطاً أسوداً عريضاً حول العين والجفن حتى يصل خارج العين. وكان هذا الخط يرتبط لدى قدماء المصريين بالنقاء الشعائري. كما كنّ يضعن على جفن العين معجون مكوّن من مسحوق النحاس الأخضر المخلوط بالدهن. كما استخدمت النساء حُمرة الخدين والشفتين أيضاً طبقاً للرسومات التي تشهد على ذلك. وفيهما يتم استخدام نفس المادة الغرائية ثم تخلط بحبيبات الخس.
اشهر تمثال للملكة نيفرتيتي . يبلغ طوله 50 سم وهو موجود في متحف برلين بالمانيت
صورة جانبية لنفس التمثال
الاسطورة
لم يكن جمالها وحده الأسطورة، بل أيضاً مكانتها الاستثنائية في السلطة. فقد كانت نفرتيتي وزوجها الفرعون اخناتون هما عن فجرا ثورة دينية كبرى. فقد تمكنا من استبدال كل الآلهة التقليديين بإله واحد فقط هو إله الشمس أتون.
زوجة ملكية عظيمة
يبدو أن نفرتيتي كانت مؤمنة متحمسة للدين الجديد. وربما تمكنت أيضاً من استخدام الدين الجديد لإيجاد مكانة خاصة بها أقرب ما تكون إلى الألوهية. ويعكف علماء المصريات في الوقت الحاضر على البحث في معابد الكرنك والأقصر على دليل ربما تمكنوا من خلاله من دعم تلك الفرضية.
وقد أنشأ اخناتون أثناء فترة حكمه التي كانت في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد العديد من المعابد في الضواحي المخصصة لعبادة إله الشمس آتون. وبما أن تلك المعابد تم اعتبارها من مخلفات الحكم البائد، فقد تم تدميرها جميعاً عقب انقضاء فترة حكم اخناتون. وقد تمت الاستفادة من ألواح الحجارة المتبقية منها في بناء نصب تذكارية أخرى للحكام الذين حكموا مصر بعد ذلك. ويحاول العلماء الآن إعادة تجميع تلك الحجارة الواحد بجانب الأخر حتى يتمكنوا من تكوين مشاهد واضحة على أمل الوصول إلى مكانة نفرتيتي الاجتماعية.
وقد تم فك شفرة جزء من اسمها منحوتاً على أحد الحجارة بالإضافة إلى أحد ألقابها الملكية (الزوجة الملكية العظيمة). وقد عُثِر على أكثر من نقش يصور نفرتيتي وهي تقود مركبة حربية وتحمل صولجاناً، وهو شعار السلطة العليا في الدولة الفرعونية. كما ظهرت في صور أخرى، بصفتها ملكة بلادها، مجهزة على أعداء مصر وفي يدها هراوة أو سيف، او معتلية مهاداً ملكياً، أو وهي تهب ذهب الشرف للإله. ولم تحظى أي أنثى أخرى من الأسرة المالكة بمثل هذا التوثيق التصويري قبل نفرتيتي أو بعدها.
زوجات الإله آمون
يقف معبد الكرنك شاهداً على قصة تأسيس مصر التي نقشت على جدرانه. وطبقاً للأسطورة فإنه لم يكن هناك شيئاً في البداية، بعدها ظهر إله الخلق والخصوبة أمون من بين الظلام وكانت برفقته الإلهة مت. ووقع أمون أسيراً لحيل إغرائها. وتقول المصادر القديمة: "قامت بإشعال نيرانه، ونتيجة لاستثارة شهوته تشكّل الكون."
وكان بالقرب من الإله أمون الفراعنة الذين يعتبروا ممثلوه على الأرض التي يحكمونها باسمه وبالإنابة عنه. كما كانت النساء أيضاً على مقربة منه. وكان باستطاعتهن أيضاً أن يصبحن زوجات له بعد أن يقمن بأداء طقوس معينة. وطبقاً للأدلة التي توفرها الرسوم المعاصرة، يُعتقد بأن نساء بعينهن زرن ضريح أمون المقدس في معبد الكرنك. وهناك قمن بتمثيل أسطورة الخلق ومنحن أمون خلوداً دنيوي، للتأكد من أن الكون لن يرتد إلى حالة الفوضى التي كان يعيشها قبل أن يتشكل. وبهذا تصبح النساء "زوجات أمون ورفيقاته". ومن حق أي امرأة ارستقراطية مصرية الحصول على هذا اللقب التشريفي وأن تتمتع بالهالة الاجتماعية المرتبطة به.
في مثل قوة الفرعون
في أثناء فترة حكم نفرتيتي واخناتون، كان لمعبد الكرنك بوابة ضخمة على الناحية الشرقية منه. وقد تم استحضار ما يزيد عن المائة نقش تصويري لطقوس فرعونية. ومعظم تلك الرسوم تصور نفرتيتي وهي تقف في وسط طقوس العبادة ومن بينها تقديم القرابين للإله.
وفي حقيقة الأمر فإن التقاليد تقتضي ألا تقدّم القرابين إلا من الفرعون شخصياً أو من "زوجة أو رفيقة للإله". إذن هذه اللوحات تدل على أن نفرتيتي كانت تتمتع بمكانة في السلطة مساوية لتلك المكانة التي حظي بها الفراعنة. وعلى الرغم من أن الدين الجديد الذي بُشِّر به لم تعد فيه مكانة ل"زوجات أو رفيقات الإله"، فقد أعلنت نفرتيتي ولاءها للإله آتون متبعة نفس الطقوس التي كانت تمارسها رفيقات الإله آمون. وتبدو نفرتيتي وكأنها كانت تستخدم التقاليد الدينية "لرفيقات" الإله من اجل أن ترتقي بنفسها لمصاف المعبودات.
وبعد كل ذلك تمكنت نفرتيتي من أن تصبح لعقد كامل من الزمان أكثر النساء نفوذاً في العالم القديم.
الملكة
ظلت تفرتيتي لما يربو عن العشر سنوات أكثر النساء نفوذاً في مصر. وقد حكمت نفرتيتي البلاد، متمتعة بسطوة تبجيل الآلهة التي سبغها عليها شعبها، جبناً إلى جنب مع زوجها أمينوفس الرابع، حاكم المملكة الجديدة للأسرة الثامنة عشرة، والذي غيّر اسمه إلى اخناتون عقب اعتلائه العرش في حوالي 1353 قبل الميلاد. غير أنه لا يعرف سوى اليسير عن الملكة الفاتنة اليوم. فقد تلاشى أثرها تماماً عن التاريخ في نحو العام 1336 قبل الميلاد، وكان عمرها آنذاك حوالي ثلاثين عاماً.
بزوغ ساطع وأفول مفاجئ
تزوجت نفرتيتي من الفرعون اخناتون، ابن أمينوفس الثالث في السنة الرابعة من اعتلائه عرش مصر القديمة، ويبدو أنها كانت في الخامسة عشرة من عمرها آنذاك، في الوقت الذي كان فيه اخناتون في الرابعة عشرة من عمره. ونتيجة لهذا الاتحاد،ارتقت الملكة الجميلة سلم الحكم لتصبح واحدة من أكثر النساء التي حكمن مصر القديمة سلطة ونفوذاً. وكانت نفرتيتي تحظى بالحب والاحتفاء والتقديس، واتخذت مكانها بجانب الملك في كل المناسبات الهامة، وظلّ موقعها مساوياً لمكانته تقريباً. ولكن فجأة غاب أثرها؛ فحتى يومنا الحاضر لم يتم العثور على أي دليل من شأنه أن يلقي ببعض الضوء على مصير نفرتيتي الغامض. وحتى الآن ما تزال جثتها تُعتبر مفقودة.
من أين أتت نفرتيتي؟
أصل الملكة الفاتنة وخلفيتها يشوبهما الغموض أيضاً. وتبعاً لإحدى النظريات، فإنها ربما كانت أميرة ميتاني (تادوخيبا)، العروس المرشحة للزواج من أمينوفس الثالث لكنها تزوجت بدلاً عن ذلك ابنه. وتقول نظرية أخرى إن نفرتيتي ولدت نتيجة علاقة ما بين أمينوفس الثالث وإحدى خليلاته. وهذه النظرية تجعل من نفرتيتي واخناتون أخوين غير شقيقين.
ولكن هذه النظرية أيضاً تعتبر غير معقولة لأن نفرتيتي كان يحق لها الحصول على لقب (ابنة الفرعون) وهو ما لم يحدث قط. وتشير النظرية الثالثة إلى أن نفرتيتي هي ابنة تاي وآي. وطبقاً لهذه النظرية فإن والدها كان أحد الموظفين الكبار في البلاط الملكي لأمينوفس الثالث مما يجعله بالتالي من المقربين لاخناتون. وبناء على تلك النظرية التي تلقى قبولاً واسعاً لدى علماء المصريات، فإن خلفية نفرتيتي كانت تعود إلى الطبقة الراقية للمجتمع المصري القديم. لكن قد لا تكون تاي الأم الحقيقية للملكة الساحرة، بل من المرجح أنها كانت مرضعتها.
في حظوة إله الشمس
كان لنفرتيتي واخناتون السبق في القيام بإصلاحات دينية واجتماعية كبرى. فقد كان أكثر ما حققاه من إنجازات هو نبذ عادة المصريين القدامى بتعدد الآلهة وعبادة إله واحد بدلاً من ذلك هو إله الشمس آتون.
وفي السنة الخامسة من حكم اخناتون، نقل الزوجان مقر حكمهما الرسمي من طيبة إلى تل العمارنة والتي كانت تعرف بموطن نور آتون.
وحتى الكرنك، التي كانت حتى ذاك الحين مقراً تقليدياً لطائفة آمون، كانت تشهد بناء معابد جديدة تقرباً لإله الشمس. وقد زخرفت تلك المعابد بأعداد كبيرة من صور نفرتيتي، والتي كانت بصفتها ملكة تحمل اللقب الملكي التقليدي "الكمال كمال آتون".
وحظيت نفرتيتي بتخليد في المعابد والنصب التذكارية أكثر مما حظيت به أي ملكة مصرية أخرى قبلها أو بعدها. ومن المرجح أن الملكة كانت تشغل منصب الكاهن الأعظم أيضاً وهو المنصب الذي عادة ما يحتفظ به الملوك وحدهم.
لكن نفرتيتي اختفت من الصور والنقوش في العام الأخير من حكم اخناتون وظهرت عوضاً عنها صور اثنتين من بناتها الست هما (مريتاتون) و(أنخسينباتون).
مصير مجهول
ماذا يمكن أن يكون قد أصاب الملكة؟ ظل الباحثون يعتقدون لفترة طويلة من الزمن بأن الملكة قد فقدت حظوتها لدى اخناتون وتم إقصاؤها عن العائلة المالكة. وربما كان ذلك بسبب إخفاقها في إنجاب ابن له؟ وهناك نظرية أخرى تقول بأن الزوجين تم الإطاحة بهما من قبل عصيان شعبي قام به من كانوا يعتقدون بأن عبادة آتون كانت بدعة. وبما أن توت عنخ أمون كان قد استعاد العرش في 1333 قبل الميلاد فإنه من المؤكد أنه قام بالتخلص من كل آثار اخناتون ونفرتيتي ومحا كل ما كان يمكن أن يعيدهما إلى الأذهان.
ولم يتم العثور في مقبرة تل العمارنة حتى يومنا هذا على أكثر من بعض المتعلقات التي يعتقد بأنها تعود لاخناتون مما يشير إلى أن نفرتيتي لم تدفن هناك؛ فضلاً عن أن وفاة الملكة لم يتم توثيقها في أي مكان آخر.
هل خلفت نفرتيتي اخناتون على العرش؟
على الرغم من أن لاخناتون ابناً من خليلته كيا، وهو توت عنخ آمون، إلا أنه عين (سمنخكر) خلفاً له. ويرى بعض علماء المصريات بأن سمنخكر ربما كان ابناً آخر لاخناتون من كيا، كما يعتقد البعض بأنه ربما كان أخاً غير شقيق لاخناتون أو فرداً من أفراد الأسرة المالكة.
غير أن حقيقة أن نفرتيتي وسمنخكر استخدما نفس اللقب الإضافي (الكمال كمال آتون)، حدت بالبعض للافتراض بأن نفرتيتي نفسها استعادت العرش بعد وفاة اخناتون في 1336 قبل الميلاد. لكن، هناك دليل أيضاً على أن نفرتيتي قد توفيت في السنة الرابعة عشرة من حكم زوجها اخناتون حينما ابتليت مصر بوباء الطاعون آنذاك.
فهل تسبب اختفاء نفرتيتي المفاجئ في أن تظل لغزاً أمد الدهر؟ ربما، ولكن قد تتمكن الجثة التي عثر عليها الفريق الاستكشافي البريطاني، والتي يُعتقد بأنها مومياء الملكة الساحرة، من الكشف عن بعض أسرار الملكة الدفينة