وادي قنوبين (قاديشا) .. هدية الله للبنان
يقع وادي قاديشا في قضاء بشري في شمال لبنان
يبعد عن العاصمة بيروت 121 كلم ويرتفع عن سطح البحر 1500 م
يقع وادي قاديشا في قضاء بشري في شمال لبنان
يبعد عن العاصمة بيروت 121 كلم ويرتفع عن سطح البحر 1500 م
ليلى كوركيس / لبنان
هناك .. حيث الطبيعة لا تنام بعد أن كثُرت أوتارها وبات كل شيئ فيها يعزف، طربتُ.
لا الخرير بصامتٍ ولا الطيور بناعسة ولا الحفيف بمالً بل هو عاشق بأبى البعاد...
سرتُ في مسالك وادي قاديشا التي تفيئها الأشجار، أستفذُّ حواسي الخمس وأنهل من "معتقات" التاريخ صوراً تحنو علي في ليالي الشتات.
هذه المشاهد ترافق الزوار طيلة سيرهم في الوادي
على صهوته "غابة الأرز"، عروس لبنان وسر خلوده، وتحت أقدامه ساحل شمالي مترنخ بالأساطير.
عشقته قبل أن أزوره. لطالما أخبرني عنه والدي في طفولتي، وعرض لنا التلفاز معالمه ودروبه المحفوفة بمخاطر الحرب ومخططات "أبطالها".
زرته في رحلتي الى لبنان مثلما وعدت نفسي سابقاً.
ناديتُ إسمي في أعماقه ليرجع لي الصدى مباركاً من لمس صخوره وكهوفه ومياهه حيث عاش القديسون والمؤمنون بالله وبالإنسان. فيه تكثر الأدعية والأمنيات. هو معبد للطبيعة الخالدة.
منه أطل لبنان على العالم كموطن للموارنة و"للمارونية" ولا يزال ...
نافذة من نوافذ البطريركية المارونية المطلة على جدران الوادي
نافذة أخرى أيضاً من نوافذ البطريركية
نافذة مطلة على باحة الدير
"وادي قنوبين" هدية الله للبنان !
وجد الموارنة الأوائل بين أحضان جباله المكان الأقرب لمخاطبة الخالق والملجأ الآمن من شرور الحروب والسياسات الشنعاء. هناك شيدت أهم الأديرة المسيحية ونُقشت في صخوره الكنائس وكهوف المتصوفين والنساك.
الكهوف
أما اليوم حين تصل الى مدخله تُدرك أن الطبيعة مهما قست تظل هي الأوفى للإنسان وهي الملجأ وفيها كل الأجوبة. وللمحافظة على هذا الواقع في وادي قنوبين، كُتب عل مدخله ما تنقله لنا هذه الصورة
من أهم الأديرة فيه، مقر البطريركية المارونية من العام 1400 م حتى العام 1790 م.
مدخل المقر البطريركي في الدير ونرى جانباً من الترميمات التي تجري حالياً
وترد المعلومات المنشورة في الدير كالتالي : "في عام 1440 نقل البطريرك يوحنا الجاجي مقر البطريركية من ميفوق الى دير قنوبين وذلك بسبب إضطهاد حاكم طرابلس للموارنة ... ومنذ عام 1440 حتى منتصف القرن الثامن عشر نجد أن البطاركة الموارنة استقروا في وادي قنوبين، الدير الذي يُقال أن تيودوس الكبير بناه على أقدام الأرز (75 ب.م.) ومنذ ذلك الحين كانت رسائل البابوات توجه الى المقر البطريركي في وادي قنوبين وكنيسته. بالإضافة الى ذلك، فقد كان وادي قنوبين المركز الكاثوليكي الوحيد في الشرق قبل القرن الثامن عشر وكان هدف الحجّاج القادمين من الغرب."
الدرج المؤدي الى الصرح البطريركي
من الأديرة المهمة أيضاً، دير مار أليشا الشاهد على ولادة الرهبنة المارونية اللبنانية في عام 1695 ،ودير مار أنطونيوس قزحيا وهو مقر أول صحافة مكتوبة في لبنان في القرن السادس عشر.
دير مار أليشا أو ليشع والكهوف المنتشرة من حوله
كيف عاش البطاركة الموارنة الأوائل في صرحهم في قنوبين؟
غرفة نوم البطاركة في دير قنوبين
يروي لنا نص الرحالة جان لا روك (1690) : "كان البطاركة يعيشون في الفقر. صرحهم قلاية مربعة منحوتة في الصخر وفيها نافذة تطل على كنيسة المغارة. كانوا يصلون هناك على ضوء قنديل وضع في فجوة الجدار. أما حاشيتهم فكانت مؤلفة من 8 أو 9 أساقفة و20 راهباً. قال فيهم أحد المشرقيين : ليس عندهم الا عصاً من خشب، لكنهم أساقفة من ذهب. حياتهم كلها كانت إرشاداً متواصلاً ليس فقط للرهبان، ولكن أيضاً لرؤساء الأساقفة والأساقفة الذين يلازمونهم دائماً. شعار حياتهم الدائم كان : عمل وصلاة.
رهبان قنوبين يرجعون الى تقليد القديس انطونيوس. إنهم ينذرون حياة قشفة وتوفير الضيافة للجميع. وفوق كل شيئ، عندهم بساطة رائعة. يتكون لباسهم من فستان من الصوف الأسود، ضيق، يصل الى تحت الركبة، ومن طرحة من نفس القماش أو من شعر الماعز، ومن قلنسوة صغيرة، عراة الأرجل. يمارسون الإمتناع عن أكل اللحم بدقة ... دير قنوبين كان يضم لوحده 300 راهباً وحوالي 800 مغارة تشاهد على مدى الوادي، في كل منها متوحد يعيش تحت طاعة وتدبير الدير ... كما أن الكثيرين من النساك قد ذبحوا في مغاورهم أيام الإضطهاد."
صورة عن التنكيل الذي تعرضت له كنيسة الدير أيام الإضطهادات
أما الترميمات التي تجرى في دير قنوبين فهي قائمة وإن ببطء. كما وأجمعت المشاورات على تأهيل المنطقة وتبليط الطريق المؤدي الى الوادي لتسهيل عملية وصول الزوار في كل فصول السنة.
جانب من الترميمات التي تجرى في الدير
جانب من الترميمات التي تجرى في الدير
ويبدو ان الترميمات في قنوبين ولبنان لم تقتصر فقط على الحجر لا بل طالت أيضاً المجتمع والجانب الثقافي منه. بالإضافة الى الندوات الثقافية ومعارض الكتب التي نشطت في السنوات الأخيرة لفت إنتباهي ملصق معلق على الباب الرئيسي للكنسية القديمة في البطريركية، يعلن عن دورة لتعليم اللغة السريانية. ومن الجدير ذكره ان مخطوطات اللغة السريانية متواجدة في كل الأماكن المارونية المقدسة في لبنان، وأذكر على سبيل المثال دير مارشربل عنايا ومحبسته، دير القديسة رفقا، دير مار نعمة الله الحرديني ...
وفي نهاية زيارتي، إلتفتُّ الى كتف الوادي وجبهة جباله العالية.. أرمق من البعيد غابات الأرز وقبب الكنائس المزروعة في القرى والمدن المجاورة، لأُدرك أن المجد قد أعطيَ للبنان يوم وُلدت الأرض فانتصبت جبال وامتدت سهول وفاضت مياه وغرَّد المتوسط من الشمال الى الجنوب...
وأيقنتُ كيف للبنان أن يموت ما دام للنهار شروق ولليل غروب ولنا العزّة يوم انتمينا الى أرضه الطيبة.
وفهمتُ أيضاً وأيضاً لماذا كتب جبران خليل جبران، إبن مدينة بشري والأرز وقنوبين :
"لو لم يكن لبنان وطني لاخترتُ لبنان وطناً لي".
تعليق