صلاح الدين الأيوبي
صنع الرجال أعظم صنعة، وبناء الإنسان أشد من بناء ناطحات السحاب، وهناك رجال الواحد منهم بألف، كما أن هناك ألوفًا لا يساوون رجلاً واحدًا.
وفي وسط الظلام الدامس، والأيام الحالكة، والليالي المفعمة بالسواد، يتراءى للناس شعاع من نور الله، فيبعث الله لهم من يجدِّد لهم أمر دينهم، وشئون حياتهم، فيقيض الله لهذه الأمة رجالاً يحملون همَّ هذا الدين، فيتركون الدنيا وزينتها، ويجعلون زخرفها وراءهم ظهريًّا.
وصلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- كان من هذا الطراز، رجلٌ أُمَّة. وهو إحدى معجزات الإسلام الباهرة، وإحدى آياته الظاهرة.. ولكن لماذا الحديث عن صلاح الدين؟ أهو تغنٍّ بالماضي أم بكاء على الأطلال؟ أم أنه تحسر على الواقع المرير؟
والحق إن الحديث عن صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- أمر مطلوب، أو قُلْ: هو ضرورة إسلامية وفريضة شرعية؛ لأمور منها:
أولاً: لأن القدس في محنةٍ أشبه بما كانت عليه قبل مجيء صلاح الدين الأيوبي.
ثانيًا: لأن الأمة اليوم ضلت طريق الهدى، وتنكبت طرق الصلاح، ودع عنك طريق السلام المزعوم.
ثالثًا: لأن أمتنا في حاجة إلى من تقتدي به في عصرٍ قَلَّت فيه القدوات، وانعدمت فيه الرجال.
رابعًا: لأن أمتنا تنتظر مثيلاً لصلاح الدين الأيوبي؛ ليعيد لها عزتها وكرامتها.
خامسًا: لأن استقراء التاريخ أمر ضروري لتعرف الأمة كيف انتصر السلف؛ ليسير على الطريق الخلف، ولتعليم كيف أعيدت القدس أولاً؛ لتعمل بنفس الطريقة على إعادتها ثانيًا.
سادسًا: لأن التفاؤل بالنصر أمر مطلوب، ومهما علت دولة الباطل فإنها ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة؛ فلا داعي لليأس، ولا حاجة إلى القنوط، بل العمل العمل، فنحن بحاجة إلى عطاء الأغنياء، وبذل العلماء، وجهاد الأتقياء، ومثابرة الدعاة، وعزائم الرجال. نعم، بحاجة إلى لمِّ الشمل، وشحذ الهمم، وتكاتف القوى، ونبذ الخلاف، وتوحيد الصف، وحسن التوكل على الله .
صلاح الدين الأيوبي.. الأصل والنشأة
لم يكن صلاح الدين -رحمه الله- من الأصل العربي الذي يتغنى به كثير من أدعيائه، والحق إن صلاح الدين -رحمه الله- كان من عائلة كردية، كريمة الأصل، عظيمة الشرف، ولد في تكريت، وهي بلدة قديمة تقع بين بغداد والموصل، وكان أبوه حاكمًا لقلعة تكريت. والحق إن عراقة النسب لا تشفع لسوء الخلق، ورفعة الحسب لا تغني عن ضعف الدين، وهل كان أكثر عظماء هذه الأمة وبُناة هذه الحضارة إلا من مسلمي غير العرب؟! وسَلْ عن ذلك التاريخ يخبرك بأسماء لامعة مثل البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم وقادة الجيوش.
ومن غريب ما وقع، أن ولادة صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن شادي، صادفت إجبار أبيه على الخروج من تكريت، فتشاءم أبوه منه، فقال له أحد الحضور: فما يدريك أن يكون لهذا المولود ملكٌ عظيم له صيت؟!
ولما هاجر نجم الدين أيوب من تكريت، كان نزوله إلى الموصل عند عماد الدين زنكي، فأكرمه، ونشأ الطفل صلاح الدين نشأة مباركة، درج فيها على العز، وتربى فيها على الفروسية، وتدرب فيها على السلاح، ونما فيها على حب الجهاد، فقرأ القرآن الكريم وحفظ الحديث الشريف، وتعلم من اللغة ما تعلم.
صلاح الدين الأيوبي وزيرا في مصر
كانت مصر قبل قدوم صلاح الدين مقر الدولة الفاطمية، ولم يكن للخليفة الفاطمي سوى الدعاء على المنابر، وكانت الأمور كلها بيد الوزراء، وكان وزير الدولة هو صاحب الأمر والنهي، ومن ثَم فقد كانت مصر نهبًا للثورات الداخلية بين الطوائف المختلفة، من مماليك أتراك وسودانيين ومغاربة. ولما رأى القائد نور الدين محمود هذه الخلافات، وبدا له طمع ملك بيت المقدس أموري الصليبي في دخول مصر، أرسل نور الدين محمود من دمشق إلى مصر جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه، يساعده ابن أخيه صلاح الدين، فلما علم الصليبيون بقدوم أسد الدين شيركوه، تركوا مصر، ودخلها أسد الدين، وقربه الخليفة الفاطمي، ثم لم يلبث أن عُيِّن وزيرًا بعد ذلك، ولم تستمر له الوزارة سوى شهرين، فاختار الخليفة ابن أخيه صلاح الدين وزيرًا خلفًا له.
حيكت المؤامرات من أرباب المصالح، وأصحاب المطامع، ولكن صلاح الدين الأيوبي تغلب عليها كما تغلب على الفتن الخارجية، وبدا لصلاح الدين ظهور التشيع في مصر، فأسس مدرستين كبيرتين هما المدرسة الناصرية، والمدرسة الكاملية حتى يحوِّل الناس إلى مذهب أهل السنة؛ تمهيدًا للتغيير الذي يريده. وكان نور الدين محمود في دمشق يكثر من إلحاحه على صلاح الدين الأيوبي لتغيير خطبة يوم الجمعة وجعلها باسم الخليفة العباسي "المستضيء"، بدلاً من الخلفية الفاطمي "العاضد". وما كان ذلك طلب "نور الدين" وحده، بل كان طلب الأمة كلها، لكن صلاحًا -رحمه الله- كان يتريث ويتحين الوقت المناسب، فلما مرض الخليفة الفاطمي خطب الجمعة باسم الخليفة العباسي، وأصبح صلاح الدين الأيوبي سيد مصر، ليس لأحدٍ فيها كلمة سواه.
صلاح الدين وبيت المقدس
كان صلاح الدين -رحمه الله- مفعمًا قلبه بحب الجهاد شغوفًا به، قد استولى على جوانحه. وقد هجر -رحمه الله- من أجل ذلك أهله وولده وبلده، ولم يكن له ميل إلا إليه، ولا حب إلا لرجاله. يقول القاضي بهاء الدين بن شداد: "وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد، ولو حلف حالف أنه ما أتفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا ولا درهمًا إلا في الجهاد أو في الأرفاد، لصدق وبرّ يمينه".
إن لكل رجل همَّه، وهمُّ الرجل على قدر ما أهمه، وكأني بابن القيم -رحمه الله- يصف صلاح الدين الأيوبي حين قال: "النعيم لا يدرك بالنعيم، وبحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له".
وإذا النفوس كن كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
وهكذا كان صلاح الدين -رحمه الله- كانت حياته كلها جهاد، وكان يعود من غزو إلى غزو، ومن معركة إلى معركة، وكانت معركة حطين من معاركه التي كتبت له بأقلام من نور على صفحات من ذهب، وسطرت على جبين التاريخ شاهدة له بكل معاني الجهاد والتضحية. وكان من كلامه -رحمه الله-: "كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!!".
يقول بهاء الدين بن شداد واصفًا صلاح الدين: "كان -رحمه الله- عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله إلا الجبال". وقال أيضًا: "وهو كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي: يا للإسلام، وعيناه تذرفان بالدموع، وكلما نظر إلى عكا، وما حلَّ بها من البلاء، اشتد في الزحف والقتال، ولم يطعم طعامًا ألبتة، وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئًا يسيرًا لفرط اهتمامه".
أرأيت أخي القارئ همته وهمه، إنه لم يطعم الطعام من الجمعة إلى الأحد، إنه كما قال القائل:
همم تفادت الخطوب بها *** فهُرِعن من بلد إلى بلد
إن صلاح الدين -رحمه الله- كانت له غاية، وهو في غايته لا يرضى بدونها، إنه يتمثل قول القائل:
ونحن أناس لا توسط عندنا *** لنـا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا *** ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
ولقد أراد صلاح الدين الجنة ورضي بها مقرًّا بدلاً عن الدنيا، وقدم لها المهر غاليًا رحمه الله.
وما أن أكرم الله "صلاح الدين" في حطين، حتى جاءته رسالة على لسان المسجد الأقصى جاء فيها:
يا أيها الملك الـذي *** لمعـالم الصلبـان نكس
جاءت إليك ظـلامة *** تسعى من البيت المُقَدَّس
كل المساجد طهرت *** وإنا على شرفي أُدنـس
وأكرم الله بيت المقدس بصلاح الدين كما أكرم صلاح الدين ببيت المقدس ففتحه في 27 رجب عام 583هـ، وقام القاضي محيي الدين بن زكي الدين ليخطب أول جمعة بعد قرابة مائة عام، وكان مما قال مخاطبًا صلاح الدين وجيشه: "فطوبى لكم من جيش! ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية. جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيكم أفضل الجزاء".
صنع الرجال أعظم صنعة، وبناء الإنسان أشد من بناء ناطحات السحاب، وهناك رجال الواحد منهم بألف، كما أن هناك ألوفًا لا يساوون رجلاً واحدًا.
وفي وسط الظلام الدامس، والأيام الحالكة، والليالي المفعمة بالسواد، يتراءى للناس شعاع من نور الله، فيبعث الله لهم من يجدِّد لهم أمر دينهم، وشئون حياتهم، فيقيض الله لهذه الأمة رجالاً يحملون همَّ هذا الدين، فيتركون الدنيا وزينتها، ويجعلون زخرفها وراءهم ظهريًّا.
وصلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- كان من هذا الطراز، رجلٌ أُمَّة. وهو إحدى معجزات الإسلام الباهرة، وإحدى آياته الظاهرة.. ولكن لماذا الحديث عن صلاح الدين؟ أهو تغنٍّ بالماضي أم بكاء على الأطلال؟ أم أنه تحسر على الواقع المرير؟
والحق إن الحديث عن صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- أمر مطلوب، أو قُلْ: هو ضرورة إسلامية وفريضة شرعية؛ لأمور منها:
أولاً: لأن القدس في محنةٍ أشبه بما كانت عليه قبل مجيء صلاح الدين الأيوبي.
ثانيًا: لأن الأمة اليوم ضلت طريق الهدى، وتنكبت طرق الصلاح، ودع عنك طريق السلام المزعوم.
ثالثًا: لأن أمتنا في حاجة إلى من تقتدي به في عصرٍ قَلَّت فيه القدوات، وانعدمت فيه الرجال.
رابعًا: لأن أمتنا تنتظر مثيلاً لصلاح الدين الأيوبي؛ ليعيد لها عزتها وكرامتها.
خامسًا: لأن استقراء التاريخ أمر ضروري لتعرف الأمة كيف انتصر السلف؛ ليسير على الطريق الخلف، ولتعليم كيف أعيدت القدس أولاً؛ لتعمل بنفس الطريقة على إعادتها ثانيًا.
سادسًا: لأن التفاؤل بالنصر أمر مطلوب، ومهما علت دولة الباطل فإنها ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة؛ فلا داعي لليأس، ولا حاجة إلى القنوط، بل العمل العمل، فنحن بحاجة إلى عطاء الأغنياء، وبذل العلماء، وجهاد الأتقياء، ومثابرة الدعاة، وعزائم الرجال. نعم، بحاجة إلى لمِّ الشمل، وشحذ الهمم، وتكاتف القوى، ونبذ الخلاف، وتوحيد الصف، وحسن التوكل على الله .
صلاح الدين الأيوبي.. الأصل والنشأة
لم يكن صلاح الدين -رحمه الله- من الأصل العربي الذي يتغنى به كثير من أدعيائه، والحق إن صلاح الدين -رحمه الله- كان من عائلة كردية، كريمة الأصل، عظيمة الشرف، ولد في تكريت، وهي بلدة قديمة تقع بين بغداد والموصل، وكان أبوه حاكمًا لقلعة تكريت. والحق إن عراقة النسب لا تشفع لسوء الخلق، ورفعة الحسب لا تغني عن ضعف الدين، وهل كان أكثر عظماء هذه الأمة وبُناة هذه الحضارة إلا من مسلمي غير العرب؟! وسَلْ عن ذلك التاريخ يخبرك بأسماء لامعة مثل البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم وقادة الجيوش.
ومن غريب ما وقع، أن ولادة صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن شادي، صادفت إجبار أبيه على الخروج من تكريت، فتشاءم أبوه منه، فقال له أحد الحضور: فما يدريك أن يكون لهذا المولود ملكٌ عظيم له صيت؟!
ولما هاجر نجم الدين أيوب من تكريت، كان نزوله إلى الموصل عند عماد الدين زنكي، فأكرمه، ونشأ الطفل صلاح الدين نشأة مباركة، درج فيها على العز، وتربى فيها على الفروسية، وتدرب فيها على السلاح، ونما فيها على حب الجهاد، فقرأ القرآن الكريم وحفظ الحديث الشريف، وتعلم من اللغة ما تعلم.
صلاح الدين الأيوبي وزيرا في مصر
كانت مصر قبل قدوم صلاح الدين مقر الدولة الفاطمية، ولم يكن للخليفة الفاطمي سوى الدعاء على المنابر، وكانت الأمور كلها بيد الوزراء، وكان وزير الدولة هو صاحب الأمر والنهي، ومن ثَم فقد كانت مصر نهبًا للثورات الداخلية بين الطوائف المختلفة، من مماليك أتراك وسودانيين ومغاربة. ولما رأى القائد نور الدين محمود هذه الخلافات، وبدا له طمع ملك بيت المقدس أموري الصليبي في دخول مصر، أرسل نور الدين محمود من دمشق إلى مصر جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه، يساعده ابن أخيه صلاح الدين، فلما علم الصليبيون بقدوم أسد الدين شيركوه، تركوا مصر، ودخلها أسد الدين، وقربه الخليفة الفاطمي، ثم لم يلبث أن عُيِّن وزيرًا بعد ذلك، ولم تستمر له الوزارة سوى شهرين، فاختار الخليفة ابن أخيه صلاح الدين وزيرًا خلفًا له.
حيكت المؤامرات من أرباب المصالح، وأصحاب المطامع، ولكن صلاح الدين الأيوبي تغلب عليها كما تغلب على الفتن الخارجية، وبدا لصلاح الدين ظهور التشيع في مصر، فأسس مدرستين كبيرتين هما المدرسة الناصرية، والمدرسة الكاملية حتى يحوِّل الناس إلى مذهب أهل السنة؛ تمهيدًا للتغيير الذي يريده. وكان نور الدين محمود في دمشق يكثر من إلحاحه على صلاح الدين الأيوبي لتغيير خطبة يوم الجمعة وجعلها باسم الخليفة العباسي "المستضيء"، بدلاً من الخلفية الفاطمي "العاضد". وما كان ذلك طلب "نور الدين" وحده، بل كان طلب الأمة كلها، لكن صلاحًا -رحمه الله- كان يتريث ويتحين الوقت المناسب، فلما مرض الخليفة الفاطمي خطب الجمعة باسم الخليفة العباسي، وأصبح صلاح الدين الأيوبي سيد مصر، ليس لأحدٍ فيها كلمة سواه.
صلاح الدين وبيت المقدس
كان صلاح الدين -رحمه الله- مفعمًا قلبه بحب الجهاد شغوفًا به، قد استولى على جوانحه. وقد هجر -رحمه الله- من أجل ذلك أهله وولده وبلده، ولم يكن له ميل إلا إليه، ولا حب إلا لرجاله. يقول القاضي بهاء الدين بن شداد: "وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد، ولو حلف حالف أنه ما أتفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا ولا درهمًا إلا في الجهاد أو في الأرفاد، لصدق وبرّ يمينه".
إن لكل رجل همَّه، وهمُّ الرجل على قدر ما أهمه، وكأني بابن القيم -رحمه الله- يصف صلاح الدين الأيوبي حين قال: "النعيم لا يدرك بالنعيم، وبحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له".
وإذا النفوس كن كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
وهكذا كان صلاح الدين -رحمه الله- كانت حياته كلها جهاد، وكان يعود من غزو إلى غزو، ومن معركة إلى معركة، وكانت معركة حطين من معاركه التي كتبت له بأقلام من نور على صفحات من ذهب، وسطرت على جبين التاريخ شاهدة له بكل معاني الجهاد والتضحية. وكان من كلامه -رحمه الله-: "كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!!".
يقول بهاء الدين بن شداد واصفًا صلاح الدين: "كان -رحمه الله- عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله إلا الجبال". وقال أيضًا: "وهو كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي: يا للإسلام، وعيناه تذرفان بالدموع، وكلما نظر إلى عكا، وما حلَّ بها من البلاء، اشتد في الزحف والقتال، ولم يطعم طعامًا ألبتة، وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئًا يسيرًا لفرط اهتمامه".
أرأيت أخي القارئ همته وهمه، إنه لم يطعم الطعام من الجمعة إلى الأحد، إنه كما قال القائل:
همم تفادت الخطوب بها *** فهُرِعن من بلد إلى بلد
إن صلاح الدين -رحمه الله- كانت له غاية، وهو في غايته لا يرضى بدونها، إنه يتمثل قول القائل:
ونحن أناس لا توسط عندنا *** لنـا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا *** ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
ولقد أراد صلاح الدين الجنة ورضي بها مقرًّا بدلاً عن الدنيا، وقدم لها المهر غاليًا رحمه الله.
وما أن أكرم الله "صلاح الدين" في حطين، حتى جاءته رسالة على لسان المسجد الأقصى جاء فيها:
يا أيها الملك الـذي *** لمعـالم الصلبـان نكس
جاءت إليك ظـلامة *** تسعى من البيت المُقَدَّس
كل المساجد طهرت *** وإنا على شرفي أُدنـس
وأكرم الله بيت المقدس بصلاح الدين كما أكرم صلاح الدين ببيت المقدس ففتحه في 27 رجب عام 583هـ، وقام القاضي محيي الدين بن زكي الدين ليخطب أول جمعة بعد قرابة مائة عام، وكان مما قال مخاطبًا صلاح الدين وجيشه: "فطوبى لكم من جيش! ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية. جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيكم أفضل الجزاء".
تعليق