علـم الآثار عند المسلمين
يتبادر إلي الذهن سؤال وهو هل عرف المسلمون " علم الآثار " ؟ ، وهل فرقوا بين الآثار الثابتة ( الأبنية ) والآثار المنقولة ؟ .
إن الناظر في تراث المسلمين من كتب " التاريخ " و " وصف البلدان " و " الخطط " و " الرحلات " و " الأدب " يجد الكثير من الألفاظ التي استخدمت للدلالة علي الآثار سواء الثابتـة أو المنقولـة مثل : " آبـدة " و " أثر " و " بربي " و " ذخيرة " و " صرح " و " طلسم " و " كنز " و " مطلب " .
ويجدر بنا أن نتعرف علي معاني هذه الألفاظ والكلمات في معاجم اللغة مع إيراد بعض النصوص التي وردت بها هذه الألفاظ والكلمات في محاولة منا لاستنطاق النصوص، ومعرفة هل كان لـدي المسلمين إدراك لمفهـوم " الآثار " وعلم الآثار " .
1- آبـدة : الآبـدة هـي الـدار إذا خـلا منها أهلهـا وخلفتهـم الوحوش بهـا، وجمعها الأوابـد ، ويقـال لهـا قـد تأبـدت، قـال لبيـد : تأبـد غولهـا فرجامهـا وتأبـد المنـزل أي أقفـر وألفتـه الوحـوش
2- أثــر : بقيـة الشـئ ، والجمـع آثـار وأثـور . وقد ذكر المستشرق " إدوارد وليم لين " في قاموسه كلمة " أثر " بمعني بقايا أو مخلفات (Remains ) أو نصب تذكاري أو مبني تذكاري ( Monuments ) ، ( Memorials ) من العصور القديمة أو من أي زمن ماض، ولهذا دلالة كبيرة فقد زار " لين " مصر للمرة الثالثة في 1842 فأقام سبع سنوات، حتى 1849 وذلك من أجـل جمـع مواد لتصنيف معجـم عربـي إنجليزي بناء علي اقتراح من اللورد برودو ( Prudhue ) في وقت كان " علم الآثار " الذي ولد في القرن السابع عشر لم يشب عن الطوق بعد، بينما نجد كلمة " أثر " و " آثار" بمعني المخلفات المادية للحضارة الإنسانية واضحة وموغلة في القدم ويؤكد هذا بيت لأسد تبع الحصيري :
هذه آثارنـا تـدل علينـا
فانظر بعدنا إلي الآثار
وقد وصف أبو الطيب المتنبي الهرمين بأنهما من الآثار التي تخلفت عن السابقين في بيتين له :
أين الذي الهرمان من بنيانه
ما قومه ما يومه مالمصرع
تتخلف الآثـار عن سكانها
حيناً ويدركها الفناء فتتبع
وتعني " الآثار الشريفة " بعض مخلفات يقال إنها للنبي ( ص ) مثل شعره وأسنانه وقطع من ملابسه، ونماذج من خطه، وبعض أدواته وطابع أقدامه بنوع خاص، وهذه الآثار محفوظة في المساجد وبعض الأماكن العامة التي يتخذها المسلمون للثقافة، ويسمي المسلمون وكذلك المسيحيون " الأثـر" " ذخيـرة " . أما عن استخدام كلمة " آثار " بمعني المخلفات المادية للحضارة الإنسانية في المؤلفات العربية فأننا نسوق بعض الأمثلة : جاء في رحلة ابن جبير المسماة " تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار " عند الكلام عن مدينة الإسكندرية العنوان التالي " ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها " وقد ذكر ابن جبير " منار الإسكندرية " كأعظم ما شاهده من عجائب المدينة إلي جانب ذكره للسواري ( أعمدة ) الرخام والمدارس والمحارس ( الربط ) وعند الإنتقال إلي مصر ( الفسطاط ) والقاهرة يضع عنواناً " ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة " ثم يقول : " فأول ما نبدأ بذكره منها، الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عز وجل " كذلك عند ذكر مكة المكرمة يضع عنواناً " ذكر مكة شرفها الله تعالي، وآثارها الكريمة وأخبارها الشريفة " . وننتقل إلي القزويني " الذي جعل عنوان كتابه " آثار البلاد وأخبار العباد " وقد ذكر في كتابه كثيراً من البلدان ووصف ما بها من آثار القدماء، وكان واعياً لمدلول اللفظ، وقد استخدمه للدلالة علي الأبنية القديمة بينما استخدم كلمة " دفائن " للتعبير عن الذخائر المدفونة في باطن الأرض والتي خلفها القدماء. فعند كلامه عن " هنديجان " وهي قرية من قري " خوزستان " قال : " والآن بها آثار عجيبة وأبنية عادية، وتثار منها الدفائن كما تثار من أرض مصر " . وفي كتاب " المقريزي " " المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار " نجد الإستخدام الأمثل للفظ " الآثار " مع الإدراك التام لأبعاد " علم الآثار " ومقاصده وتبني منهج تحليلي إنساني في تناول هذا العلم لا يقتصر علي مجرد وصف للآثار وإنما يتعدى ذلك إلي التعريف بحال من أسس تلك الآثار، ولاجدال في أن تعدد معارف " المقريزى " وعمقها وشغله منصب " محتسب القاهرة والوجه البحري " في عهد السلطان " برقوق " ( 1398م ) – مما جعله علي صلة بأصحاب الحرف ومكنه من الإلمام بدقائق حرفهم والإطلاع علي أسرار صنعهم – وقد ساعده كل ذلك علي إخراج كتابه القيم الذي يعد دائرة معارف أثرية، وقد أبان المقريزى في مقدمة كتابه الهدف من التأليف فقال : " فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية عن الأمم الماضية والقرون الخالية وما بقي بفسطاط مصر من المعاهد غير ما كاد يفنيه البلى والقدم ولم يبق إلا أن يمحو رسمها الفناء والعدم، وأذكر ما بمدينة القاهرة من آثار القصور الزاهرة وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع وحوته من المباني البديعة الأوضاع مع التعريف بحال من أسس ذلك من أعيان الأوائل والتنويه بذكر الذي شادها من سراه الأعاظم والأفاضل"، ويتضح للناظر في هذا النص أن " الآثار " كانت تعني عند " المقريزى " المخلفات المادية للحضارة الإنسانية في العصور السالفة، وأهمية ذلك أنه يعد سبقاً في علم الآثار لا يمكن نكرانه، كذلك أحرز المقريزى سبقاً أخراً عندما اتجه إلي التعريف بحال من أسس وشاد تلك الآثار محققاً الربط بين هذه العمائر والمخلفات وبين المجتمعات البشرية التي شيدتها كتعبير حضاري اتخذ من طريق الصناعة والتشييد والفن سبيلاً من سبله المتنوعة في الإفصاح عن نفسه.
3- بربي أو بيرب : " بيرب " بالقبطية معناها هيكل أو معبد، وكثير من مؤرخي العرب سموا بعض الآثار المصرية القديمة " البرابى " وقد ذكر ابن عبد الحكم في كتابه " فتوح مصر وأخبارها " لفظ " بربا " و " بربايات " و " برابي " وقد وصفها تحت عنوان " ذكر عمل البرابي " وذكرها " ابن النديم " في كتاب " الفهرست " " وبمصر أبنية يقال لها البرابي من الحجارة العظيمة الكبيرة وهي علي أشكال مختلفة وفيها مواضع الصحن والسحق والحل والعقد والتقطير تدل علي أنها عملت لصناعة الكيمياء وفي هذه الأبنية نقوش وكتابات لا يدري ماهي وقد أصيبت تحت الأرض فيها هذه العلوم مكتوبة في التوز وهي صفائح الذهب والنحاس وفي الحجارة. وكذلك المسعودى في كتابه " مروج الذهب ومعادن الجوهر " فقال مفسراً سبب بنيان البرابي، " وكانت هذه الأمة التي اتخذت هذه البرابي لهجة بالنظر في أحكام النجوم مواظبة علي معرفة أسرار الطبيعة، وكان عندها مما دلت علية أحكام النجوم أن طوفاناً سيكون في الأرض، ولم تقطع بأن ذلك الطوفان ما هو أنار تأتي علي الأرض فتحرق ما عليها، أو ماء فيغرقها أو سيف يبيد أهلها فخالت دثور العلوم وفناءها بفناء أهلها فاتخذت هذه البرابي، واحدها بربا، ورسمت فيها علومها من الصور والتماثيل والكتابة " وكذلك أفرد المقريزي " فصلاً في كتابه " المواعظ " للحديث عن البرابي تحت عنوان " ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك " بقوله " والبرابي ببلاد مصر بنيان قائم عجيب كالبربا التي بأخميم والتي بسمنود " وكذلك في رحلة ابن بطوطة نجد " ذكر الأهرام والبرابي " ، ولاشك أن ما خلفه المصريون القدماء من أهرام ومعابد وتماثيل قد لفت أنظار الفاتحين العرب وحرك حب الإستطلاع عندهم والتشوف للمعرفة وقد وصفوا تلك الآثار مستخدمين اللفظ الذي أطلقه قبط مصر عليها، وقد حرص المسلمون علي استقصاء أخبار تلك الآثار ومن بنوها ممن عرفوا بالعلم من أقباط مصر، ويذكر المسعودي أن ابن طولون استقدم رجلاً مصرياً علامة بمصر وأرضها من برها وبحرها وأخبارها وأخبار ملوكها وأخلي نفسه له في ليال وأيام كثيرة يسمع كلامه وإيراداته وجواباته فيما يسأل عنه .
4- دفينــة : الجمع دفائن وهي الكنوز التي دفنت أي سترت ووريت في الأرض . وتعبر " الدفائن " عن الآثار المنقولة التي يعثر عليها مدفونة في باطن الأرض، وقد استخدم المسعودي اللفـظ بنفس المعني بينما استخدم البنيان للتعبير عن الآثار الثابتة عندما تحدث عن دفائن مصر قائلاً : " ولمصر أخبار عجيبة من الدفائن والبنيان وما يوجد في الدفائن من ذخائر الملوك التي استودعوها الأرض وغيرهم من الأمم ممن سكن تلك الأرض ". وقد أفرد " المقريزي " فصلاً للكلام عن الدفائن والكنوز جعله بعنوان " ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب " .
5- ذخيــرة : الجمع ذخائر وهي ما ادخر, قال الشاعر :
لعمرك ما مال الفتي بذخيرة
ولكن إخوان الصفاء الذخائر
ولكن إخوان الصفاء الذخائر
وقد استخدم المسعودي لفظ الذخائر ليعبر به عن النفائس والأموال التي ادخرها السابقون ودفنوها فنجده يقول " وما يوجد في الدفائن من ذخائر الملوك التي استودعوها الأرض " ويقول في موضع آخر " وقد كان جماعة من أهل الدفائن والمطالب ومن قد اعتني وأغري بحفر الحفائر وطلب الكنوز وذخائر الملوك والأمم السالفة المستودعة بطن الأرض.. " . وفي معرض كلام المقريزي عن خزائن القصر الفاطمي الكبير يذكر كتاباً بعنوان " الذخائر "، وقد عثر أحمد بن طولون علي كنز قدره مليون دينار يورد لنا المقريزي خبر العثور عليه علي النحو التالي " وركب ( أحمد بن طولون ) في غد ذلك إلي نحو الصعيد، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه، فسقط الغلام فإذا بفتق فأصيب فيه من المال، ما كان مقداره ألف ألف دينار، وهو الكنز الذي شاع خبره " ، ولعل استخدام " أحمد بن طولون " للمال الذي وجده في كنز " تنور فرعون " في بناء مسجده الجامع بجبل يشكر وبناء العين كان التطبيق العملي لحديث الرسول ( ص ) السالف الذكر، ويجدر بنا أن نشير مرة أخري إلي تفسير " ابن عباس " للفظ كنز في سورة الكهف بأنه كان علماً وصحفاً مما يبرهن بصورة واضحة علي أن علماء المسلمين في فجر الإسلام كان لديهم إدراك مكتمل وتام للقيمة الأثرية لتراث ومخلفات الأمم السابقة وأن العلم والصحف التي خلفتها لنا الأجيال السابقة من الإنسانية تفوق في قيمتها الذهب والفضة، وهذا ينفي عن المسلمين ما قد يتبادر إلي ذهن البعض من أن اهتمامهم بالآثار القديمة كان منصباً فقط علي البحث عن الكنوز .
9- مطلــب : من طلب والطلب محاولة وجدان الشيء وأخذه، والجمع مطالب. استخدمت كلمة المطالب للدلالة علي الذخائر والكنوز التي يعثر عليها في الدفائن، وقد استخدمها المسعودي بهذا المعني فهو يقول : " ولمصر أخبار عجيبة من الدفائن والبنيان وما يوجد في الدفائن من ذخائر الملوك التي استودعوها الأرض وغيرهم من الأمم ممن سكن تلك الأرض وتدعي بالمطالب إلي هذه الغاية " ويقول في موضع آخر " وقد كان جماعة من أهل الدفائن والمطالب ومن قد اعتني وأغرى بحفر الحفائر وطلب الكنوز وذخائر الملوك والأمم السالفة المستودعة بطن الأرض ببلاد مصر " وفي موضع آخر " وقد كان لمن سلف وخلف من ولاة مصر إلي أحمد بن طولون وغيره إلي هذا الوقت ( وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ) أخبار عجيبة، فيما استخرج في أيامهم من الدفائن والأموال والجواهر، وما أصيب في القبور من المطالب والخزائن " ، وكذلك استعمل المقريزي الكلمة في عنوان فصل من كتابه المواعظ " ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب " ويتضح من العنوان ومن استخدام المسعودي للكلمة أنها استخدمت في هذا المعني عند أهـل مصـر. كذلك ذكرهـا المقريـزي عندما ساق خبراً عن أحمد بن طولون " ( وركـب ) أحمـد بن طولون يوماً إلي الأهرام فأتاه الحجاب بقوم عليهم ثياب صوف ومعهم المساحي والمعاول فسألهم عن ما يعملون فقالوا نحن قوم نطلب المطالب " .
تعليق