جمال وإبداع الاختراعات العلمية في الحضارة الإسلامية
لم تكن مهارة المسلمين في العلوم التقنية تقف عند حَدِّ إقامة المساجد والمآذن والقباب، والقناطر والسدود، وغيرها فقط، وإنما كان هناك أيضًا ذلك الإبداع الذي ظهر فيه الحسُّ الجمالي للعالِمِ المسلم، وبرزت فيه أيضًا مقدرته على تسخير ذلك النوع من العلوم؛ لتحقيق الراحة وإدخال البهجة والسعادة على القلب.
لقد أبدع علماء الحضارة الإسلامية عددًا من الاختراعات الميكانيكية الصعبة، تلك التي تُؤَدِّي دورها، لكن الصانع الماهر لم يكتف بهذا بل أضاف إليها ما يجعلها تُؤَدِّي معه دورًا جماليًّا آخر لا يَقِلُّ عن سابقه؛ ومن أمثلة ذلك:
الساعات
ذكر ابن كثير أنَّ أحد أبواب جامع دمشق كان يُسمَّى باب الساعات؛ لأنه عُمل فيها الساعات التي اخترعها الساعاتي المهندس محمد بن علي والد فخر الدين رضوان بن الساعاتي[1]، وكان يُعْلَمُ بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها عصافير وحَيَّة من نحاس وغراب، فإذا تمَّت الساعة خرجت الحيَّة فَصَفَّرت العصافير، وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطستِ، فَيَعْلَمُ الناس أنه قد ذهب من النهار ساعة[2]. وكان لابن الجزري ساعة مماثلة أيضًا[3].
وفي وصف هذه الساعة يقول ابن جبير أيضًا: "وعن يمين الخارج من باب جيرون، في جدار البلاط الذي أمامه، غرفةٌ، ولها هيئة طاقٍ كبير مستدير فيه طِيقان صُفْر قد فُتِّحَتْ أبوابًا صغارًا على عَدَدِ ساعات النهار، ودُبِّرَتْ تدبيرًا هندسيًّا، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فَمَيْ بازِيَيْنِ مُصَوَّرَيْنِ من صُفْر، قائمين على طَاسْتَيْنِ من صفر تحت كل واحد منهما؛ أحدهما تحت أوَّل باب من تلك الأبواب، والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازِيين يمدَّان أعناقَهما بالبندقتين إلى الطاستين، ويقذفانهما بسرعة، بتدبيرٍ عجيب تتخيَّله الأوهام سحرًا، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يُسْمع لهما دويٌّ، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بِلَوْحٍ من الصفر؛ لا يزال كذلك عند كلِّ انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلُّها وتنقضي الساعات، ثم تعود إلى حالها الأول.
ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أنَّ في القوس المنعطِف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرَّمة، وتعترض في كلِّ دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مُدَبّر ذلك كلّه منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمَّ الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاعُها، فَلاَحَتْ للأبصار دائرة محمرَّة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمرُّ الدوائر كلها، وقد وُكِّل بها في الغرفة متفقِّدٌ لحالها، دَرِبٌ بشأنها وانتقالها، يُعِيدُ فتح الأبواب وصَرْفَ الصنج موضعها، وهي التي يُسَمِّيها الناس المِنْجَانة"[4].
هذا، وقد أرسل الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن الثاني الهجري (التاسع الميلادي، حوالي سنة 807م) هديةً عجيبةً إلى صديقه شارلمان ملك الفرنجة (فرنسا)، "وكانت الهديةُ عبارةً عن ساعة ضخمة بارتفاع حائط الغرفة، تتحرَّك بواسطة قوَّة مائية، وعند تمام كل ساعة يسقط منها عددٌ مُعَيَّنٌ من الكرات المعدنية بعضها إثْرَ بعضٍ، بعددِ الساعات فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فيُسْمَعُ لها رنين موسيقيٌّ، يُسمَع دويُّه في أنحاء القصر، وفي نفس الوقت يُفتح بابٌ من الأبواب الاثني عشر المؤدِّية إلى داخل الساعة، ويَخرج منها فارسٌ يدور حول الساعة، ثم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسًا مرةً واحدةً، ويدورون دورةً كاملةً ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتُغْلَقُ خلفهم".
وهذا هو الوصف الذي جاء في المراجع الأجنبية والعربية عن تلك الساعة التي كانت تُعَدُّ وقتئذٍ أعجوبةَ الفنِّ، وأثارت دهشة المَلِكِ وحاشيته، ولكنَّ رهبان القصر اعتقدوا أنَّ في داخل الساعةِ شيطانًا يُحَرِّكها، فتربَّصُوا به ليلاً، وأحضروا البُلَط وانهالوا عليها تحطيمًا، إلاَّ أنهم لم يجدوا بداخلها شيئًا. وتُوَاصل مراجع التاريخ الرواية فتقول: إنَّ العرب قد وصلوا في تطويرِ هذا النوع من الآلاتِ إلى قياس الزمن؛ بحيث إنه في عهد الخليفة المأمون أهدَى إلى ملك فرنسا ساعةً أكثرَ تطورًا، تُدارُ بالقوَّة الميكانيكية بواسطة أثقالٍ حديديةٍ معلَّقة بسلاسل؛ وذلك بدلاً من القوَّة المائية[5].
وإن هذا ليعني -في بعض ما يعنيه- مدى ما وصلتْ إليه العقلية الإسلامية من تسامٍ في الفكر والإبداع، ذلك الإبداع الذي لم يفصل بين الناحية العمليَّة والناحية الجماليَّة للابتكارات والاختراعات العلميَّة.
الإنسان الآلي !
إذا كان العالم الآن على وشك الدخول فيما أُطْلِقَ عليه (عصر الإنسان الآلي)، وذلك بعد أن حقَّقَتْ تكنولوجيا الإنسان الآلي تَقَدُّمًا سريعًا على مدى السنوات القليلة الماضية، فإنَّ مصادرنا الإسلامية تُشِيرُ إلى أن البداية في ذلك كانت في عصر الحضارة الإسلامية.
وقد كان ذلك على يَدِ عالم الحيل الهندسية بديع الزمان أبي العز إسماعيل بن الرزاز الجزري، الذي عاش في القرن السادس للهجرة؛ فهو أَوَّل مَنِ اخترع الإنسان الآلي المتحرِّك للخدمة في المنزل؛ حيث طلب منه الخليفة أن يصنع له آلة تُغْنِيهِ عن الخدم كُلَّمَا رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له الجزري آلة على هيئة غلام منتصب القامة، وفي يده إبريق ماء، وفي اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر، فإذا حان وقت الصلاة يُصَفِّر الطائر، ثم يتقدَّمُ الخادم نحو سيِّدِه، ويصبُّ الماء من الإبريق بمقدارٍ مُعَيَّنٍ، فإذا انتهى من وضوئه يُقَدِّمُ له المنشفة، ثم يعود إلى مكانه، والعصفور يُغَرِّدُ[6]!
حامل المصحف الإلكتروني !
اكتُشِف حديثًا (عام 1975م) في مكتبة لورنيين بفرنسا مخطوطٌ في الحيل النافعة بعنوان (الأسرار في نتائج الأفكار)، يعود إلى العصر العربي الإسباني، ويحوي أجزاءً مهمَّة حول الطواحين والمكابس المائية، ويشرح أكثر من ثلاثين نوعًا من الآلات الميكانيكية, وساعة شمسية متطوَّرَة جدًّا، يقول جوان فيرنيه أستاذ تاريح العلوم العربية بجامعة برشلونة: "لقد تأكدتْ نسبة كتاب (الأسرار في نتائج الأفكار) للمؤلف العربي الإسباني أحمد (أو محمد) بن خلف المرادي الذي عاش في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، ويهدف إلى تعليم صُنْعِ لعبٍ ميكانيكية كان الكثير منها قابلاً للاستعمال كساعة مائية". ويُلِحُّ فيرنيه على وجود قَرَابَة بين هذا الكتاب وكتاب آخر ترجمته شميللر إلى الألمانية عام (1922م)، كما أنه يُؤَكِّد على أن المهندس المعماري الفرنسي فيلاردوهنكور الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي، كان على عِلْـمٍ بتقنيات العالِم العربي التي تقوم بحركات دائمة[7].
وما يهمُّنَا هنا من أمثلة التقنيات المتقدِّمَة التي صوَّرَها كتاب المرادي: "حامل المصحف" الموجود في جامع قرطبة، والذي يُتِيحُ تناول نسخة نادرة من القرآن الكريم، وقراءتها دون أن تمسَّهَا الأيدي، إذ ينفتح الحامل بطريقة آلية؛ حيث تُوضَعُ المجموعة المكوَّنَة من الحامل والمصحف على رَفٍّ متحرِّكٍ في صندوق مُغْلَقٍ بالقسم العلويّ من المسجد، وعندما يدار مفتاح الصندوق ينفتح باباه فورًا وآليًّا نحو الداخل، ويصعد الرفُّ من تلقاء ذاته حاملاً نسخة القرآن إلى مكان مُحَدَّدٍ، وفي الوقت نفسه ينفتح حامل المصحف وينغلق بَابَا الصندوق، وإذا أدخل المفتاح من جديد في قفل الصندوق وأُدِيرَ بالاتجاه المعاكس تتوالى الحركات السابقة بالترتيب المعاكس، وذلك بفضل سيور وآليات أُخْفِيَتْ عن الأنظار[8].
بهذه الابتكارات قدَّم المسلمون للعالم آلاتٍ ومصنوعات تعبِّر عن جمال حضارتهم، ورقة ذوقهم.
د. راغب السرجاني
[1] ابن الساعاتي: رضوان بن محمد بن علي بن رستم، فخر الدين الخراساني، ابن الساعاتي (ت 618هـ/ 1221م) طبيب وفيلسوف وشاعر، وأبوه كان مهندسًا في عمل الساعات؛ ولذا سمي الساعاتي، ومولده ووفاته في دمشق. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 21/471.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية 9/180.
[3] دونالد ر. هيل: العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية ص169.
[4] ابن حبير: رحلة ابن جبير ص240، 241.
[5] حقق ذلك سيديو في كتابه (تاريخ العرب)، انظر: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية 1/226.
[6] عن كتاب الجزري: الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل، وقد ترجم دونالد هيل هذا الكتاب إلى الإنجليزية عام (1974م)، ووصفه مؤرخ العلم المعاصر (جورج سارتون) بأنه أكثر الكتب من نوعه وضوحًا، ويمكن اعتباره الذروة في هذا النوع من الإنجازات التقنية للمسلمين. انظر: أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص31.
[7] أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص35، 36.
[8] جوان فيرنيه: الإنجازات الميكانيكية في الغرب الإسلامي، مجلة العلوم الأمريكية، الترجمة العربية، الكويت، أكتوبر/ نوفمبر، مجلد 10، 1994م، نقلاً عن المصدر السابق ص35.
يتبـــــع
لم تكن مهارة المسلمين في العلوم التقنية تقف عند حَدِّ إقامة المساجد والمآذن والقباب، والقناطر والسدود، وغيرها فقط، وإنما كان هناك أيضًا ذلك الإبداع الذي ظهر فيه الحسُّ الجمالي للعالِمِ المسلم، وبرزت فيه أيضًا مقدرته على تسخير ذلك النوع من العلوم؛ لتحقيق الراحة وإدخال البهجة والسعادة على القلب.
لقد أبدع علماء الحضارة الإسلامية عددًا من الاختراعات الميكانيكية الصعبة، تلك التي تُؤَدِّي دورها، لكن الصانع الماهر لم يكتف بهذا بل أضاف إليها ما يجعلها تُؤَدِّي معه دورًا جماليًّا آخر لا يَقِلُّ عن سابقه؛ ومن أمثلة ذلك:
الساعات
ذكر ابن كثير أنَّ أحد أبواب جامع دمشق كان يُسمَّى باب الساعات؛ لأنه عُمل فيها الساعات التي اخترعها الساعاتي المهندس محمد بن علي والد فخر الدين رضوان بن الساعاتي[1]، وكان يُعْلَمُ بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها عصافير وحَيَّة من نحاس وغراب، فإذا تمَّت الساعة خرجت الحيَّة فَصَفَّرت العصافير، وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطستِ، فَيَعْلَمُ الناس أنه قد ذهب من النهار ساعة[2]. وكان لابن الجزري ساعة مماثلة أيضًا[3].
وفي وصف هذه الساعة يقول ابن جبير أيضًا: "وعن يمين الخارج من باب جيرون، في جدار البلاط الذي أمامه، غرفةٌ، ولها هيئة طاقٍ كبير مستدير فيه طِيقان صُفْر قد فُتِّحَتْ أبوابًا صغارًا على عَدَدِ ساعات النهار، ودُبِّرَتْ تدبيرًا هندسيًّا، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فَمَيْ بازِيَيْنِ مُصَوَّرَيْنِ من صُفْر، قائمين على طَاسْتَيْنِ من صفر تحت كل واحد منهما؛ أحدهما تحت أوَّل باب من تلك الأبواب، والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازِيين يمدَّان أعناقَهما بالبندقتين إلى الطاستين، ويقذفانهما بسرعة، بتدبيرٍ عجيب تتخيَّله الأوهام سحرًا، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يُسْمع لهما دويٌّ، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بِلَوْحٍ من الصفر؛ لا يزال كذلك عند كلِّ انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلُّها وتنقضي الساعات، ثم تعود إلى حالها الأول.
ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أنَّ في القوس المنعطِف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرَّمة، وتعترض في كلِّ دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مُدَبّر ذلك كلّه منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمَّ الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاعُها، فَلاَحَتْ للأبصار دائرة محمرَّة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمرُّ الدوائر كلها، وقد وُكِّل بها في الغرفة متفقِّدٌ لحالها، دَرِبٌ بشأنها وانتقالها، يُعِيدُ فتح الأبواب وصَرْفَ الصنج موضعها، وهي التي يُسَمِّيها الناس المِنْجَانة"[4].
هذا، وقد أرسل الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن الثاني الهجري (التاسع الميلادي، حوالي سنة 807م) هديةً عجيبةً إلى صديقه شارلمان ملك الفرنجة (فرنسا)، "وكانت الهديةُ عبارةً عن ساعة ضخمة بارتفاع حائط الغرفة، تتحرَّك بواسطة قوَّة مائية، وعند تمام كل ساعة يسقط منها عددٌ مُعَيَّنٌ من الكرات المعدنية بعضها إثْرَ بعضٍ، بعددِ الساعات فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فيُسْمَعُ لها رنين موسيقيٌّ، يُسمَع دويُّه في أنحاء القصر، وفي نفس الوقت يُفتح بابٌ من الأبواب الاثني عشر المؤدِّية إلى داخل الساعة، ويَخرج منها فارسٌ يدور حول الساعة، ثم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسًا مرةً واحدةً، ويدورون دورةً كاملةً ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتُغْلَقُ خلفهم".
وهذا هو الوصف الذي جاء في المراجع الأجنبية والعربية عن تلك الساعة التي كانت تُعَدُّ وقتئذٍ أعجوبةَ الفنِّ، وأثارت دهشة المَلِكِ وحاشيته، ولكنَّ رهبان القصر اعتقدوا أنَّ في داخل الساعةِ شيطانًا يُحَرِّكها، فتربَّصُوا به ليلاً، وأحضروا البُلَط وانهالوا عليها تحطيمًا، إلاَّ أنهم لم يجدوا بداخلها شيئًا. وتُوَاصل مراجع التاريخ الرواية فتقول: إنَّ العرب قد وصلوا في تطويرِ هذا النوع من الآلاتِ إلى قياس الزمن؛ بحيث إنه في عهد الخليفة المأمون أهدَى إلى ملك فرنسا ساعةً أكثرَ تطورًا، تُدارُ بالقوَّة الميكانيكية بواسطة أثقالٍ حديديةٍ معلَّقة بسلاسل؛ وذلك بدلاً من القوَّة المائية[5].
وإن هذا ليعني -في بعض ما يعنيه- مدى ما وصلتْ إليه العقلية الإسلامية من تسامٍ في الفكر والإبداع، ذلك الإبداع الذي لم يفصل بين الناحية العمليَّة والناحية الجماليَّة للابتكارات والاختراعات العلميَّة.
الإنسان الآلي !
إذا كان العالم الآن على وشك الدخول فيما أُطْلِقَ عليه (عصر الإنسان الآلي)، وذلك بعد أن حقَّقَتْ تكنولوجيا الإنسان الآلي تَقَدُّمًا سريعًا على مدى السنوات القليلة الماضية، فإنَّ مصادرنا الإسلامية تُشِيرُ إلى أن البداية في ذلك كانت في عصر الحضارة الإسلامية.
وقد كان ذلك على يَدِ عالم الحيل الهندسية بديع الزمان أبي العز إسماعيل بن الرزاز الجزري، الذي عاش في القرن السادس للهجرة؛ فهو أَوَّل مَنِ اخترع الإنسان الآلي المتحرِّك للخدمة في المنزل؛ حيث طلب منه الخليفة أن يصنع له آلة تُغْنِيهِ عن الخدم كُلَّمَا رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له الجزري آلة على هيئة غلام منتصب القامة، وفي يده إبريق ماء، وفي اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر، فإذا حان وقت الصلاة يُصَفِّر الطائر، ثم يتقدَّمُ الخادم نحو سيِّدِه، ويصبُّ الماء من الإبريق بمقدارٍ مُعَيَّنٍ، فإذا انتهى من وضوئه يُقَدِّمُ له المنشفة، ثم يعود إلى مكانه، والعصفور يُغَرِّدُ[6]!
حامل المصحف الإلكتروني !
اكتُشِف حديثًا (عام 1975م) في مكتبة لورنيين بفرنسا مخطوطٌ في الحيل النافعة بعنوان (الأسرار في نتائج الأفكار)، يعود إلى العصر العربي الإسباني، ويحوي أجزاءً مهمَّة حول الطواحين والمكابس المائية، ويشرح أكثر من ثلاثين نوعًا من الآلات الميكانيكية, وساعة شمسية متطوَّرَة جدًّا، يقول جوان فيرنيه أستاذ تاريح العلوم العربية بجامعة برشلونة: "لقد تأكدتْ نسبة كتاب (الأسرار في نتائج الأفكار) للمؤلف العربي الإسباني أحمد (أو محمد) بن خلف المرادي الذي عاش في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، ويهدف إلى تعليم صُنْعِ لعبٍ ميكانيكية كان الكثير منها قابلاً للاستعمال كساعة مائية". ويُلِحُّ فيرنيه على وجود قَرَابَة بين هذا الكتاب وكتاب آخر ترجمته شميللر إلى الألمانية عام (1922م)، كما أنه يُؤَكِّد على أن المهندس المعماري الفرنسي فيلاردوهنكور الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي، كان على عِلْـمٍ بتقنيات العالِم العربي التي تقوم بحركات دائمة[7].
وما يهمُّنَا هنا من أمثلة التقنيات المتقدِّمَة التي صوَّرَها كتاب المرادي: "حامل المصحف" الموجود في جامع قرطبة، والذي يُتِيحُ تناول نسخة نادرة من القرآن الكريم، وقراءتها دون أن تمسَّهَا الأيدي، إذ ينفتح الحامل بطريقة آلية؛ حيث تُوضَعُ المجموعة المكوَّنَة من الحامل والمصحف على رَفٍّ متحرِّكٍ في صندوق مُغْلَقٍ بالقسم العلويّ من المسجد، وعندما يدار مفتاح الصندوق ينفتح باباه فورًا وآليًّا نحو الداخل، ويصعد الرفُّ من تلقاء ذاته حاملاً نسخة القرآن إلى مكان مُحَدَّدٍ، وفي الوقت نفسه ينفتح حامل المصحف وينغلق بَابَا الصندوق، وإذا أدخل المفتاح من جديد في قفل الصندوق وأُدِيرَ بالاتجاه المعاكس تتوالى الحركات السابقة بالترتيب المعاكس، وذلك بفضل سيور وآليات أُخْفِيَتْ عن الأنظار[8].
بهذه الابتكارات قدَّم المسلمون للعالم آلاتٍ ومصنوعات تعبِّر عن جمال حضارتهم، ورقة ذوقهم.
د. راغب السرجاني
[1] ابن الساعاتي: رضوان بن محمد بن علي بن رستم، فخر الدين الخراساني، ابن الساعاتي (ت 618هـ/ 1221م) طبيب وفيلسوف وشاعر، وأبوه كان مهندسًا في عمل الساعات؛ ولذا سمي الساعاتي، ومولده ووفاته في دمشق. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 21/471.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية 9/180.
[3] دونالد ر. هيل: العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية ص169.
[4] ابن حبير: رحلة ابن جبير ص240، 241.
[5] حقق ذلك سيديو في كتابه (تاريخ العرب)، انظر: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية 1/226.
[6] عن كتاب الجزري: الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل، وقد ترجم دونالد هيل هذا الكتاب إلى الإنجليزية عام (1974م)، ووصفه مؤرخ العلم المعاصر (جورج سارتون) بأنه أكثر الكتب من نوعه وضوحًا، ويمكن اعتباره الذروة في هذا النوع من الإنجازات التقنية للمسلمين. انظر: أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص31.
[7] أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص35، 36.
[8] جوان فيرنيه: الإنجازات الميكانيكية في الغرب الإسلامي، مجلة العلوم الأمريكية، الترجمة العربية، الكويت، أكتوبر/ نوفمبر، مجلد 10، 1994م، نقلاً عن المصدر السابق ص35.
يتبـــــع
تعليق