مسيرة الفتح العثماني في أوروبا
تجربتان عظيمتان خاضها المسلمون في أوروبا، تشابهتا في البداية وظروف النجاح، ثم في النهاية وأسباب الفشل.
التجربة الأولى في الفتوحات الإسلامية التي قامت بها الدولة الإسلامية الأندلسية في غرب أوروبا، والثانية جاءت على يد الخلافة الإسلامية العثمانية في شرق أوروبا.
وفي هاتين التجربتين كل العبر والدروس التي تحتاجها الأمة الإسلامية في حياتها.. ومعرفة طرق النجاح والفشل والتقدم والتراجع والقوة والضعف.
وأن ما كان ممكناً لأسلافنا هو ممكن لنا، فنحن لا نختلف عنهم في شيء؛ فمنهجهم هو منهجنا لم يتغير، وما أمروا به شرعاً أُمرنا به، وما نهوا عنه هو نهيٌ لنا.
ونفس الأمر يجري في العمل بأسباب النجاح أو الفشل والعزة أو الذل..فقط كل ما نحتاجه هو النظر في هذه الأسباب التي لا تتغير قواعدها مهما اختلفت وسائل وظروف التعامل بها عبر الزمان.
وفي السطور التالية ملخص لمسيرة النصر العثماني الإسلامي في أوروبا، وكيف تحقق ذلك.
بداية النصر
ترك عثمان الأول - مؤسس الدولة العثمانية - دولةً كانت مساحتها 16000 كيلومتر مربع، واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذاً على بحر مرمرة، واستطاع بجيشه أن يهدد أهم مدينتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهي: ازنيق وبورصة.
وحرص السلطان أورخان على تحقيق بشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح القسطنطينية حيث بداية الطريق نحو أوروبا.. وقد تحدثنا عن فتح القسطنطينية في تقرير سابق حول الخلافة العثمانية.
وكانت غزوات أورخان منصبة على الروم، ولكن حدث في سنة (736هـ -1336م) أن توفي أمير (قره سي)، وهي إحدى الإمارات التي قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم واختلف ولده من بعده وتنازعا الإمارة. واستفاد أورخان من هذه الفرصة فتدخل في النزاع وانتهى بالاستيلاء على الإمارة.
وقد كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة أن ترث دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى وترث ما كانت تملكه. واستمر الصراع لذلك بينها وبين الإمارات الأخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه.
وأمضى أورخان بعد استيلائه على إمارة (قره سي) عشرين سنة دون أن يقوم بأي حروب، بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة، وفي تعزيز الأمن الداخلي، وبناء المساجد ورصد الأوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة الشاسعة؛ مما يشهد بعظمة أورخان وتقواه، وحكمته وبعد نظره. فإنه لم يشن الحرب تلو الحرب طمعاً في التوسع وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الأراضي التي يتاح له ضمها.
وحرص على طبع كل أرض جديدة بطابع الدولة المدني والعسكري والتربوي والثقافي؛ وبذلك تصبح جزءاً لا يتجزأ من أملاكهم، بحيث أصبحت أملاك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرة.
وهذا يدل على فهم واستيعاب أورخان لسُنة التدرج في بناء الدول وإقامة الحضارة وإحياء الشعوب.
وما أن تمّ أورخان البناء الداخلي حتى حدث صراع على الحكم داخل الدولة البيزنطية وطلب الإمبراطور (كونتاكوزينوس) مساعده السلطان أورخان ضد خصمه، فأرسل قوات من العثمانيين لتوطيد النفوذ العثماني في أوروبا. وفي عام 1358م أصاب زلزال مدن تراقيا فانهارت أسوار غاليبولي وهجرها أهلها؛ مما سهل على العثمانيين دخولها.
وقد احتج الإمبراطور البيزنطي على ذلك دون جدوى، وكان رد أورخان أن العناية الإلهية قد فتحت أبواب المدينة أمام قواته.
ومالبثت غاليبولي أن أصبحت أول قاعدة عثمانية في أوروبا، ومنها انطلقت الحملات الأولى التي توجت في النهاية بالاستيلاء على كل شبه جزيرة البلقان.
وحين انفرد (حنا الخامس باليولوجس) بحكم بيزنطة أقر كل فتوح أورخان في أوروبا مقابل تعهد السلطان بتسهيل وصول الطعام والمؤن إلى القسطنطينية.
وأرسل أورخان أعداداً كبيرة من القبائل المسلمة بغية الدعوة إلى الإسلام ومنع تمكن النصارى من طرد العثمانيين من أوروبا.
ومن العوامل التي ساعدت السلطان أورخان في تحقيق أهدافه:
1- المرحلية التي سار عليها أورخان واستفادته من جهود والده عثمان، ووجود الإمكانيات المادية والمعنوية التي ساعدتهم على فتح الأراضي البيزنطية في الأناضول وتدعيم سلطتهم فيها.
ولقد تميزت جهود أورخان بالخطى الوئيدة والحاسمة في توسيع دولته ومد حدودها، ولم ينتبه العالم المسيحي إلى خطورة الدولة العثمانية إلا بعد أن عبروا البحر واستولوا على غاليبولي.
2- كان العثمانيون يتميزون في المواجهة الحربية التي تمت بينهم وبين الشعوب البلقانية بوحدة الصف ووحدة الهدف ووحدة المذهب الديني وهو المذهب السني.
3- وصول الدولة البيزنطية إلى حالة من الإعياء الشديد، وكان المجتمع البيزنطي قد أصابه تفكك سياسي وانحلال ديني واجتماعي؛ فسهل على العثمانيين ضم أقاليم هذه الدولة.
4- ضعف الجبهة المسيحية نتيجة لعدم الثقة بين السلطات الحاكمة في الدولة البيزنطية وبلغاريا وبلاد الصرب والمجر؛ ولذلك تعذر في معظم الأحيان تنسيق الخطط السياسية والعسكرية للوقوف في جبهة واحدة ضد العثمانيين.
5- الخلاف الديني بين روما والقسطنطينية أي بين الكاثوليك والأرثوذكسية الذي استحكمت حلقاته وترك آثاراً عميقة الجذور في نفوس الفريقين.
6- ظهور النظام العسكري الجديد على أسس عقدية ومنهجية تربوية وأهداف ربانية وأشرف عليه خيرة قادة العثمانيين.
ففي أوروبا هاجم الجيش العثماني أملاك الدولة البيزنطية ثم استولى على مدينة أدرنه في عام (762هـ/ 1360م) وكانت لتلك المدينة أهمية إستراتيجية في البلقان، وكانت ثاني مدينة في الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية.
واتخذ مراد من هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية منذ عام (768هـ / 1366م)، وبذلك انتقلت العاصمة إلى أوروبا، وأصبحت أدرنه عاصمة إسلامية، وكان هدف مراد من هذه النقلة:
1- استغلال مناعة استحكامات أدرنه الحربية وقربها من مسرح العمليات الجهادية.
2- رغبة مراد في ضم الأقاليم الأوروبية التي وصلوا إليها في جهادهم وثبتوا أقدامهم فيها.
3- جمع مراد في هذه العاصمة كل مقومات النهوض بالدولة وأصول الحكم، فتكونت فيها فئات الموظفين وفرق الجيش وطوائف رجال القانون وعلماء الدين، وأقيمت دور المحاكم وشيدت المدارس المدنية والمعاهد العسكرية لتدريب الانكشارية.
واستمرت أدرنه على هذا الوضع السياسي والعسكري والإداري والثقافي والديني حتى فتح العثمانيون القسطنطينية في عام (857هـ - 1453م)، فأصبحت عاصمة لدولتهم.
مضى السلطان مراد في حركة الجهاد والدعوة وفتح الأقاليم في أوروبا، وانطلق جيشه يفتح مقدونيا، وكانت لانتصاراته أصداء بعيدة، فتكون تحالف أوروبي بلقاني صليبي باركته الكنيسة، وضم الصربيين والبلغاريين والمجريين، وسكان إقليم والاشيا.
وقد استطاعت الدول الأعضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشاً بلغ عدده ستون ألف جندي تصدى لهم القائد العثماني لالاشاهين بقوة تقل عدداً عن القوات المتحالفة، وقابلهم على مقربة من (تشيرمن) على نهر مارتيزا، حيث وقعت معركة مروعة وانهزم الجيش المتحالف، وهرب الأميران الصربيان، ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا، ونجا ملك المجر بأعجوبة من الموت أما السلطان مراد فكان في هذه الأثناء مشتغلاً بالقتال في بلاد آسيا الصغرى حيث فتح عدة مدن ثم عاد إلى مقر سلطنته لتنظيم ما فتحه من الأقاليم والبلدان كما هو شأن القائد الحكيم.
وكان من نتائج انتصار العثمانيين أمور مهمة، منها:
- تم لهم فتح إقليم تراقيا ومقدونيا ووصلوا إلى جنوبي بلغاريا والى شرقي صربيا.
- أصبحت مدن وأملاك الدولة البيزنطية وبلغاريا وصربيا تتساقط في أيديهم كأوراق الخريف.
أول معاهدة بين الدولةالعثمانية والمسيحية
لما اشتد ساعد الدولة العثمانية خاف مجاوروها، خصوصاً الضعفاء منهم، فبادرت جمهورية (راجوزه) وأرسلت إلى السلطان مراد رسلاً ليعقدوا مع السلطان مراد معاهدة ودية وتجارية تعاهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها 500 دوكا ذهب، وهذه أول معاهدة عقدت بين الدولة العثمانية والدول المسيحية.
معركة قوصره
كان السلطان مراد قد توغل في بلاد البلقان بنفسه وعن طريق قواده؛ مما أثار الصرب، فحاولوا في أكثر من مرة استغلال غياب السلطان عن أوروبا في الهجوم على الجيوش العثمانية في البلقان وما جاورها ولكنهم فشلوا في تحقيق انتصارات تذكر على العثمانيين، فتحالف الصرب والبوسنيون والبلغار وأعدوا جيشاً أوروبياً صليبياً كثيفاً لحرب السلطان الذي كان قد وصل بجيوشه بعد إعدادها إعداداً قوياً إلى منطقة كوسوفا في البلقان.
ومن الموافقات التي تذكر أن وزير السلطان مراد الذي كان يحمل معه مصحفاً فتحه على غير قصد فوقع نظره على هذه الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} (سورة الأنفال: الآية 65) فاستبشر بالنصر واستبشر معه المسلمون..
وكان السلطان قد تضرع إلى الله تعالى قبل المعركة: "يا الله يا رحيم يا رب السموات يا من تتقبل الدعاء لا تخزني يا رحمن يا رحيم استجب دعاء عبدك الفقير هذه المرة. أرسل السماء علينا مدراراً وبدد سحب الظلام فنرى عدونا وما نحن سوى عبيدك المذنبين، إنك الوهاب ونحن فقراؤك. ما أنا سوى عبدك الفقير المتضرع، وأنت العليم يا علام الغيوب والأسرار وما تخفي الصدور ليس لي من غاية لنفسي ولا مصلحة ولا يحملني طلب المغنم فأنا لا أطمع إلا في رضاك يا الله يا عليم يا موجود في كل الوجود.. فتقبل رجائي ولا تجعل المسلمين يبوء بهم الخذلان أمام العدو. يا الله يا أرحم الراحمين لا تجعلني سبباً في موتهم، بل اجعلهم المنتصرين..".
وفي رواية : "يا إلهي، إنني أقسم بعزتك وجلالك أنني لا أبتغي من جهادي هذه الدنيا الفانية، ولكنني أبتغي رضاك، ولا شيء غير رضاك يا إلهي، إنني أقسم بعزتك وجلالك أنني في سبيلك، فزدني تشريفاً بالموت في سبيلك".
ولم يلبث أن نشب القتال بين الجمعين وحمي وطيسه واشتدت المعركة وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصاراً باهراً حاسماً.
بعد الانتصار في قُوصُوه قام السلطان مراد يتفقد ساحة المعركة ويدور بنفسه بين صفوف القتلى من المسلمين ويدعو لهم، كما كان يتفقد الجرحى، وفي أثناء ذلك قام جندي من الصرب كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان فتمكن الحراس من القبض عليه، ولكنه تظاهر بأنه جاء يريد محادثة السلطان ويريد أن يعلن إسلامه على يديه، وعند ذلك أشار السلطان للحرس بأن يطلقوه فتظاهر بأنه يريد تقبيل يد السلطان وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم طعن به السلطان فاستشهد رحمه الله في 15 شعبان 791هـ.
يتبــــع
تجربتان عظيمتان خاضها المسلمون في أوروبا، تشابهتا في البداية وظروف النجاح، ثم في النهاية وأسباب الفشل.
التجربة الأولى في الفتوحات الإسلامية التي قامت بها الدولة الإسلامية الأندلسية في غرب أوروبا، والثانية جاءت على يد الخلافة الإسلامية العثمانية في شرق أوروبا.
وفي هاتين التجربتين كل العبر والدروس التي تحتاجها الأمة الإسلامية في حياتها.. ومعرفة طرق النجاح والفشل والتقدم والتراجع والقوة والضعف.
وأن ما كان ممكناً لأسلافنا هو ممكن لنا، فنحن لا نختلف عنهم في شيء؛ فمنهجهم هو منهجنا لم يتغير، وما أمروا به شرعاً أُمرنا به، وما نهوا عنه هو نهيٌ لنا.
ونفس الأمر يجري في العمل بأسباب النجاح أو الفشل والعزة أو الذل..فقط كل ما نحتاجه هو النظر في هذه الأسباب التي لا تتغير قواعدها مهما اختلفت وسائل وظروف التعامل بها عبر الزمان.
وفي السطور التالية ملخص لمسيرة النصر العثماني الإسلامي في أوروبا، وكيف تحقق ذلك.
بداية النصر
ترك عثمان الأول - مؤسس الدولة العثمانية - دولةً كانت مساحتها 16000 كيلومتر مربع، واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذاً على بحر مرمرة، واستطاع بجيشه أن يهدد أهم مدينتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهي: ازنيق وبورصة.
بعد وفاة عثمان تولى الحكم ابنه أورخان وسار على نفس سياسة والده في الحكم والفتوحات. وفي عام 727هـ الموافق 1327م سقطت في يده نيقوميديا، وتقع في شمال غرب آسيا الصغرى قرب مدينة اسطنبول وهي مدينة أزميت الحالية، فأنشأ بها أول جامعة عثمانية..
وحرص السلطان أورخان على تحقيق بشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح القسطنطينية حيث بداية الطريق نحو أوروبا.. وقد تحدثنا عن فتح القسطنطينية في تقرير سابق حول الخلافة العثمانية.
وكانت غزوات أورخان منصبة على الروم، ولكن حدث في سنة (736هـ -1336م) أن توفي أمير (قره سي)، وهي إحدى الإمارات التي قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم واختلف ولده من بعده وتنازعا الإمارة. واستفاد أورخان من هذه الفرصة فتدخل في النزاع وانتهى بالاستيلاء على الإمارة.
وقد كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة أن ترث دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى وترث ما كانت تملكه. واستمر الصراع لذلك بينها وبين الإمارات الأخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه.
وأمضى أورخان بعد استيلائه على إمارة (قره سي) عشرين سنة دون أن يقوم بأي حروب، بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة، وفي تعزيز الأمن الداخلي، وبناء المساجد ورصد الأوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة الشاسعة؛ مما يشهد بعظمة أورخان وتقواه، وحكمته وبعد نظره. فإنه لم يشن الحرب تلو الحرب طمعاً في التوسع وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الأراضي التي يتاح له ضمها.
وحرص على طبع كل أرض جديدة بطابع الدولة المدني والعسكري والتربوي والثقافي؛ وبذلك تصبح جزءاً لا يتجزأ من أملاكهم، بحيث أصبحت أملاك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرة.
وهذا يدل على فهم واستيعاب أورخان لسُنة التدرج في بناء الدول وإقامة الحضارة وإحياء الشعوب.
وما أن تمّ أورخان البناء الداخلي حتى حدث صراع على الحكم داخل الدولة البيزنطية وطلب الإمبراطور (كونتاكوزينوس) مساعده السلطان أورخان ضد خصمه، فأرسل قوات من العثمانيين لتوطيد النفوذ العثماني في أوروبا. وفي عام 1358م أصاب زلزال مدن تراقيا فانهارت أسوار غاليبولي وهجرها أهلها؛ مما سهل على العثمانيين دخولها.
وقد احتج الإمبراطور البيزنطي على ذلك دون جدوى، وكان رد أورخان أن العناية الإلهية قد فتحت أبواب المدينة أمام قواته.
ومالبثت غاليبولي أن أصبحت أول قاعدة عثمانية في أوروبا، ومنها انطلقت الحملات الأولى التي توجت في النهاية بالاستيلاء على كل شبه جزيرة البلقان.
وحين انفرد (حنا الخامس باليولوجس) بحكم بيزنطة أقر كل فتوح أورخان في أوروبا مقابل تعهد السلطان بتسهيل وصول الطعام والمؤن إلى القسطنطينية.
وأرسل أورخان أعداداً كبيرة من القبائل المسلمة بغية الدعوة إلى الإسلام ومنع تمكن النصارى من طرد العثمانيين من أوروبا.
ومن العوامل التي ساعدت السلطان أورخان في تحقيق أهدافه:
1- المرحلية التي سار عليها أورخان واستفادته من جهود والده عثمان، ووجود الإمكانيات المادية والمعنوية التي ساعدتهم على فتح الأراضي البيزنطية في الأناضول وتدعيم سلطتهم فيها.
ولقد تميزت جهود أورخان بالخطى الوئيدة والحاسمة في توسيع دولته ومد حدودها، ولم ينتبه العالم المسيحي إلى خطورة الدولة العثمانية إلا بعد أن عبروا البحر واستولوا على غاليبولي.
2- كان العثمانيون يتميزون في المواجهة الحربية التي تمت بينهم وبين الشعوب البلقانية بوحدة الصف ووحدة الهدف ووحدة المذهب الديني وهو المذهب السني.
3- وصول الدولة البيزنطية إلى حالة من الإعياء الشديد، وكان المجتمع البيزنطي قد أصابه تفكك سياسي وانحلال ديني واجتماعي؛ فسهل على العثمانيين ضم أقاليم هذه الدولة.
4- ضعف الجبهة المسيحية نتيجة لعدم الثقة بين السلطات الحاكمة في الدولة البيزنطية وبلغاريا وبلاد الصرب والمجر؛ ولذلك تعذر في معظم الأحيان تنسيق الخطط السياسية والعسكرية للوقوف في جبهة واحدة ضد العثمانيين.
5- الخلاف الديني بين روما والقسطنطينية أي بين الكاثوليك والأرثوذكسية الذي استحكمت حلقاته وترك آثاراً عميقة الجذور في نفوس الفريقين.
6- ظهور النظام العسكري الجديد على أسس عقدية ومنهجية تربوية وأهداف ربانية وأشرف عليه خيرة قادة العثمانيين.
وفي عهد السلطان مراد الأول (761-791هـ /1360-1389م) توسعت الدولة العثمانية في آسيا الصغرى وأوروبا في وقت واحد.
ففي أوروبا هاجم الجيش العثماني أملاك الدولة البيزنطية ثم استولى على مدينة أدرنه في عام (762هـ/ 1360م) وكانت لتلك المدينة أهمية إستراتيجية في البلقان، وكانت ثاني مدينة في الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية.
واتخذ مراد من هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية منذ عام (768هـ / 1366م)، وبذلك انتقلت العاصمة إلى أوروبا، وأصبحت أدرنه عاصمة إسلامية، وكان هدف مراد من هذه النقلة:
1- استغلال مناعة استحكامات أدرنه الحربية وقربها من مسرح العمليات الجهادية.
2- رغبة مراد في ضم الأقاليم الأوروبية التي وصلوا إليها في جهادهم وثبتوا أقدامهم فيها.
3- جمع مراد في هذه العاصمة كل مقومات النهوض بالدولة وأصول الحكم، فتكونت فيها فئات الموظفين وفرق الجيش وطوائف رجال القانون وعلماء الدين، وأقيمت دور المحاكم وشيدت المدارس المدنية والمعاهد العسكرية لتدريب الانكشارية.
واستمرت أدرنه على هذا الوضع السياسي والعسكري والإداري والثقافي والديني حتى فتح العثمانيون القسطنطينية في عام (857هـ - 1453م)، فأصبحت عاصمة لدولتهم.
مضى السلطان مراد في حركة الجهاد والدعوة وفتح الأقاليم في أوروبا، وانطلق جيشه يفتح مقدونيا، وكانت لانتصاراته أصداء بعيدة، فتكون تحالف أوروبي بلقاني صليبي باركته الكنيسة، وضم الصربيين والبلغاريين والمجريين، وسكان إقليم والاشيا.
وقد استطاعت الدول الأعضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشاً بلغ عدده ستون ألف جندي تصدى لهم القائد العثماني لالاشاهين بقوة تقل عدداً عن القوات المتحالفة، وقابلهم على مقربة من (تشيرمن) على نهر مارتيزا، حيث وقعت معركة مروعة وانهزم الجيش المتحالف، وهرب الأميران الصربيان، ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا، ونجا ملك المجر بأعجوبة من الموت أما السلطان مراد فكان في هذه الأثناء مشتغلاً بالقتال في بلاد آسيا الصغرى حيث فتح عدة مدن ثم عاد إلى مقر سلطنته لتنظيم ما فتحه من الأقاليم والبلدان كما هو شأن القائد الحكيم.
وكان من نتائج انتصار العثمانيين أمور مهمة، منها:
- تم لهم فتح إقليم تراقيا ومقدونيا ووصلوا إلى جنوبي بلغاريا والى شرقي صربيا.
- أصبحت مدن وأملاك الدولة البيزنطية وبلغاريا وصربيا تتساقط في أيديهم كأوراق الخريف.
أول معاهدة بين الدولةالعثمانية والمسيحية
لما اشتد ساعد الدولة العثمانية خاف مجاوروها، خصوصاً الضعفاء منهم، فبادرت جمهورية (راجوزه) وأرسلت إلى السلطان مراد رسلاً ليعقدوا مع السلطان مراد معاهدة ودية وتجارية تعاهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها 500 دوكا ذهب، وهذه أول معاهدة عقدت بين الدولة العثمانية والدول المسيحية.
معركة قوصره
كان السلطان مراد قد توغل في بلاد البلقان بنفسه وعن طريق قواده؛ مما أثار الصرب، فحاولوا في أكثر من مرة استغلال غياب السلطان عن أوروبا في الهجوم على الجيوش العثمانية في البلقان وما جاورها ولكنهم فشلوا في تحقيق انتصارات تذكر على العثمانيين، فتحالف الصرب والبوسنيون والبلغار وأعدوا جيشاً أوروبياً صليبياً كثيفاً لحرب السلطان الذي كان قد وصل بجيوشه بعد إعدادها إعداداً قوياً إلى منطقة كوسوفا في البلقان.
ومن الموافقات التي تذكر أن وزير السلطان مراد الذي كان يحمل معه مصحفاً فتحه على غير قصد فوقع نظره على هذه الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} (سورة الأنفال: الآية 65) فاستبشر بالنصر واستبشر معه المسلمون..
وكان السلطان قد تضرع إلى الله تعالى قبل المعركة: "يا الله يا رحيم يا رب السموات يا من تتقبل الدعاء لا تخزني يا رحمن يا رحيم استجب دعاء عبدك الفقير هذه المرة. أرسل السماء علينا مدراراً وبدد سحب الظلام فنرى عدونا وما نحن سوى عبيدك المذنبين، إنك الوهاب ونحن فقراؤك. ما أنا سوى عبدك الفقير المتضرع، وأنت العليم يا علام الغيوب والأسرار وما تخفي الصدور ليس لي من غاية لنفسي ولا مصلحة ولا يحملني طلب المغنم فأنا لا أطمع إلا في رضاك يا الله يا عليم يا موجود في كل الوجود.. فتقبل رجائي ولا تجعل المسلمين يبوء بهم الخذلان أمام العدو. يا الله يا أرحم الراحمين لا تجعلني سبباً في موتهم، بل اجعلهم المنتصرين..".
وفي رواية : "يا إلهي، إنني أقسم بعزتك وجلالك أنني لا أبتغي من جهادي هذه الدنيا الفانية، ولكنني أبتغي رضاك، ولا شيء غير رضاك يا إلهي، إنني أقسم بعزتك وجلالك أنني في سبيلك، فزدني تشريفاً بالموت في سبيلك".
ولم يلبث أن نشب القتال بين الجمعين وحمي وطيسه واشتدت المعركة وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصاراً باهراً حاسماً.
بعد الانتصار في قُوصُوه قام السلطان مراد يتفقد ساحة المعركة ويدور بنفسه بين صفوف القتلى من المسلمين ويدعو لهم، كما كان يتفقد الجرحى، وفي أثناء ذلك قام جندي من الصرب كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان فتمكن الحراس من القبض عليه، ولكنه تظاهر بأنه جاء يريد محادثة السلطان ويريد أن يعلن إسلامه على يديه، وعند ذلك أشار السلطان للحرس بأن يطلقوه فتظاهر بأنه يريد تقبيل يد السلطان وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم طعن به السلطان فاستشهد رحمه الله في 15 شعبان 791هـ.
يتبــــع
تعليق