محمد بن تومرت .. مؤسس دولة الموحدين
ابن تومرت (473-524 هـ= 1080-1130م)
كانت دولة المرابطين تتَّجه بقوَّة نحو هاوية سحيقة وكارثة محقَّقة، وكان لا بُدَّ أن تتحقَّق سُنَّة الله تعالى بتغيير هؤلاء واستبدالهم بغيرهم، وهذا ما تمَّ بالفعل؛ إذ قام سنة (512هـ= 1118م) رجل من قبائل مصمودة الأمازيغية (البربرية) يُدعى محمد بن تومرت بثورة على المرابطين، وكان محمد بن تومرت صاحب منهج في التغيير والإصلاح مختلف بالكلية عن منهج الشيخ عبد الله بن ياسين -رحمه الله.
وقد وُلِدَ محمد بن تومرت هذا سنة (473 هـ= 1080 م) [1]، ونشأ في بيت متدين في قبيلة مصمودة[2]، وقد نسب هو نفسه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب[3]، لكن غالبَ الأمر أنه من قبائل الأمازيغ (البربر) في هذه المنطقة، وقد ظلَّ محمد بن تومرت في هذا البيت إلى سنة (500هـ= 1107م)، وكان قد بلغ من العمر آنذاك 27 سنة، وكان شغوفًا بالعلم، وكانت عادة الطلاب في ذلك الزمن أن يتجوَّلوا في سائر البلاد الإسلامية؛ ليتعلموا من علماء المسلمين في مختلف الأقطار؛ ولهذا فقد سافر محمد بن تومرت في سنة (500هـ= 1107م) إلى قرطبة وتلقَّى العلم هناك، ولم يكتفِ بذلك بل عاد وسافر إلى بلاد المشرق، فذهب إلى الإسكندرية ثم إلى مكة، حيث أدَّى فريضة الحج، وهناك تتلمذ على أيدي علماء مكة فترة من الزمان، ثم رحل إلى بغداد وقضى فيها عشر سنوات كاملة؛ يتلقَّى العلم على أيدي علماء بغداد جميعهم، وكانت بغداد تموج آنذاك بتيارات مختلفة من علماء السُّنَّة والشيعة والمعتزلة.. وغيرهم الكثير ممن أخذ وتلقَّى على أيديهم العلم.
وذهب محمد بن تومرت بعد ذلك إلى المشرق، وتَذْكُر بعض المصادر أنه تلقَّى العلم على الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- إلا أن هذا غير صحيح بيقين[4]- وعاد بعدها إلى الإسكندرية ثم إلى بلاد المغرب العربي[5]، ويصف ابنُ خلدون محمد بن تومرت بعد عودته تلك في سنة (512 هـ= 1118م) وكان قد بلغ من العمر 39 سنة، فيقول: أصبح محمد بن تومرت «بحرًا متفجرًا من العلم، وشهابًا واريًا من الدين»[6]. يعني أنه جمع علومًا كثيرة وأفكارًا جمَّة من تيارات إسلامية مختلفة، وأصبح بالفعل من كبار علماء المسلمين في هذه الآونة.
منهج التغيير عند ابن تومرت
في طريق عودته من بلاد العراق والشام مكث محمد بن تومرت فترة في الإسكندرية يُكمل فيها تعليمه، وهناك بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن خلال سيرته ورغم أنه -كما ذكرنا- كان عالِمًا كبيرًا، إلاَّ أنه كان شديدًا غاية الشِّدَّة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف، شِدَّة تصل إلى حدِّ التنفير، فكان يَنْفرُ عنه كثير من الناس حينما يأمرهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر، حتى إنه خرج من الإسكندرية مطرودًا منها، طرده واليها بعدما خشي منه، ثم ركب في سفينة متَّجهة إلى بلاد المغرب العربي، وعلى السفينة -أيضًا- ظلَّ ابن تومرت على حِدَّته في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فمنع الخمور على ظهر السفينة، وأمر بقراءة القرآن.
واشتدَّ على الناس واختلف معهم كثيرًا، فألقوه في عُرض البحر، وتركوه وساروا إلى بلاد المغرب، وهو يسبح بإزاء السفينة نصف يوم كامل، فلما رأوا ذلك اشفقوا عليه، وأنزلوا مَنْ أخذه من البحر وعظم في صدورهم، ولم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب[7]، وفي تونس تنتهي رحلته فينزل إلى بلد تُسَمَّى المهدية، ولما انتهى إلى المهدية نزل بمسجد مغلق، وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة فلا يرى منكرًا من آلة الملاهي، أو أواني الخمر إلا نزل إليها وكسرها، فتسامع الناس به في البلد فجاءوا إليه وقرءوا عليه كتبًا من أصول الدين[8].
كان ابن تومرت يُرِيد تغيير المنكر كله تغييرًا جذريًّا ودفعة واحدة، والحقُّ أن هذا أمر مخالف لسُنَن الله تعالى؛ فحين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة لم يأمر بهذا التغيير الجذري المفاجئ ولا سعى إليه، بل إن الأمور كانت تتنزل عليه صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى بصورة متدرِّجَة؛ فقد نزل أمر اجتناب الربا على درجات متسلسلة، ومراعية للتدرُّج مع الناس، وكذلك كان الأمر في تحريم الخمور وتجريمها، والناس قبل ذلك لم تكن تعرف لكليهما حرمة، حتى في أمر الجهاد والقتال في سبيل الله؛ فلم يتنزل هذا التكليف دفعة واحدة.
تلك الأمور التي فقهها جيدًا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين تولَّى الخلافة الأموية؛ فقد كانت هناك كثير من المنكرات في دمشق وما حولها من البلاد، وكان ابن عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله- شديدًا في الحقِّ، فأراد أن يُغَيِّرَ كل هذه المنكرات مستقويًا بسلطان أبيه، إلاَّ أنه وجد أباه عمر بن عبد العزيز يسير فيها بطريقة متدرِّجة فشقَّ ذلك عليه، فذهب إليه، وقال له: يا أبي؛ أنت تملك الأمور الآن، ولك هيمنة على بلاد المسلمين، فيجب أن تُغَيِّرَ هذا المنكر كله، وتُقيم الإسلام كما ينبغي أن يُقام. فقال له عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: يا بُنَيَّ؛ لو حملتُ الناس على الحقِّ جملةً واحدة تركوه جملةً واحدة[9].
لكن محمد بن تومرت لم يكن ينحو مثل هذا المنحى، إنما يُريد أن يُغَيِّرَ كل شيء تغييرًا جذريًّا، بل وبأسلوب فظٍّ شديد، وقد قال جَلَّ شأنه يخاطب نبيَّه الكريم: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159]. خطابٌ لشخصه صلى الله عليه وسلم ؛ وهو المؤيَّد بالوحي، وأحكم الخلق، وأعلم البشر جميعًا: إن دعوتَ إلى الله تعالى بفظاظة وغلظة انفضَّ الناس عنك، فما البال بعموم الناس من دونه؟!
ابن تومرت وعبد المؤمن بن علي
ولما كان ابن تومرت في بجاية قابل رجلاً، كان يُريد هو -أيضًا- ما كان يُريده ابن تومرت في أوَّل رحلته في طلب العلم إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، ذلك الرجل كان يُدعى عبد المؤمن بن علي، وفي أول لقاء له به سأله عن سبب تركه لبلاده وسياحته في البلاد، فأجابه بأنه يبحث عن العلم والدين، فردَّ عليه محمد بن تومرت بأن بضاعتك وما تبغيه لديَّ، فالتقيا كثيرًا، وقد أخذ محمد بن تومرت يُعَلِّمُه من علمه ما أعجب عبد المؤمن بن علي كثيرًا، وتآخيا في الله، وظلاَّ معًا في طريقهما لم يفترقَا حتى مات محمد بن تومرت على نحو ما سيأتي بيانه[10].
أخذ عبد المؤمن بن علي العلم من ابن تومرت مع الطريقة الفظَّة في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ الاثنان معًا يدعوان إلى الله في بلاد المغرب العربي، وقد انضمَّ إليهما خمسة آخرون، وأصبحوا بذلك سبعة أفراد بمحمد بن تومرت نفسه[11]، وعلى هذه الحال وجد محمد بن تومرت ومن معه أن المنكرات قد كثُرت بصورة لافتة في بلاد المرابطين، ووجد أن الخمور قد تفشَّت حتى في مراكش، تلك العاصمة التي أسَّسها يوسف بن تاشفين –رحمه الله- من قبل، وكانت ثغرًا من ثغور الإسلام، كما رأى الولاةَ وقد بدءوا يظلمون الناس، ويفرضون عليهم الضرائب، ويأكلون أموال اليتامى، ووجد -أيضًا- ذاك السفور والاختلاط قد انتشر وصار شيئًا مألوفًا بين الناس؛ حتى إنه شاهد بنفسه امرأة سافرة وقد خرجت في فوج كبير، وعليه حراسة مما يماثل أفواج الملوك، وحينما سأل عن صاحبة هذا الفوج وتلك المرأة السافرة، علم أنها أخت أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فأنكر ذلك عليها إنكارًا شديدًا؛ حتى إن بعض المصادر تثبت أنه وأصحابه كانوا يضربون وجوه مطاياها حتى أوقعوها من عليه[12].
هذا هو المنهج الذي سلكه محمد بن تومرت قاصدًا به الإصلاح والتغيير، وهو -بلا أدنى شكٍّ- مخالف تمامًا للنهج القويم، ونهج رسول الله في العمل ذاته على نحو ما رأينا.
كانت دولة المرابطين تتَّجه بقوَّة نحو هاوية سحيقة وكارثة محقَّقة، وكان لا بُدَّ أن تتحقَّق سُنَّة الله تعالى بتغيير هؤلاء واستبدالهم بغيرهم، وهذا ما تمَّ بالفعل؛ إذ قام سنة (512هـ= 1118م) رجل من قبائل مصمودة الأمازيغية (البربرية) يُدعى محمد بن تومرت بثورة على المرابطين، وكان محمد بن تومرت صاحب منهج في التغيير والإصلاح مختلف بالكلية عن منهج الشيخ عبد الله بن ياسين -رحمه الله.
وقد وُلِدَ محمد بن تومرت هذا سنة (473 هـ= 1080 م) [1]، ونشأ في بيت متدين في قبيلة مصمودة[2]، وقد نسب هو نفسه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب[3]، لكن غالبَ الأمر أنه من قبائل الأمازيغ (البربر) في هذه المنطقة، وقد ظلَّ محمد بن تومرت في هذا البيت إلى سنة (500هـ= 1107م)، وكان قد بلغ من العمر آنذاك 27 سنة، وكان شغوفًا بالعلم، وكانت عادة الطلاب في ذلك الزمن أن يتجوَّلوا في سائر البلاد الإسلامية؛ ليتعلموا من علماء المسلمين في مختلف الأقطار؛ ولهذا فقد سافر محمد بن تومرت في سنة (500هـ= 1107م) إلى قرطبة وتلقَّى العلم هناك، ولم يكتفِ بذلك بل عاد وسافر إلى بلاد المشرق، فذهب إلى الإسكندرية ثم إلى مكة، حيث أدَّى فريضة الحج، وهناك تتلمذ على أيدي علماء مكة فترة من الزمان، ثم رحل إلى بغداد وقضى فيها عشر سنوات كاملة؛ يتلقَّى العلم على أيدي علماء بغداد جميعهم، وكانت بغداد تموج آنذاك بتيارات مختلفة من علماء السُّنَّة والشيعة والمعتزلة.. وغيرهم الكثير ممن أخذ وتلقَّى على أيديهم العلم.
وذهب محمد بن تومرت بعد ذلك إلى المشرق، وتَذْكُر بعض المصادر أنه تلقَّى العلم على الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- إلا أن هذا غير صحيح بيقين[4]- وعاد بعدها إلى الإسكندرية ثم إلى بلاد المغرب العربي[5]، ويصف ابنُ خلدون محمد بن تومرت بعد عودته تلك في سنة (512 هـ= 1118م) وكان قد بلغ من العمر 39 سنة، فيقول: أصبح محمد بن تومرت «بحرًا متفجرًا من العلم، وشهابًا واريًا من الدين»[6]. يعني أنه جمع علومًا كثيرة وأفكارًا جمَّة من تيارات إسلامية مختلفة، وأصبح بالفعل من كبار علماء المسلمين في هذه الآونة.
منهج التغيير عند ابن تومرت
في طريق عودته من بلاد العراق والشام مكث محمد بن تومرت فترة في الإسكندرية يُكمل فيها تعليمه، وهناك بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن خلال سيرته ورغم أنه -كما ذكرنا- كان عالِمًا كبيرًا، إلاَّ أنه كان شديدًا غاية الشِّدَّة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف، شِدَّة تصل إلى حدِّ التنفير، فكان يَنْفرُ عنه كثير من الناس حينما يأمرهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر، حتى إنه خرج من الإسكندرية مطرودًا منها، طرده واليها بعدما خشي منه، ثم ركب في سفينة متَّجهة إلى بلاد المغرب العربي، وعلى السفينة -أيضًا- ظلَّ ابن تومرت على حِدَّته في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فمنع الخمور على ظهر السفينة، وأمر بقراءة القرآن.
واشتدَّ على الناس واختلف معهم كثيرًا، فألقوه في عُرض البحر، وتركوه وساروا إلى بلاد المغرب، وهو يسبح بإزاء السفينة نصف يوم كامل، فلما رأوا ذلك اشفقوا عليه، وأنزلوا مَنْ أخذه من البحر وعظم في صدورهم، ولم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب[7]، وفي تونس تنتهي رحلته فينزل إلى بلد تُسَمَّى المهدية، ولما انتهى إلى المهدية نزل بمسجد مغلق، وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة فلا يرى منكرًا من آلة الملاهي، أو أواني الخمر إلا نزل إليها وكسرها، فتسامع الناس به في البلد فجاءوا إليه وقرءوا عليه كتبًا من أصول الدين[8].
كان ابن تومرت يُرِيد تغيير المنكر كله تغييرًا جذريًّا ودفعة واحدة، والحقُّ أن هذا أمر مخالف لسُنَن الله تعالى؛ فحين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة لم يأمر بهذا التغيير الجذري المفاجئ ولا سعى إليه، بل إن الأمور كانت تتنزل عليه صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى بصورة متدرِّجَة؛ فقد نزل أمر اجتناب الربا على درجات متسلسلة، ومراعية للتدرُّج مع الناس، وكذلك كان الأمر في تحريم الخمور وتجريمها، والناس قبل ذلك لم تكن تعرف لكليهما حرمة، حتى في أمر الجهاد والقتال في سبيل الله؛ فلم يتنزل هذا التكليف دفعة واحدة.
تلك الأمور التي فقهها جيدًا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين تولَّى الخلافة الأموية؛ فقد كانت هناك كثير من المنكرات في دمشق وما حولها من البلاد، وكان ابن عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله- شديدًا في الحقِّ، فأراد أن يُغَيِّرَ كل هذه المنكرات مستقويًا بسلطان أبيه، إلاَّ أنه وجد أباه عمر بن عبد العزيز يسير فيها بطريقة متدرِّجة فشقَّ ذلك عليه، فذهب إليه، وقال له: يا أبي؛ أنت تملك الأمور الآن، ولك هيمنة على بلاد المسلمين، فيجب أن تُغَيِّرَ هذا المنكر كله، وتُقيم الإسلام كما ينبغي أن يُقام. فقال له عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: يا بُنَيَّ؛ لو حملتُ الناس على الحقِّ جملةً واحدة تركوه جملةً واحدة[9].
لكن محمد بن تومرت لم يكن ينحو مثل هذا المنحى، إنما يُريد أن يُغَيِّرَ كل شيء تغييرًا جذريًّا، بل وبأسلوب فظٍّ شديد، وقد قال جَلَّ شأنه يخاطب نبيَّه الكريم: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159]. خطابٌ لشخصه صلى الله عليه وسلم ؛ وهو المؤيَّد بالوحي، وأحكم الخلق، وأعلم البشر جميعًا: إن دعوتَ إلى الله تعالى بفظاظة وغلظة انفضَّ الناس عنك، فما البال بعموم الناس من دونه؟!
ابن تومرت وعبد المؤمن بن علي
ولما كان ابن تومرت في بجاية قابل رجلاً، كان يُريد هو -أيضًا- ما كان يُريده ابن تومرت في أوَّل رحلته في طلب العلم إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، ذلك الرجل كان يُدعى عبد المؤمن بن علي، وفي أول لقاء له به سأله عن سبب تركه لبلاده وسياحته في البلاد، فأجابه بأنه يبحث عن العلم والدين، فردَّ عليه محمد بن تومرت بأن بضاعتك وما تبغيه لديَّ، فالتقيا كثيرًا، وقد أخذ محمد بن تومرت يُعَلِّمُه من علمه ما أعجب عبد المؤمن بن علي كثيرًا، وتآخيا في الله، وظلاَّ معًا في طريقهما لم يفترقَا حتى مات محمد بن تومرت على نحو ما سيأتي بيانه[10].
أخذ عبد المؤمن بن علي العلم من ابن تومرت مع الطريقة الفظَّة في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ الاثنان معًا يدعوان إلى الله في بلاد المغرب العربي، وقد انضمَّ إليهما خمسة آخرون، وأصبحوا بذلك سبعة أفراد بمحمد بن تومرت نفسه[11]، وعلى هذه الحال وجد محمد بن تومرت ومن معه أن المنكرات قد كثُرت بصورة لافتة في بلاد المرابطين، ووجد أن الخمور قد تفشَّت حتى في مراكش، تلك العاصمة التي أسَّسها يوسف بن تاشفين –رحمه الله- من قبل، وكانت ثغرًا من ثغور الإسلام، كما رأى الولاةَ وقد بدءوا يظلمون الناس، ويفرضون عليهم الضرائب، ويأكلون أموال اليتامى، ووجد -أيضًا- ذاك السفور والاختلاط قد انتشر وصار شيئًا مألوفًا بين الناس؛ حتى إنه شاهد بنفسه امرأة سافرة وقد خرجت في فوج كبير، وعليه حراسة مما يماثل أفواج الملوك، وحينما سأل عن صاحبة هذا الفوج وتلك المرأة السافرة، علم أنها أخت أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فأنكر ذلك عليها إنكارًا شديدًا؛ حتى إن بعض المصادر تثبت أنه وأصحابه كانوا يضربون وجوه مطاياها حتى أوقعوها من عليه[12].
هذا هو المنهج الذي سلكه محمد بن تومرت قاصدًا به الإصلاح والتغيير، وهو -بلا أدنى شكٍّ- مخالف تمامًا للنهج القويم، ونهج رسول الله في العمل ذاته على نحو ما رأينا.
[1] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/201، فقد قال: «ثم مات المهدي وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: خمسًا وخمسين سنة». وعلى هذا فهو إمَّا مولود في 469 أو 473هـ، وفي مولده اختلاف كبير غير هذا.
[2] ابن خلدون تاريخ ابن خلدون، 6/236.
[3] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص245، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/236، ويقول الذهبي في سير أعلام النبلاء، 19/539: «المدعي أنه علوي حسني، وأنه الإمام المعصوم المهدي».
[4] يقول الأستاذ عبد الله عنان مفندًا هذه المقولة: «ونحن نقف قليلاً عند هذه الرواية، التي يُرَدِّدها كثير من مؤرِّخي المشرق والمغرب؛ إذ متى وأين كان هذا اللقاء؟ وفي أي الظروف؟ لقد خرج ابن تومرت من وطنه في طلب العلم سنة 500 أو 501هـ، وقضى فترة في الأندلس، وفي المهدية، وفي الإسكندرية، ثم سافر لقضاء فريضة الحج، وقصد على إثر ذلك إلى بغداد، وإذًا فيكون من المرجَّح أنه لم يصل إليها قبل سنة 504 أو 505هـ، وقد كان الإمام الغزالي ببغداد يضطلع بالتدريس في المدرسة النظامية بين سنتي 484، 488هـ=1091، 1095م، وفي سنة 488هـ غادر العاصمة العباسية في رحلته التأملية الشهيرة التي استطالت حتى 499هـ، والتي زار فيها دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة، وإذًا فيكون من المستحيل ماديًّا أن يكون ابن تومرت -الذي غادر وطنه لأول مرة في سنة 500هـ- قد استطاع أن يلتقي بالغزالي في بغداد أو غيرها من المدن التي زارها في خلال رحلته، ثم إنه ليس من المحتمل أن يكون هذا اللقاء قد وقع عند عودة الغزالي؛ ذلك أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، ثم رحل منها إلى نيسابور، حيث قام بالتدريس فيها استجابة لدعوة السلطان ملك شاه، ثم غادرها بعد قليل إلى مسقط رأسه طوس، وانقطع بها للعبادة والتأليف حتى توفي في جمادى الثانية 505هـ= ديسمبر سنة 1112م.
ويتضح من ذلك جليًّا بطلان قصة اللقاء بين ابن تومرت والإمام الغزالي من الناحية التاريخية، وفضلاً عن ذلك فإنه يوجد دليل مادي آخر على بطلان هذه القصة أو الأسطورة؛ ذلك أنها تُقرن بواقعة أخرى خُلاصتها أن ابن تومرت حينما لقي الإمام الغزالي، وأخبره بما وقع من إحراق المرابطين لكتابه إحياء علوم الدين بالمغرب والأندلس، تغيَّر وجهه، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يُؤَمِّنُون، فقال: «اللهم مزِّق ملكهم كما مزَّقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه». وأن ابن تومرت رجا الإمام عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك.
وينقض هذه الواقعة من أساسها أن قرار المرابطين بحرق كتاب الإحياء قد صدر لأول مرة في سنة 503هـ في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان، أعني بعد أن غادر الغزالي بغداد إلى نيسابور لآخر مرة، وقبيل وفاته بنحو عام، فأين إذًا ومتى كان لقاء ابن تومرت به؟ وكيف نستطيع إزاء هذه المفارقات الزمنية، أن نصدق تلك القصة التي نُسجت حول حرق كتاب الإحياء؟
هي أسطورة إذًا، نُسجت كما نسجت نسبة ابن تومرت إلى آل البيت؛ لتغدو هالة تُحيط بشخصه وسيرته، وتُذكي عناصر الخفاء والقدسية حول شخصه وإمامته، وقد اختير الإمام الغزالي لبطولتها بالذات لتبوُّئِه يومئذ أسمى مكانة من العلم والدين والورع في العالم الإسلامي... ومن ثمَّ فإنا نجد كثيرًا من المؤرخين والمفكرين يرفضون هذه الأسطورة والأخذ بها، فابن الأثير ينفيها بصراحة ويقول لنا: «والصحيح أن ابن تومرت لم يجتمع به أي: بالغزالي». ويُبْدِي ابن خلدون ريبة فيها، ويحملها على محمل الزعم، وكذلك يُعاملها لسان الدين بن الخطيب، وكذلك فإن البحث الحديث يُنكرها وينفيها، ومن أصحاب هذا الرأي المستشرق الألماني ميللر، والعلامة المستشرق إجناس جولدسيهر... على أن ذلك كله لا يعني أن ابن تومرت لم يتأثَّر في تعاليمه الدينية بآراء الغزالي ونظرياته...». محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/161-163.
[5] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص245، وتاريخ ابن خلدون، 6/226، والسلاوي: الاستقصا، 2/78.
[6] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/226.
[7] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص246.
[8] السلاوي: الاستقصا، 2/79.
[9] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 6/419.
[10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص247، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 1/227، والسلاوي: الاستقصا، 2/80، ومنهم من قال: إنه لقيه بملالة على بعد فرسخ من بجاية. ومنهم من قال: بفنزارة من بلاد متيجة. انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص100.
[11] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان: 5/49، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/543، والسلاوي: الاستقصا، 2/83.
[12] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
[2] ابن خلدون تاريخ ابن خلدون، 6/236.
[3] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص245، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/236، ويقول الذهبي في سير أعلام النبلاء، 19/539: «المدعي أنه علوي حسني، وأنه الإمام المعصوم المهدي».
[4] يقول الأستاذ عبد الله عنان مفندًا هذه المقولة: «ونحن نقف قليلاً عند هذه الرواية، التي يُرَدِّدها كثير من مؤرِّخي المشرق والمغرب؛ إذ متى وأين كان هذا اللقاء؟ وفي أي الظروف؟ لقد خرج ابن تومرت من وطنه في طلب العلم سنة 500 أو 501هـ، وقضى فترة في الأندلس، وفي المهدية، وفي الإسكندرية، ثم سافر لقضاء فريضة الحج، وقصد على إثر ذلك إلى بغداد، وإذًا فيكون من المرجَّح أنه لم يصل إليها قبل سنة 504 أو 505هـ، وقد كان الإمام الغزالي ببغداد يضطلع بالتدريس في المدرسة النظامية بين سنتي 484، 488هـ=1091، 1095م، وفي سنة 488هـ غادر العاصمة العباسية في رحلته التأملية الشهيرة التي استطالت حتى 499هـ، والتي زار فيها دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة، وإذًا فيكون من المستحيل ماديًّا أن يكون ابن تومرت -الذي غادر وطنه لأول مرة في سنة 500هـ- قد استطاع أن يلتقي بالغزالي في بغداد أو غيرها من المدن التي زارها في خلال رحلته، ثم إنه ليس من المحتمل أن يكون هذا اللقاء قد وقع عند عودة الغزالي؛ ذلك أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، ثم رحل منها إلى نيسابور، حيث قام بالتدريس فيها استجابة لدعوة السلطان ملك شاه، ثم غادرها بعد قليل إلى مسقط رأسه طوس، وانقطع بها للعبادة والتأليف حتى توفي في جمادى الثانية 505هـ= ديسمبر سنة 1112م.
ويتضح من ذلك جليًّا بطلان قصة اللقاء بين ابن تومرت والإمام الغزالي من الناحية التاريخية، وفضلاً عن ذلك فإنه يوجد دليل مادي آخر على بطلان هذه القصة أو الأسطورة؛ ذلك أنها تُقرن بواقعة أخرى خُلاصتها أن ابن تومرت حينما لقي الإمام الغزالي، وأخبره بما وقع من إحراق المرابطين لكتابه إحياء علوم الدين بالمغرب والأندلس، تغيَّر وجهه، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يُؤَمِّنُون، فقال: «اللهم مزِّق ملكهم كما مزَّقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه». وأن ابن تومرت رجا الإمام عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك.
وينقض هذه الواقعة من أساسها أن قرار المرابطين بحرق كتاب الإحياء قد صدر لأول مرة في سنة 503هـ في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان، أعني بعد أن غادر الغزالي بغداد إلى نيسابور لآخر مرة، وقبيل وفاته بنحو عام، فأين إذًا ومتى كان لقاء ابن تومرت به؟ وكيف نستطيع إزاء هذه المفارقات الزمنية، أن نصدق تلك القصة التي نُسجت حول حرق كتاب الإحياء؟
هي أسطورة إذًا، نُسجت كما نسجت نسبة ابن تومرت إلى آل البيت؛ لتغدو هالة تُحيط بشخصه وسيرته، وتُذكي عناصر الخفاء والقدسية حول شخصه وإمامته، وقد اختير الإمام الغزالي لبطولتها بالذات لتبوُّئِه يومئذ أسمى مكانة من العلم والدين والورع في العالم الإسلامي... ومن ثمَّ فإنا نجد كثيرًا من المؤرخين والمفكرين يرفضون هذه الأسطورة والأخذ بها، فابن الأثير ينفيها بصراحة ويقول لنا: «والصحيح أن ابن تومرت لم يجتمع به أي: بالغزالي». ويُبْدِي ابن خلدون ريبة فيها، ويحملها على محمل الزعم، وكذلك يُعاملها لسان الدين بن الخطيب، وكذلك فإن البحث الحديث يُنكرها وينفيها، ومن أصحاب هذا الرأي المستشرق الألماني ميللر، والعلامة المستشرق إجناس جولدسيهر... على أن ذلك كله لا يعني أن ابن تومرت لم يتأثَّر في تعاليمه الدينية بآراء الغزالي ونظرياته...». محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/161-163.
[5] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص245، وتاريخ ابن خلدون، 6/226، والسلاوي: الاستقصا، 2/78.
[6] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/226.
[7] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص246.
[8] السلاوي: الاستقصا، 2/79.
[9] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 6/419.
[10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص247، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 1/227، والسلاوي: الاستقصا، 2/80، ومنهم من قال: إنه لقيه بملالة على بعد فرسخ من بجاية. ومنهم من قال: بفنزارة من بلاد متيجة. انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص100.
[11] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان: 5/49، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/543، والسلاوي: الاستقصا، 2/83.
[12] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
تعليق