قرطبة .. الحضارة والرقي
في السطور التالية نَتَعَرَّفُ على بعض مظاهر الرقي والحضارة التي تميَّزَتْ بها الأندلس عامَّة، ومدينة قرطبة خاصَّة؛ لنقف على الإسهامات الإسلامية في مسيرة الإنسانية.
قنطرة قرطبة
كان من المعالم المهمَّة في قرطبة (قنطرة قرطبة)، والتي تقع على نهر الوادي الكبير، وقد عُرفت باسم: (الجسر)، وأيضًا: (قنطرة الدهر)، وكان طولها أربعمائة متر تقريبًا، وعرضها أربعين مترًا، وارتفاعها ثلاثين مترًا!
وقد شهد لها ابن الوردي والإدريسي بأنها «القنطرة التي عَلَتِ القناطرَ فَخْرًا في بنائها وإتقانها»[1].
كان عدد أقواسها سبع عشرة قوسًا، بين كل قوس والآخر اثنا عشر مترًا، وسعة القوس الواحد اثنا عشر مترًا، وكان عرضها حوالي سبعة أمتار، وارتفاعها عن سطح ماء النهر بلغ خمسة عشر مترًا[2].
إن هذه الأبعاد كانت لقنطرة بُنِيَت في بداية القرن الثاني الهجري (101هـ)؛ أي منذ ألف وأربعمائة عام، على يد السمح بن مالك الخولاني الذي كان والي الأندلس من قِبَل عمر بن عبد العزيز، أي في وقت لم يكن فيه الناس يعرفون من وسائل الانتقال إلاَّ الخيل والبغال والحمير، ولم تكن وسائل وأساليب البناء على المستوى المتطور حينئذٍ؛ مما يجعل هذه القنطرة بهذا الشكل واحدة من مفاخر الحضارة الإسلامية.
جامع قرطبة
يُعتبر جامع قرطبة (الجامع الكبير) من أهم معالم قرطبة وآثارها الباقية إلى اليوم، وهو يُسمى بالإسبانية (Mezquita) (وتنطق: ميتكيتا)، وهي تحريف لكلمة (مسجد)، وقد كان أشهر مسجد بالأندلس (على اعتبار أنه الآن كاتدرائية)، ومن أكبر المساجد في أوربا! وقد بدأ بناءَه عبد الرحمن الداخل سنة (170هـ= 786م)، ومن بعده ابنه هشام الأول، وكان كل خليفة جديد يُضيف لهذا الجامع ما يزيد في سعته وتزيينه؛ ليكون أجمل المساجد في مدينة قرطبة، ومن أكبر المساجد وقت وجوده.
وفي وصف مسجد قرطبة يقول صاحب الروض المعطار: وبها (بقرطبة) الجامع المشهور أمره الشائع ذكره، من أَجَلِّ مساجد الدنيا كبرَ مساحة، وإحكامَ صنعة، وجمالَ هيئة، وإتقانَ بنية، تَهَمَّم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميمًا إثر تتميم؛ حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حُسْنِه الوصف، وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقًا وطولاً وعرضًا؛ طوله مائة باع[3] وثمانون باعًا، ونصفه مسقَّف ونصفه صحن بلا سقف، وعدد (أقواس) مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وسَوَارِي مسقفه بين أعمدته وسَوَارِي قببه صغارًا وكبارًا مع سَوَارِي القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثُرَيَّا للوقيد، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلُّها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي[4]، ارتفاع الجائزة[5] منه شبر في عرض شبر إلاَّ ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبرًا، وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يُشبه بعضها بعضًا، قد أُحكم ترتيبها وأُبدع تلوينها بأنواع الحمرة، والبياض، والزرقة، والخضرة، والتكحيل؛ فهي تروق العيون، وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها. وسِعَة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا، وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا، ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.
ولهذا الجامع قِبْلَةٌ يعجز الواصفون عن وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسيفساء المُذَهَّب والبِلَّوْر مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله... وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران، واثنان زُرْزُوريَّان([6])، لا تُقَوَّم بمال، وعلى رأس المحراب خَصَّة[7] رخام قطعة واحدة مسبوكة منمَّقة بأبدع التنميق من الذهب واللاَّزَوَرْدِ وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريب، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً؛ خشبه أبنوس، وبَقْس، وعود المجمر، يقال: إنه صُنِعَ في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير مَنْ يخدمهم تصرفًا!
وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطُسُوت[8] ذهب وفضة وحسك[9]، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله؛ فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان t الذي خَطَّه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويُخْرَجُ هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولَّى إخراجه قَوْمٌ من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسيٌّ يُوضَعُ عليه، فيتولَّى الإمام قراءة نصف حِزبٍ فيه، ثم يُرْفَعُ إلى موضعه.
وعن يمين المحراب والمنبر باب يُفْضِي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط[10] مُتَّصِل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر، وأربعة تنغلق من جهة الجامع، ولهذا الجامع عشرون بابًا مصفَّحة بصفائح النحاس وكواكب[11] النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصِّ المُتَّخَذِ من الآجُرِّ الأحمر المحكوك، وأنواع شتَّى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.
وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة (المئذنة) الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي[12]؛ منها ثمانون ذراعًا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعًا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلاَّ إذا وصلا الأعلى، ووجه هذه الصومعة مُبَطَّن بالكَذَّان[13] منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.
وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صَفَّان من قِسِيّ (أقواس) دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مُؤَذِّنَان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبًا واثنتان من فضة وأوراق سَوْسَنِيَّة، تَسَعُ الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستُّونَ رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم[14].
وبقريبٍ من ذلك يصفه ابن الوردي في كتابه (خريدة العجائب وفريدة الغرائب). وقد كانت ساحته تملؤها أشجار البرتقال والرمان؛ ليأكل منها الجائعون والقادمون إلى المدينَة من شتى البقاع! ومما يحزن له القلب وتَدمع له العين أن هذا المسجد العظيم المهيب قد تَحَوَّل عقب سقوط الأندلس إلى كاتدرائية، وأصبح تابعًا للكنيسة، مع احتفاظه باسمه، وتَحَوَّلَتْ مئذنته الشاهقة إلى برج تُنصب فوقه أجراس الكنيسة لإخفاء طابعها الإسلامي، كما لا يزال يعلو جدرانه المنيعة نقوشٌ قرآنية تعكس عبقرية فنيَّة نادرة، وهو الآن من أشهر المواقع التاريخية في العالم كله.
جامعة قرطبة
لم يقتصر دور جامع قرطبة على العبادة فقط، وإنما كان -أيضًا- جامعة علميَّة تُعَدُّ من أشهر جامعات العالم آنذاك، وأكبر مركز علمي في أوربا، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية على مدى قرون، وكان يُدرس في هذه الجامعة كل العلوم، وكان يُختار لها أعظم الأساتذة، وكان طلاب العلم يَفِدُون إليها من الشرق والغرب على السواء؛ مسلمين كانوا أو غير مسلمين. وقد احْتَلَّتْ حلقات الدرس والعلم أكثر من نصف المسجد، وكان للشيوخ راتبٌ جيد ليتفرَّغُوا للدرس والتأليف، وكذلك خُصِّصَتْ أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين؛ وهو الأمر الذي أثرى الحياة العلميَّة بصورة ملحوظة في ذلك الوقت وفي تلك البيئة، واستطاعت قرطبة أن تُخْرِجَ للمسلمين وللعالم الجمَّ الغفير من العلماء، وفي جميع مجالات العلوم، وكان منهم: الزهراوي (325-404هـ= 936-1013م) أشهر جَرَّاح، وطبيب، وعالم بالأدوية وتركيبها، وهناك -أيضًا- ابن باجه، وابن طفيل، ومحمد الغافقي (أحد مُؤَسِّسِي طبّ العيون)، وابن عبد البر، وابن رشد، والإدريسي، وأبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، والقاضي القرطبي النحوي، والحافظ القرطبي، وأَبو جعفر القرطبي، وغيرهم كثير.
[1] ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب ص12، والإدريسي: نزهة المشتاق 2/579.
[2] المقري: نفح الطيب 1/4820.
[3] القياسات القديمة كانت بوحدات الشبر والذراع والباع، والشبر يساوي 23 سنتيمترًا تقريبًا، والذراع يساوي نصف متر تقريبًا. انظر: محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي: معجم لغة الفقهاء 1/256، 2/48.
[4] نوع من أنواع الخشب.
[5] الجائزَةُ من البيت: سهم البيت، أي الخشبة التي تَحْمِل خشب البيت. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة جوز 5/326.
[6] الزُّرْزُورُ: طائر من رتبة العصفوريات وهو أكبر قليلاً من العصفور، له ريش بنفسجي مائل إلى الخضرة، أو بريق أرجواني فاتح، أو هو حَجَرٌ أبيضُ رِخْوٌ، ومنه خَمْرِي أو أصْفَرَ، وله بريق معدني. ابن منظور: لسان العرب، مادة زرر 4/321.
[7] لعل المقصود كتلة رخام.
[8] جمع طَسْت وهو من الآنية. ابن منظور: لسان العرب، مادة طست، 2/58.
[9] الحَسَكُ: من أدوات الحرب، ربما أُخذ من حديدٍ فأُلقي حول العسكر، وربما أُخذ من خشب فنصب حوله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حسك، 10/411.
[10] السَّاباطُ: سَقيفةٌ بين حائطين أو بين دارين، ومن تحتها طريق نافذ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سبط، 7/308.
[11] كواكب جمع كوكب: اللمعان والبريق للمعدن، وقيل: الكوكب المسمار. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كوكب، 1/720، والزبيدي: تاج العروس، 4/158.
[12] الذراع الرشاشي: هو ثلاثة أشبار. انظر: الحِميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/55.
[13] الكذَّان: الحجارة الرَّخْوة النَّخِرة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادَّة كذذ، 3/505، ومادَّة كذن، 13/357.
[14] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/456، 457.
قنطرة قرطبة
كان من المعالم المهمَّة في قرطبة (قنطرة قرطبة)، والتي تقع على نهر الوادي الكبير، وقد عُرفت باسم: (الجسر)، وأيضًا: (قنطرة الدهر)، وكان طولها أربعمائة متر تقريبًا، وعرضها أربعين مترًا، وارتفاعها ثلاثين مترًا!
وقد شهد لها ابن الوردي والإدريسي بأنها «القنطرة التي عَلَتِ القناطرَ فَخْرًا في بنائها وإتقانها»[1].
كان عدد أقواسها سبع عشرة قوسًا، بين كل قوس والآخر اثنا عشر مترًا، وسعة القوس الواحد اثنا عشر مترًا، وكان عرضها حوالي سبعة أمتار، وارتفاعها عن سطح ماء النهر بلغ خمسة عشر مترًا[2].
إن هذه الأبعاد كانت لقنطرة بُنِيَت في بداية القرن الثاني الهجري (101هـ)؛ أي منذ ألف وأربعمائة عام، على يد السمح بن مالك الخولاني الذي كان والي الأندلس من قِبَل عمر بن عبد العزيز، أي في وقت لم يكن فيه الناس يعرفون من وسائل الانتقال إلاَّ الخيل والبغال والحمير، ولم تكن وسائل وأساليب البناء على المستوى المتطور حينئذٍ؛ مما يجعل هذه القنطرة بهذا الشكل واحدة من مفاخر الحضارة الإسلامية.
جامع قرطبة
يُعتبر جامع قرطبة (الجامع الكبير) من أهم معالم قرطبة وآثارها الباقية إلى اليوم، وهو يُسمى بالإسبانية (Mezquita) (وتنطق: ميتكيتا)، وهي تحريف لكلمة (مسجد)، وقد كان أشهر مسجد بالأندلس (على اعتبار أنه الآن كاتدرائية)، ومن أكبر المساجد في أوربا! وقد بدأ بناءَه عبد الرحمن الداخل سنة (170هـ= 786م)، ومن بعده ابنه هشام الأول، وكان كل خليفة جديد يُضيف لهذا الجامع ما يزيد في سعته وتزيينه؛ ليكون أجمل المساجد في مدينة قرطبة، ومن أكبر المساجد وقت وجوده.
وفي وصف مسجد قرطبة يقول صاحب الروض المعطار: وبها (بقرطبة) الجامع المشهور أمره الشائع ذكره، من أَجَلِّ مساجد الدنيا كبرَ مساحة، وإحكامَ صنعة، وجمالَ هيئة، وإتقانَ بنية، تَهَمَّم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميمًا إثر تتميم؛ حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حُسْنِه الوصف، وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقًا وطولاً وعرضًا؛ طوله مائة باع[3] وثمانون باعًا، ونصفه مسقَّف ونصفه صحن بلا سقف، وعدد (أقواس) مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وسَوَارِي مسقفه بين أعمدته وسَوَارِي قببه صغارًا وكبارًا مع سَوَارِي القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثُرَيَّا للوقيد، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلُّها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي[4]، ارتفاع الجائزة[5] منه شبر في عرض شبر إلاَّ ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبرًا، وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يُشبه بعضها بعضًا، قد أُحكم ترتيبها وأُبدع تلوينها بأنواع الحمرة، والبياض، والزرقة، والخضرة، والتكحيل؛ فهي تروق العيون، وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها. وسِعَة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا، وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا، ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.
ولهذا الجامع قِبْلَةٌ يعجز الواصفون عن وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسيفساء المُذَهَّب والبِلَّوْر مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله... وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران، واثنان زُرْزُوريَّان([6])، لا تُقَوَّم بمال، وعلى رأس المحراب خَصَّة[7] رخام قطعة واحدة مسبوكة منمَّقة بأبدع التنميق من الذهب واللاَّزَوَرْدِ وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريب، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً؛ خشبه أبنوس، وبَقْس، وعود المجمر، يقال: إنه صُنِعَ في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير مَنْ يخدمهم تصرفًا!
وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطُسُوت[8] ذهب وفضة وحسك[9]، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله؛ فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان t الذي خَطَّه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويُخْرَجُ هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولَّى إخراجه قَوْمٌ من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسيٌّ يُوضَعُ عليه، فيتولَّى الإمام قراءة نصف حِزبٍ فيه، ثم يُرْفَعُ إلى موضعه.
وعن يمين المحراب والمنبر باب يُفْضِي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط[10] مُتَّصِل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر، وأربعة تنغلق من جهة الجامع، ولهذا الجامع عشرون بابًا مصفَّحة بصفائح النحاس وكواكب[11] النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصِّ المُتَّخَذِ من الآجُرِّ الأحمر المحكوك، وأنواع شتَّى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.
وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة (المئذنة) الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي[12]؛ منها ثمانون ذراعًا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعًا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلاَّ إذا وصلا الأعلى، ووجه هذه الصومعة مُبَطَّن بالكَذَّان[13] منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.
وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صَفَّان من قِسِيّ (أقواس) دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مُؤَذِّنَان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبًا واثنتان من فضة وأوراق سَوْسَنِيَّة، تَسَعُ الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستُّونَ رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم[14].
وبقريبٍ من ذلك يصفه ابن الوردي في كتابه (خريدة العجائب وفريدة الغرائب). وقد كانت ساحته تملؤها أشجار البرتقال والرمان؛ ليأكل منها الجائعون والقادمون إلى المدينَة من شتى البقاع! ومما يحزن له القلب وتَدمع له العين أن هذا المسجد العظيم المهيب قد تَحَوَّل عقب سقوط الأندلس إلى كاتدرائية، وأصبح تابعًا للكنيسة، مع احتفاظه باسمه، وتَحَوَّلَتْ مئذنته الشاهقة إلى برج تُنصب فوقه أجراس الكنيسة لإخفاء طابعها الإسلامي، كما لا يزال يعلو جدرانه المنيعة نقوشٌ قرآنية تعكس عبقرية فنيَّة نادرة، وهو الآن من أشهر المواقع التاريخية في العالم كله.
جامعة قرطبة
لم يقتصر دور جامع قرطبة على العبادة فقط، وإنما كان -أيضًا- جامعة علميَّة تُعَدُّ من أشهر جامعات العالم آنذاك، وأكبر مركز علمي في أوربا، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية على مدى قرون، وكان يُدرس في هذه الجامعة كل العلوم، وكان يُختار لها أعظم الأساتذة، وكان طلاب العلم يَفِدُون إليها من الشرق والغرب على السواء؛ مسلمين كانوا أو غير مسلمين. وقد احْتَلَّتْ حلقات الدرس والعلم أكثر من نصف المسجد، وكان للشيوخ راتبٌ جيد ليتفرَّغُوا للدرس والتأليف، وكذلك خُصِّصَتْ أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين؛ وهو الأمر الذي أثرى الحياة العلميَّة بصورة ملحوظة في ذلك الوقت وفي تلك البيئة، واستطاعت قرطبة أن تُخْرِجَ للمسلمين وللعالم الجمَّ الغفير من العلماء، وفي جميع مجالات العلوم، وكان منهم: الزهراوي (325-404هـ= 936-1013م) أشهر جَرَّاح، وطبيب، وعالم بالأدوية وتركيبها، وهناك -أيضًا- ابن باجه، وابن طفيل، ومحمد الغافقي (أحد مُؤَسِّسِي طبّ العيون)، وابن عبد البر، وابن رشد، والإدريسي، وأبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، والقاضي القرطبي النحوي، والحافظ القرطبي، وأَبو جعفر القرطبي، وغيرهم كثير.
[1] ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب ص12، والإدريسي: نزهة المشتاق 2/579.
[2] المقري: نفح الطيب 1/4820.
[3] القياسات القديمة كانت بوحدات الشبر والذراع والباع، والشبر يساوي 23 سنتيمترًا تقريبًا، والذراع يساوي نصف متر تقريبًا. انظر: محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي: معجم لغة الفقهاء 1/256، 2/48.
[4] نوع من أنواع الخشب.
[5] الجائزَةُ من البيت: سهم البيت، أي الخشبة التي تَحْمِل خشب البيت. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة جوز 5/326.
[6] الزُّرْزُورُ: طائر من رتبة العصفوريات وهو أكبر قليلاً من العصفور، له ريش بنفسجي مائل إلى الخضرة، أو بريق أرجواني فاتح، أو هو حَجَرٌ أبيضُ رِخْوٌ، ومنه خَمْرِي أو أصْفَرَ، وله بريق معدني. ابن منظور: لسان العرب، مادة زرر 4/321.
[7] لعل المقصود كتلة رخام.
[8] جمع طَسْت وهو من الآنية. ابن منظور: لسان العرب، مادة طست، 2/58.
[9] الحَسَكُ: من أدوات الحرب، ربما أُخذ من حديدٍ فأُلقي حول العسكر، وربما أُخذ من خشب فنصب حوله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حسك، 10/411.
[10] السَّاباطُ: سَقيفةٌ بين حائطين أو بين دارين، ومن تحتها طريق نافذ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سبط، 7/308.
[11] كواكب جمع كوكب: اللمعان والبريق للمعدن، وقيل: الكوكب المسمار. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كوكب، 1/720، والزبيدي: تاج العروس، 4/158.
[12] الذراع الرشاشي: هو ثلاثة أشبار. انظر: الحِميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/55.
[13] الكذَّان: الحجارة الرَّخْوة النَّخِرة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادَّة كذذ، 3/505، ومادَّة كذن، 13/357.
[14] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/456، 457.
تعليق