الحكم المستنصر وشمال أفريقيا
علاقة عبد الرحمن الناصر بالشمال الإفريقي
مات عبد الرحمن الناصر لدين الله بعد خمسين سنة من الحُكم، تمكَّن فيها من توطيد حُكم بني أمية، وإقرار قواعد حُكمهم في الأندلس، بعدما كادت تغيب شمسهم فيها، وينهار بنيان الإسلام في الأندلس كلها؛ بعد أن عصفت الفتن بالبلاد، واستبدَّ كل زعيم بولايته، وتحالف مَن استطاع منهم مع نصارى الشمال المتربِّصين، فأنعم الله على هذه الأُمَّة في ذلك الوقت بعبد الرحمن الناصر، الذي استطاع بالجهاد والمثابرة والمجالدة إعادة البلاد إلى الوحدة، فعادت للأندلس قوتها التي تمكنت بها من التصدي لنصارى الشمال وإخضاعهم، كما تمكنت من إخضاع بلاد شمال أفريقيا لسلطان عبد الرحمن الناصر.
غير أن عبد الرحمن الناصر لم يسعَ للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي سيطرة تامَّة، ولم تكن تعني له بلاد الشمال الإفريقي أكثر من أنها البوابة الجنوبية للأندلس، ولم يُحَفِّزه إلى بسط سيطرته عليها إلاَّ قيام الدولة العبيدية الخبيثة في هذه البلاد، ومعرفته بأنها لا بُدَّ أن تسعى للسيطرة على بلاد الأندلس، والقضاء على بني أمية وعلى ملكهم فيها؛ ولذلك سارع إلى بلاد شمال أفريقيا لتكون «منطقة حاجزة» في المقام الأول، ثم يستغلها بعد ذلك في إضعاف الدولة العبيدية كلما عَنَّت الفرصة.
وكان حُكَّام الشمال الإفريقي في ذلك الوقت مثل معظم حكام المسلمين آنئذٍ؛ كلُّ ما يهمهم هو أن يبقَوْا حُكَّامًا، فإن استطاعوا بعد ذلك توسيع ملكهم فعلوا، كما كانت تغلب عليهم العصبية لعرقهم ولقومهم، فأراد عبد الرحمن الناصر استغلال صفاتهم هذه، فاكتفى منهم بالخروج على سلطان العبيديين، والدخول في طاعته، وإن كان يعلم جيدًا، أنهم لن يدخلوا في طاعته إلاَّ خوفًا من بطشه، واحتماءً به من بطش العبيديين بهم، وتوطيدًا لسلطانهم في بلادهم، كما كان يعلم أنهم متى استطاعوا الاستقلال بعيدًا عن الاثنين فعلوا؛ لذلك لم يكن سلطان عبد الرحمن الناصر مستقرًّا في هذه البلاد، وكان يعتمد في الأساس على هؤلاء الأمراء الذين دخلوا في طاعته رغبًا أو رهبًا.
سياسة الحكم المستنصر
كان الحكم المستنصر على علم بكل هذا، ولم يكن يجهل منه شيئًا؛ ولذلك سعى لأن يُبقي على هذه التحالفات قوية مع هؤلاء الحكام، وبخاصة أن قوة الدولة العبيدية كانت في زيادة مستمرَّة في ذلك الوقت.
وفي سنة (360هـ) استطاع حلفاء الحكم المستنصر في شمال إفريقيا الانتصار على زيري بن مناد الصنهاجي عامل المعز لدين الله العبيدي، واستطاعوا قتله وقطعوا رأسه ورءوس كبار رجاله، وذهبوا بها إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة ففرح بذلك فرحًا عظيمًا، واحتفل بهم، وأجزل لهم العطاء[1].
فعزم العبيديون على الانتقام، وعلى أن يُعيدوا فرض سيطرتهم على هذه المناطق مجدَّدًا، وجرَّدوا لذلك جيشًا قويًّا سنة (361هـ)، كان على رأسه يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي الشهير ببلقين، وهو ابن القائد الذي قتله أتباع الحكم المستنصر، فاجتمع أتباع الحكم المستنصر، وقامت حرب زَبُون[2] بين الفريقين، دارت فيها الدائرة على أتباع المستنصر، وكانت زناتة من أتباع المستنصر في شمال إفريقيا، فلما أيقن محمد بن الخير أمير قبيلة زناتة بالهزيمة، اتكأ على سيفه فذبح نفسه؛ أنفة من أن يقع أسيرًا في يد عدوه، فكانت هزيمة شديدة لأتباع الحكم المستنصر، وانتصارًا ساحقًا لبلقين، الذي لم يتوانَ بعد هذا عن قتل أبناء زناتة وتخريب بيوتهم، ومطاردتهم، وخضعت لبلقين معظم المناطق التابعة للحكم المستنصر في شمال إفريقيا، وقد حاول دخول سَبْتَة، ولكنه لم يستطع لشدَّة تحصينها ومناعتها[3].
وهذا الموقف من محمد بن الخير أوضح دليل على ما كان يُسيطر على هؤلاء القوم في ذلك الوقت من عصبية جاهلية لأقوامهم، وحُبٍّ للمناصب والسلطان، ويُؤَكِّد ذلك -أيضًا- هذا الانتقام الأعمى الذي قاده بلقين ضد قبيلة زناتة.
وكان حسن بن قنون الحسني أمير الأدارسة ممن استسلم لبلقين، وتحوَّل عن طاعة الحكم المستنصر إلى طاعة العبيديين، وأصبح يدعو لهم على منابر طَنْجَة بدلاً من الحَكم، فلمَّا علم الحَكم بما حدث واستشعر اقتراب الخطر من الأندلس إلى درجة أن طَنْجَة قد دخلت في طاعة العبيديين، بادر الحَكم فأرسل جيشًا قويًّا إلى سَبْتَة؛ لتكون قاعدته التي يتجه منها للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي كاملة، وأوصى قائد الجيش بالجدِّ والاجتهاد في محاربة ابن قنون، وأمره إن نصره الله تعالى ألا يفعل مثل بلقين، بل يأخذ بالعفو والصفح، وإصلاح البلاد، واستصلاح الرعية، وأن يستعين في ذلك بمَنْ يدخل في طاعة بني أمية، ودارت المعارك بين جنود الأندلس، وجنود حسن بن قنون، وهُزم حسن بن قنون، وفرَّ هو ورجاله عن طَنْجَة تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم، ودخلت طَنْجَة في طاعة الحكم المستنصر، وأعطاها قادة الحكم المستنصر الأمان، وأرسلوا بالبشرى إلى قُرْطُبَة، ثم طارد الجيشُ الأندلسي فلول ابن قنون فهزموه مرَّة أخرى، وألجئوه هو ومَنْ معه من رجاله إلى جبلٍ حصين، فتبعه الجنود، ودارت بينهما معارك أخرى انهزم على أثرها، وهرب تاركًا أمتعته خلفه، ثم توالت فتوحات الأندلسيين في شمال إفريقيا.
ولكن حسن بن قنون لم ييأس، فأعاد تنظيم قواته، وقابل الجيش الأندلسي بعد أشهر قليلة، ودارت بين الفريقين معركة شديد في فحص مهران في ربيع الأول سنة 362هـ، قُتل في هذه المعركة قائد الجيش الأندلسي محمد بن قاسم، وهُزم الجيش الأندلسي وقُتل منه حوالي خمسمائة فارس، وألف راجل، وعادت فلول الجيش الأندلسي إلى سَبْتَة، وأرسلت إلى الحكم المستنصر تطلب الغوث والمدد[4].
وعلم حسن بن قنون أن الحكم المستنصر لن يتوانى عن إمداد مَنْ بقي من الجيش الأندلسي، وتوجيهه إليه، وكان يعلم ما وصلت إليه الأندلس من القوة والرخاء في هذا الوقت، وأنه لن يستطيع أن يثبت أمام الحكم المستنصر، فأراد أن يستغلَّ هذا النصر الذي أحرزه بطلب الصلح وتقديم الطاعة وتبادل الرهائن، ولكن الحكم المستنصر لم ينخدع بهذا؛ وعلم أنه لا يُريد الصلح، وإنما يُريد استغلال هزيمة الأندلسيين، ليُرَتِّب قواته ويُعيد الكَرَّة من جديد بمجرَّد أن يشعر في نفسه بالقدرة على ذلك، وأن حسن بن قنون هذا لو كان يُريد الصلح، لصالح من البداية، ولما قاوم الأندلسيين كل هذه المقاومة برغم الهزائم الشديدة التي جرت عليه، فكان مما أرسله المستنصر إلى عبد الرحمن بن يوسف بن أرمطيل قائد ثغر أصيلا في المغرب، ردًّا على ما أبداه الحَسن من رغبة في الإنابة والصلح: «وكيف يذهب الآن هذا المذهب، وهو في طغيانه مستمرٌّ، وفي دينه مستبصر، ولكم في كل أيامه محاربٌ، هذا هو الضلال، والمحال عين المحال، وسبب الخبال، وقد رأى أمير المؤمنين تأمين جميع الناس لديه غيره، وغير مَنْ أصرَّ إصراره، وتمادى تماديه، إلى أن يحكم الله عليه، ويفتح فيه»[5].
وبالفعل دخل في الطاعة؛ بسبب هذه السياسة الحكيمة سبعون رجلاً ممن كانوا مع حسن بن قنون من قبيلة مصمودة، ودخلوا إلى قُرْطُبَة في أول جمادى الآخرة من العام نفسه (362هـ)؛ ليُعلنوا دخولهم في طاعة الحكم المستنصر.
أمَّا حسن بن قنون فقد جهَّز له الحكم المستنصر جيشًا قويًّا، وجعل على رأسه واحدًا من أفضل قوَّاده، وأكثرهم شجاعة وشهامة، وهو غالب بن عبد الرحمن، وأمدَّه بالمال والجند وأرسله في رمضان من العام نفسه إلى بر العدوة قائلاً له: «سِرْ يا غالب مَسِيرَ مَنْ لا إذن له في الرجوع إلاَّ حيًّا منصورًا أو ميتًا معذورًا»[6]. فلمَّا نما ذلك إلى علم حسن بن قنون، وكان في البصرة (إحدى مدن المغرب الآن) تركها، ولجأ بأهله وأمواله إلى قلعة حجر النسر المنيعة القريبة من سَبْتَة، ثم دَارَ قتالٌ شديد بينه وبين الجيش الأندلسي بقيادة غالب بن عبد الرحمن، واستمرَّت المعارك أيامًا، واستمال غالب رؤساء الأمازيغ (البربر) -المنضمين لحسن والمدافعين عنه- بالمال، فانشقُّوا عنه، وبقي حسن بن قنون على عناده، وتحصَّن بالقلعة فضرب غالب حوله الحصار، وضيَّق عليه، حتى أشرف على الهلاك هو وأهله، فأرسل يطلب الأمان، فأمَّنه غالب وتسلَّم منه الحصن، وعَمِل غالب على تطهير المغرب من الخارجين عن طاعة الحكم المستنصر، وأرسل إليه الخليفة بالأموال؛ ليستميل بها قبائل الأمازيغ (البربر)، ودخل مَنْ بقي من حكام الشمال الإفريقي في طاعة الخليفة المستنصر لدين الله، واستقرَّ الأمر في بلاد الشمال الإفريقي للحكم المستنصر.
وفي سنة (364هـ) عاد القائد غالب بن عبد الرحمن في موكب عظيم إلى الأندلس، ومعه حسن بن قنون وشيعته من بني إدريس الحسنيون، ودخلوا على الخليفة المستنصر فَوَفَّى لهم بعهدهم، وأجزل لهم الأعطيات والهدايا ليتألَّفهم، وكان قد أعدَّ لهم دُورًا في قُرْطُبَة، فأُنزِلوا فيها، وعَيَّن سبعمائة من حاشيتهم في ديوانه، مبالغة في الإحسان إليهم.
واستمرَّ الحسن وذووه في ذلك حوالي عامين، ولكن الحسن بن قنون هذا كان لجوجًا سيئ الخُلق، وكانت نفقاتهم الكثيرة قد ثقلت على الخلافة، فضاق به الخليفة فأمر بترحيلهم إلى المشرق، وبالفعل رحلوا إلى مصر، واستقبلهم العزيز بالله العبيدي، وأحسن إليهم، ووعدهم بالعون والنصرة حتى يعود إليهم ملكهم في المغرب[7].
مات عبد الرحمن الناصر لدين الله بعد خمسين سنة من الحُكم، تمكَّن فيها من توطيد حُكم بني أمية، وإقرار قواعد حُكمهم في الأندلس، بعدما كادت تغيب شمسهم فيها، وينهار بنيان الإسلام في الأندلس كلها؛ بعد أن عصفت الفتن بالبلاد، واستبدَّ كل زعيم بولايته، وتحالف مَن استطاع منهم مع نصارى الشمال المتربِّصين، فأنعم الله على هذه الأُمَّة في ذلك الوقت بعبد الرحمن الناصر، الذي استطاع بالجهاد والمثابرة والمجالدة إعادة البلاد إلى الوحدة، فعادت للأندلس قوتها التي تمكنت بها من التصدي لنصارى الشمال وإخضاعهم، كما تمكنت من إخضاع بلاد شمال أفريقيا لسلطان عبد الرحمن الناصر.
غير أن عبد الرحمن الناصر لم يسعَ للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي سيطرة تامَّة، ولم تكن تعني له بلاد الشمال الإفريقي أكثر من أنها البوابة الجنوبية للأندلس، ولم يُحَفِّزه إلى بسط سيطرته عليها إلاَّ قيام الدولة العبيدية الخبيثة في هذه البلاد، ومعرفته بأنها لا بُدَّ أن تسعى للسيطرة على بلاد الأندلس، والقضاء على بني أمية وعلى ملكهم فيها؛ ولذلك سارع إلى بلاد شمال أفريقيا لتكون «منطقة حاجزة» في المقام الأول، ثم يستغلها بعد ذلك في إضعاف الدولة العبيدية كلما عَنَّت الفرصة.
وكان حُكَّام الشمال الإفريقي في ذلك الوقت مثل معظم حكام المسلمين آنئذٍ؛ كلُّ ما يهمهم هو أن يبقَوْا حُكَّامًا، فإن استطاعوا بعد ذلك توسيع ملكهم فعلوا، كما كانت تغلب عليهم العصبية لعرقهم ولقومهم، فأراد عبد الرحمن الناصر استغلال صفاتهم هذه، فاكتفى منهم بالخروج على سلطان العبيديين، والدخول في طاعته، وإن كان يعلم جيدًا، أنهم لن يدخلوا في طاعته إلاَّ خوفًا من بطشه، واحتماءً به من بطش العبيديين بهم، وتوطيدًا لسلطانهم في بلادهم، كما كان يعلم أنهم متى استطاعوا الاستقلال بعيدًا عن الاثنين فعلوا؛ لذلك لم يكن سلطان عبد الرحمن الناصر مستقرًّا في هذه البلاد، وكان يعتمد في الأساس على هؤلاء الأمراء الذين دخلوا في طاعته رغبًا أو رهبًا.
سياسة الحكم المستنصر
كان الحكم المستنصر على علم بكل هذا، ولم يكن يجهل منه شيئًا؛ ولذلك سعى لأن يُبقي على هذه التحالفات قوية مع هؤلاء الحكام، وبخاصة أن قوة الدولة العبيدية كانت في زيادة مستمرَّة في ذلك الوقت.
وفي سنة (360هـ) استطاع حلفاء الحكم المستنصر في شمال إفريقيا الانتصار على زيري بن مناد الصنهاجي عامل المعز لدين الله العبيدي، واستطاعوا قتله وقطعوا رأسه ورءوس كبار رجاله، وذهبوا بها إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة ففرح بذلك فرحًا عظيمًا، واحتفل بهم، وأجزل لهم العطاء[1].
فعزم العبيديون على الانتقام، وعلى أن يُعيدوا فرض سيطرتهم على هذه المناطق مجدَّدًا، وجرَّدوا لذلك جيشًا قويًّا سنة (361هـ)، كان على رأسه يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي الشهير ببلقين، وهو ابن القائد الذي قتله أتباع الحكم المستنصر، فاجتمع أتباع الحكم المستنصر، وقامت حرب زَبُون[2] بين الفريقين، دارت فيها الدائرة على أتباع المستنصر، وكانت زناتة من أتباع المستنصر في شمال إفريقيا، فلما أيقن محمد بن الخير أمير قبيلة زناتة بالهزيمة، اتكأ على سيفه فذبح نفسه؛ أنفة من أن يقع أسيرًا في يد عدوه، فكانت هزيمة شديدة لأتباع الحكم المستنصر، وانتصارًا ساحقًا لبلقين، الذي لم يتوانَ بعد هذا عن قتل أبناء زناتة وتخريب بيوتهم، ومطاردتهم، وخضعت لبلقين معظم المناطق التابعة للحكم المستنصر في شمال إفريقيا، وقد حاول دخول سَبْتَة، ولكنه لم يستطع لشدَّة تحصينها ومناعتها[3].
وهذا الموقف من محمد بن الخير أوضح دليل على ما كان يُسيطر على هؤلاء القوم في ذلك الوقت من عصبية جاهلية لأقوامهم، وحُبٍّ للمناصب والسلطان، ويُؤَكِّد ذلك -أيضًا- هذا الانتقام الأعمى الذي قاده بلقين ضد قبيلة زناتة.
وكان حسن بن قنون الحسني أمير الأدارسة ممن استسلم لبلقين، وتحوَّل عن طاعة الحكم المستنصر إلى طاعة العبيديين، وأصبح يدعو لهم على منابر طَنْجَة بدلاً من الحَكم، فلمَّا علم الحَكم بما حدث واستشعر اقتراب الخطر من الأندلس إلى درجة أن طَنْجَة قد دخلت في طاعة العبيديين، بادر الحَكم فأرسل جيشًا قويًّا إلى سَبْتَة؛ لتكون قاعدته التي يتجه منها للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي كاملة، وأوصى قائد الجيش بالجدِّ والاجتهاد في محاربة ابن قنون، وأمره إن نصره الله تعالى ألا يفعل مثل بلقين، بل يأخذ بالعفو والصفح، وإصلاح البلاد، واستصلاح الرعية، وأن يستعين في ذلك بمَنْ يدخل في طاعة بني أمية، ودارت المعارك بين جنود الأندلس، وجنود حسن بن قنون، وهُزم حسن بن قنون، وفرَّ هو ورجاله عن طَنْجَة تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم، ودخلت طَنْجَة في طاعة الحكم المستنصر، وأعطاها قادة الحكم المستنصر الأمان، وأرسلوا بالبشرى إلى قُرْطُبَة، ثم طارد الجيشُ الأندلسي فلول ابن قنون فهزموه مرَّة أخرى، وألجئوه هو ومَنْ معه من رجاله إلى جبلٍ حصين، فتبعه الجنود، ودارت بينهما معارك أخرى انهزم على أثرها، وهرب تاركًا أمتعته خلفه، ثم توالت فتوحات الأندلسيين في شمال إفريقيا.
ولكن حسن بن قنون لم ييأس، فأعاد تنظيم قواته، وقابل الجيش الأندلسي بعد أشهر قليلة، ودارت بين الفريقين معركة شديد في فحص مهران في ربيع الأول سنة 362هـ، قُتل في هذه المعركة قائد الجيش الأندلسي محمد بن قاسم، وهُزم الجيش الأندلسي وقُتل منه حوالي خمسمائة فارس، وألف راجل، وعادت فلول الجيش الأندلسي إلى سَبْتَة، وأرسلت إلى الحكم المستنصر تطلب الغوث والمدد[4].
وعلم حسن بن قنون أن الحكم المستنصر لن يتوانى عن إمداد مَنْ بقي من الجيش الأندلسي، وتوجيهه إليه، وكان يعلم ما وصلت إليه الأندلس من القوة والرخاء في هذا الوقت، وأنه لن يستطيع أن يثبت أمام الحكم المستنصر، فأراد أن يستغلَّ هذا النصر الذي أحرزه بطلب الصلح وتقديم الطاعة وتبادل الرهائن، ولكن الحكم المستنصر لم ينخدع بهذا؛ وعلم أنه لا يُريد الصلح، وإنما يُريد استغلال هزيمة الأندلسيين، ليُرَتِّب قواته ويُعيد الكَرَّة من جديد بمجرَّد أن يشعر في نفسه بالقدرة على ذلك، وأن حسن بن قنون هذا لو كان يُريد الصلح، لصالح من البداية، ولما قاوم الأندلسيين كل هذه المقاومة برغم الهزائم الشديدة التي جرت عليه، فكان مما أرسله المستنصر إلى عبد الرحمن بن يوسف بن أرمطيل قائد ثغر أصيلا في المغرب، ردًّا على ما أبداه الحَسن من رغبة في الإنابة والصلح: «وكيف يذهب الآن هذا المذهب، وهو في طغيانه مستمرٌّ، وفي دينه مستبصر، ولكم في كل أيامه محاربٌ، هذا هو الضلال، والمحال عين المحال، وسبب الخبال، وقد رأى أمير المؤمنين تأمين جميع الناس لديه غيره، وغير مَنْ أصرَّ إصراره، وتمادى تماديه، إلى أن يحكم الله عليه، ويفتح فيه»[5].
وبالفعل دخل في الطاعة؛ بسبب هذه السياسة الحكيمة سبعون رجلاً ممن كانوا مع حسن بن قنون من قبيلة مصمودة، ودخلوا إلى قُرْطُبَة في أول جمادى الآخرة من العام نفسه (362هـ)؛ ليُعلنوا دخولهم في طاعة الحكم المستنصر.
أمَّا حسن بن قنون فقد جهَّز له الحكم المستنصر جيشًا قويًّا، وجعل على رأسه واحدًا من أفضل قوَّاده، وأكثرهم شجاعة وشهامة، وهو غالب بن عبد الرحمن، وأمدَّه بالمال والجند وأرسله في رمضان من العام نفسه إلى بر العدوة قائلاً له: «سِرْ يا غالب مَسِيرَ مَنْ لا إذن له في الرجوع إلاَّ حيًّا منصورًا أو ميتًا معذورًا»[6]. فلمَّا نما ذلك إلى علم حسن بن قنون، وكان في البصرة (إحدى مدن المغرب الآن) تركها، ولجأ بأهله وأمواله إلى قلعة حجر النسر المنيعة القريبة من سَبْتَة، ثم دَارَ قتالٌ شديد بينه وبين الجيش الأندلسي بقيادة غالب بن عبد الرحمن، واستمرَّت المعارك أيامًا، واستمال غالب رؤساء الأمازيغ (البربر) -المنضمين لحسن والمدافعين عنه- بالمال، فانشقُّوا عنه، وبقي حسن بن قنون على عناده، وتحصَّن بالقلعة فضرب غالب حوله الحصار، وضيَّق عليه، حتى أشرف على الهلاك هو وأهله، فأرسل يطلب الأمان، فأمَّنه غالب وتسلَّم منه الحصن، وعَمِل غالب على تطهير المغرب من الخارجين عن طاعة الحكم المستنصر، وأرسل إليه الخليفة بالأموال؛ ليستميل بها قبائل الأمازيغ (البربر)، ودخل مَنْ بقي من حكام الشمال الإفريقي في طاعة الخليفة المستنصر لدين الله، واستقرَّ الأمر في بلاد الشمال الإفريقي للحكم المستنصر.
وفي سنة (364هـ) عاد القائد غالب بن عبد الرحمن في موكب عظيم إلى الأندلس، ومعه حسن بن قنون وشيعته من بني إدريس الحسنيون، ودخلوا على الخليفة المستنصر فَوَفَّى لهم بعهدهم، وأجزل لهم الأعطيات والهدايا ليتألَّفهم، وكان قد أعدَّ لهم دُورًا في قُرْطُبَة، فأُنزِلوا فيها، وعَيَّن سبعمائة من حاشيتهم في ديوانه، مبالغة في الإحسان إليهم.
واستمرَّ الحسن وذووه في ذلك حوالي عامين، ولكن الحسن بن قنون هذا كان لجوجًا سيئ الخُلق، وكانت نفقاتهم الكثيرة قد ثقلت على الخلافة، فضاق به الخليفة فأمر بترحيلهم إلى المشرق، وبالفعل رحلوا إلى مصر، واستقبلهم العزيز بالله العبيدي، وأحسن إليهم، ووعدهم بالعون والنصرة حتى يعود إليهم ملكهم في المغرب[7].
[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/242.
[2] حرب زَبُون تَزْبِنُ الناس؛ أي: تَصْدِمهم وتدفعهم. ابن منظور: لسان العرب، مادة زبن 13/194، والمعجم الوسيط 1/388.
[3] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/243.
[4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/245، 246.
[5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/469.
[6] تاريخ ابن خلدون، 6/218.
[7] انظر: ابن عذاري، البيان المغرب، 2/244، وتاريخ ابن خلدون، 6/219.
[2] حرب زَبُون تَزْبِنُ الناس؛ أي: تَصْدِمهم وتدفعهم. ابن منظور: لسان العرب، مادة زبن 13/194، والمعجم الوسيط 1/388.
[3] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/243.
[4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/245، 246.
[5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/469.
[6] تاريخ ابن خلدون، 6/218.
[7] انظر: ابن عذاري، البيان المغرب، 2/244، وتاريخ ابن خلدون، 6/219.
تعليق