الأساطير ... وخيال الشعوب
لا تقف معاجم اللغة العربية كثيراً أمام كلمة الأساطير.. بل يرى الدكتور "أحمد كمال زكي" صاحب كتاب "الأساطير" أن معاجمنا اللغوية تقف عاجزة عن إعطاء المدلولات الحقيقية لكلمة الأسطورة.. فالأساطير في هذه المعاجم هي "الأحاديث التي لا نظام لها" وهى "الأباطيل والأحاديث العجيبة" و"سطر تسطيراً ألف وأتى بالأساطير"، والأسطورة هي "الحديث الذي لا أصل له".
وقد استعمل القرآن الكريم لفظة الأساطير فيما لا أصل له من الأحاديث.. قال تعالى: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوْا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيْرُ الأَوَّلِيْن" (سورة الأنفال: 30).
وقال جل شأنه: "وَقَالُوْا أَسَاطِيْرُ الأَوَّلِيْنَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيْلاً" (سورة الفرقان: 5).
العلم الموجود حالياً والمختص بدراسة الأساطير هو علم الميثولوجيا Mythologia ، وكلمة ميثولوجيا – كما يقول د. إبراهيم سكر صاحب كتاب" الأساطير الإغريقية" - تستخدم للتعبير عن ثمرة إنتاج معين لخيال شعب من الشعوب في شكل حكايات وروايات يتناقلونها جيلاً بعد جيل.. وكان الإغريق يسمون هذه الروايات والحكايات "ميثوي Mythoi " ومعناها "ألفاظ وكلمات".. وبالرغم من أن كلمة ميثولوجيا لا تعني أصلاً من ناحية الاشتقاق أكثر من "قص الحكايات"، إلا أنها تستعمل الآن لتدل على الدراسة المنظمة للروايات التقليدية لأي شعب من الشعوب أو لكل الشعوب بقصد معرفة الطريقة التي تمَّت بها حتى أصبحت رواية تُروى، وإلى أي مدى كان الاعتقاد بها، وكذلك بقصد حل المشاكل الأخرى المتعلقة بها مثل علاقتها بالدين، وأصولها، وعلاقتها بروايات أخرى لشعوب أخرى، وغير ذلك..
وعند محاولة العلماء تفسير نشأة الأساطير؛ بدايتها، وأسبابها، نجدهم لا يتفقون على أسباب محددة.. فجيمس فريزر وإدوارد تيلور مثلاً يَريان أن كلمة الأسطورة ترتبط ببداية الإنسانية، حيث كان البشر يمارسون السحر ويؤدون طقوسهم الدينية التي كانت سعيًا فكريًّا لتفسير ظواهر الطبيعة.. ولكن هربرت ريد يؤكد أن فريزر وتلاميذه يخطئون في زعمهم أن أساطير الأولين كانت محاولة لتفسير الكون.. ويؤيده ليفي برول قائلاً: "لم تنشأ الأساطير والطقوس الجنائزية وعمليات السحر – فيما يبدو – عن حاجة الرجل البدائي إلى تفسير الظواهر الطبيعية تفسيراً قائماً على العقل، لكن نشأت استجابة لعواطف الجماعة القاهرة".. ويرى لويس هورتيك أن الأسطورة التي هي الفترة الدينية للجيولوجيا وعلم الحيوان نشأت على أطلال كانت يوماً قصوراً أو مدناً عامرة.. في حين ترى جين هاريسون أن الأسطورة "هي التفكير الحالم لشعب من الشعوب تماماً مثلما يعتبر الحلم أسطورة الفرد".
وفي محاولة للوصول إلى أرضية علمية مشتركة في تفسير أصل الأسطورة يقرر توماس بوليفينشي في كتابه "ميثولوجية اليونان وروما" وجود أربع نظريات في أصل الأسطورة.. وهذه النظريات هي:
النظرية الدينية: التي ترى أن حكايات الأساطير مأخوذة كلها من الكتاب المقدس مع الاعتراف بأنها غُيِّرت أو حُرِّفت، ومن ثَمَّ كان هرقل اسماً آخر لشمشون، والمارد ديوكاليون ابن بروميثيوم الذي أنقذه زيوس مع زوجته من الغرق فوق أحد الجبال هو نوح، وهكذا.
النظرية التاريخية: التي تذهب إلى أن أعلام الأساطير عاشوا فعلاً وحققوا سلسلة من الأعمال العظيمة، ومع مرور الزمن أضاف إليهم خيال الشعراء ما وضعهم في ذلك الإطار الغرائبي الذي يتحركون خلاله في جو الأسطورة.
النظرية الرمزية: وهي تقوم على أن كل الأساطير بكل أنواعها ليست سوى مجازات فُهمت على غير وجهها الصحيح أو فُهمت حرفيًّا، من ذلك ما يقال عن أن "ساتورن" يلتهم أولاده أي الزمن يأكل كل ما يوجد فيه.
النظرية الطبيعية: وبمقتضاها يتم تخيل عناصر الكون من ماء وهواء ونار في هيئة أشخاص أو كائنات حية، أو أنها تختفي وراء مخلوقات خاصة.. وعلى هذا النحو وجد لكل ظاهرة طبيعية – ابتداءً من الشمس والقمر والبحر وحتى أصغر مجرى مائي - كائن روحي يتمثل فيه وتنبني عليه أسطورة أو أساطير.
وعلى هذا الأساس قام العلماء بتقسيم الأساطير إلى ثلاثة أنواع هي:
الخرافة البحتة Myth proper وهي محاولة خيالية سابقة على العلم لتفسير بعض الظواهر الطبيعية الحقيقية أو المزعومة والتي تثير فضول مبتكر الخرافة، أو بمعنى أدق هي محاولة الوصول إلى شعور بالرضا والاقتناع في أمر مقلق محير يتعلق بتلك الظواهر، وخرافات هذا النوع غالباً ما تخاطب العواطف لا العقل.. فالخرافة البحتة هي ثمار إنتاج التخيل الساذج في البحث عن الحقائق التي تعرف بالخبرة، والتي يكشف لنا عنها فيما بعد كل من الفن والعلم.. وقد أطلق على هذا النوع من الروايات اسم Aetiological أي ما يهتم بالبحث عن علة وجود الأشياء من حركة ظاهرة للأجرام السماوية، إلى شكل تل، أو أصل عادة محلية، وفى هذه الحالة الأخيرة غالباً ما تخبرنا الروايات بما يوحي بأنه تاريخ أو ما يشبه التاريخ.
والنوع الثاني من الروايات هو ما يسمى Saga وهى كلمة إسكندناوية: الأصل وتعني "قصة أو رواية" وعادة ما تذكر الآن للتعبير عن تلك الروايات التي تعالج أحداثاً تاريخية أو شبه تاريخية.. وغالباً ما تتناول في خطوطها العريضة أموراً تتعلق بالبشر ومعاركهم ومغامراتهم.. لكنها تغفل الكثير من التفاصيل التاريخية وتركز على الأبطال وقدراتهم الخاصة وتدخل الآلهة في الأحداث معهم أو ضدهم.
أما النوع الثالث فهو القصص الشعبية Marchen : وهذا النوع يهدف أولاً وأخيراً إلى التسلية والإمتاع، ولا يعمل حساباً لأي شيء آخر، فلا تسجيل لأحداث تاريخية أو شبه تاريخية، ولا محاولة لتعليل ظاهرة طبيعية، ولا ملاحظة لأفكار المستمعين وعقولهم فيما يتعلق بأمر الضرورة والاحتمال، بل هو في مجموعه عبارة عن قصص شعبية بسيطة أنتجها الخيال في دور الطفولة المبكرة للشعوب وتناقلتها الأجيال، وأبرز ما يميز هذه القصص هو تشابه كثير من أحداثها عند الشعوب المختلفة.
هذا التنوع في النظر إلى الأساطير من حيث أصلها أو نوعها أو الوطن المنتمية إليه أو غرضها أو بنائها أو غير ذلك؛ لا يبرره إلا الغموض الذي يحيط بهذا الموضوع، والذي يبدو من المستحيل أن يصل فيه أحد إلى الكلمة النهائية، أو الجامعة المانعة كما يقول المناطقة
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
تعليق