الماضي هو الحاضر بمعنى أن إعادة التركيب التى نقوم بها لمعنى المعطيات من الماضي تعتمد على التناظرات الوظيفية والقياس مع العالم المحيط بنا. هدف محاضراتنا هو الوصول الى صياغة منهج أكثر شمولية من قبل علماء الآثار للمادة الاثنوغرافية المتوفرة وللمفاهيم الأنثروبولوجية. على كل، لن نحاول بالطبع الرجوع الى كل عمل كتب حول هذا الموضوع. حتى لو أن ذلك كان ممكناً، رغم أننا نشك فى ذلك إذا قدرنا المدى الواسع لموضوع دراستنا، من ثم فإن اهتمامنا سينصب على توفير تقييم نقدي لاستخدام التناظر الوظيفي والقياس فى علم الآثار عن طريق تقييم مدى نموذجي من الأمثلة.
يعتمد كل العمل الآثاري على التناظر والقياس ويمكن أن تكون عملية الاستنتاج القائمة على التناظر والقياس محكمة وصارمة. لكننا لا نستطيع، كما يُدعى أحياناً، أن "نختبر" بدقة التناظرات والفرضيات الناجمة عن استخدامها. لا يستطيع علماء الآثار لا إثبات ولا دحض فرضياتهم على أساس معطيات مستقلة. كل ما يستطيعون تحقيقه هو توضيح أن فرضية أو نظير واحد أفضل أو أسوأ من آخر، نظرياً ومن حيث علاقته بالمعطيات. فى هذا الفصل الأول، سنناقش سلسلة من الطرق التى تدعم التناظرات الوظيفية والقياس أو تنقدها والتى استخدمت بالنسبة للمعطيات الآثارية.
"اختيارنا" لما هو تناظر متواصل يعتمد على الأقل جزئياً على تصوراتنا القبلية الخاصة. هذه الإفادة لا تعني أن النظريات غير متأثرة بالمعطيات لأنها فى الواقع تتأثر بها. لكنها تعني أن معرفتنا بالماضي تعتمد على الحاضر وأن مهمة عالم الآثار الصارم ذو الضمير الحي تكمن فى إزالة نسبة الافتراضات وفى تحقيق المعرفة النقدية الذاتية، بخاصة فيما يتعلق بأيديولوجيات الثقافة المادية – فالمادة التى ينقبها علماء الآثار من الماضي. يهتم علم الآثار العرقي (الاثنوأركيولوجيا)، وهو علم تعميمي للثقافة الإنسانية، بدراسة الثقافة المادية للمجتمعات المعاصرة والمجتمعات التقليدية ما قبل الصناعية بهدف انجاز معرفة أكبر بأنفسنا وإعادة تركيب أكثر دقة للماضي عن طريق تفسير تلك المعطيات.
إن علم الآثار يعرف ليس فقط من حيث كونه يهتم بالماضي وبالتغيرات الكرونولوجية طالما أن ذلك هو فى الأساس فضاء خاص بالمؤرخين. الأقرب، أنه علم يتميز باهتمامه بفضاء الثقافة المادية. هدفنا كعلماء للآثار، وكأعضاء فى مجتمع، وكطلاب دارسين للماضي، وككتاب نهتم بالماضي، هو تحقيق وعي ذاتي نقدي فيما يتعلق بالثقافة المادية. مثل هذا المشروع البحثي لا يشمل الخلط بين مناهجنا وأهدافنا. الأصح أنه مشروع يسعى الى التعرف على أهداف جديدة لعلم الآثار، نتيجة عدم القناعة بأساليب التناول التطورية التى تسعى للتعرف على قوانين التغير الاجتماعي.
استخدام التناظر الوظيفي والقياس
عندما ينقب عالم الآثار ويستخرج موضوعاً من باطن الأرض ويقول بأن ذلك الموضوع هو "فأس"، كيف له أن يعرف ذلك؟ قد يؤرخ الموقع الذى عثر فيه على الموضوع الى ألفية سابقة للسجلات المكتوبة، فكيف، إذن، عرف أنه فأس؟ الاجابة هى، فى الحقيقة، أنه لا يعرف. كل ما باستطاعته أن يفعله هو أن يطرح تخميناً منطقياً على أساس أن الموضوع القديم الذى بين يديه يبدو مثل الفؤوس التى شاهدها فى مجتمعه أو فى مجتمعات معاصرة أخرى. فى النصف الأول للقرن التاسع عشر، أرجع العالم الدنماركي لوند Lund فؤوساً حجرية مصقولة من البرازيل لمقارنتها بأدوات أثرية دنماركية. دعمت هذه المعلومة وجهة نظر علماء الآثار الاسكندنافيين مثل نلسونNilsson والقائلة بأن أدوات صنعية متشابهة عثر عليها فى ترابهم كانت بالتأكيد فؤوساً "بدائية". وجدت موضوعات حجرية مصقولة منتشرة بكثرة فى أوربا وكان لها شكل فؤوس بجوانب حادة؛ وسميت فؤوساً لتناظرها مع موضوعات حديثة.
لدعم تفسير الفأس يمكن لعالم الآثار أن يختبر جانب الأداة عن طريق ميكروسكوب ليظهر أن هناك آثار للتآكل بفعل القطع؛ وقد يجري تجارب لاظهار أنه يمكن قطع شجرة باستخدام مثل هذا الموضوع؛ كما ويمكنه أن يجري دراسات غبار الطلق (اللقاحات) لبيئة الموقع ما قبل التاريخي حيث تم العثور على الموضوع وذلك ليثبت أن الأشجار كانت قد قطعت فى المنطقة. مع ذلك فإن كل تلك الدراسات المساعدة طورت لدعم التناظر الوظيفي المبدئي أو اضعافه.
الشئ نفسه يمكن قوله تقريباً عن كل تفسير آخر يقدمه عالم الآثار للماضي. نادراً ما يوضح مباشرة الأغراض التى استخدمت لها الموضوعات ما قبل التاريخية. عليه أن يخمن، مستخدماً التناظرات الوظيفية والقياس. بالتالي، فإنه عندما يكتشف دائرة حفر أعمدة فى الأرض ويقول "هذا منزل"، فإنه يكون متأثراً بالبينة المتوفرة عن وجود منازل مستديرة يعيش فيها الكثير من الأفارقة والهنود الأمريكيين.
الكثير من مثل هذه التفسيرات قد تبدو واضحة بالنسبة لعالم الآثار وقد يكون غير مدرك مطلقاً بأنه يستخدم التناظر الوظيفي والقياس. لا يحتاج الأمر الى معرفة خبير لوصف موضوع بأنه فأس، أو إبرة، أو ساطور، أو سيف، أو درع، أو خوذة. وتجذرت فى التدريس الآثاري فكرة أن دوائر حفر الأعمدة تدل على منازل بحيث أن عالم الآثار لم يعد يسأل عن الأصل الاثنوغرافي للفكرة. استخدامات أخرى للتناظرات الاثنوغرافية تكون أكثر وعياً ومحسوبة. عندما تجرى محاولة لإعادة تركيب نظام العلاقات الاجتماعية ما قبل التاريخية، والتبادل، وطقوس الدفن والأيديولوجيات من شظايا بينة آثارية، فإن عالم الآثار يبحث عن متوازيات وتناظرات معقولة وسط المجتمعات التقليدية الحالية فى أفريقيا وآسيا وأمريكا، أو فى المجتمعات الأوربية التاريخية.
من ثم، فإنه وفى كل تفسير تقريباً للماضي، فإن على عالم الآثار أن يستند الى معرفة مجتمعه والمجتمعات الأخرى المعاصرة حتى يتمكن من شحن هيكل البقايا باللحم والشحم. هكذا يبدو أن الأخذ بالتناظرات الوظيفية تقوم بدور أساسي فى الاستنتاج الآثاري. مع ذلك، حاول بعض علماء الآثار فى الفترة الأخيرة إلغاء استخدام التناظرات الوظيفية لكونها غير موثوقة، وغير علمية، وتمثل شكلاً من المحدودية. لماذا هذا التوجه؟
إشكاليات التناظر الوظيفي
تفسير الماضي باستخدام التناظر الوظيفي والقياس عد أمراً غير موثوق بسبب، إذا كانت الأشياء والمجتمعات فى الوقت الحالي وفى الماضي متشابهة فى بعض الجوانب،فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنها متشابهة فى جوانب أخرى. كمثال لهذا النوع من الصعوبة يمكننا أن نشير الى إعادة التركيب التى قام بها جراهام كلارك Clark,1954 للحياة فى العصر الحجري الوسيط (الميزوليتي) فى موقع ستار كار Star Carr بمقاطعة يوركشير فى انجلترا. يقترح كلارك (ص. 10- 12) أن بينة صناعة الجلود فى ستار كار تشير الى وجود نساء مناظرات للسكان الصيادين فى شمال أمريكا وجرينلاند. فوسط الاسكيمو الكاريبو تكون النساء مسؤلات عن سلخ الحيوان الذى يقتل وعن تجهيز الجلد للاستخدام، ويقترح كلارك الوضع نفسه بالنسبة للصيادين– الجامعين الميزوليتيين فى يوركشير. على أساس وجود النساء، يستمر كلارك ليطرح تكهناً بأعداد السكان الذين عاشوا فى ستار كار، وشكل تقسيم العمل. إن بيئة، وتقنية، واقتصاد الصيد – الجمع لسكان ستار كار والاسكيمو، بصورة مائعة وعامة، قابلة للمقارنة. لكن هل تلك التشابهات العامة فى بعض الجوانب كافية بحيث تسمح لنا باستنباط علاقات متداخلة فى جوانب أخرى؟ لا يبدو أن هناك سبب للاستنتاج بأن تصنيع الجلود وسط الاسكيمو الحاليين، وفى 7.200 ق.م. فى ستار كار قد نفذ من قبل الجنس نفسه (الاناث) لكون المجتمعين كان لهما الاقتصاد نفسه والبيئة ذاتها. من ثم يبدو لنا أن تفسير كلارك غير موثوق الى حد ما.
يبدو كلارك، فى نموذج ستار كار، وكأنه يفترض "تساوقاً" حتمياً؛ انه يفترض أن المجتمعات والثقافات المتشابهة فى بعض الجوانب هى بالتساوق متشابهة. مثل وجهة النظر هذه غير موثوقة، بخاصة إذا ما أخذنا المساحات الزمنية الطويلة التى أجريت فيها المقارنات وكذلك التنوع الكبير للأشكال الثقافية الحالية. صادف أن استخدم كلارك اسكيمو شمال أمريكا، لكنه كان بامكانه اختيار مجتمعات أخرى قام فيها الرجال لا النساء بتصنيع الجلود.
إذا كانت التناظرات الوظيفية غير موثوقة، فإنها ستكون بالقدر نفسه غير علمية. أو هكذا تجري المجادلة. لقد طرح العديد من علماء الآثار فى الآونة الأخيرة أنه لن يمكننا مطلقاً أن نراجع أو نثبت التناظرات الوظيفية بسبب أنه يمكننا دوماً الكشف عن تناظرات وظيفية بديلة والتى يمكن أن تناسب المعطيات من الماضي بالقدر نفسه. ولأن التشابهات فى بعض الجوانب لا تعنى بالضرورة ولا بالمنطق تشابهاً فى جوانب أخرى، فإننا لن نثبت مطلقاً تفسيرات من نوع تفسير كلارك لموقع ستار كار. مثل هذا التفسير الآثاري ينظر إليه مثل كتابة رواية ذاتية، مجرد تكهن دون أية قاعدة علمية.
فى حين سنشرح لاحقاً أن الصاق تهم عدم الموثوقية ومعاداة- العلمية تنطبق فى الواقع على الاستخدام الخاطئ للتناظر الوظيفي والقياس، فإن توجيه الاتهام للتفكير التناظري بأنه يحد معرفتنا للماضي ويعيقها هو أمر علينا أخذه فى الحسبان أيضاً. يبدو منطقياً أنه فى حالة تفسيرنا للماضي انطلاقاً من تناظره مع الحاضر، فإننا، كما يشير دالتون Dalton,1981، لن نكتشف مطلقاً أشكال المجتمع والثقافة التى لا وجود لها الآن. يكون تفسيرنا محدوداً بمدى معرفتنا للمجتمعات الحالية. وطالما أن هذه المجتمعات، الصناعية منها وغير الصناعية، تمثل سلسلة شديدة التخصص لتكيفات اقتصادية واجتماعية وثقافية متداخلة فيما بينها، فإنه يبدو من غير المحتمل أن تمثل بصورة دقيقة كل مدى الأشكال الاجتماعية التى وجدت فى الماضي. بالتالي لن نتمكن أبداً من فهم مجمل التنوع المميز لمجتمعات ما قبل التاريخ. على كلٍ، نقول ما هى العبرة فى أن نكرر معرفتنا بالمجتمعات المعاصرة بالصاق لافتات على مجتمعات الماضي؟
مختلف أنواع النقد الموجه لاستخدام التناظر الوظيفي فى البحث الآثاري قاد الى بروز افادات متطرفة رافضة للتفكير التناظري فى التفسير الآثاري. ادعى فريمان Freeman,1968:262 بأن "الاحباطات الأكثر جدية فى النماذج الحالية لتفسير البينة الآثارية ترتبط مباشرة بحقيقة أنها تدمج العديد من التناظرات بالمجموعات الحديثة". فى حين أن القليلين من علماء الآثار قد لا يذهبون الآن الى المدى الذى ذهب إليه فريمان، فإن اتفاقاً عاماً يكاد يكون قد تم التوصل إليه بشأن تحجيم استخدام التناظرات الوظيفية. أشار أوكو Ucko,1969 الى المخاطر المحتملة فى تفسير النشاطات الجنائزية فى الماضي باستخدام التناظرات، كما أن بينفورد Binford, 1967 أشار الى أن التفكير التناظري يظل بلا قيمة فى حالة إذ لم يقرن مع اجراءات الاختبار العلمية الصارمة. اقترح ترنجهام أيضاً Tringham,1978:185 أنه يتوجب علينا بذل المحاولة والابتعاد عن كشف التناظرات التى يمكن تطبيقها على المعطيات الآثارية، هذا فى حين حاول جولد Gould,1978 الانتقال الى "ما وراء التناظر الوظيفي". سأبذل محاولة لتوضيح أن تلك التقييمات لقيمة التناظر الوظيفي والقياس فى علم الاثار مظللة بغيوم الفكرة الخاطئة عن الطبيعة والاستخدام السليم للتناظر. سيكون من الممكن حينئذ إعادة تقييم الفرضية القائلة بعدم الموثوقية، وعدم العلمية.
يعتمد كل العمل الآثاري على التناظر والقياس ويمكن أن تكون عملية الاستنتاج القائمة على التناظر والقياس محكمة وصارمة. لكننا لا نستطيع، كما يُدعى أحياناً، أن "نختبر" بدقة التناظرات والفرضيات الناجمة عن استخدامها. لا يستطيع علماء الآثار لا إثبات ولا دحض فرضياتهم على أساس معطيات مستقلة. كل ما يستطيعون تحقيقه هو توضيح أن فرضية أو نظير واحد أفضل أو أسوأ من آخر، نظرياً ومن حيث علاقته بالمعطيات. فى هذا الفصل الأول، سنناقش سلسلة من الطرق التى تدعم التناظرات الوظيفية والقياس أو تنقدها والتى استخدمت بالنسبة للمعطيات الآثارية.
"اختيارنا" لما هو تناظر متواصل يعتمد على الأقل جزئياً على تصوراتنا القبلية الخاصة. هذه الإفادة لا تعني أن النظريات غير متأثرة بالمعطيات لأنها فى الواقع تتأثر بها. لكنها تعني أن معرفتنا بالماضي تعتمد على الحاضر وأن مهمة عالم الآثار الصارم ذو الضمير الحي تكمن فى إزالة نسبة الافتراضات وفى تحقيق المعرفة النقدية الذاتية، بخاصة فيما يتعلق بأيديولوجيات الثقافة المادية – فالمادة التى ينقبها علماء الآثار من الماضي. يهتم علم الآثار العرقي (الاثنوأركيولوجيا)، وهو علم تعميمي للثقافة الإنسانية، بدراسة الثقافة المادية للمجتمعات المعاصرة والمجتمعات التقليدية ما قبل الصناعية بهدف انجاز معرفة أكبر بأنفسنا وإعادة تركيب أكثر دقة للماضي عن طريق تفسير تلك المعطيات.
إن علم الآثار يعرف ليس فقط من حيث كونه يهتم بالماضي وبالتغيرات الكرونولوجية طالما أن ذلك هو فى الأساس فضاء خاص بالمؤرخين. الأقرب، أنه علم يتميز باهتمامه بفضاء الثقافة المادية. هدفنا كعلماء للآثار، وكأعضاء فى مجتمع، وكطلاب دارسين للماضي، وككتاب نهتم بالماضي، هو تحقيق وعي ذاتي نقدي فيما يتعلق بالثقافة المادية. مثل هذا المشروع البحثي لا يشمل الخلط بين مناهجنا وأهدافنا. الأصح أنه مشروع يسعى الى التعرف على أهداف جديدة لعلم الآثار، نتيجة عدم القناعة بأساليب التناول التطورية التى تسعى للتعرف على قوانين التغير الاجتماعي.
استخدام التناظر الوظيفي والقياس
عندما ينقب عالم الآثار ويستخرج موضوعاً من باطن الأرض ويقول بأن ذلك الموضوع هو "فأس"، كيف له أن يعرف ذلك؟ قد يؤرخ الموقع الذى عثر فيه على الموضوع الى ألفية سابقة للسجلات المكتوبة، فكيف، إذن، عرف أنه فأس؟ الاجابة هى، فى الحقيقة، أنه لا يعرف. كل ما باستطاعته أن يفعله هو أن يطرح تخميناً منطقياً على أساس أن الموضوع القديم الذى بين يديه يبدو مثل الفؤوس التى شاهدها فى مجتمعه أو فى مجتمعات معاصرة أخرى. فى النصف الأول للقرن التاسع عشر، أرجع العالم الدنماركي لوند Lund فؤوساً حجرية مصقولة من البرازيل لمقارنتها بأدوات أثرية دنماركية. دعمت هذه المعلومة وجهة نظر علماء الآثار الاسكندنافيين مثل نلسونNilsson والقائلة بأن أدوات صنعية متشابهة عثر عليها فى ترابهم كانت بالتأكيد فؤوساً "بدائية". وجدت موضوعات حجرية مصقولة منتشرة بكثرة فى أوربا وكان لها شكل فؤوس بجوانب حادة؛ وسميت فؤوساً لتناظرها مع موضوعات حديثة.
لدعم تفسير الفأس يمكن لعالم الآثار أن يختبر جانب الأداة عن طريق ميكروسكوب ليظهر أن هناك آثار للتآكل بفعل القطع؛ وقد يجري تجارب لاظهار أنه يمكن قطع شجرة باستخدام مثل هذا الموضوع؛ كما ويمكنه أن يجري دراسات غبار الطلق (اللقاحات) لبيئة الموقع ما قبل التاريخي حيث تم العثور على الموضوع وذلك ليثبت أن الأشجار كانت قد قطعت فى المنطقة. مع ذلك فإن كل تلك الدراسات المساعدة طورت لدعم التناظر الوظيفي المبدئي أو اضعافه.
الشئ نفسه يمكن قوله تقريباً عن كل تفسير آخر يقدمه عالم الآثار للماضي. نادراً ما يوضح مباشرة الأغراض التى استخدمت لها الموضوعات ما قبل التاريخية. عليه أن يخمن، مستخدماً التناظرات الوظيفية والقياس. بالتالي، فإنه عندما يكتشف دائرة حفر أعمدة فى الأرض ويقول "هذا منزل"، فإنه يكون متأثراً بالبينة المتوفرة عن وجود منازل مستديرة يعيش فيها الكثير من الأفارقة والهنود الأمريكيين.
الكثير من مثل هذه التفسيرات قد تبدو واضحة بالنسبة لعالم الآثار وقد يكون غير مدرك مطلقاً بأنه يستخدم التناظر الوظيفي والقياس. لا يحتاج الأمر الى معرفة خبير لوصف موضوع بأنه فأس، أو إبرة، أو ساطور، أو سيف، أو درع، أو خوذة. وتجذرت فى التدريس الآثاري فكرة أن دوائر حفر الأعمدة تدل على منازل بحيث أن عالم الآثار لم يعد يسأل عن الأصل الاثنوغرافي للفكرة. استخدامات أخرى للتناظرات الاثنوغرافية تكون أكثر وعياً ومحسوبة. عندما تجرى محاولة لإعادة تركيب نظام العلاقات الاجتماعية ما قبل التاريخية، والتبادل، وطقوس الدفن والأيديولوجيات من شظايا بينة آثارية، فإن عالم الآثار يبحث عن متوازيات وتناظرات معقولة وسط المجتمعات التقليدية الحالية فى أفريقيا وآسيا وأمريكا، أو فى المجتمعات الأوربية التاريخية.
من ثم، فإنه وفى كل تفسير تقريباً للماضي، فإن على عالم الآثار أن يستند الى معرفة مجتمعه والمجتمعات الأخرى المعاصرة حتى يتمكن من شحن هيكل البقايا باللحم والشحم. هكذا يبدو أن الأخذ بالتناظرات الوظيفية تقوم بدور أساسي فى الاستنتاج الآثاري. مع ذلك، حاول بعض علماء الآثار فى الفترة الأخيرة إلغاء استخدام التناظرات الوظيفية لكونها غير موثوقة، وغير علمية، وتمثل شكلاً من المحدودية. لماذا هذا التوجه؟
إشكاليات التناظر الوظيفي
تفسير الماضي باستخدام التناظر الوظيفي والقياس عد أمراً غير موثوق بسبب، إذا كانت الأشياء والمجتمعات فى الوقت الحالي وفى الماضي متشابهة فى بعض الجوانب،فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنها متشابهة فى جوانب أخرى. كمثال لهذا النوع من الصعوبة يمكننا أن نشير الى إعادة التركيب التى قام بها جراهام كلارك Clark,1954 للحياة فى العصر الحجري الوسيط (الميزوليتي) فى موقع ستار كار Star Carr بمقاطعة يوركشير فى انجلترا. يقترح كلارك (ص. 10- 12) أن بينة صناعة الجلود فى ستار كار تشير الى وجود نساء مناظرات للسكان الصيادين فى شمال أمريكا وجرينلاند. فوسط الاسكيمو الكاريبو تكون النساء مسؤلات عن سلخ الحيوان الذى يقتل وعن تجهيز الجلد للاستخدام، ويقترح كلارك الوضع نفسه بالنسبة للصيادين– الجامعين الميزوليتيين فى يوركشير. على أساس وجود النساء، يستمر كلارك ليطرح تكهناً بأعداد السكان الذين عاشوا فى ستار كار، وشكل تقسيم العمل. إن بيئة، وتقنية، واقتصاد الصيد – الجمع لسكان ستار كار والاسكيمو، بصورة مائعة وعامة، قابلة للمقارنة. لكن هل تلك التشابهات العامة فى بعض الجوانب كافية بحيث تسمح لنا باستنباط علاقات متداخلة فى جوانب أخرى؟ لا يبدو أن هناك سبب للاستنتاج بأن تصنيع الجلود وسط الاسكيمو الحاليين، وفى 7.200 ق.م. فى ستار كار قد نفذ من قبل الجنس نفسه (الاناث) لكون المجتمعين كان لهما الاقتصاد نفسه والبيئة ذاتها. من ثم يبدو لنا أن تفسير كلارك غير موثوق الى حد ما.
يبدو كلارك، فى نموذج ستار كار، وكأنه يفترض "تساوقاً" حتمياً؛ انه يفترض أن المجتمعات والثقافات المتشابهة فى بعض الجوانب هى بالتساوق متشابهة. مثل وجهة النظر هذه غير موثوقة، بخاصة إذا ما أخذنا المساحات الزمنية الطويلة التى أجريت فيها المقارنات وكذلك التنوع الكبير للأشكال الثقافية الحالية. صادف أن استخدم كلارك اسكيمو شمال أمريكا، لكنه كان بامكانه اختيار مجتمعات أخرى قام فيها الرجال لا النساء بتصنيع الجلود.
إذا كانت التناظرات الوظيفية غير موثوقة، فإنها ستكون بالقدر نفسه غير علمية. أو هكذا تجري المجادلة. لقد طرح العديد من علماء الآثار فى الآونة الأخيرة أنه لن يمكننا مطلقاً أن نراجع أو نثبت التناظرات الوظيفية بسبب أنه يمكننا دوماً الكشف عن تناظرات وظيفية بديلة والتى يمكن أن تناسب المعطيات من الماضي بالقدر نفسه. ولأن التشابهات فى بعض الجوانب لا تعنى بالضرورة ولا بالمنطق تشابهاً فى جوانب أخرى، فإننا لن نثبت مطلقاً تفسيرات من نوع تفسير كلارك لموقع ستار كار. مثل هذا التفسير الآثاري ينظر إليه مثل كتابة رواية ذاتية، مجرد تكهن دون أية قاعدة علمية.
فى حين سنشرح لاحقاً أن الصاق تهم عدم الموثوقية ومعاداة- العلمية تنطبق فى الواقع على الاستخدام الخاطئ للتناظر الوظيفي والقياس، فإن توجيه الاتهام للتفكير التناظري بأنه يحد معرفتنا للماضي ويعيقها هو أمر علينا أخذه فى الحسبان أيضاً. يبدو منطقياً أنه فى حالة تفسيرنا للماضي انطلاقاً من تناظره مع الحاضر، فإننا، كما يشير دالتون Dalton,1981، لن نكتشف مطلقاً أشكال المجتمع والثقافة التى لا وجود لها الآن. يكون تفسيرنا محدوداً بمدى معرفتنا للمجتمعات الحالية. وطالما أن هذه المجتمعات، الصناعية منها وغير الصناعية، تمثل سلسلة شديدة التخصص لتكيفات اقتصادية واجتماعية وثقافية متداخلة فيما بينها، فإنه يبدو من غير المحتمل أن تمثل بصورة دقيقة كل مدى الأشكال الاجتماعية التى وجدت فى الماضي. بالتالي لن نتمكن أبداً من فهم مجمل التنوع المميز لمجتمعات ما قبل التاريخ. على كلٍ، نقول ما هى العبرة فى أن نكرر معرفتنا بالمجتمعات المعاصرة بالصاق لافتات على مجتمعات الماضي؟
مختلف أنواع النقد الموجه لاستخدام التناظر الوظيفي فى البحث الآثاري قاد الى بروز افادات متطرفة رافضة للتفكير التناظري فى التفسير الآثاري. ادعى فريمان Freeman,1968:262 بأن "الاحباطات الأكثر جدية فى النماذج الحالية لتفسير البينة الآثارية ترتبط مباشرة بحقيقة أنها تدمج العديد من التناظرات بالمجموعات الحديثة". فى حين أن القليلين من علماء الآثار قد لا يذهبون الآن الى المدى الذى ذهب إليه فريمان، فإن اتفاقاً عاماً يكاد يكون قد تم التوصل إليه بشأن تحجيم استخدام التناظرات الوظيفية. أشار أوكو Ucko,1969 الى المخاطر المحتملة فى تفسير النشاطات الجنائزية فى الماضي باستخدام التناظرات، كما أن بينفورد Binford, 1967 أشار الى أن التفكير التناظري يظل بلا قيمة فى حالة إذ لم يقرن مع اجراءات الاختبار العلمية الصارمة. اقترح ترنجهام أيضاً Tringham,1978:185 أنه يتوجب علينا بذل المحاولة والابتعاد عن كشف التناظرات التى يمكن تطبيقها على المعطيات الآثارية، هذا فى حين حاول جولد Gould,1978 الانتقال الى "ما وراء التناظر الوظيفي". سأبذل محاولة لتوضيح أن تلك التقييمات لقيمة التناظر الوظيفي والقياس فى علم الاثار مظللة بغيوم الفكرة الخاطئة عن الطبيعة والاستخدام السليم للتناظر. سيكون من الممكن حينئذ إعادة تقييم الفرضية القائلة بعدم الموثوقية، وعدم العلمية.
تعليق