الإسكندر البطالمة السلوقيون
أنهى الإسكندر المقدوني ، الوجود الفارسي في بيت المقدس وفلسطين ، مفتتحا عصرا جديدا من الصراعات الشديدة .
ورب قائل إن الأمر كان دوما هكذا في بيت المقدس وفلسطين ، لكن أحدا لا يستطيع نكران حقيقة أن الطور الجديد قد اتسم بعنف زائد في صراع مرير .
عشية حملة الاسكندر على فلسطين ، كان العرب الكنعانيون والأراميون ، هم العنصر الغالب من السكان ، فيما واصل الفلسطينيون اندماجهم مع الكنعانيين وتموضعت جماعتان يهوديتان ، أحدهما إلى جانب العرب في القدس ، والأخرى في السامرة ، كانت تعتبر نفسها اليهودية الحقيقية ، ومعبدها هو الأساس .وكان بين الجماعتين صراع . لأن السامريين يقدسون جبل جرزيم . ومعلوم أن الجماعة اليهودية في القدس ، كانت من المسبيّين الذين جاؤوا القدس مع الحملات الفارسية ، وحظوا برعايتها .
بدأ الاسكندر حملاته سنة ثلاثمائة وأربع وثلاثين قبل الميلاد . وأنجز احتلالا سهلا بعد هزيمته ملك الفرس في ايسوس في كليكيا، فسيطر على مصر والشام ، دون مقاومة تقريبا . إذ لم تواجهه سوى صور وغزة ، وثار السامريون ضده بعد وقت قليل من احتلال مدينتهم فنكل بهم تنكيلا شديدا .
أما القدس فقد دخلها قواد الاسكندر دون مقاومة . تابع الاسكندر حملاته باتجاه الشرق فأخضع فارس وأواسط " آسيا " وحوض السند ، ومات في بابل سنة ثلاثمئة وثلاث وعشرين قبل الميلاد .
خلف الاسكندر لقادته إمبراطورية شاسعة جدا ، لم يتمكنوا من الحفاظ عليها موحدة سوى سنتين ، إذ اندلعت الحروب بينهم ، فتولى سلوقي الأجزاء الآسيوية منها ، واستأثر بطليموس بمصر وضم إليها الشام ، من خط يمتد جنوبي دمشق إلى الساحل غربا .
لم يكن هذا التقسيم سليما ، بل اقتضى حربا استمرت اثنين وعشرين عاما ، ذاقت خلالها فلسطين الأمرين ، حيث عبرتها الجيوش المتحاربة سبع مرات ، واقتحمت بيت المقدس مرة واحدة على الأقل .
وطوال القرن الثالث قبل الميلاد ، اندلعت بين البطالمة والسلوقيين خمس حروب ، تنازعا خلالها السيطرة على الشام ، إلى أن استقرت في يد السلوقيين سنة مئتين قبل الميلاد .
وهكذا يمكن التمييز بين عصرين من الحكم اليوناني لفلسطين وبيت المقدس . عصر البطالمة ، وعصر السلوقيين .
اعتبر البطالمة القسم الذي ظل في حوزتهم من سورية وحدة إدارية سموها " سوريا – فينيقيا " وأطلقوا على الأقسام الإدارية التي قسمت الولاية على أساسها " إبارخيات " واحدتها إبارخية . وكانت هذه ستا . الجليل وقصبتها بيسان . وتشمل الجليل الأعلى وتلال الجليل الأدنى ومرج ابن عامر حتى بحيرة طبرية ونهر الأردن شرقا .
أما في الغرب فكانت حدودها تنتهي عند أقدام مرتفعات الجليل وجبل الكرمل . ثم أبارخية السامرة وعاصمتها جبل جرزيم ، أما السامرة فأصبحت مستعمرة عسكرية مقدونية .
واحتفظت " أبارخية " القدس من الحدود التي كانت لها في التقسيم الإداري الفارسي ، فقد شملت المنطقة الممتدة من منحدر جبال القدس غربا إلى نهر الأردن والبحر الميت شرقا ، ومن حدود السامرة شمالا إلى خط يمتد شمالي مدينة الخليل جنوبا ، وكانت المقدس العاصمة .
أما الأبارخية الأدومية ، فقد وسعت ، إذ أصبحت مدينة الخليل ودورا ، وما ولاهما شرقا وغربا جزءا منها . وكانت عاصمتها تل صفد حنه . وأنشئت أبارخية ساحلية ، مركزها الإداري حصن ستراتون . وأبارخية اسدود ، ومركزها يبنا .
وتمتعت يافا ، وعسقلان ، واسدود الداخلية وغزة ، بحكم ذاتي ، وكانت مرتبطة بالملك البطليمي مباشرة .
كانت لكل أبارخية إدارة يرأسها ستراتفوس . وهو ضابط رفيع المستوى بصلاحيات عسكرية ومدنية . ويوناني بالضرورة . كان هناك ستراتفوس للقدس , وهذا يعني أنهالم تكن تتمتع بأي استقلال سياسي ، ولن تعرف كدولة إلا في العصر الهليسنتي لاحقا .وفي مصر البطالمة كانت تسمى : ايروسوليما ، المكونة من جذرين الأول : ايرو التي تشير إلى قدسيتها ، كما هي الحال في مدن أخرى كثيرة في المنطقة منها ايرابوليس ( منبج ) وبعلبك وغيرهما .. والثاني : هو سوليما .. ولعل معناه السلام .
الأمر الذي يعطي انطباعا أنها عوملت كمدينة مقدسة وأبقى فيها على تقليد كان سائدا منذ العصر الفارسي وهو مجلس شيوخ يسمى غيروسيا ، كان أعضاؤه من رؤساء الأسر الكبيرة ورجال الدين الكبار والنبلاء العلمانيين الأثرياء وأصحاب الأملاك ، ويرئسه الكاهن الأعظم ، الذي يتولى المنصب بالإرث العائلي .
ولكن المدينة كانت تحت إشراف ملكي دقيق كما هو حال جميع المدن ، وتخضع الأراضي ووراداتها فيها لإشراف حكومي في شؤونها المالية . في العهد البطليمي ، نشأ في بيت المقدس اتجاه يميل إلى السلوقيين ، وكان يتزعمه الكاهن الأعظم في حينه : سمعان الأوني ،مؤيدا من أسرة يوسف طوبيا التاجر الثري الذي انتقل من شرق الأردن إلى القدس ، وكانت له مصالح تجارية مع البطالمة في مصر ، لكنه غير اتجاهه ، عندما رأى الأمور تسير في صالح السلوقيين .
وقد استقبل ملك السلوقيين انطيوخس الثالث استقبالا حارا في بيت المقدس عند دخولها بعد انتصاره على البطالمة في بانياس وإخضاع الشام لحكمه ، ومقابل ذلك،سمح لهم العيش بمقتضى ناموسهم وأعفاهم من الضرائب لثلاث سنوات وأعفى أعضاء الفيروسيا من دفع الضرائب نهائيا . وهذه معاملة كانت تلقاها عادة المدن الدينية من البطالمة والسلوقيين .
حول هذه النقطة لا بد من نقل رأي حرفي للمؤرخ د . نقولا زيادة ، حيث يقول :
" ثمة أمر حري بالاهتمام ، وهو أن الشعب اليهودي لم يكن له كيان سياسي مستقل خاص به ، ولم يتمتع حتى باستقلال داخلي ، وكل ما هناك هو أن ما قام به السلوقيون نحو شعوب ودول " هياكل أخرى ، لم يجد من يدونه بتفصيل كي يتضح العمل للأجيال التالية . أما الأب اليهودي الديني فقد دون هذه الأمور بتفصيل كبير . وهو لم يدون للتاريخ والحقيقة ، بل كانت الغاية من ذلك إظهار هذه الأمور بأنها إتمام لعناية يهوه بالشعب اليهودي . فقد خلق العبرانيون قضية العهد الذي قطعه يهوه لشعبه إذ اختاره دون الشعوب الأخرى ، ووعدوه بأمور كثيرة منهاأرض الميعاد.
وهذه القضية التي خلقها العبرانيون القدامى واعتبروها عهدا من يهوه يترتب عليه المحافظة عليه ، تبناها اليهود فيما بعد ، وأكدوا عهد يهوه لشعبه المختار ، ومن الواضح أن جميع هذه الأمور ادعاءات ومختلقات .
وقد أصبحت هذه العقيدة اليهودية عقدة في تاريخ الشعب وتاريخ علاقاته بالشعوب الأخرى على مدى الأجيال وما تزال " . ( انتهى المقتطف ).
سرعان ما انخرط السلوقيون في حروب خارجية وداخلية أنهكتهم ، وامتصت قواهم ومواردهم فمدوا أيديهم إلى أموال معبد زفى في سوسة ، ومعبد بيت المقدس ، وصارت رئاسة الغيروسيا في بيت المقدس تشترى من الملك الأموال فكثر المتنافسون ، وتصارعوا فيما بينهم أيضا ، وأصبحت الهلينية مدار صراع جديد في القدس ، عندما أقام فيها السلوقيون معبد ألزفس .
سنة مئة وتسع وستين احتل أنطيوخس الرابع بيت المقدس ، ونهب أموال المعبد بالاتفاق مع منلاوس زعيم الغيروسيا ، الذي اشترى منصبه بالمال ، وبعد عام واحد ، ومع إنتشار التذمر فيها ، أرسل أنطيوخس قائده ابولينوس ، فدمر المدينة ، ونهبها ، وبنى فيها الاكرا ، أي القلعة التي أصبحت شاهدا عمليا للوجود الهليني القوى في القدس ، وأصبحت المدينة من الناحية العملية مستعمرة عسكرية .
بالطبع بالغ التدوين اليهودي مبالغة كبيرة في تصوير هذه الأحداث كما سيبالغ لاحقا في سرد أحداث ثورة المكابيين ضد السلوقيين ، فالثورة التي كانت ذات طابع سياسي ، في مواجهة محاولات أنطيوخس الرابع فرض القيم الهيلنية ، وضرب القيم الخاصة ، صورها التدوين اليهودي ، على أنها ثورة ضد الاضطهاد الديني لليهود .وعرفت هذه الثورة باسم ثورة المكابيين، لأن زعيمها ، كان يدعي " المطرقة " وهي " مكابي " بالعبرية . وقد استمر طورها الأول من عام مئة وسبعة وستين إلىعام مئة واثنين وأربعين قبل الميلاد . وانتهى هذا الطور بقيام الأسرة الحشمونية كأسرة ملكية ، وسمي ملكها الأول ارستوبولس الأول .
لكن ما ساد بعد ذلك هو القتل ولاضطراب ، إذ دبت الخلافات داخل الأسرة نفسها . ويقول د . نقولا زيادة :
أحاق بفلسطين بسبب هذه الثورة ، وخاصة خلال الفترة التي مرت بين تأسيس الأسرة الحشمونية ووصول بومبي إلى فلسطين سنة ثلاث وستين قبل الميلاد . مصائب ومعارك أتت على الحرث والضرع ، ولما اشتد التنافس بين أفراد الأسرة، ثم لما ثار القريسيون ، وهم على الراجح بقايا الحسديم ، على المكابيين ، زادت المصائب حجما ومساحة وعمقا ، بحيث كان مجيىء بومبي إنقاذا لأرواح الذي لم تحصدهم سيوف المكابيين من مخالفيهم ، بقطع النظر عن العنصر الذي انتسبوا إليه أو الجهة التي أيدوها .
تعليق