مراحل تطور العمارة الإسلامية
في هذا السياق سوف نتطرق إلى مراحل تطور فن العمارة الإسلامية في مصر، كمثال يمثل العمارة الإسلامية عبر العصور، ونبين خصائص كل عصر على حدة:
عصر الخلفاء الراشدين وما قبل العصر الطولوني:
عدا الزمن في هذه الحقبة على آثار مصر، فعبثت يد الدهر بالفسطاط - أولى مدن المسلمين بمصر - فتركتها أطلالا، كما حدث ذلك في مدينة العسكر التي أسسها العباسيون سنة (133هـ/750 م)، وقد امتدت إلى جامع عمرو بن العاص يد التغيير والتوسيع حتى فقد كل معالمه الأولى ولم يبقَ إلا المكان الذي أُنشيءَ عليه، غير أنه قد حدث به ظاهرتان معماريتان على جانب عظيم من الأهمية:
الأولى: هي الصوامع الأربع التي أمر معاوية رضي الله عنه - أول خلفاء بني أمية - واليه على مصر (مسلمة بن مخلد) بإنشائها بأركان الجامع سنة (53 هـ/672 - 673م) على نمط الأبراج التي كانت بأركان المعبد القديم بدمشق، وكانت هذه الصوامع - في الواقع - نواة للمآذن التي أُنشئت بمصر بعد ذلك، والتي نرى الكثير منها الآن وقد تطورت تصميماتها وتنوعت أشكالها.
والظاهرة الثانية: هي المحراب المجوف الذي أحدثه به قرة بن شريك - والى مصر من قِبَلِ الوليد بن عبد الملك - في سنة (93هـ/712م) مقتديا في ذلك بالمحراب المجوف الذي أحدثه عمر بن عبد العزيز بمسجد المدينة في سنة (88هـ/706 - 707م).
العصر الطولوني 254-292هـ/ 868-905م:
أسس أحمد بن طولون الدولة الطولونية بمصر سنة (254هـ/ 868م) بعد أن قضى زهرة شبابه في (سامراء) قريبا من موالد الفن العباسي، وقد أبقى لنا الزمن فيما أبقى من آثار هذه الدولة ذلك الجامع العظيم الذي يعتبر بفرط اتساعه وبساطة تخطيطه وروعة بنائه وجمال زخارفه، مفخرة ذلك العصر.
وهو وإن كان قد استمد عناصر زخارفه من زخارف سامراء، واقتبس منارته الأولى من منارة جامعها على ما يظن، إلا إنه قد أخذ عن جامع عمرو - الذي جُدِّدَ سنة (212 هجرية) - نظام وشكل الشبابيك المفتوحة بأعلى واجهاتها الأربع..
ولم يدم حكم هذه الدولة لمصر طويلا؛ إذ سرعان ما استردت الخلافة العباسية مصر في سنة (292 هـ/905م) وانتقمت من الأسرة الطولونية، وأزالت كل معالمها، فركدت في مصر حركة الفنون والعمارة، حتى أننا لم نجد لها نهضة حينما استقل بها الأخاشدة من سنة (324 إلى سنة 358 هـ/935-969م).
العصر الفاطمي 358-567 هـ/ 969-1171م:
في أواخر أيام الدولة الإخشيدية كان الفاطميون يرنون بأبصارهم نحو مصر، يريدون أن يجعلوا منها مقرا لخلافة قوية فتية، ويأملون أن يكون لهم فيها شأن غير شأن العباسيين، وأن يتاح لمصر على أيديهم عهد حافل جديد، فما وافت سنة (358هـ/969م) حتى جاء جوهر الصقلي، قائد المعز لدين الله الفاطمي، رابع الخلفاء الفاطميين، وتم على يديه غزو مصر، واختط مدينة القاهرة، وأسس بها أول جامع لهم، وهو الجامع الأزهر.
وقد اقترن هذا العصر بعدة ظواهر معمارية، منها: استخدام الحجر المنحوت لأول مرة في واجهات المساجد بدل الطوب، ثم تزيين هذه الواجهات بالزخارف المنوعة المحفورة في الحجر، بعد أن كنا نشاهدها في جامع عمرو وجامع ابن طولون بسيطة عارية من الزخارف، وكانت القباب في ذلك العصر صغيرة وبسيطة، سواء من الداخل أو الخارج، وظهر تضليعها من الخارج لأول مرة في قبة السيدة عاتكة المنشأة في أوائل القرن السادس الهجري وأوائل الثاني عشر الميلادي.
وابتدأت أركان القبة تتطور نحو المقرنصات المتعددة الحطات، فبدأت بحطة واحدة، كما في جامع الحاكم، ثم بحطتين كما في قبة الشيخ يونس وقبتي الجعفري وعاتكة وغيرها، إلا أن فخر العمارة الفاطمية كان في الزخارف التي تستهوي النفوس بجمالها، وتنتزع الإعجاب بها، وبلغت الكتابة الكوفية المزخرفة والزخارف الجصية شأوا بعيدا في جمال عناصرها، وبديع تنسيقها، واختلاف تصميماتها، وكانت تحتل الصدارة في المحاريب، وتحلي إطارات العقود والنوافذ.
ولم تكن الزخارف الجصية وحدها هي المجال الذي أظهر فيه الصانع المصرى عبقريته، بل كانت الزخارف المحفورة في الخشب آية من آيات الفن الفاطمي الرائعات، فالأبواب والمنابر والمحاريب المتنقلة، والروابط الخشبية بين العقود، وما فيها من دقة في الحفر وإبداع في الزخرف والكتابة، تدل على مبلغ ما وصلت إليه النجارة في عصر الفاطميين من عظمة وازدهار.
الدولة الأيوبية 567-648هـ/1171-1250م:
استولى الأيوبيون على مصر سنة (567هـ/1171م)، وأسسوا بها أسرة حاكمة، وكان عهدهم منذ اللحظة الأولى عهد حروب طاحنة مع الصليبيين، فوجهوا جُلَّ اهتمامهم - من أجل ذلك - إلى إقامة الأبنية الحربية، فبنوا القلعة وأكملوا أسوار القاهرة، وكان اشتغالهم بهذه الحروب سببا في ندرة الأبنية الدينية التي خَلَّفوها لنا، وكان من أهم أغراضهم القضاء على المذهب الشيعي - مذهب الفاطميين - فأنشأوا لهذا الغرض المدارس وخصصوها لتدريس المذاهب الأربعة، ولم يبقَ من هذه المدارس سوى بقايا المدرسة الكاملية المنشأة سنة (622هـ/1225م)، وكانت مؤلفة من إيوانين متقابلين، وبقايا المدرسة الصالحية التي أنشأها الصالح نجم الدين الأيوبي سنة (640هـ/1242م)، والتي كانت مخصصة لتعليم المذاهب الأربعة، إلا أنها لم تكن ذات التخطيط المتعامد، بل كانت في الواقع عبارة عن مدرستين يشتمل كل منهما على إيوانين متقابلين أيضا.
وفي عصر الأيوبيين ابتدأ ظهور القباب الكبيرة، كما ابتدأ تطور المقرنصات في أركانها وتعدد حطاتها، ولم يُبقِ لنا الزمن سوى منارتين كاملتين من منارات ذلك العصر، وهما: منارة المدارس الصالحية، ومنارة زاوية الهنود، اللتان تعتبران نموذجين لطراز المآذن المنشأة في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الهجري - أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي.
وفي هذا العصر استمر ازدهار الزخارف الجصية ومثلها النجارة الدقيقة، وظهرت الكتابة النسخية، وسارت جنبا لجنب مع الكتابة الكوفية.
عصر المماليك 648-923هـ/1250-1517م:
عندما ولي الملك الصالح نجم الدين الأيوبي الحكم في أواخر الدولة الأيوبية أكثر من شراء المماليك الأتراك، وأسكنهم قلعة الروضة التي أنشأها بجزيرة الروضة سنة 638 هجرية، ولذلك سموا بالمماليك البحرية، وقربهم إليه وولاهم المناصب الكبيرة، ووصلوا إلى مرتبة الأمراء فعظم شأنهم وقوي نفوذهم، فما وافت سنة (648هـ/1250م) حتى ولي أحدهم - عز الدين أيبك التركمانى - مُلْكَ مصر.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ حكم المماليك لمصر، واستمر إلى سنة (923هـ/1517م) أي 275 سنة، قضى منها المماليك البحرية 136 سنة من (648 إلى 784هـ/1250-1382م)، وأعقبهم المماليك الجراكسة الذين حكموا من سنة (784 إلى سنة 923هـ/1382-1517م) أي 139 سنة.
في هذا العصر الذي طال عهداه، تنافس سلاطين المماليك في إنشاء الجوامع والمدارس، وإقامة الأضرحة والأسبلة وبناء القصور والوكالات، وتجلت عظمة العصر المملوكي فيما أبدعوه من روائع المنشآت التي تبدو للناظر شامخة في غير تبرج، وتزهو بنفسها في غير خيلاء، في جمال غير متكلف يستثير إعجاب كل من يراه وينتزع ثناءه انتزاعا.
وفي هذا العصر استقر فن العمارة المصري، وأصبح ذا طابع خاص به له مقوماته وتقاليده، يتوارثها المعماريون والفنيون، تظهر واضحة في تخطيط المساجد وتصميم الواجهات، وفي المداخل الشاهقة بمقرنصاتها الجميلة، وتمشى مع هذا الاستقرار رقي دائم في صناعة الجص، وتنوع في زخارفه، يثبت ذلك ما نشاهده في أبنية النصف الثاني من القرن السابع الهجري - القرن الثالث عشر الميلادي - إلا أن الرخام انتزع من الجص مركز الصدارة، فصارت المحاريب وأسفال الجدارن الداخلية مكتسية بالرخام المتعدد الألوان، متفرد بتصميمات بديعة، يزيد في بهائها دقة الصناعة وتجانس الألوان.
وتبع كل ذلك تطور في أشغال النجارة وإبداع في تكوين زخارفها، فسارت أعمال التطعيم بالسن والآبنوس والزرنشان جنبا لجنب مع الأويمة الدقيقة في المنابر والأبواب والشبابيك، وخَطَتْ أعمال الخراطة خطوات واسعة كما تنوعت تصميمات الأسقف الخشبية، وزاد في روعتها ما حوته من نقوش جميلة مموهة بالذهب، هذا وتتجلى دقة صناعة التعدين في الأبواب المصفحة بالنحاس؛ فتظهر فيها براعة الحفر والتفريغ في النحاس إلى دقة التكفيت فيه.
وللعصر المملوكي أن يزهو على غيره من العصور بقبابه ومآذنه، فقد أخذت القباب تُبْنى بالحجر بدلا من الطوب، وأصبحت قواعدها تأخذ أشكالا مختلفة، كما ظهر القاشاني مُغلفًا ببعض رقابها، أما أسطحها الخارجية فقد تدرجت زخرفتها من تضليع إلى خطوط متعرجة ودالات متداخلة، ثم بلغت في عصر المماليك الجراكسة شأوًا عظيما، فازدانت بأشكال هندسية وأخرى زخرفية.
وسايرت المنارات القباب فنراها تعلو في الفضاء في تيهٍ وإعجاب، تطل على ما حولها في رشاقة ودلال، يسترعي الانتباه طابعها الخاص - وإن كان بعضها قد خرج عنه - ويبهر الرائي رونقها وزخرفها، فالبعض كُسِيَتْ خوذته العليا بالقاشاني كما في خانقاه بيبرس الجاشنكير وجامع الناصر محمد بالقلعة، والبعض الآخر حليت دورته الوسطى بتلابيس من الرخام كما يشاهد في منارة مسجد برقوق ومنارة مسجد القاضي يحيى، هذا وقد تنوعت زخارفها وكثرت في أواخر عصر المماليك الجراكسة.
وأنشئت في العصر المملوكي المدارس ذات التخطيط المتعامد، التي تتكون من صحن مكشوف تحيط به أربعة إيوانات متقابلة، وألحق بها أضرحة لمنشئيها، كما ألحق ببعضها الأسبلة والكتاتيب، وفي أواخر عصر المماليك الجراكسة، أخذت هذه المدارس تبنى بأحجام صغيرة بالنسبة لمثيلاتها المنشأة في عصر المماليك البحرية، وصارت أصحنها تغطى بأسقف خشبية بولغ في نقشها وزخرفتها، وقد أنشئت هذه المدارس في الأصل لتكون أماكن تدرس فيها المذاهب الإسلامية إلى جانب إقامة الشعائر الدينية، فكانت بذلك تجمع بين الغرضين، أما الآن فهي مستعملة كمساجد فقط لا يدرس فيها (4).
في هذا السياق سوف نتطرق إلى مراحل تطور فن العمارة الإسلامية في مصر، كمثال يمثل العمارة الإسلامية عبر العصور، ونبين خصائص كل عصر على حدة:
عصر الخلفاء الراشدين وما قبل العصر الطولوني:
عدا الزمن في هذه الحقبة على آثار مصر، فعبثت يد الدهر بالفسطاط - أولى مدن المسلمين بمصر - فتركتها أطلالا، كما حدث ذلك في مدينة العسكر التي أسسها العباسيون سنة (133هـ/750 م)، وقد امتدت إلى جامع عمرو بن العاص يد التغيير والتوسيع حتى فقد كل معالمه الأولى ولم يبقَ إلا المكان الذي أُنشيءَ عليه، غير أنه قد حدث به ظاهرتان معماريتان على جانب عظيم من الأهمية:
الأولى: هي الصوامع الأربع التي أمر معاوية رضي الله عنه - أول خلفاء بني أمية - واليه على مصر (مسلمة بن مخلد) بإنشائها بأركان الجامع سنة (53 هـ/672 - 673م) على نمط الأبراج التي كانت بأركان المعبد القديم بدمشق، وكانت هذه الصوامع - في الواقع - نواة للمآذن التي أُنشئت بمصر بعد ذلك، والتي نرى الكثير منها الآن وقد تطورت تصميماتها وتنوعت أشكالها.
والظاهرة الثانية: هي المحراب المجوف الذي أحدثه به قرة بن شريك - والى مصر من قِبَلِ الوليد بن عبد الملك - في سنة (93هـ/712م) مقتديا في ذلك بالمحراب المجوف الذي أحدثه عمر بن عبد العزيز بمسجد المدينة في سنة (88هـ/706 - 707م).
العصر الطولوني 254-292هـ/ 868-905م:
أسس أحمد بن طولون الدولة الطولونية بمصر سنة (254هـ/ 868م) بعد أن قضى زهرة شبابه في (سامراء) قريبا من موالد الفن العباسي، وقد أبقى لنا الزمن فيما أبقى من آثار هذه الدولة ذلك الجامع العظيم الذي يعتبر بفرط اتساعه وبساطة تخطيطه وروعة بنائه وجمال زخارفه، مفخرة ذلك العصر.
وهو وإن كان قد استمد عناصر زخارفه من زخارف سامراء، واقتبس منارته الأولى من منارة جامعها على ما يظن، إلا إنه قد أخذ عن جامع عمرو - الذي جُدِّدَ سنة (212 هجرية) - نظام وشكل الشبابيك المفتوحة بأعلى واجهاتها الأربع..
ولم يدم حكم هذه الدولة لمصر طويلا؛ إذ سرعان ما استردت الخلافة العباسية مصر في سنة (292 هـ/905م) وانتقمت من الأسرة الطولونية، وأزالت كل معالمها، فركدت في مصر حركة الفنون والعمارة، حتى أننا لم نجد لها نهضة حينما استقل بها الأخاشدة من سنة (324 إلى سنة 358 هـ/935-969م).
العصر الفاطمي 358-567 هـ/ 969-1171م:
في أواخر أيام الدولة الإخشيدية كان الفاطميون يرنون بأبصارهم نحو مصر، يريدون أن يجعلوا منها مقرا لخلافة قوية فتية، ويأملون أن يكون لهم فيها شأن غير شأن العباسيين، وأن يتاح لمصر على أيديهم عهد حافل جديد، فما وافت سنة (358هـ/969م) حتى جاء جوهر الصقلي، قائد المعز لدين الله الفاطمي، رابع الخلفاء الفاطميين، وتم على يديه غزو مصر، واختط مدينة القاهرة، وأسس بها أول جامع لهم، وهو الجامع الأزهر.
وقد اقترن هذا العصر بعدة ظواهر معمارية، منها: استخدام الحجر المنحوت لأول مرة في واجهات المساجد بدل الطوب، ثم تزيين هذه الواجهات بالزخارف المنوعة المحفورة في الحجر، بعد أن كنا نشاهدها في جامع عمرو وجامع ابن طولون بسيطة عارية من الزخارف، وكانت القباب في ذلك العصر صغيرة وبسيطة، سواء من الداخل أو الخارج، وظهر تضليعها من الخارج لأول مرة في قبة السيدة عاتكة المنشأة في أوائل القرن السادس الهجري وأوائل الثاني عشر الميلادي.
وابتدأت أركان القبة تتطور نحو المقرنصات المتعددة الحطات، فبدأت بحطة واحدة، كما في جامع الحاكم، ثم بحطتين كما في قبة الشيخ يونس وقبتي الجعفري وعاتكة وغيرها، إلا أن فخر العمارة الفاطمية كان في الزخارف التي تستهوي النفوس بجمالها، وتنتزع الإعجاب بها، وبلغت الكتابة الكوفية المزخرفة والزخارف الجصية شأوا بعيدا في جمال عناصرها، وبديع تنسيقها، واختلاف تصميماتها، وكانت تحتل الصدارة في المحاريب، وتحلي إطارات العقود والنوافذ.
ولم تكن الزخارف الجصية وحدها هي المجال الذي أظهر فيه الصانع المصرى عبقريته، بل كانت الزخارف المحفورة في الخشب آية من آيات الفن الفاطمي الرائعات، فالأبواب والمنابر والمحاريب المتنقلة، والروابط الخشبية بين العقود، وما فيها من دقة في الحفر وإبداع في الزخرف والكتابة، تدل على مبلغ ما وصلت إليه النجارة في عصر الفاطميين من عظمة وازدهار.
الدولة الأيوبية 567-648هـ/1171-1250م:
استولى الأيوبيون على مصر سنة (567هـ/1171م)، وأسسوا بها أسرة حاكمة، وكان عهدهم منذ اللحظة الأولى عهد حروب طاحنة مع الصليبيين، فوجهوا جُلَّ اهتمامهم - من أجل ذلك - إلى إقامة الأبنية الحربية، فبنوا القلعة وأكملوا أسوار القاهرة، وكان اشتغالهم بهذه الحروب سببا في ندرة الأبنية الدينية التي خَلَّفوها لنا، وكان من أهم أغراضهم القضاء على المذهب الشيعي - مذهب الفاطميين - فأنشأوا لهذا الغرض المدارس وخصصوها لتدريس المذاهب الأربعة، ولم يبقَ من هذه المدارس سوى بقايا المدرسة الكاملية المنشأة سنة (622هـ/1225م)، وكانت مؤلفة من إيوانين متقابلين، وبقايا المدرسة الصالحية التي أنشأها الصالح نجم الدين الأيوبي سنة (640هـ/1242م)، والتي كانت مخصصة لتعليم المذاهب الأربعة، إلا أنها لم تكن ذات التخطيط المتعامد، بل كانت في الواقع عبارة عن مدرستين يشتمل كل منهما على إيوانين متقابلين أيضا.
وفي عصر الأيوبيين ابتدأ ظهور القباب الكبيرة، كما ابتدأ تطور المقرنصات في أركانها وتعدد حطاتها، ولم يُبقِ لنا الزمن سوى منارتين كاملتين من منارات ذلك العصر، وهما: منارة المدارس الصالحية، ومنارة زاوية الهنود، اللتان تعتبران نموذجين لطراز المآذن المنشأة في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الهجري - أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي.
وفي هذا العصر استمر ازدهار الزخارف الجصية ومثلها النجارة الدقيقة، وظهرت الكتابة النسخية، وسارت جنبا لجنب مع الكتابة الكوفية.
عصر المماليك 648-923هـ/1250-1517م:
عندما ولي الملك الصالح نجم الدين الأيوبي الحكم في أواخر الدولة الأيوبية أكثر من شراء المماليك الأتراك، وأسكنهم قلعة الروضة التي أنشأها بجزيرة الروضة سنة 638 هجرية، ولذلك سموا بالمماليك البحرية، وقربهم إليه وولاهم المناصب الكبيرة، ووصلوا إلى مرتبة الأمراء فعظم شأنهم وقوي نفوذهم، فما وافت سنة (648هـ/1250م) حتى ولي أحدهم - عز الدين أيبك التركمانى - مُلْكَ مصر.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ حكم المماليك لمصر، واستمر إلى سنة (923هـ/1517م) أي 275 سنة، قضى منها المماليك البحرية 136 سنة من (648 إلى 784هـ/1250-1382م)، وأعقبهم المماليك الجراكسة الذين حكموا من سنة (784 إلى سنة 923هـ/1382-1517م) أي 139 سنة.
في هذا العصر الذي طال عهداه، تنافس سلاطين المماليك في إنشاء الجوامع والمدارس، وإقامة الأضرحة والأسبلة وبناء القصور والوكالات، وتجلت عظمة العصر المملوكي فيما أبدعوه من روائع المنشآت التي تبدو للناظر شامخة في غير تبرج، وتزهو بنفسها في غير خيلاء، في جمال غير متكلف يستثير إعجاب كل من يراه وينتزع ثناءه انتزاعا.
وفي هذا العصر استقر فن العمارة المصري، وأصبح ذا طابع خاص به له مقوماته وتقاليده، يتوارثها المعماريون والفنيون، تظهر واضحة في تخطيط المساجد وتصميم الواجهات، وفي المداخل الشاهقة بمقرنصاتها الجميلة، وتمشى مع هذا الاستقرار رقي دائم في صناعة الجص، وتنوع في زخارفه، يثبت ذلك ما نشاهده في أبنية النصف الثاني من القرن السابع الهجري - القرن الثالث عشر الميلادي - إلا أن الرخام انتزع من الجص مركز الصدارة، فصارت المحاريب وأسفال الجدارن الداخلية مكتسية بالرخام المتعدد الألوان، متفرد بتصميمات بديعة، يزيد في بهائها دقة الصناعة وتجانس الألوان.
وتبع كل ذلك تطور في أشغال النجارة وإبداع في تكوين زخارفها، فسارت أعمال التطعيم بالسن والآبنوس والزرنشان جنبا لجنب مع الأويمة الدقيقة في المنابر والأبواب والشبابيك، وخَطَتْ أعمال الخراطة خطوات واسعة كما تنوعت تصميمات الأسقف الخشبية، وزاد في روعتها ما حوته من نقوش جميلة مموهة بالذهب، هذا وتتجلى دقة صناعة التعدين في الأبواب المصفحة بالنحاس؛ فتظهر فيها براعة الحفر والتفريغ في النحاس إلى دقة التكفيت فيه.
وللعصر المملوكي أن يزهو على غيره من العصور بقبابه ومآذنه، فقد أخذت القباب تُبْنى بالحجر بدلا من الطوب، وأصبحت قواعدها تأخذ أشكالا مختلفة، كما ظهر القاشاني مُغلفًا ببعض رقابها، أما أسطحها الخارجية فقد تدرجت زخرفتها من تضليع إلى خطوط متعرجة ودالات متداخلة، ثم بلغت في عصر المماليك الجراكسة شأوًا عظيما، فازدانت بأشكال هندسية وأخرى زخرفية.
وسايرت المنارات القباب فنراها تعلو في الفضاء في تيهٍ وإعجاب، تطل على ما حولها في رشاقة ودلال، يسترعي الانتباه طابعها الخاص - وإن كان بعضها قد خرج عنه - ويبهر الرائي رونقها وزخرفها، فالبعض كُسِيَتْ خوذته العليا بالقاشاني كما في خانقاه بيبرس الجاشنكير وجامع الناصر محمد بالقلعة، والبعض الآخر حليت دورته الوسطى بتلابيس من الرخام كما يشاهد في منارة مسجد برقوق ومنارة مسجد القاضي يحيى، هذا وقد تنوعت زخارفها وكثرت في أواخر عصر المماليك الجراكسة.
وأنشئت في العصر المملوكي المدارس ذات التخطيط المتعامد، التي تتكون من صحن مكشوف تحيط به أربعة إيوانات متقابلة، وألحق بها أضرحة لمنشئيها، كما ألحق ببعضها الأسبلة والكتاتيب، وفي أواخر عصر المماليك الجراكسة، أخذت هذه المدارس تبنى بأحجام صغيرة بالنسبة لمثيلاتها المنشأة في عصر المماليك البحرية، وصارت أصحنها تغطى بأسقف خشبية بولغ في نقشها وزخرفتها، وقد أنشئت هذه المدارس في الأصل لتكون أماكن تدرس فيها المذاهب الإسلامية إلى جانب إقامة الشعائر الدينية، فكانت بذلك تجمع بين الغرضين، أما الآن فهي مستعملة كمساجد فقط لا يدرس فيها (4).
تعليق